خطابات حفظها التاريخ وخطابات صنعت التاريخ
الكاتب: رئيس التحرير / د. ناصر اللحام
حين تطلب مساعدة من محركات البحث العالمية للعثور على أعظم خطابات التاريخ، لن تحصل على الحقيقة. وإنما ستحصل على عينة من وجهة نظر ما. ومحركات البحث الغربية ستعطيك نموذجا لخطابات مؤثرة من مرحلة معينة مثل خطاب جورج واشنطن الذي وحّد أمريكا وكاد الشعب الامريكي يجعله ملكا ولكنه ألقى خطابا قدّم فيه استقالته عام 1784 ودعا الى انتقال الحكم بسلاسة الى الاّخرين.
كما ستجد خطاب رئيس وزراء انجلترا وينستون تشرتشل حين قال للبريطانيين عام 1939: سنحارب على الشواطئ، وذلك في لحظة كادت فيها انجلترا أن تسقط بيد الجيش الالماني وكانت لندن تقصف كل يوم أكثر مما تقصف غزة الان.
في العام 1942 ألقى المهاتما غاندي خطابا جاء فيه دعوة واضحة للاحتلال البريطاني: اتركوا الهند.
وفي العام 1952 خطاب جمال عبد الناصر حول تأميم قناة السويس.
وفي العام 1961 ألقى الرئيس الامريكي جون كندي خطابا وقال: لا تسأل ماذا يمكن أن يقدم لك بلدك بل اسأل ماذا يمكن أن تقدّم أنت لبلدك، وبالطبع كان المستفيد الاول من هذا الخطاب أصحاب الاحتكارات والشركات الكبرى والأغنياء والذين يقدّمون لبلدهم هم الفقراء والبسطاء.
مارتن لوثر كينج ألقى خطابه الشهير في امريكا داعيا لتحرير العبيد ومنح الافارقة حريتهم وقال عبارته الشهيرة: عندي حلم.
محركات البحث ستعطيك خطابات اخرى كثيرة مثل خطاب خروتشوف ضد ستالين وخطاب الحجاج وخطابات المشاهير وقادة الجيوش وأمراء المال، كما ستجد ملوكا كتبوا كلامهم بماء الذهب لكنهم لم يصبحوا فلاسفة، والفلاسفة لا يكتبون كلامهم بماء الذهب...وهكذا.
خطابات المناضل فيدل كاسترو لن تجدها في محركات البحث الغربية الا في زاوية التهكم والدعابة.
كما لن تجد خطابات أهم الثوار والشهداء في التاريخ المعاصر.
وفي الحقيقة أن هؤلاء المشاهير لعبوا دورا معيّنا في التاريخ، وربما ساهموا في تغييره قليلا أو كثيرا.
ولكن الذين صنعوا التاريخ الحضاري لا يذكرهم محرك البحث لانهم ليسوا سياسيين.
خطاب النبي موسى في صحراء سيناء،
وخطاب السيد المسيح في العشاء الأخير،
وخطاب النبي محمد في خطبة الوداع
وكلام الفلاسفة الاغريق والعرب
ووصايا الرسل الذين نقلوا البشرية من مرحلة الى مرحلة أخرى تماما.
أعظم الخطابات في تاريخ البشرية لم تحظ ببث تلفزيوني ولا تغطية الفيس بوك وتويتر
ولم تصاحبها حملات الصحف والاذاعات،
وأشد الابطال كتبوا تاريخهم ووصاياهم بالدم على أرض المعركة أو الصراخ في غرف التعذيب في زنازين العدو.
خطاب الفدائي المسلح عبد القادر الحسيني قبل معركة القسطل،
وأشعار ابو فراس الحمداني في السجن،
وكتابات ناظم حكمت في زنازين تركيا
ورسائل آخر مقاتلي قلعة الشقيف،
شهقة الموت عند المقاتلين الأفارقة قبل اعدامهم خلال التصدي لنظام الابارتهايد العنصري في جنوب افريقيا... عبارة تشي جيفارا حين قال للمحقق ( أقتلني يا جبان.. افعلها ).
رسائل عطا الزير ومحمد جمجوم وفؤاد حجازي لعائلاتهم قبل تنفيذ حكم الاعدام شنقا في سجن عكا 1928.
ونطق الشهادتين على شفاه مئات الاف الشهداء العرب في المعارك،
رسم الصليب على صدر الشهيد الطيّار جول جمال قبل ان يفجر نفسه في البارجة الانجليزية في قناة السويس،
وآخر صلاة للشيخ السوري عز الدين القسام في يعبد بجنين.
وابتسامة الرضى على وجه الشهيد كمال جنبلاط عند اغتياله برصاص الغدر.
الخطابات لا تصنع التاريخ وانما التاريخ يصنع الخطابات،
خطاب عرفات عبر الفيديو كونفرنس عام 2002 خلال حصاره في مبنى المقاطعة في رام الله
ومدافع شارون تقصف جدران مكتبه، حين منعته الجامعة العربية من القاء كلمة فيديو
فقال للعالم (يريدونني أسيرا أو طريدا أو قتيلا.. وأنا أقول.. بل شهيدا.. شهيدا.. شهيدا) .
هذه الكلمات صنعت تاريخا فيما نسي التاريخ خطابات باقي الزعماء العرب ولن يذكرها لانها كانت خطابات الهزيمة.
قريبا سيلقي الرئيس أبو مازن مرة اخرى واخرى خطابا أمام الأمم المتحدة.
وبعيدا عن الذين يمتدحون الخطاب قبل سماعه، وبعيدا عن الذين يشتمون الخطاب قبل سماعه.
علينا ان نعرف أن فلسطين قضية كبيرة وذات قيمة سامية.
وان كل كلمة في خطاب فلسطين يجب ان تستمد روحها من روح الصمود طوال مئة عام،
وان كل حرف في هذا الخطاب هو ملك لقوافل الشهداء وعبقرية الصمود وشهداء الأمّة العربية وأحرار العالم،
وأن كل صرخة ألم في هذا الخطاب يجب ان تمثّل معاناة أطفال غزة ودموع أطفال المداس في الخليل
والبقعة واليرموك وصبرا وعين الحلوة،
وتعكس عطش اللاجئين الذين ماتوا في خزانات التهريب في صحراء الكويت،
وأن كل بطولة وكل تنازل هي مواقف لا تعني البداية ولن تعني النهاية...
بل تعني إضافة اخرى لرصيد شعب لوّعه الشوق واضناه الحنين ولفحته شموس الحرية.