حركات المعارضة السورية (1963- 2013) – آرام الدمشقي
من كتاب (أصدقاء فولتير)
لإيفلين بياتريس هول
مقدمـــة:
قبل الدخول في صلب موضوعنا، لابد من إعطاء فكرة عن طبيعة النظام الذي بدأ بالتشكل في سوريا منذ انقلاب الثامن من آذار 1963 والتصفيات الداخلية المتكررة التي جرت ضمنه، إذ أن أطيافا متعددة من المعارضات التي ظهرت خلال الفترة المعنية كانت نتيجة مباشرة لتلك التصفيات، فكل فصيل أو رمز من رموز السلطة تمت إزاحته عن مواقعه انقلب بالضرورة إلى فصيل و/أو رمز معارض، هذا طبعاً إلى جانب فصائل وشخصيات أخرى عارضت الانقلاب ووقفت ضده منذ البداية.
قام بتنفيذ انقلاب الثامن من آذار 1963 مجموعة ضباط من ذوي الرتب العسكرية المتدنية، من مشارب سياسية محسوبة على حزب البعث ومن ناصريين، واختاروا واجهة لهم ضباطاً من ذوي الرتب العالية، من غير البعثيين، هم زياد الحريري (مستقل – صهر أكرم الحوراني) الذي كان يشغل آنذاك منصب قائد الجبهة السورية مع إسرائيل « جبهة الجولان قبل احتلاله عام 1967 » وراشد قطيني (ناصري) رئيس المخابرات العسكرية ومحمد الصوفي (ناصري) قائد لواء حمص. ([1])
كما أعلن صانعوا الانقلاب عن واجهته السياسية أنه جاء رداً على انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة وبأنهم، كوحدويين، عازمون على إعادة الوحدة مع مصر تحت شعار « الثامن من آذار مولد فجر وحدوي أصيل ».
مع التنويه بأن عدد الأعضاء العاملين في حزب البعث عشية الثامن من آذار 1963 كان أكثر قليلاً من 400 عضو ([2])
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن قيادة حزب البعث المدنية لم تشارك بالانقلاب ولا عملت على التخطيط له، بل أن ميشيل عفلق، عندما تناهى إليه نشاط مجموعة الضباط تلك، حذر من « مغامرة مجهولة العواقب »، لكن اللجنة العسكرية الخماسية، وبعد نجاح الانقلاب، استدعت قيادة الحزب المدنية كي تكون واجهتها السياسية بسبب جهلها بمتاهات السياسة السورية ولافتقارها إلى قاعدة حزبية وتنظيم بعثي خارج الجيش، وأيضاً لحاجتها الملحّة لفتح خطوط اتصال مع القيادة القطرية لحزب البعث في العراق التي أعلنت إخلاصها لقيادة عفلق – البيطار. ([3])
كانت النواة الصلبة لبعثيي الانقلاب مؤلفة من أعضاء اللجنة العسكرية الحزبية « اللجنة الخماسية » التي تم تشكيلها في مصر أثناء فترة الوحدة بهدف إحياء تنظيم حزب البعث الذي قامت قيادته المدنية بحله عام 1958 امتثالاً لطلب عبد الناصر كشرط لقيام الوحدة، لكن هذه اللجنة لم تكن عملياً جزءاً عضوياً في الحزب.
عن هذه اللجنة الغامضة التي تحكمت بمصير سوريا منذ العام 1963 ولا تزال، رغم وفاة كل أعضائها، يتحدث محمد حيدر، عضو القيادة القطرية المؤقتة لحزب البعث التي قادت الحركة التصحيحية عام 1970 ونائب سابق لرئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، قائلاً:
(الفصل الأول – اللجنة الحزبية العسكرية
تكونت هذه اللجنة في مصر، أثناء حكم الوحدة، وقامت بين ضباط حزبيين كانوا قد ُنِقلوا إلى مصر بعد أن بدأت العلاقات « البعثية/الناصرية » تدخل دائرة الشك والريبة، وقد اختلفت الأقاويل حول أسماء أعضائها المؤسسين، إلا أن الرواية التي تكررت من أكثر من مصدر وعلى لسان الرئيس « حافظ الأسد » نفسه أكدت أن هذه اللجنة تكونت أساساً بين خمسة من الضباط كانوا هم المؤسسين، وانضم إليهم على فترات مختلفة وتحت عناوين وتسميات مختلفة، ضباط آخرون إلا أن هؤلاء الضباط الخمسة ظلوا هم المسؤولين الرئيسيين عن قيادة هذه اللجنة والتخطيط لها، إلى أن وقع انقلاب « الثامن من آذار/1963 » واستلم الجيش الحكم باسم حزب البعث العربي الاشتراكي.
فاللجنة الحزبية العسكرية هي الاسم الذي أطلقه الضباط الخمسة على أنفسهم وهم يقومون بإعادة تنظيم الحزب داخل القوات المسلحة السورية، بادئين بالضباط الحزبيين الذين كانوا معهم في مصر. وهذه اللجنة كانت النواة لما سمي فيما بعد باسم الضباط الأحرار الذين أعدوا لانقلاب « 8 آذار/1963 » ولما سمي صبيحة « 8 آذار/1963 » مجلس قيادة الثورة. ثم بقي أفراد هذه اللجنة مجتمعين ومتفرقين، مختلفين ومتفقين، عموداً فقرياً لنظام الحكم الذي قام في سورية على أنقاض ما كان يسمى « حكم الانفصال ».
منذ /1963/، وهؤلاء الخمسة في اجتماعهم وتفرقهم وفي اتفاقهم واختلافهم يتحملون قدراً كبيراً من المسؤولية التاريخية عن كل ما حصل في سوريا وفي حزب البعث العربي الاشتراكي خلال هذه المرحلة من حياة القطر السوري، كما يتحملون قسطاً كبيراً من مسؤولية ما حصل في الوطن العربي كله.
فمن هم هؤلاء الضباط الخمسة الذين شكلوا اللجنة الحزبية في القوات المسلحة وأخذوا على عاتقهم إعادة تنظيم صفوف الحزبيين في الجيش العربي السوري منطلقين من الإقليم الجنوبي حيث كانوا يتواجدون هم وعشرات العسكريين الحزبيين الذين ُنِقلوا من الإقليم الشمالي « سورية » إلى الإقليم الجنوبي « مصر » بعد اختلاف الحزب مع نظام « عبد الناصر » واستقالة الوزراء البعثيين من الحكم، ثم أكملوا مهمتهم بعد انفصال سورية عن مصر من خلال تنظيم الضباط الأحرار الذين قاموا بانقلاب « 8 آذار/1963″؟
إنهم بحسب تسلسل رتبهم العسكرية آنذاك:
أولاً: المقدم « محمد عمران » من قرية « المخرَّم » التابعة لمحافظة حمص.
ثانياً: الرائد « صلاح جديد » من قرية « دوير بعبده » التابعة منطقة جبلة، محافظة اللاذقية.
ثالثاً: الرائد « أحمد الأمير » من مدينة مصياف التابعة لمحافظة حماه.
رابعاً: النقيب « حافظ الأسد » من قرية القرداحة التابعة منطقة جبلة، محافظة اللاذقية.
خامساً: النقيب « عبد الكريم الجندي » من مدينة السلمية التابعة لمحافظة حماه.
وهؤلاء الضباط الخمسة، ليسوا أبناء دورة عسكرية واحدة وليسوا أبناء سلاح واحد في القوات المسلحة، كما أنهم ليسوا أبناء جيل واحد في الدراسة الثانوية والإعدادية في مرحلة ما قبل الجندية، وليسوا أبناء محافظة واحدة وربما عرف بعضهم البعض في مصر حيث كانت مراكز أعمالهم.
« أقول ربما لأنني غير متأكد من صحة هذا الافتراض ».
وهؤلاء الضباط الخمسة لم ُتسمِّهم قيادة الحزب ولم تكلفهم بالمهمة التي انتدبوا أنفسهم إليها بل على العكس من ذلك، فقد عملوا من وراء ظهر القيادة وبدون علمها وبدون موافقتها أيضاً، كما صرح الكثيرون من المقربين منهم، والكثيرون من المقربين من القيادة.
وهم لم يُنتَخبوا من أي مؤتمر، ولم تخترهم أية مؤسسة حزبية أعلى أو أدنى، ثم أنهم لم يكونوا أصحاب أعلى المراتب العسكرية بين الحزبيين في الجيش العربي السوري، ولا حتى بين الحزبيين من الضباط السوريين الموجودين في الإقليم الجنوبي « مصر ».
فكيف تم اختيارهم لبعضهم؟
وكيف وثقوا ببعضهم على قلة ما بينهم من قواسم مشتركة وقبلوا التنطح لمهمة قد تودي بهم إذا كُشِف أمرهم؟
وهل هم فعلاً اختاروا بعضهم؟ أم أن غيرهم هو الذي اختارهم؟
وإذا كانوا هم الذي اختاروا بعضهم فعلى أية أسس بُني هذا الاختيار؟
وإذا كانوا مُختارين من غيرهم فمن هو هذا الغير؟
إن هذه الأسئلة جميعها لا أملك لها أجوبة يقينية ولا أريد أن أثير الشبهات ضد أحد بالظن والتخمين.) ([4])
بعد نجاح الانقلاب، ومع عدم إغفال استيلاء حزب البعث على السلطة في العراق قبل شهر واحد فقط من انقلاب 8 آذار، أي يوم 8 شباط 1963، عبر انقلاب دموي على حكم عبد الكريم قاسم، الأمر الذي كان له أثره الكبير في تمكين بعثيي الانقلاب السوري من حسم الصراع الداخلي الذي سينشب لاحقاً بينهم وبين ناصريي الانقلاب لصالحهم، وقد تم ذلك عبر دخول البلدان الثلاثة « سوريا والعراق ومصر » في ما سمي آنذاك بمحادثات الوحدة الثلاثية التي كانت تهدف إلى قيام وحدة بين هذه الدول الثلاثة ، لكنها كانت فعلياً تسعى إلى كسب الوقت كي يتمكن بعثيو الانقلاب السوري من تدعيم وجوده الهش في السلطة والجيش، ولاحقاً من تصفية شركائهم الناصريين. ([5])
وقد تم لهم ذلك أخيراً يوم 18 تموز 1963 إثر محاولة انقلابية فاشلة قادها العقيد الناصري جاسم علوان، كانت قد تمت بتحريض من ضباط محسوبين على ناصريي الانقلاب لكنهم كانوا يعملون لحساب اللجنة العسكرية، فعندما تحركت مجموعات الناصريين للقيام بانقلابها كانت خططهم وأماكن تحركهم مكشوفة بالكامل بحيث تمكنت القوات التابعة للجنة العسكرية من صدهم واصطيادهم عبر مجزرة شهيرة، الأمر الذي أتاح لهم التفرد الكامل بالسلطة.
يتحدث محمد حيدر عن تلك الأجواء والمكائد قائلاً:
(…اكتشفت قيادة قطر العراق – إن لم يكن هذا الأمر مقرراً لها قبل الحكم – أنها متلاقية في إستراتيجيتها القائمة على الاحتفاظ بحكم العراق والانفراد به مع إستراتيجية اللجنة الحزبية العسكرية السورية القائمة على الاحتفاظ بحكم سوريا والانفراد به أيضاً، وليس مع إستراتيجية القيادة القومية للحزب التي كانت حتى في سلوكها العملي أكثر وحدوية – على قلة وحدويتها – من إستراتيجية اللجنة الحزبية العسكرية، وقد استفادت الجهتان « القيادة العراقية واللجنة العسكرية السورية » من انفصالية عبد الناصر وإقليميته واشتراطاته على الوحدة وتآمره على البعثيين في القطرين ورفعت كلتاهما شعار الوحدة الاتحادية الثلاثية، لا لكي تحققها وإنما لتهرب من تحقيق شعار وحدة العراق وسوريا حيث يحكم الحزب في القطرين..). ([6])
بعد أن دان حكم سوريا للجنة العسكرية بدأت ملامح النظام الجديد بالبروز: فرغم الواجهات المدنية والعسكرية المتعددة التي برزت أسماؤها كحكام للبلاد، كانت السلطة الفعلية معقودة لها، لكن من خلف ستار تلك الأسماء التي كان يجري تداولها، حتى أن محمد حيدر لم ير في أي واحد منهم ما يستحق ذكره كحاكم فعلي للبلاد، فقد اعتبر أن سلطة حزب البعث في سوريا قد مرت بمراحل ثلاث: مرحلة محمد عمران التي بدأت بانقلاب الثامن من آذار 1963 وانتهت بانقلاب 23 شباط 1966 ثم مرحلة صلاح جديد التي بدأت يوم 23 شباط 1966 وانتهت يوم 16 تشرين الثاني 1970 ثم مرحلة حافظ الأسد التي بدأت يوم 16 تشرين الثاني 1970 ولا زالت مستمرة إلى يومنا هذا. ([7])
حركات المعارضة السورية في الفترة ما بين 1963 و1970:
يمكن تصنيف المعارضة السورية ضمن فترة التصفيات المتعاقبة التي حدثت في تلك الفترة على الأسس التالية:
1- البورجوازية الكلاسيكية السورية: (الدمشقية والحلبية أساساً) التي فقدت مواقعها السياسية والاقتصادية نتيجة الوحدة مع مصر، ثم راودتها أحلام استعادة مواقعها غداة حدوث الانفصال، لكنها تلاشت نهائياً مع انقلاب الثامن من آذار، هذه البورجوازية الممثلة سياسياً في الحزبين، الوطني والشعب، وبعض الشخصيات المستقلة كخالد العظم مثلاً. هؤلاء، رغم شعبيتهم، لم تكن لهم قواعد شعبية منظمة كما لم يكن لهم تنظيم حزبي، بحكم أنهم كانوا يمثلون نخباً مدينية تقليدية، تجارية وصناعية وإقطاعية، كما أن تأثيرهم في الجيش تضاءل ثم اضمحل بحكم تسريح كل الضباط المحسوبين عليهم سواء في عهد الوحدة أم مباشرة بعد انقلاب الثامن من آذار. لكل هذا لم تكن لمعارضتهم أثر يذكر ولا تمكنوا من القيام بأي فعل سوى أن معظمهم أُجبر على مغادرة البلاد، أو اختار ذلك طوعاً، وعمدوا إلى الاستقرار في بلدان أخرى كلبنان والأردن والسعودية وبعضهم اختار أوروبا وأميركا.
2- الناصريون: الذين انقلبوا إلى صف المعارضة بعد أن تمت إزاحتهم كلياً عن السلطة إثر محاولة انقلاب جاسم علوان الفاشلة في 18 تموز 1963، مع أن انقلاب الثامن من آذار كان بالأساس ناصرياً بحكم أن معظم الضباط المشاركين به كانوا منهم، كما أن الهدف المعلن للانقلاب كان يتمثل في عودة الوحدة مع مصر.
أما التنظيمات الناصرية التي كانت موجودة على الساحة السياسية السورية عشية 18 تموز 1963 فقد كانت تتوزع على أربعة: الاتحاد الاشتراكي العربي (سامي صوفان) والجبهة العربية المتحدة (نهاد القاسم) والوحدويين الاشتراكيين (سامي الجندي) والقوميين العرب/فرع سوريا (هاني الهندي وسامي وجهاد ضاحي).
اندمجت هذه التنظيمات الأربعة لاحقاً في العام 1964 تحت ضغط من مصر، في تنظيم واحد أطلق عليه اسم الاتحاد الاشتراكي العربي- فرع سوريا، تيمناً بالتنظيم السياسي الذي أسسه عبد الناصر في مصر تحت نفس الاسم وأسندت أمانته العامة أولاً إلى نهاد القاسم ثم لاحقاً إلى جاسم علوان، الذي تم ترحيله إلى مصر، نتيجة وساطات متعددة من زعماء عرب، بعد أن كان قد اعتقل إثر محاولته الفاشلة. بذلك أصبح الثقل الرئيسي لتنظيم الاتحاد الاشتراكي الوليد متمركزاً في مصر ونواته هم اللاجئون السياسيون السوريون الذين فروا إليها بعد فشل محاولتهم الانقلابية. ([8])
كان الجناح الأقوى والأكثر فعالية على الأرض هم القوميون العرب، التابعون للتنظيم القومي للحركة التي أسسها جورج حبش في لبنان، والتي كان قوامها التنظيمي مماثلاً لحزب البعث من حيث وجود قيادة قومية وقيادات قطرية في كل قطر كان لها فيه تواجد. كانوا يتميزون بانضباطية حزبية عالية، ثم ما لبثوا أن انشقوا عن الاتحاد الاشتراكي العربي/فرع سوريا واستأنفوا نشاطهم المعارض في سوريا بشكل مستقل عن الاتحاد. لكنهم تعرضوا إلى ملاحقات شرسة وتصفيات جسدية، كما أن أمينهم العام القومي جورج حبش تم اعتقاله في سجن الشيخ حسن الشهير ثم جرى تهريبه منه، وفي النهاية انحسر وجود التنظيم على الساحة السورية بعد جملة الملاحقات والتصفيات المشار إليها وبعد أن شكّل جورج حبش الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحصر نشاطه ونشاط حركته في الساحة الفلسطينية إثر معركة الكرامة الشهيرة بين الفدائيين الفلسطينيين والقوات الإسرائيلية. ([9])
كان أفول نجم حركة القوميين العرب في سوريا، كتنظيم معارض، قد استكمل في العام 1968، لكن بقي الاتحاد الاشتراكي العربي (نهاد القاسم ثم جاسم علوان ثم جمال الأتاسي ولاحقاً حسن إسماعيل عبد العظيم) موجوداً على الساحة وإن بفعالية وتأثير محدودين خاصة بعد وفاة عبد الناصر وتسوية أوضاع اللاجئين السياسيين السوريين في مصر عام 1972، تلك التسوية التي تمت بين نظام السادات ونظام الحركة التصحيحية، حيث عادوا إثرها إلى سوريا، دون أن يحق لهم ممارسة أي دور سياسي.
تعرض أيضاً جناح الاتحاد الذي كان موجوداً في سوريا إلى ملاحقات واعتقالات متكررة خلال فترة السبعينيات من القرن المنصرم، الأمر الذي أدى إلى محدودية دوره وانكماشه، لكنه ظل موجوداً على الساحة وإن رمزياً.
3- نتيجة للتصفيات والملاحقات التي تعرض لها الحزب السوري القومي الاجتماعي غداة اغتيال عدنان المالكي عام 1955، تلك التصفيات والملاحقات التي كان وراءها حزب البعث بشكل أساسي، لم يكن للحزب السوري القومي من دور مؤثر في المشهد السياسي السوري بعد 8 آذار 1963، وقد حاولت اللجنة العسكرية استمالتهم عبر إطلاقها لسراح بعض أعضاء الحزب المحكومين بالسجن المؤبد إثر اغتيال المالكي، منهم محمد مخلوف شقيق زوجة حافظ الأسد وفؤاد جديد شقيق صلاح جديد، وإعادة بعض الضباط المحسوبين على الحزب إلى الخدمة العسكرية، لكن ذلك تم على أسس مذهبية، ولذلك لم يكن لهذه المبادرات من تأثير على الصعيد السياسي. ([10])
4- لم يتخذ الشيوعيون السوريون، وكانوا غداة 8 آذار لا زالوا يشكلون فصيلاً واحداً لم يدخل في دوامة الانقسامات بعد، موقفاً واضحاً من النظام الجديد الذي بدأ بالظهور على مسرح الحدث السوري، وإن كانوا أقرب إلى دعمه بحكم تبنيه « للاشتراكية العلمية واعتباره الصراع الطبقي مبدأً رئيسياً في الارتقاء الاجتماعي » خلال مؤتمر حزب البعث القطري (أيلول 1963) والمؤتمر القومي السادس(تشرين الأول 1963)، لكن علاقتهم به تأثرت سلباً بعد قيام الوحدة الاقتصادية في آب 1963، ثم العسكرية في تشرين الأول 1963 مع البعث العراقي وإرسال لواء سوري بقيادة فهد الشاعر إلى العراق للمساعدة في قمع تمرد الأكراد وفلول الشيوعيين، لكنها عادت وتحسنت بعض الشيء عقب انقلاب الثالث والعشرين من شباط 1966 الذي أتى إلى الحكم بمجموعة القيادة القطرية ذات التوجه اليساري والتي عملت على تحسين علاقات سوريا مع الاتحاد السوفييتي، ما سمح لأمين الحزب الشيوعي العام خالد بكداش بالعودة إلى سوريا بعد سنوات ثمان قضاها خارجها منفياً، وبتعيين أول وزير شيوعي في عهد البعث في حكومة يوسف زعين (سميح عطية وزيراً للمواصلات). ([11])
5- تنظيم الإخوان المسلمين: قام التنظيم بحل نفسه فعلياً امتثالاً لشرط عبد الناصر، لكنه لم يُظهر تأييداً حماسياً للوحدة مع مصر، كما لم يعارضها، وأيضاً لم يوقع وثيقة الانفصال، ولاحقاً شارك بفعالية في الحياة السياسية أثناء فترة الانفصال، ثم وقف موقفاً معارضاً لانقلاب الثامن من آذار.
كانت معارضة الإخوان للنظام الجديد هي الأبرز والأنشط بين أطياف المعارضة الأخرى من حيث توفر قاعدة شعبية للتنظيم وبحكم ارتداء النظام الجديد لبوساً علمانياً، ذلك اللبوس الذي بدأ يتخذ طابعاً طائفياً إثر عمليات التسريح الجماعية التي كانت تتم للضباط السنّة في الجيش وإحلال ضباط من الأقليات العلوية والدرزية مكانهم وأيضاً بسبب صدور نسخة منقحة من قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم والمصادرات التي اتخذت طابعاً ريفياً « ثأرياً » تجاه نخب البورجوازية المدينية، السنيّة بشكل أساسي، غير تلك التي صدرت خلال فترة الوحدة والتي كان طابعها العام « اقتصادياً وإيديولوجياً »، لم يستهدف شريحة أو طائفة بذاتها من المجتمع السوري.
بينما كانت المظاهرات والإضرابات والاعتصامات المناوئة للنظام الجديد في الفترة الأولى التي أعقبت فشل محادثات الوحدة الثلاثية تتخذ طابعاً وحدوياً ناصرياً واضحاً، إلا أنها، ومنذ نيسان 1964 بدأت تنحو منحىً طائفياً بعد أحداث بانياس الدموية بين سنّة وعلويين وامتداداتها إلى كل من حمص وحلب ومن ثم شمولها كل سوريا عبر إضرابات ومظاهرات شاركت فيها شرائح كبيرة من صغار ومتوسطي التجار إضافة إلى الطلاب والمعلمين والمهندسين والعمال والمحامين والموظفين حيث طالبوا بإطلاق الحريات العامة وسراح المعتقلين السياسيين وإنهاء حالة الطوارئ وعودة الحياة الديموقراطية عبر انتخابات حرة ونزيهة.
شاركت في هذه الأحداث كل القوى المعارضة للنظام من ناصريين وإخوان مسلمين، كل من دوافعه الخاصة، كما كان لجماعة أكرم الحوراني مساهمتها أيضاً، لكن بشكل محدود جداً لأنهم لم يقبلوا بأن يتحركوا جنباً إلى جنب مع « الإخوان والقوى الطائفية والرجعية في سوريا » بشكل مكشوف.
تصدت السلطة للأحداث التي عصفت بالبلاد بشكل قمعي كثيف عبر ميليشياتها المدنية المسلحة، وخاصة الحرس القومي بقيادة إبراهيم العلي وميليشيا العمال بقيادة خالد الجندي كما شارك الجيش بفعالية أيضاً حيث حدثت مواجهات مسلحة وقُصفت مدينة حماه للمرة الأولى بسلاح المدفعية، كما عمل تنظيم خالد الجندي على قمع الانتفاضة بقوة السلاح وخص بقمعه الشديد الإخوان المسلمين ما ساهم في إخمادها وفي حماية النظام.
أفرزت هذه الانتفاضة القطيعة البائنة بين النظام وبين الإخوان المسلمين، كما عززت طروحات الأخوان عن الطبيعة الطائفية الأقلوية للنظام.
برهنت هذه الانتفاضة أيضاً على « عزلة النظام السياسية الرهيبة » كما اعترف بذلك عفلق فيما بعد، لكنه خرج منها منتصراً. بيد أن هذا الانتصار كانت له نتائجه على تماسك أطرافه وكانت أولى تلك النتائج هي انتهاء (أو إنهاء) أي دور لمدنيي الحزب التاريخيين في السلطة ومن ثم خروجهم منها، وهذا أدى إلى بروز عسكريي اللجنة الخماسية، الحكام الفعلين للبلاد منذ انقلاب الثامن من آذار، إلى الواجهة بعد أن أضحت الواجهة المدنية التي سبق لهم واستحضروها، عبئاً سياسياً عليهم…كما أنهم لم يعودوا بحاجة إليها. ([12])
6- تنامت الخلافات ضمن اللجنة العسكرية الحاكمة بعد إقصاء القيادات التاريخية للحزب وتمحورت حول توازع الصلاحيات بين القيادتين القومية والقطرية.
أصرت القيادة القومية، ممثلة بميشيل عفلق وصلاح البيطار ومنيف الرزاز، بدعم من أحد أعضاء اللجنة العسكرية « محمد عمران »، ومستندة إلى النظام الداخلي للحزب، على أن تكون لها اليد العليا في كافة القرارات التي ترسم سياسة البلاد، فيما رفضت القيادة القطرية هذا التوجه واعتبرت أن السياسة « القطرية » يجب أن ترسمها قيادة كل قطر وبأن القيادة القومية يجب أن ينحصر دورها في الشؤون والقضايا ذات الطابع التنظيمي البحت للحزب وفي تحقيق التواصل بين القيادات القطرية في كل بلد بما يخدم المنطلقات النظرية التي رُسمت سابقاً في المؤتمر القومي السادس.
(ذهب محمد عمران بعيداً في تأييده للقيادة القومية بحيث أنه كسر قَسَم السرية الذي حمى اللجنة العسكرية منذ تأسيسها، فقد اجتمع مع عفلق وقيادته وأفشى لهم كافة أسرار اللجنة وبأنها الحاكم الفعلي للبلاد، كما شرح لهم ظروف نشأتها ومَن فيها وكيف خططت وعملت للسيطرة على الحزب والدولة والجيش…إلخ، فكانت مكاشفة عمران بالنسبة لعفلق تأكيداً على بعض ما يعرفه وما كان يشك به. أما بالنسبة لأعضاء القيادة القومية الآخرين وخاصة من غير السوريين، فقد كان حديث عمران صدمة. وما أن وصل خبر تعاون عمران مع قيادة عفلق إلى أعضاء اللجنة العسكرية حتى رأوا في الخطوة خيانة، واتخذت القيادة القطرية قراراً بتجريده من مناصبه الحزبية والحكومية وإرساله سفيراً لسوريا في مدريد بعدما أصبح محسوباً على القيادة القومية، وكان عمران قائداً لقوة عسكرية استحدثتها اللجنة باكراً ذلك العام لقمع الشغب، فسلمت لواءها لشقيق حافظ الأسد الصغير رفعت « نمت هذه القوة لاحقاً لتصبح سرايا الدفاع ». لكن القيادة القومية، بعد أن قامت بحل القيادة القطرية، استدعت عمران من مدريد وعينته وزيراًً للدفاع في حكومة يرئسها صلاح البيطار). ([13])
كان جوهر هذا الخلاف إذن هو صراع على السلطة، ما لبث عسكريو مجموعة القيادة القطرية أن حسموه لصالحهم بقوة السلاح عبر حركة 23 شباط 1966 التي أقصت كل الرموز المدنية والعسكرية للجناح الآخر الذي كان يعمل تحت مسمى مجموعة القيادة القومية.
أدى هذا الحسم العسكري إلى بروز مجموعة جديدة من المعارضة (هي مجموهة القيادة القومية)، لكنها لم تكن تملك رصيداً شعبياً ولا قدرة على الحركة في الداخل، ولذلك لجأت إلى خارج البلاد و مارست من منافيها دوراً إعلامياً معارضاً لم يكن له من تأثير فعلي على مجريات الأحداث في الداخل.
7- بعد نجاح حركة 23 شباط في الاستيلاء على السلطة، (..اكتملت سيطرة اللجنة العسكرية على الحزب والسلطة في سوريا، كما أنهت علاقة الحزب بفرع العراق، وأدت إلى أن ينقسم الحزب نهائياً إلى حزبين بينهما من العداء ما لم يكن موجوداً حتى بين الحزب وقادة الانفصال..). ([14])
كان الرجلان الأكثر قوة في اللجنة العسكرية هما صلاح جديد الذي تولى، رغم كونه عسكرياً، المسؤولية الحزبية والمدنية من خلال منصبه في القيادة القطرية كأمين عام مساعد للحزب، وحلفائه من المدنيين البعثيين الذين تولوا مناصب قيادية في الحزب وتوزعوا على مختلف أجهزة الدولة في النظام الجديد، الأمر الذي مكنه مع الوقت من خلق مزاج عام رافض لتدخل العسكر في الحزب والدولة.. والرجل الثاني حافظ الأسد الذي تولى المسؤولية العسكرية من خلال توليه حقيبة الدفاع وقيادة القوى الجوية. بينما تولى عبد الكريم الجندي رئاسة جهاز أمن الدولة بعد فترة قصيرة من توليه حقيبة وزارة الزراعة. أما أحمد الأمير فقد أسندت إليه قيادة الجبهة السورية مع إسرائيل.
أحكم صلاح جديد قبضته على الحزب والدولة، بينما أحكم حافظ الأسد قبضته على الجيش ومخابراته العسكرية (تحت أمرة علي ظاظا) التي كانت تقف بالمرصاد لجهاز أمن الدولة الذي يرئسه عبد الكريم الجندي الذي اتخذ موقفاً مؤيداً لصلاح جديد في الصراع الذي نشب بينه وبين حافظ الأسد فيما سمي آنذاك بالصراع بين الجناح المدني للحزب وجناحه العسكري والذي كان في حقيقته صراعاً بين الرجلين لإحكام السيطرة المطلقة على الحزب والجيش والدولة والمجتمع.
كان صراعاً مفتوحاً استخدمت فيه كل الوسائل المتاحة من طروحات حزبية وإيديولوجية وقومية وفكرية وماركسية، وبما أن حرب حزيران 1967 حدثت خلال تلك الفترة فقد تم استخدامها كأداة في صراع النفوذ المستمر بين الرجلين، وينطبق ذات الأمر على موقف الطرفين من أحداث أيلول عام 1970 في الأردن وطريقة تعامل كل منهما معها.
على التوازي كان كل طرف يحصن مواقعه ويدّعمها استعداداً للجولة الحاسمة.
خرج عبد الكريم الجندي من حلبة الصراع قتيلاً يوم الرابع من آذار 1969، وأُعلن رسمياً عن انتحاره في مكتبه، بينما وزعت القيادة القطرية برقية على كافة فروع الحزب تفيد بأن المخابرات العسكرية (التابعة لحافظ الأسد) قد اغتالت الرفيق عبد الكريم الجندي، لكنها ما لبثت أن أصدرت، وفي نفس اليوم، تعديلاً للبرقية مفاده « تعديلاً لبرقيتنا السابقة، انتحر الرفيق عبد الكريم الجندي رئيس مكتب الأمن القومي في مكتبه هذا اليوم بسبب محاصرة عناصر المخابرات العسكرية لعناصره ». ([15])
أما أحمد الأمير، وبعد هزيمة حرب حزيران التي كان خلالها قائداً للجبهة، فقد تمت إزاحته عن السلك العسكري وترقيته إلى عضو في القيادة القومية للحزب خلال المؤتمر القومي التاسع الذي عقد في شهر أيلول من العام 1967 تفادياً لمساءلته عن دوره في الهزيمة، ثم ما لبث أن تم إخراجه منها في المؤتمر القومي العاشر الذي عقد في أيلول 1968، وشكل خروجه هذا خروجاً له من الحياة العامة حيث لم يعد له أي دور فيها، مع أنه كان صاحب ثاني أعلى رتبةٍ بين ضباط اللجنة العسكرية حين تأسيسها في مصر عام 1959.
بهذا الخروج لأحمد الأمير وموت الجندي، والخروج السابق لمحمد عمران لم يبق من أعضاء اللجنة العسكرية في السلطة سوى صلاح جديد وحافظ الأسد، الذي استطاع أخيراً حسم الصراع لصالحه، عسكرياً بالطبع، عبر قيامه بالحركة التصحيحية في السادس عشر من تشرين الثاني 1970 حيث زج بصلاح جديد في السجن ولم يُخرجه منه إلا جثة هامدة.
نظراً لتركيز صلاح جديد على إعادة تشكيل الحزب خلال الأعوام ما بين 1966 و1970 فقد كانت الأغلبية الساحقة من أعضاء حزب البعث تقف معه وتؤيده.
بعد الانقلاب عليه وزجه في السجن وُلدت في سوريا معارضة جديدة سميت بـ « الشباطيين » نسبة إلى حركة 23 شباط، وقد تألفت من مناصري صلاح جديد وكان لها أيضاً تواجد بين صفوف العسكريين ممن دانوا بالولاء له ولم يتمكن حافظ الأسد، لأسباب طائفية وعشائرية، من تصفيتهم. هذه المعارضة سيكون لها دور مؤثر في الحياة السياسية السورية في فترة ما بعد الحركة التصحيحية، وسنتناولها في القسم اللاحق الخاص بها.
حركات المعارضة السورية في الفترة ما بين 1970 و 2000:
يقول كمال ديب واصفاً الوضع في سوريا عشية الحركة التصحيحية:
(كانت سوريا عام 1970 مستعدة للتغيير، بعد الانقلابات والأنظمة السياسية المتعاقبة منذ 1949، وبعد انهيار الطبقة الوسطى التقليدية والبورجوازية السنيّة في المدن. ولكن عودة نظام الحكم الليبرالي الذي خلّفه الانتداب الفرنسي لم تكن ممكنة، كما أن قوة الشيوعيين وحضورهم قد تقلصا، وتضاءل حجم الحزب السوري القومي. وحتى داخل حزب البعث تراجع دور المدنيين من مؤسسين ومنظّرين وكاد يختفي في مطلع السبعينيات وبات للجيش دور متعاظم في صفوف الحزب وقيادته، وكانت الساحة السورية قد خلت تماماً ليستلمها حافظ الأسد، فقد كان وصوله إلى السلطة في تشرين الثاني 1970 سهلاً نسبياً). ([16])
وفي تحليله لطبيعة النظام الذي أقامه حافظ الأسد بعد انقلاب 16 تشرين الثاني 1970، يرسم موقع « وقائع وأحداث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا » صورة دقيقة وموضوعية:
مرحلة حافظ الأسد « 1970 – 2000 »:
بالنسبة لحافظ الأسد، كانت الإيديولوجيا أقل أهمية مما كانت عليه بالنسبة لمن سبقوه: فالقوة أكثر أهمية بكثير. بدأ الأسد حركته التصحيحية، أولاً لأنه كان من الممكن أن يطاح به هو نفسه « الأمر الذي لم يحدث »؛ وثانياً لأنه كان يفضل سياسات اقتصادية أكثر واقعية، بما في ذلك دور أكبر للقطاع الخاص وعلاقات مرنة مع الكتلة الشرقية وعلاقات وثيقة مع دول الخليج العربي الثرية والغرب. واصلت الدولة دورها كلاعب رئيسي في الاقتصاد بعد انقلاب الأسد في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1970، ولكن الهدف كان زيادة الإنتاج أكثر من تحقيق مجتمع قائم على المساواة. وكانت البراغماتية السمة المميزة لجميع السياسات المحلية في عهد حافظ الأسد، وليس فقط السياسات الاقتصادية. واستمر هذا النهج في عهد رئاسة ابنه. وكان الهدف الأسمى والشامل هو المحافظة على النظام.
أدرك حافظ الأسد أنه لضمان الحماية الحقيقية لنظامه، عليه وضع كل طرف في المجتمع تحت سيطرته الحازمة. وكانت هياكل الدولة الرسمية ساحات رئيسية لبرنامجه. عام 1971، تم إنشاء مجلس شعب مطاوع. وشهدت السنة التالية تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية التي ربطت حزب البعث بخمسة أحزاب أخرى كانت تُعتبر « تقدمية » و »وطنية ». عام 1973، صدر دستور جديد يضمن الدور القيادي لحزب البعث في الدولة والمجتمع والسلطة المطلقة للرئيس في جميع المجالات. عام 1971، أعيدت هيكلة الحزب نفسه؛ حيث تم استبدال قيادته الجماعية بحافظ الأسد شخصياً، وتعيينات القيادة الدنيا أصبحت تأتي من فوق بدلاً من أن تكون خاضعة للانتخاب من قبل الأعضاء. وتم التشجيع على عضوية الحزب، التي تحمل معها بعض الامتيازات والوصول إلى أنظمة السلطة. كان عدد أعضاء الحزب عند انقلاب عام 1963 أكثر قليلاً من 400 عضو، وبحلول عام 1971 بلغت 65,398 عضو. وبعد عشر سنوات، بلغت 374,332، وفي منتصف عام 1992 قفزت إلى 1,008,243. وفي نفس الوقت، كان هناك توسع هائل في بيروقراطية الدولة وخدمات الجيش وأجهزة الاستخبارات، الأمر الذي أحضر عشرات الآلاف من السوريين مع عائلاتهم إلى داخل النطاق المباشر للدولة التي يسيطر عليها الأسد. وكجزء من إعادة هيكلة الدولة، قام الأسد بتسريع إنشاء النقابات والجمعيات المهنية الخاضعة لسيطرة النظام). ([17])
كما تخبرنا أيضاً دراسة مشتركة، صادرة عن كل من مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، عن واقع المعارضة في سوريا خلال مرحلة ما بعد استيلاء حافظ الأسد على الحكم، قام بها كل من الكاتبين جوشوا لانديس Joshua Landis وجو بايس Joe Pace ونشرت في فصلية Washington Quarterly شتاء عام 2007 بالتالي:
(ركزت الدبلوماسية الأمريكية على مدى عقود في رسم علاقاتها مع سوريا على العلاقة مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد « 1970- 2000″، ومن ثم مع ابنه الذي خلفه في الرئاسة بشار الأسد. والسبب في هذا يعود إلى أن السياسيين الأميركيين، اعتبروا أن المعارضة السورية إضافة إلى كونها ضعيفة فهي معادية للأميركيين أيضاً. من هنا كان التركيز في العلاقة مع نظام الرئيس الأسد….لم تكن واشنطن متحمسة أو مهتمة بالتعاون مع الإسلاميين بالرغم من أنها تعتبر أنهم الطرف الوحيد في المعارضة السورية الذي يستند إلى قاعدة شعبية عريضة. واعتبرت واشنطن كذلك أن المعارضة العلمانية السورية ضعيفة ولا تملك قاعدة شعبية كبيرة أو ارتباط بجمهور الشباب السوري، إضافة إلى ذلك فإن الاتصال بين أركان المعارضة والدبلوماسيين الأميركيين المتواجدين في دمشق يحمل في طياته مخاطر كبيرة خاصة بالنسبة لقادة المعارضة ويجعلهم عرضة للاتهام بالخيانة من قبل النظام. من هنا تبدو الخريطة السياسية لواقع المعارضة السورية مبهمة وغير واضحة .(([18])