يكتسب موضوع التعليم في فلسطين أهميته الخاصة في مرحلة مهمة من تاريخ شعبنا وهو يجاهد لتحرير وطنه وبناء مؤسساته وبلورة مناهجه التعليمية، وموضوع دراسة هذا الكتاب يتصل بالتعليم في فلسطين في حقبة مهمة من تاريخ بلادنا تمتد بين عامي (1515) و(1917)، وكان هدف الباحث من دراسته في المقام الأول التعرف على واقع التعليم في فلسطين في عهد الدولة العثمانية وتحديد العوامل المؤثرة على التعليم وبيان مراحله والكشف عن غايات وأهداف التعليم الأجنبي وحجمه وموقف الدولة العثمانية منه وإزالة ما علق في الأذهان من غبش وأحكام مسبقة بشأن التعليم في ظل الدولة العثمانية حيث توصل الباحث بأدلته أن الدولة العثمانية كدولة خلافة إسلامية لم تحرم أحداً من حقه في التعليم كما يُشاع، بل كان ذلك خاضعاً لأوضاع الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. بمعنى أن هناك مراحل قوة ومراحل ضعف أسهمت في تطور التعليم، وأن مستوى التعليم لم يختلف بين ولاية وأخرى، إنما ذلك تابع لأوضاع الدولة ككل.
قامت الدراسة على ستة فصول ختمت بثبت للمصادر والمراجع التي عاد إليها الباحث وأفاد منها.
يبدأ الباحث محمد عبد الله شلّح الفصل الأول بعرض لآراء الباحثين في مسألة التعليم في عهد الدولة العثمانية في الفترة المذكورة وتتلخص في ثلاثة مواقف:
الأول: أن التعليم كان متخلفاً في عهد الدولة العثمانية وأن ذلك من أهداف الدولة العثمانية.
الثاني: يعترف ببعض الجوانب الإيجابية التي تلقي الضوء على التعليم التركي في فلسطين.
الثالث: أن هذه الاتهامات والانتقادات كان مبعثها ألسنة الكتاب والمسؤولين الإنجليز بعد الانسحاب العثماني من فلسطين ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، الذي جهد في إظهار الدولة العثمانية بثوب غير حضاري ومتخلف.
ثم يعرض الكاتب لمنهجه في دراسته وهو المنهج التاريخي الوصفي التحليلي القائم على مرحلة النقد، ثم مرحلة التحليل بعد جمع المادة والمعلومات التاريخية من مصادرها.
ثم يعرض الباحث في الفصل الثاني لظهور العثمانيين تاريخياً على مسرح الأحداث وامتدادهم شرقاً وغرباً وقضائهم على الدولة البيزنطية 1453، ثم يعرض الكاتب لدخول فلسطين تحت الحكم العثماني وتولي العرب آنذاك لمعظم مراكز الإدارة الرئيسية في فلسطين.
ويعرض الباحث ههنا لبعض المواقف السياسية المشرّفة للدولة العثمانية بتصديها للحركة الصهيونية ورفضها إعطاء اليهود حق الإقامة في فلسطين، وأهم ما في هذا الفصل موقف الدولة العثمانية من العلم والعلماء حيث خلص الباحث إلى أن الدولة العثمانية لم يكن موقفها سلبياً من العلم والعلماء.
ويقدّم الباحث الدلائل القاطعة على ذلك ومنها أن مكانة العلماء كانت تفوق مكانة السلاطين، فاهتمام الدولة بالعلماء والفقهاء لم يسبق له مثيل ومما ساعد على انتشار التعليم بسهولة حرية التنقل بين الولايات، ففي إسلامبول وحدها كان ينتشر أكثر من 171 مدرسة ولا شك أن تأثر العثمانيين بالتراث الحضاري العربي الإسلامي كان له دور بارز في العناية بالترجمة من العربية إلى التركية، فضلاً عن براعة العثمانيين في فنون الخط العربي ورسم المصاحف. ويشير الباحث إلى أن أنظمة التعليم في الدولة العثمانية قفزت قفزات رائدة على يد السلطان الفاتح ويذكر أن الوزراء والسلاطين كانوا يتنافسون على إنشاء المدارس في العواصم والولايات.
ومن هنا، لا يرى الباحث من الإنصاف أن ننعت الدولة العثمانية بالتخلف ومحاربة العلم، فالدولة العثمانية اهتمت بالعلم والعلماء من منطلق أنها دولة خلافة تلزمها بذلك الشريعة الإسلامية، وأن الدولة العثمانية كباقي دول العالم تعرضت لمراحل قوة وضعف في الناحية التعليمية مع حرص العثمانيين وتخوفهم من تطوير التعليم وفق الأساليب الغربية التي قد تؤثر على القيم والحضارة الإسلامية، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من الاتصال وإرسال الطلاب ليعودوا بما هو نافع دون أن يجلبوا سموم تلك الحضارة الغربية.
وفي الفصل الثالث: يتناول الباحث المجتمع الفلسطيني في عهد الدولة العثمانية من حيث الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية.
ففي الجانب السياسي تناول الكاتب تقسيم بلاد الشام كما تناول حالة فلسطين بعد خروج العثمانيين ووقوعها في يد بريطانيا وتشجيع بريطانيا للهجرة اليهودية بشتى السبل ومساندة اليهود في تحقيق أهدافهم الاستيطانية ومن ثم تسليم فلسطين لقمة سائغة لعصابات اليهود. وقد ركز الباحث على الدور السياسي في الفترة العثمانية والبريطانية وانعكاساته على الجانب العلمي والتعليمي.
أما في الجانب الاقتصادي، فقد رأى الباحث أن تدهور الأوضاع الاقتصادية من زراعة وصناعة وتجارة كان لها أكبر الأثر على الحياة العلمية والتعليمية، فعندما انهارت الأوقاف في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي انهار التعليم وأغلقت العديد من المدارس واستمر الوضع حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر، عندما بدأت حركة الإصلاحات في الدولة العثمانية سنة 1826م.
أما الجانب الاجتماعي: فقد عرض فيه الباحث لتكوين المجتمع الفلسطيني في ظل الدولة العثمانية حيث عرض للطوائف التي سادت فيه، وأهمها المسيحيون والمسلمون، المسيحيون كانوا يشكلون (10) بالمئة من مجموع السكان والمسلمون (80) بالمئة، واليهود (7) بالمئة. وكل طائفة كانت تتمتع باستقلالها الداخلي في ظل القانون العثماني، وكان التعليم في ظل هذا المجتمع بين مدٍ وجزرٍ تبعاً لحالة الأمن والاستقرار، حيث إن تطور التعليم ارتبط بتطور مؤسسات المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فالحياة التعليمية نتاج لتلك الأحوال مجتمعة.
أما الحياة العلمية فتقسم في المرحلة العثمانية إلى ثلاث مراحل:
1 – مرحلة القوة والاستقرار: وهي امتداد لما تركه المماليك من منهج علمي ومؤسسات حتى نهاية القرن الثاني عشر الهجري.
2 – مرحلة الضعف: وتتمثل في مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصفه حيث شغلت الدولة العثمانية بحروب وأزمات سياسية انعكست على الوضع المعيشي ومن ثم التعليمي.
3 – مرحلة الإصلاح: حيث قامت الدولة العثمانية بحركة إصلاح كبيرة في جميع المجالات بعد ظهور إصلاح ملموس على الساحة العلمية على يد إبراهيم باشا. وأنشئت المدارس الابتدائية في جميع بلاد الشام وصدر 1845 قانوناً نادى بمبدأ التعليم المجاني والإجباري، وفي عام 1847 أنشئت وزارة المعارف.
وفي الفصل الرابع: تناول الباحث أمرين: الأول، التعليم في فلسطين عند مجيء العثمانيين. والثاني، التعليم في فلسطين بعد التنظيمات وحركة الإصلاح.
أما الجانب الأول، فقد تمثل في إبقاء العثمانيين على الكثير من المؤسسات التعليمية التي خلّفها المماليك وأهم هذه المؤسسات المساجد والكتاتيب والزوايا والربط والخوانق والمدارس، والدولة العثمانية في ظل هذا المنطلق لم تقف ضد رغبة الأهالي والسكان في طريقة تعليم أبنائهم حيث أعطتهم الحرية في اختيار الطرق التي يرغبونها في التعليم. ومن هنا، فإن التعليم في تلك الفترة كان أشبه بنظام التعليم المفتوح وهذا كله يعود لنظام الوقف الذي كان يشكل العمود الفقري للمدارس والمؤسسات التعليمية آنذاك.
وأما الجانب الثاني، فقد تناول فيه الباحث التعليم في ظل حركة الإصلاح وما بعدها. وتتمثل في تشجيع إبراهيم باشا للإرساليات التبشيرية وكردة فعل على تحدي إبراهيم باشا بدأت الدولة العثمانية بإصدار التنظيمات لإصلاح وتنظيم الشؤون الداخلية. فصدر قانون التعليم المجاني والإجباري ثم أنشئت وزارة المعارف عام 1847م.
وقد أعطت الدولة العثمانية فلسطين اهتماماً خاصاً في التعليم لأن ذلك يوطد حكمها فيها، ومن الجدير بالذكر أن صدور القانون 1869 الذي نص على أن اللغة التركية هي اللغة الأساس في جميع المدارس الحكومية واللغة الفرنسية إلزامية مع تغييب اللغة العربية، لاقى استنكاراً في الأوساط العربية وظل الأمر كذلك حتى مؤتمر باريس 1913 الذي خفف من حدة الوطأة على نظام التعليم وصدرت عدة قوانين أحدثت نقلة تعليمية نحو الأمام.
وفي الفصل الخامس: يتناول الباحث التعليم العربي الإسلامي في فلسطين في العهد العثماني، وخلص الباحث في هذا الفصل أن الاتهامات القائلة إن الفلسطينيين لم يمارسوا حقهم التعليمي هي اتهامات غير صحيحة بل إن الفلسطينيين مارسوا حقهم في التعليم في العهد العثماني بصورة كاملة فقد بلغ عدد المدارس الحكومية في متصرفية القدس ولواءي عكا ونابلس 413 مدرسة فضلاً عن الكتاتيب والزوايا والربط والخوانق فقلما تجد في العهد العثماني قرية بدون مدرسة.
وكان لنظام التعليم سلم تعليمي يتبع نظارة المعارف العمومية ومدة الدراسة 12 سنة مع مناهج دراسية متنوعة لكل مرحلة وفلسفة واضحة في التعليم.
وفي الفصل السادس: والأخير، يعرض الكاتب للتعليم الأجنبي في فلسطين في العهد العثماني وغاياته وأهدافه، ورأى الباحث أن تغلغل التعليم الأجنبي في الدولة العثمانية كان نتيجة صدور قوانين الإصلاح في جميع الولايات ولا سيما فلسطين، وذلك عن طريق الإرساليات التبشيرية التي أصبحت أدوات للمطامع السياسية وتسببت في الانقسام لأنها حاولت نشر الديانة المسيحية بمذاهبها الغربية (كاثوليك وبروتستانت). وبذلك فإنها أضرت دينياً ووطنياً وثقافياً بالتعليم العربي الإسلامي في مجتمعنا الفلسطيني لأن المدارس الأجنبية لم تكن خاضعة لمراقبة وزارة المعارف العثمانية ولذا لم تكن الدولة العثمانية راضية عن النشاط التعليمي الأجنبي والإرساليات التبشيرية لدرجة أنها لم تعترف بالمدارس الروسية (الأرثوذكسية) إلا في عام 1902م.
وأما الجانب الأشد خطراً من جوانب التعليم الأجنبي فتمثل بالتعليم اليهودي في فلسطين حيث ارتبط هذا التعليم بالعامل الديني وحصل اليهود فيما بعد على دعم مادي ومعنوي من منظمات أوروبية لتطوير تعليمهم. وقد تطور هذا التعليم من ديني إلى تعليم حديث، ثم أصبح تعليماً صهيونياً متشبعاً بالأفكار والقيم الصهيونية حيث قامت فلسفة التعليم الصهيوني على تشكيل الشخصية الإسرائيلية حسب المشاعر الدينية وعقيدة الانطواء وتعميق فلسفة الاضطهاد والقومية اليهودية والعدوانية. ومن هنا، فقد أكد الباحث على أن التربية اليهودية لعبت الدور الأشد خطورة في تأسيس الكيان الصهيوني.
وبالمحصلة، فقد بلغ مجموع المدارس الرسمية في فلسطين حتى نهاية العهد العثماني لجميع الطوائف (776) مدرسة منها: 413 مدرسة عربية إسلامية، و 250 مدرسة مسيحية، و113 مدرسة يهودية، وهذه الإحصائيات تشير بوضوح إلى أن الدولة العثمانية سمحت لجميع الطوائف بممارسة حقها في التعليم لا كما يُشاع عنها.
إن هذا الكتاب (التعليم في فلسطين في عهد الدولة العثمانية) ألقى الضوء على الكثير من الحقائق المبهمة فيما يتعلق بالتعليم، وأزال الكثير من الغبش العالق في الأذهان تجاه الدولة العثمانية، كما ألقى الضوء على الواقع التعليمي السائد في فلسطين وما يمثله من مدارس وكتاتيب وزوايا ودور العلماء في فلسطين في هذا العهد ونبّه إلى خطر التعليم الأجنبي في فلسطين في تلك الفترة وفي كل زمان مع التركيز على التعليم الصهيوني وأثره في صياغة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. |