أوسلو وشرق أوسط جديد… بميلاد يساري وتربية يمينية
مؤتمر وارسو، بمشاركة مندوبين من الدول العربية إلى جانب رئيس وزراء إسرائيل، كشف عن مفارقة تاريخية: صحيح أن اليسار الإسرائيلي ولّد فكرة الشرق الأوسط الجديد إلا أن الرؤيا المتحققة عملياً هي بالذات بقيادة اليمين. شمعون بيرس، واضع الفكرة، سعى لأن يعبر من خلالها عن تطلع لسلام رسمي بين إسرائيل ودول المنطقة وسعيا لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي، إلى جانب التقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين. لقد كانت المصالحة مع الحركة الوطنية الفلسطينية مفتاحاً ضرورياً لتحقيق السلام مع دول عربية محيطة.
وجاء انهيار مسيرة أوسلو ليجعل رؤيا الشرق الأوسط الجديد رديفاً للانقطاع عن الواقع. ولكن في العقد الأخير، وبالذات تحت حكومة اليمين، يخيل أن تجري مسيرة تاريخية تعبر عن نفسها في تعميق التواجد الاستراتيجي والأمني والاقتصادي لإسرائيل في الشرق الأوسط وفي تطوير علاقات متفرعة مع الدول السُنية، بينما قامت رؤيا بيرس على فكرة طوباوية رومانسية، يتم تحقيقها الحالي، على أيدي اليمين، انطلاقاً من نهج واقعي وعملي.
يقف عدد من العوامل في خلفية هذا التحول المشوق: أولاً، توثيق التعاون بين النخب السياسية القديمة في الشرق الأوسط، في ضوء موجات الصدى للربيع العربي الذي عصف بالمنطقة في 2010؛ ثانياً، قوة إسرائيل في المجالات الاقتصادية والأمنية، والتي تعد نوعاً من الفرصة من ناحية حكام الدول العربية المعتدلة؛ إضافة إلى ذلك فإن إيران التي أصبحت مركز خريطة التهديدات الجديدة في المنطقة ربطت بين مصالح إسرائيل ومصالح دول الخليج؛ وأخيراً اندثار المفاوضات مع الفلسطينيين سمح للدول العربية بقطع الصلة بين التسوية الإسرائيلية ـ الفلسطينية والتعاون العميق مع إسرائيل. حركت هذه الميول مسيرة تقوم على أساس رؤية واعية للمصالح المشتركة بين إسرائيل والعالم العربي. ولكن الفرق بين رؤيا الشرق الأوسط الجديد لبيرس وبين تحققها الحالي لا يتلخص في التضارب الذين بين الرومانسية والعملية فحسب، بل يعبر عن نفسه أيضاً بقطع الاشتراط بين حل «القضية الفلسطينية» وإقامة تطبيع ما بين إسرائيل ودول المنطقة، وفي استعداد عموم المشاركين للتعاون العميق الذي خفي بعضه عن العين. هكذا نشأ مجال جديد من الغموض، يسمح لدول الخليج بالتعاون مع إسرائيل لتحقيق مصالحها الاستراتيجية دون هجر مظهر الالتزام بالقضية الفلسطينية.
يدور الحديث عن ثورة تاريخية حقيقية في العلاقات المركبة لإسرائيل مع الدول العربية. فمنذ قيام الحركة الوطنية اليهودية تميزت هذه العلاقات بالتوتر الذي بين تطلع الصهيونية للعودة إلى وطن الشعب اليهودي في الشرق الأوسط، وبين التوتر مع شعوب المنطقة الذي تعزز كلما تعاظم الصراع القومي. أما التطور الحالي فكفيل بأن يبشر بتآكل الكليشيه الذي يصف إسرائيل كـ «فيلا في الغابة»، والذي يستهدف التجسيد بالملموس لعزلتها في محيطها المعادي. وقد باتت ثمار هذا التطور ملموسة، منذ اليوم، في دور الوساطة الذي تقوم به قطر مثلاً مع حكم حماس في غزة، وفي مظاهر التعاون مثل المؤتمر الذي عقد في عاصمة بولندا.
حتى الآن يجري هذا التغير، بشكل نسبي، تحت ستار من الغموض. ولكن نزع الغموض بشكل كامل كفيل بأن يعيق تواصل رؤيا الشرق الأوسط الجديد بلباسها الحالي والواقعي ويمس بمواصلة تحققها السريع. الشرق الأوسط الجديد بقيادة اليمين لا تزال بحاجة إلى سياسة الغموض.
دورون مصا
٭ باحث ومحاضر في موضوع النزاع في كلية احفا ومسؤول سابق في المخابرات