العقبات و العراقيل التي واجهها موسى بن نصير في رغبته لفتح الاندلس
استتبَّ الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، وانتشر الإسلام وبدأ الناس يُقبلون على تعلُّم دينهم، فلمَّا رأى موسى بن نصير ثمار عمله، بدأ يُفَكِّر في نشر الإسلام في البلاد التي لم يصلها بعدُ
العقبات و العراقيل التي واجهها موسى بن نصير في رغبته لفتح الاندلس
استتبَّ الأمر لموسى بن نصير في شمال إفريقيا، وانتشر الإسلام وبدأ الناس يُقبلون على تعلُّم دينهم، فلمَّا رأى موسى بن نصير ثمار عمله، بدأ يُفَكِّر في نشر الإسلام في البلاد التي لم يصلها بعدُ، فبدأ يُفَكِّر في فتح بلاد الأندلس، والتي لا يفصلها عن شمال إفريقيا سوى المضيق الذي صار يُعْرف بعد الفتح الإسلامي بـ(مضيق جبل طارق)، ولكن كانت هناك عدَّة عقباتٍ؛ كان أهمها ما يلي:
العقبة الأولى: قلَّة السفن
وجد موسى بن نصير أن المسافة التي سيقطعها في البحر بين المغرب والأندلس لا تقلُّ عن 13 كم، ولم يكن لديه سفنٌ كافيةٌ ليعبر بجيشه هذه العقبة المائية؛ فمعظم معارك المسلمين باستثناء بعض المعارك مثل ذات الصواري وفتح قبرص كانت برِّيَّة؛ ومن ثَمَّ لم تكن هناك حاجة كبيرة إلى سفن ضخمة، ولكن الآن الأمر مختلف، وهم في حاجة للسفن الضخمة لتنقل الجنود وَتَعْبر بهم المضيق ليصلوا إلى الأندلس.
العقبة الثانية: وجود جزر البليار النصرانية في ظهره
كان موسى بن نصير قد تعلَّم من أخطاء سابقيه؛ فلم يكن يخطو خطوةً حتى يُؤَمِّن ظهره أولاً، وفي شرق الأندلس كانت تقع جزرٌ تُسَمَّى جزر البليار -وهي عدَّة جزر تقع أمام الساحل الشرقي لإسبانيا، وأهمها ثلاثة جزر هي: مَيُورْقَة ومَنُورقَة ويَابِسَة، وتُسَمَّى في المصادر العربية بالجزر الشرقية- وهي قريبة جدًّا من الأندلس؛ ومن هنا فإن ظهره لن يكون آمنًا إن دخل الأندلس، وكان عليه أولاً أن يحمي ظهره.
العقبة الثالثة: وجود ميناء سبتة المطل على مضيق جبل طارق في أيدي نصارى على علاقة بملوك الأندلس
لم يكن المسلمون حينئذٍ قد فتحوا مدينة سَبْتَة، وهي مدينة ذات موقع استراتيجي مهم، ولها ميناء يطلُّ على مضيق جبل طارق، فكانت آنئذٍ تحت حكم رجل نصراني يُدْعَى (يُليان)، الذي كانت تربطه علاقات طيبة بملك الأندلس السابق غِيطشَة، وغِيطشَة هذا كان قد تعرَّض لانقلاب قائد جند له يُدعى لُذريق، وتولى لُذريق حُكم الأندلس نتيجة هذا الانقلاب، فخشي موسى بن نصير إن هو هاجم الأندلس أن يتحالف يُليان مع لُذريق ضدَّه نظير مقابل مادي أو تحت أي بند آخر، فيُحاصروه ويقضوا عليه هو وجنوده.
العقبة الرابعة: قلة عدد المسلمين
كانت العقبة الرابعة التي واجهت موسى بن نصير هي أن قوات المسلمين الفاتحين التي جاءت من جزيرة العرب ومن الشام واليمن محدودة جدًّا، وكانت في الوقت نفسه منتشرة في بلاد الشمال الإفريقي؛ ومن ثَمَّ قد لا يستطيع أن يُتِمَّ فتح الأندلس بهذا العدد القليل من المسلمين، هذا مع خوفه أن تنقلب عليه بلاد الشمال الإفريقي إذا هو خرج منها بقواته.
العقبة الخامسة: كثرة عدد النصارى
في مقابل قوَّة المسلمين المحدودة كانت قوات النصارى تقف بعُدَّتها وضخامتها عقبةً في طريق موسى بن نصير لفتح الأندلس، وكان للنصارى في الأندلس أعدادٌ ضخمةٌ، هذا بجانب قوَّة عُدَّتهم وكثرة قلاعهم وحصونهم، وإضافة إلى ذلك فهم تحت قيادة لُذريق القائد القوي.
العقبة السادسة: طبيعة جغرافية الأندلس، وكونها أرضًا مجهولةً بالنسبة للمسلمين
فقد كان البحر حاجزًا بين المسلمين وبلاد الأندلس، فلم يكونوا على علمٍ بطبيعتها وجغرافيتها؛ وهذا ما يجعل الإقدام على غزو أو فتح هذه البلاد أمرًا صعبًا، فضلاً عن هذا فقد كانت بلاد الأندلس تتميَّز بكثرة الجبال والأنهار، تلك التي ستقف عقبةً كئودًا أمام حركة أيِّ جيش قادم، خاصةً إذا كانت الخيول والبغال والحمير هي أهمُّ وسائل ذلك الجيش في نقل العُدَّة والعَتَاد.
موسى بن نصير ومواجهة العقبات
لم يستسلم موسى بن نصير رغم هذه العقبات التي كانت موجودة في طريق فتح الأندلس، بل زادته هذه العقبات إصرارًا على فتحها، ومن هنا بدأ وفي أناةٍ شديدة يُرَتِّب أموره ويُحَدِّد أولوياته، فعمل على مواجهة هذه العقبات على النحو التالي:
أولاً: بناء المواني وإنشاء السفن
بدأ موسى بن نصير في عام (87 أو 88هـ=706 أو 707م) ببناء المواني التي تُشَيَّد فيها السفن، وإن كان هذا الأمر ربما يطول أمده، إلاَّ أنه بدأه بهمة عالية وإرادة صلبة؛ فبنى أكثر من ميناءفي الشمال الإفريقي.
ثانيًا: تعليم البربر الإسلام
وفي أثناء ذلك بدأ موسى بن نصير -أيضًا- يبذل جهودًا أكبر لتعليم البربر الإسلامَ في مجالس خاصة لهم،، فلمَّا اطمأنَّ إلى فهمهم للإسلام بدأ يعتمد عليهم ويستعملهم في جيشه، وهذا الصنيع من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- أن نجده عند غير المسلمين؛ فلم تستطع دولةٌ محارِبَةٌ أو فاتحة غير الدول الإسلامية أن تُغَيِّر من طبائع الناس وحُبِّهم وولائهم الذي كانوا عليه؛ حتى يُصبحوا هم المدافعين عن هذه الدولة
والناشرين لدينها؛ خاصَّة إذا كانوا حديثي عهدٍ بهذا الفتح أو بهذا الدين الجديد، فهذا أمر عجيب حقًّا، ولا يتكرَّر إلاَّ مع المسلمين وحدهم؛ فقد ظلَّت فرنسا -على سبيل المثال- في الجزائر مائة وثلاثين عامًا، ثم خرجت جيوشها، بينما ظلَّ الجزائريون كما كانوا على الإسلام لم يتغيَّرُوا، بل زاد حماسهم له وزادت صحوتهم الإسلامية.
علَّم موسى بن نصير البربر الإسلام عقيدةً وعملاً، وغرس فيهم حُبَّ الجهاد وبَذْل النفس والنفيس لله ؛ فكان أن صار جُلُّ الجيش الإسلامي وعمادُه من البربر الذين كانوا منذ ما لا يزيد على خمس سنوات من المحاربين له.
ثالثًا: تولية طارق بن زياد على الجيش
القائد هو قِبلة الجيش وعموده، بهذا الفَهْم ولَّى موسى بن نصير قيادةَ جيشه - المتَّجه إلى فتح بلاد الأندلس - القائدَ البربري المحنَّك طارق بن زياد (50-102هـ=670-720م) ذلك القائد الذي جمع بين التقوى والورع، والكفاءة الحربية، وحُبِّ الجهاد، والرغبة في الاستشهاد في سبيل الله، ورغم أنه كان من البربر وليس من العرب إلاَّ أن موسى بن نصير قدَّمه على غيره من العرب، وكان ذلك لعدة أسباب؛ منها:
1- الكفاءة: لم يمنع كون طارق بن زياد غير عربي أن يُوَلِّيَه موسى بن نصير قيادةَ الجيش؛ فهو يعلم أنه ليس لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي فضلٌ إلاَّ بالتقوى؛ فقد وجد فيه الفضل على غيره، والكفاءة في القيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أن دعوة الإسلام ليست دعوة قَبَلِية أو عنصرية تدعو إلى التعصب، وتُفَضِّل عنصرًا أو طائفةً على طائفة؛ إنما هي دعوة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
2- قدرته على فَهم وقيادة قومه: إضافة إلى الكفاءة التي تميَّز بها طارق بن زياد كان لأصله البربري الفضلُ في القضاء على أيٍّ من العوامل النفسية التي قد تختلج في نفوس البربر الذين دخلوا الإسلام حديثًا؛ ومِن ثَمَّ استطاع قيادتهم وتطويعهم للهدف الذي يصبو إليه، ثُمَّ لكونه بربريًّا فهو قادر على فهم لغة قومه؛ إذ ليس كل البربر يُتقنون الحديث بالعربية، ؛ ولهذه الأسباب وغيرها رأى موسى بن نصير أنه يصلح لقيادة الجيش فولاَّه إيَّاها.
رابعًا: فتح جزر البليار وضمها إلى أملاك المسلمين
من أهمِّ الوسائل التي قام بها موسى بن نصير تمهيدًا لفتح الأندلس، وتأمينًا لظهره -كما عهدناه- قام بفتح جزر البليار -التي ذكرناها سابقًا- وضمَّها إلى أملاك المسلمين، وبهذا يكون قد أمَّن ظهره من جهة الشرق، وهذا العمل يدلُّ على حُنكته وبراعته في التخطيط والقيادة، ومع هذا كلِّه فقد أُغفِل دورُه في التاريخ الإسلامي كثيرًا.