المسجد
د. هاشم غرايبة
إن البحث عن الخالق ظل احتياجا أساسيا للإنسان وليس ترفا فكريا، بل هو أمر فطري أيضا، فقد ظلت الأقوام القديمة تعبد الظواهر الطبيعية وتتخذها آلهة وتقيم لها المعابد.
هذه الفطرة كانت بشكل عهد أخذه الله على البشر، ويبينها قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" (الأعراف:172)، لكن وبما أن الله غير مرئي، فلم يكن بمستطاع البشر تصوره، لذلك نحتوا من الحجر أشكالا كرموز لتجسيد المجرد، وأقاموا معابد يقدمون فيها القرابين بهدف التقرب الى الإله، الى أن أنزل الله الرسالات على بشر اختارهم كأنبياء يبلغونها لأقوامهم "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ" (البقرة:213).
يؤكد القرآن الكريم أن أول بيت لعبادة الله هو المسجد الحرام، وليس هنالك تأكيد أركيولوجي لتاريخ بنائه، لكنه بالتأكيد قبل بعثة إبراهيم عليه السلام بزمن بعيد، ولا شك أنه كان معروفا بهذه الصفة بدلالة أنه اهتدى الى مكانه بسهولة رغم أنه كان أطلالاً عندما أسكن زوجته وابنه الرضيع "إسماعيل" عنده، ثم عاد ليقيمه مع ابنه بعد أن أصبح شابا، ثم أقامته قريش بعد ألفي عام.
هكذا فالمسجد هو ذاته بيت الله من قبل الرسالة الإسلامية، بدلالة قوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى"، وعليه فهذان مسجدان عل الأقل معروفان للناس، ولذلك فالمسجد الأقصى هو مسجد قديم معروف أيضا، ولو لم يكن كذلك ما طلبت قريش من النبي صل الله عليه أن يصفه ليثبت صدق إسرائه إليه.
نخلص إلى أن البيت الذي يقام لعبادة الله في الدين الذي جاء به إبراهيم وجميع الأنبياء من بعده هو المسجد، ولذلك قال تعالى عن أهل الكهف: "لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا" (الكهف:21)، و"كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا" (آل عمران:37)، والمعروف أن المحراب هو جزء أساسي من المسجد.
لقد أراد الله أن تبنى بيوت الله (المساجد) ليذكر فيها اسمه، وتكون مكانا آمنا يدخله الناس إخوانا تاركين ضغائنهم وشرورهم خارجه، وللتسهيل على الناس أجاز العبادة خارجه، لكن دور المسجد في الدين لا يقتصر على أداء الصلاة، فهو مجمع اجتماعي ثقافي سياسي.
اجتماعيا: من يدخله يلتزم بالوقار والسكينة، يخلع نعليه احتراما، يجلس مع الجميع على الأرض جنبا الى جنب، لا فارق بين غني وفقير، ولا بين علية القوم والعامة، لا جدال فيه ولا فسوق، يؤمّ الناس فيه أعلمهم بكتاب الله وبالفقه، إذاً هو صورة للمجتمع المثالي.
ثقافيا: هو المكان الوحيد الذي يستمع الناس فيه الى خطيب الجمعة، أو العالم المدرس في حلقات العلم، بإنصات وبلا مقاطعة ولا تشويش، في صورة للتعلم المثالي.
سياسيا: هو المكان الذي يمكن أن يجتمع فيه الناس من غير حاجة الى دعوة، فلا يغيب عنه أحد، ولا اعتذار بسبب أن المكان ينتمي الى جهة أوجماعة معينة، فهو لله أي لجميع عباده، ولا يتأخر أحد عن الموعد الدقيق، وتطرح في اجتماع دوري أسبوعي (خطبة الجمعة) القضايا التي تهم الناس، أو إن دعت الحاجة في أي وقت؛ حيث كان المسجد الجامع أيام الدولة الإسلامية هو الذي تعقد فيه الاجتماعات المهمة.
هكذا ينفرد الإسلام بهذه الميزة المهمة، والتي لو تم تفعيلها كما أرادها الله، لكان فيها كل الخير للأمة، لكن الأنظمة العربية سعت في تخريبها، ولإفراغها من مضامينها، ألزمت الخطباء بنصوص مُعدّة من عندها مما أفسدها.