ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75523 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: متعة مفرطة الجمال والمرارة في وصف خراب بغداد الأحد 25 فبراير 2018, 7:22 am | |
| [size=30]متعة مفرطة الجمال والمرارة في وصف خراب بغداد
الروائي العراقي سنان أنطون في «فهرس»: المثنى الشيخ عطية[/size] كما يفعل الشاعر الفرنسي أرتور رامبو في القصيدة التي يصور فيها الجندي «النائم في الوادي»، باسماً وسط جمال الطبيعة الأخاذ، في سريره الأخضر الذي يهطل عليه الضياء، وعلى جنبه الأيمن ثقبان أحمران؛ كذلك يفعل «ودود»، قرين الراوي الذي سكنه في رواية «فهرس» للشاعر والروائي العراقي سنان أنطون، في فهرسه المتفرد، المتضمن «مناطق» لخراب بغداد يوم قصفها عام 2003 الذي أعقبه الاحتلال والتدمير الأمريكي للعراق. ولا يكتفي ودود بذلك، إذ هو لا يكتب «مناطقه» بشاعرية عميقة وبأسلوبِ تقمصه وإنطاقه الجماداتِ والحيوانات والبشر الذين نسجوا معاً سجادة تاريخ وحياة وهناءات ومرارات بغداد فحسب، وإنما يكتبها أيضاً كما يقول في ديباجته، ضمن علاقتها بالزمن. إنها ليست لحظة تعيش متاهة كونها هي ذاتها في كل مكان من الكون، بل هي زمن واحد في مكان واحد يشكل «تاريخ الدقيقة الأولى من حرب ليست الأولى… الدقيقة التي ستكون فضاء ثلاثي الأبعاد ومكاناً يقتنص فيه الأشياء والأرواح وهي تسافر… وتتقاطع قبل أن تختفي إلى الأبد بلا وداع»، الدقيقة التي ينتشلها من الثقب الأسود الذي تؤول إليه شظايا وأشلاء الوجود بعد الانفجار الكبير، ويكتبها، كمنطق للحلم بتغيير الماضي، وليس لتغيير الحاضر أو المستقبل»… داخل بنية الرواية التي شكلها أنطون ببساطة مذهلة، على التالي: 1: بدايات، تتضمن عناوين واحد وعشرين منطقاً مفتوحة على غواية القارئ بتشكيل ما يزيد عددها، وتبدأ بمنطق الطير الذي يتقاطع مع منطق فريد الدين العطار بشاعريته، وصوفيته، في تصوير الرحلة الوجودية للبشر. وتمر بمناطق تشكل موزاييك جسد بغداد مثل منطقة الزوراء، كاشان، السدرة، الشريط، العين، التنور. وتنتهي بمنطق الطير الأخير، الذي تهدد ارتحالات الطيور البشرية فيه الطيورُ المعدنية الهائلة التي تحوم لقصف بغداد. 2: لوحة مرسومة بالكلمات لملاك التاريخ الذي يشبه ودود في التفات وجهه نحو الماضي، وفي رؤيته لكارثة واحدة تراكم الحطام فوق الحطام وتلقيها أمام قدميه. 3: نهايات، تتضمن: نهاية، نهاية أخرى، منطق الطير الأخير، ونهاية الرواية وبدايتها. داخل هذه البنية الظاهرة، وفي منطق تغيير الماضي الذي يخلخل البنية النفسية لودود ويلقي به في مصح نفسي، يضع أنطون من خلال فهرس بطله ودود لوحاً محفوظاً ومفتوحاً لخراب أو تخريب بغداد من قبل الاحتلال الأمريكي، وقبله ديكتاتورية صدام حسين التي خربت النسيج الوطني للعراق بالتمييز والاستبداد، ومعه شركاء الاحتلال، الحكام الجدد، «السرسرية» الذين جاؤوا على ظهور دبابات المحتل، وبدأوا بنهب ثروات العراق وتدمير ما تبقى من نسيجه الوطني المتآلف فيما مضى. ويوصل أنطون فجيعة الخراب إلى ذرى مدمرة لا تتوقف عن الذكر المفجع لسرقة قطع آثار تاريخ الحضارة الإنسانية التي ابتدأت في العراق، من متاحفها، بل تتجاوز محاولة تماسك الروح أمام الفجيعة إلى كسرها دموعاً مدماة بنشر قصيدة معلمة الكتابة «شبعاد» إلى آلهة الكتابة، حاملة لوح اللازورد، «نيسابا»: «مولاتي/ يا أم الأرض وإلهتها. أنت التي تهدئين روع الأرض بالماء البارد/ الجبل العظيم أنجبك. أنجبتك الحكمة/ المجد لك زيتها الطاهرة. ياسيدة الكُتّاب/ يا حافظة سجلات إنليل، حافظة الأختام/ يا حكيمة الآلهة/ المجد لك/ المجد لنيسابا». وإضافة إلى ذلك، من خلال جريان حياة راوي روايته، (نمير البغدادي الذي هاجر من العراق مع أهله إلى أمريكا عام 1993، والذي تتقاطع تفاصيل حياته ودراسته وتجاربه مع الكاتب نفسه)، يضع أنطون لالتباس مواقف العراقيين والأمريكيين من الحرب ومن الاحتلال كشفاً يحفل بأهوال الحرب وخطورتها ودمارها للبشر وبيئاتهم. ويستوي أن يتم هذا في الواقع من خلال ارتكابات الفظائع، أم في ثقافات الشعوب من خلال أشعار قدماء صوروا الأثر المدمر للحرب، مثل زهير ابن أبي سلمى، ومواقف المثقفين، والبشر الأسوياء من الحرب، مع صرخة احتجاج هائلة ومدوية ليس بمباشريتها ولكن بفعلها المؤثر من خلال فن الرواية المبتكر الزاخر بالثقافة والحب. وأكثر من ذلك، يقدم أنطون بنية عميقة آسرة وممتعة بغناها. أولاً: من جهة أسلوب لغة الكتابة، المتنوع وفقاً لطبيعة الشخصية، وتطورها، دون تخل عن الشاعرية العذبة في جميع الحالات، وقيادة الاختلاف والتلاقي في هذا التنوع بأدق تفاصيله، وبصورة مدهشة عند امتزاج شخصية نمير، وودود الذي سكنها وتغلغل فيها ليصل إلى كونها. ثم من جهة الارتقاء بلغة الرواية في عكس جسد وروح المكان، باستخدام اللغة العامية البغدادية في الحوارات، وباشتغال مبتكر كما يبدو على نجاحها في امتلاك القارئ، ووعي لمخاطر عدم الفهم الناشئ عن طبيعة اختلاف اللهجات. إضافة إلى إقامته مهرجاناً فنياً مبدعاً للتداخل اللغوي الثقافي، من خلال مقتطفاته المأخوذة من أعمالٍ تتقاطع، متآلفة بقوة مع غايات روايته، من إيتالو كالفينو في «مدن لا مرئية»، ومن كفافي، وأبي نواس، وإيلوار، مع تصعيد ارتقاء التنوع اللغوي إلى استخدام الكتابة الآلية السوريالية بهذيان حلمي مذهل في قصيدتين هاربتين من هذيان ودود في مصحّه النفسي. وثانياً: من جهة الشخصيات، وحبك علاقاتها ببعضها، وتطورها إلى مآلاتها في نسيج الرواية، حيث لم تكن صدفةً كما أعتقد، ولا شرط أن يكون مدركاً لذلك في «منطق الإبداع»، أن يورد الكاتب «منطق التوأم» في «فهرس» بطله أو توأم راوي روايته «ودود عبد الكريم». فشخصية ودود حيث يجري سرد الرواية من قبل بطلها نمير البغدادي، تبدأ السكن داخل الراوي منذ بداية لقائه به عند قدومه إلى بغداد في مهمة ترجمة فيلم وثائقي عن الاحتلال. وتتطور برسائل ودود إليه، حيث يعيش في نيويورك، مرارة قضم تفاصيل جثة بغداد، فيهيم في شوارعها متسكعاً بلذة الهذيان، التي تتداخل بمحاولاته استعادة طفولته في بغداد، عارضاً تفاصيلها المتقاطعة مع تفاصيل الجسد الذي يتآكل، معانياً من عدم القدرة على الكتابة، رغم حماية حب فتاته «مرايا» له، حتى الوصول إلى الاستعانة بطبيبة نفسية. ونكتشف أن هذه الأخيرة لا تعالجه فحسب، بل تعالج شخصية ودود التي احتلت داخله، ويفصح عن احتلاها له بالتساؤل إن كان هناك داء معدٍ اسمه داء الفهرس انتقل إليه، حيث يبدأ بالجمع والأرشفة كما يفعل ودود، وحيث يفتح باب شراء الطوابع من الإنترنت، متأثراً بمنطق الألبوم. وهكذا يتابع إشراع روحه لتداخل شخصية ودود فيه، إلى اللحظة التي يصاب فيها بالرعب من اكتشاف أن كلماته صارت تشبه كلمات ودود في كثير من المواضع: «كلا، لم أكتب هذا الجزء. هو الذي كتبه. هذه ليست كلماتي. إنها كلماته. كلماتي هي التي تسللت إلى دقيقته الأزلية وفهرسه لتهرب من الثقب الأسود. أو لتختبئ فيه، لم أعد أفرق أو أعرف. كيف طار الحسون من طفولتي، ووصل إلى هلوسات ودود؟ والفراشات؟» كل هذا دون إغفال الإشارة إلى الشخصيات الثانوية الآسرة، التي تتجسد شــذراتها بقوة تعكس تداخل العوالم في الرواية المفتوحة. «فهرس» ودود، المتداخل بشخصية الراوي نمير، وفهرس سنان أنطون، وفهرس القارئ الذي سيصاب بداء الفهرس، وتتشكل على صدره خلال ما تثيره القراءة من رعب لهول الخسارة التي تصيبه؛ هي، كلها مجتمعة، صفائح منقوشة بألواح تاريخه لمقاومة التآكل. هذه رواية أكثر من ممتعة، لأنها تحقن الروح في كل صفحة منها بالجمال والمرارة والحسرة، حتى وصول العين إلى لحظة انفجارها بالدمع كما «بيغ بانغ» لحظة وصول خبر انفجار شارع المتنبي وموت ودود فيه بين كتبه، حين تتشظى الروح بصــمــت تتأمل فيه نفسها، وهي تمضي مبتعدة كلحظة من لحظات الكون. سنان أنطون: «فهرس» منشورات الجمل، بيروت ــ بغداد 2016 287 صفحة. |
|