فلسطين دمعة التاريخ الحارة
جواد بولس
لن أكتب اليوم في السياسة ولن أحدثكم عن فلسطين التي في أحلامنا، ولا تلك التي تسكن في حضن الأماني. سوف آخذكم معي الى صباح فلسطيني مثير، لتروا كيف نمارس فيها طقوس «حزننا العادي» ونمضي كالناس نحو ضفاف الفرح.
كان الصباح ثقيلًا. أفقت وقد «تطاول ليلي ولم أنمه تقلبا».
كان صوت صافرات السيارات تحت بيتي مزعجًا أكثر من كل العادة؛ شعرت بتعب شديد وبنعاس، وتذكرت نتفًا من حلم لازمني وأزعجني خلال نومي المتقطع. اختصرت عاداتي الصباحية، وهيأت نفسي للسفر. توجهت بسيارتي نحو الحاجز العسكري القريب من قرية «الجيب» لأدخل منه إلى رام الله بدلًا من حاجز «قلنديا» الأقرب بكثير إلى منزلي وإلى مكان عملي. كل شيء في فلسطين التي أعرفها تغيّر. للمسافات معان جديدة وللوقت أرواح تغيب ولا تفنى؛ وحتى النوم صار فيها شهوة وأمنية العقّال. لا علاقة للمرض بذلك ولا لبلوغك الخمسين «حافيًا» أو الستين حالمًا، فالقصة أننا نعيش أيامنا و»كأنّ الريح تحتنا» وننام في فراش وقد «حال دونه الجمر». إنها فضاءات القلق المتعاظم ينخر مخادعنا، وعوالم القهر الذي يحاصرنا على مدار الوطن والزمن.
قد تبدو حكايتنا، للرائين من بعيد، على شكل وطن من نثار كنعاني أو من صدى بيلاطس البنطي أو من برق سيوف سلطانية؛ لكنها مجرد ظلال هوية نصّ حروفها أبناء «الفصائل» ولوّنوها وعلّقوها على أعواد القوافل وعودًا سرمدية.
كان الصباح باردًا ورتيبًا، والطريق طويلا وخاليًا من سيارات الفلسطينيين. فكرتُ، لو بقيَت فلسطين محتلة كما كانت قبل «ثلج الخديعة»، لكنت سأقطع المسافة من بيتي الى مكتبي في رام الله في أقل من عشر دقائق. أما اليوم، وبعد أن صارت فلسطين الدولة فكرة نسجوا لها نشيدًا وعيدًا وعلمًا، حوّلونا إلى سنابد نحرث ترابها المجبول بالظلم ونداري فيها قسوة العدم. استعنت بالراديو وتنقلت بين محطاته فهو، لمثلي في أوقات «التسلل»، ملجأ. أسمع من إذاعة محلية المغني الأردني، عمر العبداللات، وهو يحيي مدينة نابلس بأغنية يعلن مطلعها أنها كبيرة «وبعمرك ما زغرتي»؛ ويعرب بعده صائب عريقات من صوت فلسطين عن «تقديره لمجلس الشيوخ الأيرلندي ويدعو الاتحاد الأوروبي ليحذو حذوه». أما بنيامين نتنياهو فيحذّر، من إذاعة «مكان» الإسرائيلية، أهل غزة وينصحهم بأن يستوعبوا هذه المرة تهديده ويستسلموا له !قطعتُ الحاجز بسلام؛ فالدخول منه إلى مناطق السلطة مجاز للعموم، أما الخروج فلأصحاب التصاريح فقط.
وبعد مغادرتي وسط القرية متوجها الى الشمال، لأصل رام الله من الخلف، فاجأني رتل من السيارات الفلسطينية الواققة على طول الشارع. توقفت وراء الطابور الذي لم ارَ بدايته. لم أثُر، لأن الشوارع كانت قد علمتني أن فلسطيننا حرة في القصيدة وفي الجرح والندم، بينما هي في الواقع أرض يطأها احتلال عاتٍ يَرى ولا يُرى. مرّت الدقائق ولم يتحرك الطابور. نظرت خلفي فوجدت عشرات السيارات وقد تذيّلت بهدوء، وفعل سائقوها مثلما فعلت. بعد أكثر من نصف ساعة أطفأت المحرك ونزلت استفسر من السائق أمامي عما يجري. كان شابكًا أصابع كفيه تحت رأسه بصورة مقعرة ومشكّلًا بها وسادة من لحم وعظام كي تتلقف رأسه الملقى عليها بسلام. تحت ابطيه علامات التعرق، وهو على وشك النوم عندما شعر باقترابي من شباك سيارته.
لم يحرّك رأسه، واكتفى بفتح نصف عين، مبديًا بعض المضض، فسألته بخجل يوحي بكوني غشيمًا وغريبًا عن المشهد «شو في يا أخي»؟ أجابني، بعفوية وبصوت مسامح وخافت وكأنه لا يريد أن يصحو: «حطّوا «محسوم»/ حاجز طيّار هناك فوق، تحت الجسر «. أردت أن أستوضح منه أكثر، لكنه بإيماءة خفيفة أفهمني بأنه يؤثر العودة إلى غفوته الصغيرة وإلى سكونه النفسي.
لم أعد إلى سيارتي وفعلت كما فعل الآخرون. البعض نزلوا وبحركة طبيعية «مغطوا» أرجلهم ونفضوها؛ وكذلك فعلوا بأيديهم، ما أشعرني بأنهم يستعدون لمكوث طويل. أشعل المدخنون سيجاراتهم ونفخوا دخانها نحو الغيوم التي كانت تسبح فوقنا؛ بعضهم أرفقوا مع الدخان تمتمة ظهرت كرجاء للغيم، أو ربما كرسائل إلى مَن فوقه. رآني من بعيد صديق فترك سيارته وجاءني لنحتفي بكرم الصدفة ففرحنا و»قتلنا» معًا غلاظة السأم وأجّلنا الإصابة بنوبة الغضب. كان الجو صافيًا والشمس صارت عدائية. علا من سيارة قريبة صوت الشيخ عبدالباسط عبد الصمد وهو يتلو بعذوبة ساحرة سورة يوسف، ومن مذياع آخر كانت تطلب فيروز من طير الوروار «رحلك من صوبهن مشوار»، وفي الوقت نفسه كانت تغني فرقة العاشقين من حافلة صغيرة «صباح المجد والعزة يا أطيب أرض فوق الأرض يا غزة». انضم إلينا بعض الرجال والشباب. كانت الراديوهات تصدح، وحديثنا يعلو تباعًا، وكانت نتائج المونديال موضوعه الأهم. احتدمت النقاشات بين الحاضرين الذين دافعوا، كل بدوره، عن فريقه وبطله، وتخللتها حدّة أحيانًا وفكاهة أحيانًا أخرى.
لا تخطئوا التخمين، فنحن في القدس ورام الله نسمع ونشاهد ما يسمع ويشاهد البشر. ترامب، عندنا مثله عندكم، يترنح «ككاليغولا» ربما كمجنون بالعظمة وعاشق لحصانه، أو، والرب أعلم، كجبار يجيد حصاد الرمل وقسمة القمر، أو كراع شبق يعرف كيف تُحلب البقر؛ وفي فلسطين نشاهد المونديال مثلما تشاهدونه في بلادكم، ونبكي لا مثلما بكى «نزار» الدمشقي عند «قدميها»، بل كرمى لسحر «ميسي» وعند قدمي «صلاحنا»، ونهتف بحماس ليس كجدنا أبي الطيب، انما لرماح «رونالدو» وغزوات «نيمار». أمّا الشوارب فبقيت مثل شوارب أمتنا، تحافظ على وقوفها ويقظتها مستنفرة، وتميل حيث خواصر «الكرواتية الحسناء» تميل وعلى غنج «كمنجات» روسيا.
ينام على يميننا سفح هضبة مكسوة بالأخضر. أصوات رعيان وراء المدى، وأشجار التين واقفة باحترام، تُظلل تحتها أثلاما من المزروعات لم ننجح في تشخيصها عن بعد؛ ونحن من بعيد لا نرى حاجزًا ولا نشعر بوجود الجنود.
مرت ساعتان. انتهينا من نعمة الصدفة وتذكرنا أننا ليس إلا رهائن عند جنديين لم يتعدّ عمر الواحد منهما الخامسة والعشرين ، أقاما في صباح فلسطيني «عادي» حاجزًا، ليذكّرونا بأنّ فلسطين، في عصر القبح، ما هي الا أرض المجازات والدلالات وسباقات المسافات الطويلة، وبأنها سيدة الوجع وربة السراب وحاضنة العبث.
وصلت الى مقرّ نادي الأسير قبل الظهر. دخلت غرفة رئيس النادي، قدورة فارس، فوجدته منهمكًا في كتابة نصّ رسالة مهمة. لم ألقِ عليه التحية، فرفع رأسه وتبسّم بعد ان شعر بغيظي يفور. جلست أمامه وسألته متعمدًا الهدوء، «ماذا يعني الحاجز لك يا أخي؟» غابت بسمته وقال «لا أصعب من السؤال البسيط والمفاجئ»، فكّر لحظةً وأجاب: «الحاجز هو الاحتلال يا صاحبي». أردف بصوت المجرّب وقال: «يا صديقي، الحاجز يشبه باب الزنزانة في السجن؛ كلاهما يرمز للقوّة والسلطة والقهر». أشعل سيجارته مستذكرًا بعذوبة محيّرة سنوات سجنه الطويلة وأضاف: «كل تلك السنوات كان عندي حلمان: الأكبر أن أحصل على مفتاح الزنزانة افتحها بحريّة وأغلقها بنفسي؛ والثاني أن أنام في فراشي عارياً»، قال ذلك مؤكدًا «كود» الشرف الذي بنته الحركة الأسيرة الفلسطينية وألزمت بموجبه عناصرها بسلوكيات اجتماعية صارمة، حافظوا من خلالها على مكانتهم الوطنية وعلى حصانتهم الاجتماعية.
سكت قليلًا، ثم أخبرني كيف حقق أمنيتيه بعدما أفرجوا عنه عام 1994، وخبّرني بحكاية الفيل الذي ربطوا ساقه بجذع شجرة كبيرة فحاول أن يقطع الجنزير حتى جرحت ساقه فتوقف. ما الحل؟ سألته؛ فقال علينا أن نداوي خوفنا أولًا؛ وأن نشفى من عجزنا؛ ففلسطين الحقيقية هي أهلها «الأصبرون على الذل من وتد»، وهي حكاياتهم في «الرمادي» وتلك التي ستجدونها في لغة الغبار وفي ملح الرخام. أهلها، صاروا يحذرون الأذى كالفيل، فهم يغفون على خنجر ويصحون على سيف، لكنها عندهم «بين الضلوع جذوة نار / وخلال الأجفان مزنة ماء».
إنها دمعة التاريخ الباقية.
كاتب فلسطيني