زهير إحدادن، رجل من هذا العصر الخطير
واسيني الأعرج
Feb 21, 2018
شهر مر على فقدان شخصية جزائرية وإنسانية كبيرة صنعت المشهد الثقافي والفكري الوطني والعربي والإنساني لزمن طويل، بمنجزها الكبير والفعال. لم أصدق عندما وصلني خبر وفاة الباحث الدكتور زهير إحدادن (1929-2018) وأنا في عمق دروسي في جامعة السوربون الفرنسية. لم أستطع الاستمرار في المحاضرة إلا بشق الأنفس، ليس فقط لأني كنت أعرف الرجل وإسهاماته الفكرية وتاريخه بشكل جيد، ولكن لأني كنت أيضا، والكثير من أمثالي، ننتظر منه المساهمة في تحليل وضع اليوم والمساهمة في إنقاذ الجزائر وهي تواجه تهديدات التطرفات الدينية والسياسية الجشعة، والتحالفات الداخلية بين المافيا المالية الناهبة للمال العام وساسة البيع والشراء، والمطامع الأجنبية التي لم تعد تخفى على أحد. كانت بصيرة زهير إحدادن حادة ودقيقة على الرغم من أحاديثه المقتضبة وكأنه يخاف من الانزلاقات غير المحسوبة.
الموت يكون صعبا عندما يأتي فجائيا والأصعب منه هو نهاية شخص نظنه في لاشعورنا الجمعي، إنه فوق الموت وأكبر منه. بل يموت الآخرون ويبقى هو حيا. كان زهير إحدادن ينتظر صدور سيرته ومذكراته itinéraire d’un militant مسيرة مناضل. وكذلك الكثير من المختصين في التاريخ والإعلام والمتابعين له، كانوا أيضا ينتظرونها لأنها لن تكون عادية من وجل اخترق قرابة القرن (89 سنة) محملا بالأسئلة الصعبة، ومساهما في الإجابة عنها في عز الصراعات السياسية في بلد قلق جدا. لكن الموت سبق الجميع وفرض مسطرته، وسرقه قبل حتى أن يعلم أصدقاؤه بذلك. توفي في مستشفى عين النعجة العسكري (20 جانفي 2018) تاركا وراءه ميراثا كبيرا وأسئلة معلقة ظل زهير إحدادن باحثا وفيا لعمله الأكاديمي والتاريخي، خارج حسابات الدوائر السياسية والنفعية التي كان يخافها لدرجة أن حدد مفهومه لكلمة مناضل بالشخص الذي يتفادى الدخول في لعبة الفساد التي مست الكثيرين، مهما كانت المغريات. بغيابه الفادح، تكون الجزائر والمساحات الثقافية العربية والإنسانية، قد خسرت شخصية تاريخية ونضالية كبيرة، وواحدا من أهم مثقفيها ومفكريها. رجل عاش في تواضع كبير واستقامة أكبر، وفيا لمثله العليا. كان لي حظ الاستماع إلى الكثير من محاضراته التاريخية والثقافية العامة، والاشتراك معه في بعضها، علمني ذلك شيئين جديرين بالاهتمام: الرزانة في أي فعل ثقافي، فلا أحد يملك المعرفة المطلقة، والتبصر في كل ما نقوم به، فهناك زوايا مظلمة علينا أن نعرف كيف نخرجها نحو النور ونضعها في مرمى بصر من يبحث عنها لعناقها. اليقين قاتل لنسبية المعرفة. عدم التصريح بشيء والحسم فيه، ونحن غير متيقنين بحقائقه، وبملابساته. شيء لا يعرفه الكثيرون عن الأستاذ زهير إحدادن، خارج مجالي التاريخ والإعلام، أن الرجل كان من محبي الأدب. أكثر من ذلك، درس الأدب واللغة العربيين، وحاصل على ليسانس من جامعة الجزائر المركزية، وهو بهذا موسوعة أدبية مهمة. يمكنه أن يحادثك براحة وبساطة عن الأدب العالمي الذي يشكل الجزء الخفي من اهتماماته الثقافية العامة خارج تخصصه التاريخي والإعلامي الذي يعتبر فيه من المؤسسين. يساجل بسهولة في كاتب ياسين ووطار وابن هدوڤة، ومحمد ديب، وفي عن فلوبير، وبالزاك وتولستوي، نجيب محفوظ، الطيب صالح ودوريش، وغيرهم كثيرون، وهو ما أعطاه خصوصية بالنسبة لمجايليه الذين توقفوا عند حدود قراءات التخصص الفرنسية تحديدا. ولم يبذلوا أي جهد لتعلم اللغة العربية. البروفيسور زهير إحدادن، رجل لا يتكلم كثيرا، لكنه لا يصمت عندما يتعلق الأمر بقول الحق. وكل كلمة يقولها تحمل يقين الخبرة والاختبار. كان ينتظر بفرح مضمر صدور سيرته: مسيرة مناضل، لكن الموت سبقه للأسف. ويفترض أن تحتوي هذه المذكرات على لحظات حاسمة من تاريخه الفردي والجمعي أيضا. عن تجربته النضالية في UDMA الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري ثم، في وقت لاحق، في جبهة التحرير FLN وكيف حدد خياراته وبررانتقالاته. وتجربته أيضا في جريدة المجاهد الناطقة بالفرنسية التي عمل بها محررا تحت إدارة الفقيد رضا مالك، في تونس ثم في تطوان من جوان 1956 إلى مارس 1962. ورأيه كان دائما محل انتظار من الكثير من المثقفين حول الكثير من الأحداث التاريخية التي هزت البلاد وخفاياها، أو تلك التي اخترقت الثورة، بالخصوص قصة اغتيال المناضل الكبير، عبان رمضان التي يمكن أن يكون زهير إحدادن هو آخر الشهود فيها. فقد كان بتطوان يوم اغتياله. ولا أحد ينكر العلاقة الطيبة بين عبان رمضان وزهير إحدادن إذ كان هذا الأخير هو المنسق بينه وبين طلبة الجامعة إبان الثورة. وقد صرح مؤخرا لبعض زملائه وطلبته بفحوى هذه الجزئية التاريخية القاسية. فقد التقى أحد قتلة عبان رمضان وتحدث معه طويلا، وأخذ منه الكثير من التفاصيل والمعلومات التي تسمح بغلق فجوات التاريخ، منها ان القاتل تلقى أوامره من جهة رسمية محددة، وأنه لم يكن يعرف هوية المقتول. فقد نفذ أمرا أُعْطِيَ له، فقد جاؤوه بعبان رمضان، فأجهز عليه بحجة أنه خائن ولم يكن يعرف أنه قتل أحد رموز الثورة. ولم يدرك الحقيقة وفداحة ما فعله إلا بعد مدة طويلة.
ذهب اليوم هذا الرجل الكبير، زهير إحدادن، الباحث عن الحقيقة، ولكن يبقى منجزه التاريخي والتأليفي. كتبه التي تشكل اليوم مرجعا تاريخيا وثقافيا جزائريا أساسيا. مادة حية تدرس في الجامعات والحلقات الثقافية التاريخية والإعلامية. وليس غريبا على من أفنى حياته في مدارات الثقافة، رافضا فكرة التحول إلى سياسي، بعقلية السياسي التبريرية. فقد كان من رواد البحث عن التاريخ الذي يشكل پوزل puzzl ما تزال بعض قطعها غائبة مهما كانت قسوتها، ويجب أن تجد مكانها في التاريخ الوطني والجمعي، كما كل التاريخ البشري الذي ليس كله لا ظلاما ولا نورا. فقد رفض العدمية التي انتهجها الكثيرون، الذين لا يرون في المنظومة التاريخية والثقافية إلا ما يشتهون رؤيته. فقد انعزل عن السياسة بعد الاستقلال عندما لمس انحرافها، وتفرغ للعمل الجامعي والتأليف. فقد كان وراء مؤلفات تاريخية كثيرة مثل: تاريخ صحافة الأهالي في الجزائر من البداية حتى 1930، والصحافة المكتوبة في الجزائر من 1965 حتى 1985. وكتاب آخر عن مدينته بجاية، فهو من مواليد هذه الولاية (توجا): بجاية في فترة ألقها. الكثير من المعالم تدين له بالكتابة عنها بشكل قربها من الراغبين في التعرف على تاريخ المدن وثقافاتها. كان من وراء تأسيس مدرستين مهمتين تاريخيا وثقافيا: المدرسة العليا للأساتذة القبة، والمدرسة العليا للصحافة التي درس بها زمنا طويلا. لروحه الرحمة والسلام ولذاكرته الطيبة الاحترام والتقدير. رجل لم يكن كالجميع. كان مستقيما ومسموعا، وفوق كل شبهة. استمر كذلك حتى آخر العمر في الوقت الذي اختار فيه آخرون المال والوجاهات المريضة. كم تحتاجه اليوم جزائر أخرى، هشة ومنهكة، تقف على الحواف الخطيرة التي قد تعصف بها نحو زمن لا أحد يقدر اليوم مخاطره.