المُغفّلون والمُستَغفَلون في فلسطين../ زهير اندراوس
في رائعته المُغفّلة يسرد الروائيّ الروسيّ، أنطون بافلوفتش تشيكوف، كيف حاول أنْ يضحك على الخادمة في البيت ويقتنص من الراتب الذي كانت تستحقه، بعد أنْ وافقت على ما عرضه عليها وشكرته. قال: انتفضتُ واقفًا وأخذتُ أروح وأجئ في الغرفة واستولى عليّ الغضب، سألتها: شكراً على ماذا؟ قالت: على النقود، قلت: يا للشيطان، ولكنّي نهبتك، سلبتك! لقد سرقت منك! فعلام تقولين شكراً؟ قالت: في أماكن أخرى لم يعطوني شيئًا. قلت: لم يعطوكِ؟! ليس هذا غريبًا! لقد مزحتُ معك، لقنتك درسًا قاسيًا، سأعطيك نقودك، الثمانين روبلاً كلها! ها هي في المظروف جهزتها لكِ! ولكن هل يمكن أنْ تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألاّ تكوني حادّة الأنياب؟ هل يمكن أنْ تكوني مُغفّلة إلى هذه الدرجة؟
ابتسمتْ بعجز فقرأت على وجهها: يمكن. سألتُها الصفح عن هذا الدرس القاسي وسلّمتها، بدهشتها البالغة، الثمانين روبلاً كلها.. فشكرتني بخجل وخرجتْ، تطلعتُ في إثرها وفكّرتُ: ما أبشع أنْ تكون ضعيفًا في هذه الدنيا.
***
الحق، الحق أقول لكم، قرأت الرائعة عدّة مرات، وفي قرارة نفسي قلتُ: ما أشبه اليوم بالبارحة، وتذّكرت في السياق ذاته مقوله الثائر دائمًا وأبدًا، كارلوس إنّه لا يوجد أبرياء في الصراع، والصراع هنا بين الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وبين الحركة الصهيونيّة وصنيعتها الدولة العبريّة وموبقاتها في جميع أصقاع العالم. وبما أننّي أوافق قلبًا وقالبًا على مقولة كارلوس، فأرى لزامًا على نفسي عدم الانسياق والانجرار والانسياب وراء التسميات الباهتة، بلْ التشبث بالأسود والأبيض: القارة العجوز، أيْ أوروبا، هي طرف في الصراع، تاريخها أسود من الأسود، سلّمت فلسطين، وساهمت من حيث تدري في نكبة الشعب العربيّ الفلسطينيّ، وما زالت دول الاتحاد الأوروبيّ تتخذ موقفًا عدائيًا من أعدل قضيّة على وجه هذه البسيطة، أيْ قضية فلسطين، وتحاول بشّتى الوسائل والطرق الالتفاف على الحقوق التاريخيّة لهذا الشعب، مرّة بالتهديد والوعيد والترهيب، وتارة باستعمال الأموال وما اصطلح على تسميته بالمعونات الاقتصاديّة التي تُنفقها شهريًا لدعم السلطة الفلسطينيّة، وهذه الدول لا تعرف، لا بل أكثر من لك: إنّها لا تريد أنْ تعلم أنّ المال يعادل الروح، ولكن لا يساوي شيئًا لشعبٍ طُرد من أرضه، وشُرد من وطنه، وما زال الجلّاد، إسرائيل، يلاحقه في المنافي والشتات، ويتلقى الدعم المعنويّ والماديّ من أوروبا الكولونياليّة، ومن عصابة الثعالب السرمديّة في واشنطن. فها هي عاصمة الولايات المتحدّة الأمريكيّة تستضيف اجتماعًا للرباعية هذا الأسبوع، تقول المصادر السياسيّة في تل أبيب، إنّه استمر أكثر من الوقت المخطط وفي ظل خلافات كثيرة، وعليه، تُشدد المصادر عينها، على أنّه من المتوقع أن تحاول وزيرة الخارجية الأمريكية، ونظيرها الروسي، والأوروبية كاثرين أشتون، والأمين العام للأمم المتحدة، ومبعوث الرباعية الدولية إلى المنطقة طوني بلير، العمل على تحريك ما يُسمى بالعملية السياسية، بهدف الالتفاف على توجه السلطة الفلسطينيّة إلى الأمم المتحدّة للإعلان عن الدولة.
***
وإذا عُدنا إلى تشيكوف ونقاشه مع خادمة البيت حول الراتب، لا يُمكننا التخلّص من الشعور بأنّ الأوروبيين والأمريكيين على حدٍ سواء، من منطلق قوتّهم ومن اعتمادهم الكامل على ضعف القيادة الفلسطينيّة، تحديدًا الاقتصاديّ، يستغلون هذه المسألة لابتزاز الشعب الفلسطينيّ، وقيادته أولاً، بوقف المعونات إذا لم تُنفّذ القيادة في رام الله المحتلّة، الإملاءات الأمريكيّة والأوروبيّة، التي تُمثل المصالح الإسرائيليّة، أكثر من إسرائيل نفسها، وهكذا تُصبح القيادة فريسةً سهلةً للغاية للتفاوض حول الشروط، وتضطر من أجل مواصلة الحكم والتحّكم بالشعب الفلسطينيّ إلى التنازل مرّة تلو الأخرى، ذلك أنّ وقف المعونات الغربيّة عن السلطة في رام الله يعني دقّ المسمار الأخير في نعش أوسلو، وبالتالي فإنّ هذه القيادة، حتى ولو سلّمنا أنّها تبحث عن حلٍ عادلٍ للقضيّة الفلسطينيّة، فإنّها أعجز من عاجزة عن إخراج محاولاتها إلى حيّز التنفيذ، فواشنطن تُهدد باستعمال حق النقض (الفيتو)، وأوروبا تُلوّح بوقف المساعدات، ناهيك عن أنّ هذه القيادة مرتبطة عضويًا بأوسلو، سيء الصيت والسمعة، الذي يمنع هذا الطرف أوْ ذاك، إسرائيل أوْ السلطة، من اللجوء إلى خطواتٍ أحاديّة الجانب، وهنا مربط الفرس: التهديد الفلسطينيّ بالتوجه إلى الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) القادم بطلب الإعلان عن الدولة الفلسطينيّة في حدود ما قبل عدوان الخامس من حزيران (يونيو) من العام 1967، هو أقل ما يُمكن أنْ يُقال عنه إنّه مهزلة سياسيّة، أوْ استخفاف بعقول أبناء هذا الشعب، ذلك أنّ هذا التوجه يعتبر اعترافًا فلسطينيًا، بالأسود، وبالأبيض، وبالألوان الطبيعيّة أيضًا، بأنّ القضيّة الفلسطينيّة هي وليدة نكسة العام 1967 وليس نتيجة نكبة العام 1948.
وهذا التصرف أيضًا، وهنا نعود مرّة أخرى إلى رائعة تشيكوف، هو استهبال الآخرين، واستغلال القوّة الماديّة لقيادة تلهث وراء مصالحها الضيّقة، هذه القيادة التي اتخذت من الاستسلام تكتيكًا وإستراتيجيّة، نعم، هنا نتوافق مع الروائيّ الروسيّ ونجزم قائلين: ما أبشع أنْ يكون الإنسان في هذه الدنيا ضعيفًا، ولكن نستطرد: الأبشع من ذلك، أنْ تُحَوّل نفسك، بإرادتك الكاملة وبعقلك السليم، إلى كيان ضعيف أوْ مُستضعف، مُهمّش أوْ هامشيّ، يرتبط بكرم الآخرين وبكرم أخلاقهم غير الموجودة في معجمهم، أوْ بكلمات أكثر دقّة: كيان يعيش على فتاتهم، كيان يعتمد على تسَوّل ما بعد الحداثة.
***
لقد كشّر نفاق ما يُطلق عليه المجتمع الدوليّ عن أنيابه في قضيّة تقسيم السودان: شمال السودان المسلم، وفق مصطلحات الغرب، وجنوب السودان المسيحيّ، بحسب نفس المنطق، فأمريكا وأوروبا والأمم المتحدّة والربيبة الحبيبة إسرائيل، عملوا بكل ما أوتوا من قوة بهدف تمزيق وتفتيت العالم العربيّ، وباتت جنوب السودان دولةً مزروعةً في قلب العالم العربيّ، هذه الدولة التي صرح أركانها قبل الإعلان عنها رسميًا انضمامهم إلى المعسكر الغربيّ وعن نيتهم إقامة العلاقات الدبلوماسيّة والتطبيع الكامل مع الدولة العبريّة. دولة جنوب السودان، التي تمّ زرعها في نقطة إستراتيجيّة مهمة، ستتحوّل قريبًا جدًا إلى قاعدةٍ لتمرير المخططات الهادفة لإبقاء الوطن العربيّ متخلفًا وممزقًا، وستكون بؤرةً جديدةً للنزاع مع شمال السودان، لأنّ الخلاف حول حقول النفط ما زال عالقًا بينهما. السؤال الذي نطرحه: لو كان في الضفة الغربيّة وقطاع غزة ثروات طبيعيّة مثل النفط، هل كان الغرب سيعمل من أجل إقامة دولةٍ مستقلةٍ للحصول على حصتّه من العوائد، أمْ أنّه كان سيُوكل المهمة إلى الوكيل، إسرائيل، للإجهاز على ما تبقى من فلسطين؟
للأسف غير الشديد، نميل إلى الترجيح بأنّ الاختيار كان سيقع على الإمكانيّة الثانيّة.
***
ونخلص بمناشدة القيادة الفلسطينيّة مستعينين بالروائيّ تشيكوف: هل يمكن أنْ تكوني عاجزة إلى هذه الدرجة؟ لماذا لا تحتجين؟ لماذا تسكتين؟ هل يمكن في هذه الدنيا ألاّ تكوني حادّة الأنياب؟ هل يمكن أنْ تكوني مغفلة إلى هذه الدرجة؟
ما أبشع أنْ تكون ضعيفًا في هذه الدنيا!