ابراهيم الشنطي Admin
عدد المساهمات : 75803 تاريخ التسجيل : 28/01/2013 العمر : 78 الموقع : الاردن
| موضوع: من يوميات أب تحت التمرين: الأحد 25 فبراير 2018, 7:28 am | |
| من يوميات أب تحت التمرين: الأسئلة
بلال فضل يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام، سيتأكد لك أن الأبوة ليست فقط رحلة ممتدة مع الالتزامات والمسؤوليات والمصاريف، بل هي أيضاً رحلة طويلة مع الأسئلة المحيّرة والمباغتة. كنت قد حدثتك عن تجاربي الصعبة مع أسئلة بناتي قبل تجاوزهن سن العاشرة، خصوصاً أسئلتهن عن الموت والقدر والألوهية وحكمة الوجود الإنساني، ولعلك ظننت وأنت تحاول الاستفادة من تجاربي، أننا لو التزمنا الصبر وضبط النفس، وعبرنا سن العاشرة بسلام، ستختفي مهمتنا مع الأسئلة المحيّرة، أو ستصبح أسهل. وهو ظن كنت أشاركك فيه، حتى اكتشفت أنه ظنٌ موغل في الإثم، فقد اتضح أن الأسئلة الوجودية الكبرى التي لم تتفق البشرية على إجابات قاطعة لها، أسهل وأفضل لأنها تعطيك مساحة واسعة في الحركة كأب وأنت ترتجل الإجابة، تكون حينها أشبه بمهاجم يقوم بترقيص الكرة في منطقة خالية من المدافعين، وإذا تمسكت بجدية الملامح، واخترت مفردات مناسبة لبعضها جرس موسيقي رنان، سيبدو لأطفالك أنك تعرف جيداً ما تقوله، حتى لو لم تكن تفقه شيئاً عنه، وإن أوغلت في الغموض المنضبط، ستساعدك على النجاة من مأزقك، تلك السمة الطفولية الأصيلة، والتي ترافق بعضنا حتى قبره، سمة الخجل من إعلان عدم الفهم. عليك فقط ألا تكون طماعاً، وألا تستغل الأمر لمزيد من تعويم الإجابات، بل استخدم ذلك التكنيك لأقصر وقت ممكن، واسلك على الفور أقرب مخرج مشرف لكليكما، وانهِ النقاش على وعد باستئنافه مجدداً، مراهناً على ضعف ذاكرة طفلك وعلى تلاهي الزمان وستر الإله الرحيم. للأسف، بعد سن العاشرة يختلف الوضع تماماً، أنت الآن مهاجم وحيد ومرهق، في منطقة مزدحمة بالمدافعين النزقين، ولدى كل منهم رغبة عارمة في عرقلتك وجذبك من الفانلة وإسقاطك أرضاً. المهم أن يظهر تفوقهم عليك، ويا حبذا لو أثبتوا خطأ ما سبق أن أفتيت به، لن يعطوك حق الاسترسال في مقدمة إنشائية، لتأخذ فرصتك في التفكير ما يتلوها، لأنك ستُقاطع على الفور بعبارات من نوعية: «بابا ممكن تخش في الموضوع.. ده ما كانش سؤالي أصلاً.. ممكن تقول كلام محدد»، ولن يكون مجدياً حينها أن تبدي غضبك من إساءة الأدب والمقاطعة، لأن ذلك الغضب له رائحة ستكشف موقفك الضعيف أكثر. وبالطبع سيكون الوقت قد فات لتغيير صيغة «الأب الصديق الودود المتفاهم غير التقليدي المنفتح على كل الأسئلة»، إلى صيغة «الأب البطريرك الجنرال العليم ببواطن الأمور». وحتى لو اضطرتك ضغوط الحياة لتغيير الصيغة، ستدرك بعدها أن ما يأتي مع صيغة الأب الصديق المتفاهم، أفضل وأكثر أمناً، مع ما يأتي مع صيغة الأب البطريرك العليم. ولكي لا تدخل في أي مخاطرات غير محسوبة، لن تنجيك سوى اللياقة الذهنية العالية، التي تستلهم من تراث السوفسطائيين من أجدادنا وجداتنا، سواءً كانوا سوفسطائيين بالسليقة أو بالتدريب، أولئك «البرنسات» الذين يؤمنون أن أفضل طريقة للإجابة على سؤال محير ومحرج، إما أن ترد عليه بسؤال أشد إحراجا وحيرة، تلقيه في حجر السائل، فينشغل بمحاولة إطفائه، أو أن تحاول الهرب مختبئاً في ظلال حكاية تبدو واقعية، وتكون مشوقة وبارعة في استهلالها، وتوجد بها نقلات درامية جذابة وغير حادة، وتنتهي بحكمة جليلة لا يبدو إطلاقاً أنها موعظة. ولا تطلب مني مثالاً على ذلك، لأن حكاية من هذا النوع، تأتي كرزق من السماء، ينزله الله على الآباء الذين يطلبون منه الستر على الدوام، وفي العادة ينسون حكاية كهذه فور انتهائهم من ارتجالها، وكذلك ينساها أبناؤهم الذين سرعان ما ينشغلون بتدبير سؤال خازوقي جديد لآبائهم. وقد اختصصت الآباء بالذكر، لأن الأمهات تلجأن في مواجهة الأسئلة إلى واحد من أقوى وأمكر أسلحتهن المتوارثة عبر الأجيال، سلاح «روح اسأل أبوك يا حبيبي»، مستغلات رغبة أي أب في إظهار نفسه دوماً بمظهر «الموسوعي الفلّوطة». قبل أسابيع كنت في غاية السعادة، بعد أن قرأت مقالاً كتبته ابنتي الكبرى في مجلة المدرسة عن مخاطر الزواج المبكر. لا تسألني عن سر اختيار الموضوع، لأني خفت أن أسأل عنه فأتورط في أسئلة إن تُبدَو لي تسوءني. اختارت ابنتي أن تصيغ مقالها في صورة رسالة موجهة للأهل الذين تجبرهم ضغوط الحياة على الزواج المبكر، قبلها كانت قد كتبت أغنية راب عن مفهومها للحياة، فقلت لها «متفلحساً» أنه سيكون أجمل لو صاغت المقال في صورة أغنية راب تنصح بها البنات أن كل شيء في الدنيا له أوان ولا داعي للاستعجال، فكان جزاء حذلقتي أن باغتتني بسؤال مباشر زاحف يقول: «هل للحب أوان؟ ومتى نتأكد أن هذا الوقت هو أوان الحب؟». لم أكن بالأب الغشيم الذي يعامل سؤالاً كهذا بوصفه قرينة اشتباه، ويفتح بعده جلسة تحقيق عن سر طرحه في هذا الأوان، وما إذا كان مرتبطاً بتلك النظرة إياها، التي بدت لك ملفتة في صور الرحلة المدرسية الأخيرة. وسط تدافع الأفكار في رأسي، شعرت أن سؤالاً كهذا يحتاج إلى قصة «خزعبلية» تحمل جرعة فعالة ومحسوبة من التحذير من تعجل الحب، الذي هو أخطر وأضل من تعجل الزواج. لكن قصة كهذه لن تنطلي بسهولة على طفلة لم تعد المسلسلات العربية وحدها مصدر ثقافتها الدرامية، بل أضيفت إليها الأمريكية والكورية والهندية والتركية. لكني استعنت بالله، وبدأت التمهيد لقصتي بطرح سؤال مضاد يقول: «أولاً لا بد أن نسأل أنفسنا ما هو الحب؟ فربما كان ما نظن أنه الحب ليس سوى إعجاب أو استلطاف أو خداع نظر سببه الانبهار بصفات جميلة أو سلوك حسن». وقبل أن أترك أي فرصة لأي إجابة، قفزت إلى بحر الارتجال، بادئاً بتجربة زعمت أنها حدثت لي في نفس عمرها، ثم قمت بتلصيم أجزاء من قصص مختلفة لأشخاص آخرين في أعمار مختلفة، بشكل لا أنسب الفضل في نجاحه المفترض ـ وربما المتوهم ـ لنفسي، فما هو إلا كرم الله الذي ساعدني على أن أوصل أنني لست ضد الحب الذي طالما تغنيت به في ما أكتب، بل أنا ضد التعجل في وصف مشاعر مبهمة ناشئة ومتضاربة بأنها حب. ولم أكن أطلب في هذا التوقيت سوى هذا الإنجاز المبدئي، لأشغل نفسي بعدها في التفكير في كيفية البناء عليه مستقبلاً بحذر حنون، وبشكل يجعلني سعيداً بها ومطمئناً عليها إلى أقصى حد ممكن. للأسف، لم يصادفني نفس الحظ مع ابنتي الأصغر، التي تفاجئني دائماً بالتوقيت الذي تختار فيه طرح أسئلتها، كأن تسألني بالإنكليزية ونحن نمتطي المصعد المزدحم ببعض سكان عمارتنا في نيويورك: «بابا هل الشيوعية جيدة أم سيئة؟». استقبل رفاق المصعد السؤال بابتسامات ودودة، ولم أكن لأحول ذلك الود إلى توجس، لو أجبت باللغة العربية، لأجدني خلال فترة قصيرة مطالباً بإرضاء شغف ابنتي المعرفي، ومحلاً لتقييم أربعة من جيراني. وإذا أضفت إلى ذلك برودة الجو وسماجة الصُّداع، فأرجوك لا تحكم بالفشل على إجابتي التي كانت: «كان يفترض أن تكون جيدة، لكنها مثل أشياء كثيرة لم تطبق بشكل جيد، لكن ليس بالضرورة أن كل الأشياء الجيدة تطبق بشكل جيد، ولذلك سيظل البعض يعتقد أنها في ظل ظروف جيدة يمكن أن تكون جيدة، وطبعاً هناك من يعتقد أنها لم تكن جيدة من الأساس». لم أفكر في الالتفات إلى أعين جيراني لاستطلاع آرائهم، قانعاً بنظرات التقدير التي رمقتني بها ابنتي، والتي اتضح لاحقاً أنها كانت نظرات شفقة، حين مررت إلى جوارها في اليوم التالي، فوجدتها تقرأ على كمبيوترها بعض ما رشحه لها (غوغل) عن التجارب الشيوعية، وكانت الصفحة المفتوحة أمامي تتحدث عن جرائم ستالين وعدد ضحاياه في مجاهل سيبيريا. كنت حين خرجنا من المصعد، قد قلت لها بحزمٍ حاسم وحسمٍ حازم: «ما تسألنيش أسئلة بالانكليزي بعد كده قدام الناس، ويستحسن ما تسألنيش أسئلة في الأسانسير خالص»، ولأنها مهذبة وتسمع الكلام، لم تسألني بعدها أي أسئلة في المصعد، مع أنها لا تتوقف بحكم سنها عن الأسئلة. لكننا بعد أسبوع، كنا في عربة المترو المزدحمة كالعادة، وهناك بالذات قررت أن تسألني باللغة العربية عما إذا كان ترامب سيقوم بضرب كوريا الشمالية بالسلاح النووي وهل كوريا الشمالية دولة إرهابية، ولأنها نطقت كلمات (إرهابية) و(السلاح النووي) بالإنكليزية لأنها وجدت ذلك أيسر، ولأن لحيتي كانت أطول من اللازم، ولأن الحياة صعبة ومعقدة وقصيرة، فقد كان لا بد من أن أبدأ بترجمة سؤالها، بصوت يصل إلى جميع المحيطين بنا منعاً لأي التباس، ثم أشرع في الإجابة عليه عازماً على تطعيمه ببعض المقولات الشائعة عن السلام العالمي وخطورة الإرهاب الذي لا بد أن يدينه كل أصحاب الضمائر الحرة وتعقيدات الحرب وعبثها، لتقاطعني بسؤال تلقائي، وبالإنكليزية هذه المرة: «بابا، إنت مش قلت بلاش أسألك أي أسئلة بالإنكليزي؟». |
|