.... يسجل تاريخ الصحافة في فلسطين، وتاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية لنجيب نصار أنه كان اول من حذر من الصهيونية، وأول من فضح خطط الجمعيات اليهودية لشراء أراضي فلسطين. وقاسى في مواقفه القومية الكيد، والطعون والحملات الظالمة في حقه، وواجه المحاكم جراء ذلك، وتشرد ونفي الى البراري، وتخفى راعياً في قفار الأردن، ومع ذلك لم يتراجع، ولم يكف عن التنبيه على مخاطر ما يحاك لفلسطين وشعبها. ونجيب نصار، الذي هبط فلسطين من عين عنوب في جبل لبنان، لم يكن مهاجراً من لبنان الى فلسطين، بل كان كمن ينتقل من قرية الى بلدة في وطنه الواحد. ألم يكن لبنان آنذاك جزءاً من سوريا؟ وكانت فلسطين تدعى في أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية «سوريا الجنوبية»؟. وبهذا المعنى لم يكن مستغرباً على الاطلاق ان يناضل نجيب نصار في سبيل فلسطين بصلابة وشجاعة وتفان، وان يحفر بنضاله المشهود تاريخاً من الإقدام والثبات والمبدئية. اطلع مبكراً على الطرائق المشبوهة والسرية التي كانت جمعيات الاستيطان اليهودية تستخدمها للاستيلاء على الأراضي، وكان متعلقاً بالأرض، ويعمل فيها، ويمنحها جهده. ولعل هذا التعلق بالأرض، واكتشافه ما يحاك لها على أيدي السماسرة وملاكي الأرض غير الوطنيين، جعلاه يدب الصوت محذراً من تسرب الأرض من أيدي أبنائها، وفاضحاً تواطؤ ملاك الأرض مع الوكالة اليهودية والجمعيات الاستيطانية.
«الكرمل» منبر القومية فور اعلان الدستور العثماني في سنة 1908 باع نجيب نصار ما يملك من أراض، وبادر الى شراء مطبعة من بيروت، وأصدر مجلة «الكرمل» وقد أسماها «الكرمل» على اسم الجبل البهي الرابض فوق حيفا كأحد الحماة الطبيعيين لهذه المدينة التي تحتفل في هذه الأيام بمرور 250 سنة على تأسيسها في جوار مدينة عكا الدهرية. تصدت «الكرمل» منذ أعدادها الاولى لبيوع الأرض، وللصهيونية التي لم يكن اسمها طرق أسماع الكثيرين في سنة 1908. وتحملت، هي وصاحبها جراء ذلك، غضبة البعض وتشكيك البعض الآخر، فهاجمته جريدة «جراب الكردي» في سنة 1909، وهي جريدة هزلية اصدرها متري حلاج في حيفا سنة 1908، قائلة: «خير لنا ان يأتي اصحاب الأموال (أي اليهود) من أي بلاد كانت، وأي جنس كان، ليستخرجوا كنوز أرضنا (...)، وهو خير لنا من ان تبقى هذه الجواهر ضائعة ونحن نتبجح بكلمة الوطن والوطنية، وجيوبنا أفلس من طنبورة او رباب». وهاجمته أيضاً مجلة «جويش كرونيكل» وصحيفة «النفير العثماني» في سنة 1910. و«النفير العثماني» أسسها في القدس الصحافي اللبناني إيليا زكا، ثم نقلها الى حيفا، وكان فرع «بنك انكلو ـ فلسطين» الصهيوني في يافا يمولها. والمعروف ان إيليا زكا تعاون مع نجيب نصار في اصدار «الكرمل» في البداية، ثم جذبته اموال الصهيونية، فغادرها. وهاجمه الصحافي نسيم ملّول (يهودي تونسي عاش في مصر قبل ان ينتقل الى يافا سنة 1912 ويصبح مراسلاً لمجلة «المقطم» في القاهرة)، بتحريض من بعض المالكين وسماسرة الأرض وجمعيات الاستيلاء على الأراضي.
أمام المحاكم لم يصدق الفلسطينيون تحذيرات نجيب نصار، وراحوا يقولون: كيف سيتمكن هؤلاء اليهود الذين ضربت عليهم المذلة والمسكنة من تأسيس دولة لهم في فلسطين؟ ولبلاهتهم وصفوه بـ«مجنون الصهيونية». والحقيقة أن نجيب نصار كان قرأ في سنة 1905 بحثاً عن الصهيونية في «الموسوعة اليهودية» أرسله إليه صديق انكليزي، فراح يتعقب هذه الحركة ويرصد أعمالها، ثم شرع في حملة لا هوادة فيها للتحذير من خطرها، ونشر ست عشرة حلقة عنها جمعت في سنة 1911 في كتاب بعنوان «الصهيونية: تاريخها، غرضها، أهميتها». وفي أواخر سنة 1910 أثارت «الكرمل» قضية الجفالك السلطانية، وهي الاملاك الأميرية الخاصة بالسلطان عبد الحميد التي سجلت باسم الخزانة العامة بعد خلعه، وهي، في الأساس، ملك للفلاحين المقيمين عليها.
شريد في البراري لم يكن نجيب نصار مجرد صحافي غيور على بلاده فحسب، بل كان سياسياً وصاحب رأي سياسي أيضاً. فقد عارض انضمام تركيا الى ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، ورأى في ذلك خطراً على الدولة العثمانية، ونصح القادة الأتراك بالبقاء على الحياد. أثارت مواقفه هذه نقمة السفير الألماني في اسطمبول، والقنصل الألماني في حيفا، وبعض العسكريين الأتراك المؤيدين لفكرة التحالف مع ألمانيا، وهؤلاء حنقوا عليه، فاضطر، مع تصاعد العمليات العسكرية، الى التخفي في الناصرة. ثم انتقل الى شرق الأردن، ونزل عند عرب السردية، وعمل في رعاية الأغنام لديهم قرابة السنتين ونصف السنة. وعند هذا الحد ضاقت نفسه وقرر الاستسلام الى قائمقام الناصرة فوزي الملقي الذي هيأ له مقابلة مع جمال باشا الصغير (المرسيني)، فسيق الى دمشق، وأودع السجن العرفي في 1/1/1918. وبعد اثنتي عشرة جلسة اعلنت المحكمة براءته، فعاد الى الناصرة، واستقبله أصدقاؤه استقبالاً مشهوداً.
عربي حتى النهاية أسس نجيب نصار الحزب العربي في سنة 1918 في الناصرة. لكن الحاكم العسكري منعه من افتتاح فروع لحزبه في المدن الفلسطينية الاخرى. وفي سنة 1922 تعرف الى شاعر الأردن مصطفى وهبي التل (عرار)، وباتا منذ ذلك الوقت صديقين حميمين، وراحا يدعوان الى الوحدة العربية في الناصرة والكرك، والى مواجهة السياسة البريطانية. وكانت الغاية توعية سكان الناصرة المسيحيين الذين حاول البعض إشاعة الفرقة الدينية بينهم، وتوعية سكان الأردن بمخاطر السياسة البريطانية التي كان الأمير عبد الله بن الحسين سائراً في ركابها. وفي هذا الميدان لم يتورع بعض مخالفيه عن الاشارة الى مسيحيته فغضب، الأمر الذي دعا محمد عزة دروزة الى الكتابة إليه قائلاً: «ما نصرانيتك بضائرتنا، ولا كرملك بهيّن علينا. إنك بنصرانيتك عند عارفيك من المسلمين لأعظم من كثيرين ينتحلون الإسلامية ولا يرقبون فيها ذمة، ويتبجحون بالوطنية ولا يرعون لها عدلاً ولاحقاً». استمر نجيب نصار يملأ الفراغات في صفحات «الكرمل» بشعارات مثل «لا تشتروا من اليهود شيئاً إلا الأرض، وبيعوا اليهود كل شيء إلا الأرض». وفي سنة 1944 أغلقت السلطات البريطانية «الكرمل» وختمت مكاتبها بالشمع الأحمر متذرعة بالأحكام العرفية التي كانت سارية في فلسطين في اثناء الحرب العالمية الثانية. وقد صدمه هذا الإجراء، فلجأ الى بيسان لدى أنسبائه من آل وهبة، لعل يهدئ بعض آلامه. وفي 12/3/1948 اغمض عينيه على سماء الناصرة، ووري في ثرى فلسطين. .........................................................................................................................................
- ولد نجيب الخوري نصار في بلدة عين عنوب في لبنان، ودرس حتى المرحلة الثانوية في احدى مدارس سوق الغرب. - هاجر الى فلسطين ليلتحق بأخويه: إسبر (طبيب) وابراهيم (صاحب فندق نصار في حيفا). ولم يلبث ان ارتحل الى مدينة صفد ليعمل في صيدلية أحد أشقائه، ثم انتقل الى المستشفى الاسكتلندي في طبرية ليعمل مساعد صيدلي. - لم ترقه الوظائف، فاشترى عدداً من الأفدنة الزراعية وعمل في الأرض. ولعل هذا العمل أتاح له الإطلاع مبكراً على بيوع الأراضي من اليهود، وعلى خطط الجمعيات اليهودية لشراء أراضي فلسطين. - تزوج ساذج نصار وهي احدى رائدات العمل النسوي في فلسطين. وقد اشتهر ابنهما فاروق نصار في عالم الصحافة. ورافقته زوجته في رحلة جهاده، واعتقلت في سنة 1938 في سجن بيت لحم احد عشر شهراً بتهمة إمداد الثوار بالسلاح. وظلت في سجنها حتى إعلان الحرب العالمية الثانية سنة 1939. - أصدر مجلة «الكرمل» سنة 1908 واستمرت في الصدور حتى سنة 1944. - اتخذ لنفسه اسم «مفلح الغساني»، فكان يوقع به بعض مقالاته. وكان يريد من هذا الاسم الاشارة الى عروبته والى أصوله العربية المسيحية في آن. - توفي في الناصرة في 12/3/1948. - ترك عدداً من المؤلفات المهمة اشهرها: «الزراعة الجافة»، «الصهيونية»، «مفلح الغساني»، «وفاء العرب»، «نجدة العرب»، «القضية الفلسطينية».
|