غرناطة
بقلم سعد برغل
عندما تنتقل في نفس الأسبوع تقريبا من إيران الى اسبانيا فانّك لا تنتظر فرقا كبيرا بين بلدين تشاركا في العنصر العربي الذي كان حاضرا وفاعلا في مجرى التاريخ الفارسي والاسباني،
لكنّك تنظر في هذا المجد الغابر لعرب كانوا يعيشون داخل التاريخ وتحوّلوا بقدرة تناحرهم من أهل الكهف، عرب فتحوا البلدان وأُطردوا شرّ طردة، فتحوا بلاد الفرس وخرجوا، فتحوا افلندس وما قدروا على المحافظة على ملك، دخلوا بلاد التّرك وغادروا عروبتهم فاستلم الأمر التّرك، ما استلم الحكم قبلهم للشّق الفارسيّ في أبناء هارون الرشيد، وجاءتهم أيّام عجاف فغادروا جنة كان اسم بعضها قرطبة وبعضها الآخر غرناطة ومرسية واشبيلية وطليطلة.
هذا الكمّ من المدن باسبانيا يكشف فعلا أنّ البيع قيمة عربية قديمة، بعنا مابعنا بالأندلس، وبعنا جزرا عربيّة، بعنا صقليّة، بعنا سبتة ومليلة، بعنا لإيران الحق اللغوي، فاليوم لا نتحدّث عن الخليج العربي، بل كلّ الحديث عن الخليج الفارسي، واليوم لا نتحدّث عن الجولان بل عن الجولان المحتل، دافعوا عن كل قضايا الكون وخرسوا عن قضيتهم، اليوم نستغرب حال القدس والمقدسيّين، حال مضحك لشعب يبيع الأخضر واليابس، حكومات العجزة تسافر لبيع ما تبقى من الوقت وتتنادى لعقد قمة عربية نصرة للقدس، إخوان زرعهم الانجليز سرطانا في الرحم العربي يتنادون نصرة للقضية ويسفّرون الشباب إلى سورية ويقفون على مشارف الكيان تخونهم شجاعتهم وأوامر مشغّليهم فلا يفكّرون في تجاوز الحدود نحو القدس ومن المضحكات المبكيات انهم وقفوا ضدّ تجريم التّطبيع مع اسرائيل ومكّنوا شبابهم من فانتازيا الغزوات فعبّدوا لهم الطريق نحو سفارة امريكا.
غرناطة التي زرتها وعشت وسطها أسبوعا، غرناطة التي حلمت بها طالبا، وقرأت أشعار مبدعيها وعرفت تاريخها المبهم ضمن ما تتبعت من تسعة قرون عربيّة ببلاد تكاد تبلغ بلاد الغال عندما صرخ طارق بن زياد صرخته الشهيرة حول حور العين، طارق البربري الذي فتح الاندلس مات سجينا في أحد سجون بني أميّة بدمشق الشام، بلاد دخلها طالبا فتْح الجسد وكانت حور العين ثقافة ترسّخت بعقل عربيّ، باعت اليوم بلادا من البحر الى البحر.
غرناطة التي زرت قصورها واقبيتها وشوارعها وجدتها تنضح عروبة ولا تستطيع امام عظمة قصر الحمراء وحواريها واسواقها الشبيهة باسواق مراكش والدار البيضاء الاّ أن تسخر من شعب عربيّ يحمل في جيناته كلّ مقوّمات التفريط في كلّ نفيس. غرناطة جوهرة المدن باعتها افخاذ وسهرات ملاح، اليوم يعترضك جمع من الشباب المغربي يتخاصم وتقف بمحل سوريّ للتزوّد لليل، وتبحث في لهجة تعرفها فيعترضك عمّ الهادي، ويقول مهدي عم عبد الهادي بن عطية، عميد التونسيين بغرناطة، بسمرته المحبوبة وبكرمه الحاتمي، يستضيفك بمنزله بين عائلته، يقودك في جولة يقدّم لك تاريخ العرب بغرناطة، يختصرها في روعة الحكواتي في تاريخ ثلاثة اسوار، وياخذك الى تاريخ الجوامع التي تحولت الى كنائس ويفسر لك المعمار العربي الممزوج بالمعمار الباروكي، يعرف تاريخ المعالم والمائدة الاسبانية ولا يفوته ان يطلق ساقيه للريح بحثا عن محل للنرجيلة لضيف نزل عليه من تونس.
أغادر غرناطة وأغادر مدريد وستحل بنا الطائرة بعد ساعتين بمطار قرطاج الدوليّ مع عادة وفية للناقل الوطنيّ، سأغمض عيني وسأتفسّح مجددا بحواري غرناطة وسأتمتّع بذكرى عربيّ تأكّد أنّ بيع الأرض هواية عربيّة بامتياز، وكما تكونوا يُولّى عليكم.