حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي
د. أحمد القرالة
خلق الله تعالى الإنسان وجعله أكرم مخلوقاته، وزوده بالعقل لحمل أمانته وجعله خليفته في الأرض وكلفه بعمارتها والمحافظة عليها، فقال تعالى: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا"، وقال تعالى:" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً "، وحتى يتمكن الإنسان من القيام بواجب الخلافة في الأرض ويتأهل لعمارتها على أكمل وجه وأحسن حال وأتم صورة، منحه الله تعالى الحريةَ وحمله المسؤولية، وزوده بجملة من الحقوق والمكنات، وجعل الوجود بما فيه خادماً له وتحت تصرفه، فقال تعالى "هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا "، بل لقد نص الأصوليون على أن الشريعةَ نفسَها بكل ما فيها إنما كانت لمصلحة الإنسان ومنفعته؛ فالله تعالى غنيٌ عن الكل لا تنفعه طاعة الطائعين كما لا تضره معصية العاصين.
وللفقيه السرخسي عبارة رائعة تعبر عن ذلك حيث يقول: لما خلق الله الإنسان لحمل أمانته أكرمه بالعقل وألزمه ليكون بها أهلاً لوجوب حقوق الله تعالى عليه، ثم أثبت له العصمة والحرية والمالكية ليبقى فيتمكن من أداء ما حمل من الأمانة، ثم هذه العصمة والحرية والمالكية ثابتة للمرء من حين يولد.
وما ذكره السرخسي قبل ألف عام هو ما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته الأولى والتي جاء فيها: يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء.
وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية حقوق الإنسان وحرياته العامة أحكاماً شرعية لا يجوز مخالفتها أو الاعتداء عليها؛ لأنها تكاليف دينية وواجبات شرعية، لا يملك شخص أو دولة أو قانون حق مصادرتها أو الغائها، فهي حقوق مقدسة لقداسة النص الذي أثبتها، ومكرمة لكرامة الإنسان الثابتة له.
فهي حقوق ممتزجة بالواجبات، التي تفرض على صاحبها واجباً ذاتياً وهو وجوب حمايتها والدفاع عنها، لا يجوز له التفريط فيه أو التنازل عنه، وقد اعتبر الإسلام التفريط بالحقوق والحريات مظلمة كبيرة للنفس تستوجب الذم والعتاب، ولم يعتبر الضعف أو قلة الحيلة مبرراً للتنازل عنها أو التفريط فيها؛ لأنه لا يؤدي إلا إلى المزيد من التنازل والهوان، فقال تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ".
إن الحقوق التي أثبتها الإسلام للإنسان كثيرة ومتنوعة تبدأ بحق الحياة الذي هو أسمى الحقوق وأعلاها، حيث اعتبرت الشريعة الاعتداء على هذا الحق عدواناً على البشرية كلها، فقال تعالى:" مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"، فالنص يدل على قبح هذا الفعل وبشاعته، وعلى ضرورة تضامن الجميع وتكافلهم للوقوف صفاً واحداً حماية للحق وصيانة له.
ولا يقل حق الاعتقاد وحرية الاختيار والتعبير عن حق الحياة، فهو من الحقوق الضرورية التي تُعبر عن إنسانية الإنسان، فمن يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداء، كما يقول سيد قطب، لذلك كانت القاعدة العامة في التشريع الإسلامي أن"لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ".
إن نظرة سريعة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ابتداءً من ديباجته وانتهاءً بآخر مادة فيه، تدلنا على أن الإسلام أقر واعترف بجميع تلك الحقوق والحريات الواردة فيه مع اختلاف في بعض الجزئيات والتفصيلات التي اقتضتها طبيعة النظام الإسلامي باعتباره رسالة سماوية لها ذاتيتها وتفردها، وهذه التفصيلات والاختلافات لا تخل أبداً بأصل الحقوق ولا تصادرها.
ويجب علينا في هذا المقام أن نعترف بأننا ولأسباب كثيرة قصرنا في الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته، وتسترنا على كثير من الانتهاكات الصارخة بكرامته وآدميته، وهو ما أوصل مجتمعاتنا إلى ما وصلت إليه من التخلف والتراجع في جميع مجالات الحياة، وأصبحت دولنا عالةً على غيرها تابعةً لها محكومة ًبأمرها.
لذلك يجب أن تكون قضية حقوق الإنسان وحماية حرياته بقطع النظر عن دينه ومعتقده أولى أولوياتنا، وفي أعلى سلم اهتماماتنا، لا تتقدمها قضية ولا يعلوها شأن، انصياعاً لأوامر ديننا،واحتراماً لآدمية الإنسان وكرامته، وإرضاءً للضمير والوجدان.