.... تابع
الحكم الشرعىمباحث في الحرام
1- الذنوب كبائر وصغائر:
ينقسم الحـرام إلى قسمين كبائر هي الذنوب والمعاصي الكبيرة البالغة مبلغها في القبح والفحش والفظاعة، وصغائر دون ذلك والدليل على ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء:31).. وقوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم، والفواحش إلا اللمم.. الآية} (النجم:31-32)
وقـد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثير من الكبائر فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: [اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حـرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات] (رواه البخاري (2766)، ومسلم (89) من حديث أبي هريرة)
ولا شك أن هذه ليست هي الكبائر كلها، ولذلك قال ابن عباس لما سئل عن الكبائر سبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب، وأما الصغائر فهي غير ذلك ومثالها: لمزة وغمزة، وتطفيف حبة، ونظرة إلى غير محرم ونحو ذلك.
وينبني على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر الحكم بالتثبت، ورد الشهادة لا يكون إلا لمرتكب الكبائر، وذلك أن الصغائر لا يكاد أحد يسلم منها لقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم:32)
وقـال أيضاً صل الله عليه وسلم: [كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] (رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515))
فلا يجوز رد الشهادة بعمل الصغائر التي لا يسلم منها أحد، وكذلك بالكبائر التي تاب منها صاحبها، وأما فاعل الكبائر المجاهر بها فحريٌّ به أن ترد شهادته، ويتثبت في أخباره وأقواله.
2- الحرام لذاته، والحرام لسد الذرائع:
ينقسم الحرام أيضاً إلى قسمين: حرام لذاته وهو الأمر الفاحش الغليظ الذي يؤدي إلى فساد عظيم في إحدى الضرورات الست (الدين والنفس، والمال، والعرض، والنسل، والعقل) وعموم الكبائر كذلك وهناك من الحرام ما حرمه الله سبحانه وتعالى سداً لذريعة الوصول إلى الحرام كتحريم الخلوة بالأجنبية والنظر إليها،وسفر المرأة بغير محرم لأنه قد يجر إلى الزنا، وتحريم قبول الهدية من المدين لأنه قد يفضي إلى الربا، وتحريم استعمال أواني الخمر، وشهود مجالسها وإن لم يشرب الشاهـد والحاضر حتى لا ينزلق إلى الشرب، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لأنه يفضي إلى قطع الأرحام.
وهكذا قد سد الشارع الحكيم أبواب الذنوب الكبيرة التي حرمت لذاتها وضررها بأمور ليست ضارة ولا فاسدة في ذاتها، وإنما توصل إلى حرام فإنه حرمها.
ولا شك أن هذا الذي حرم لما يجر إليه من حـرام، وليس لذاته، قد يباح بعضه أحياناً لمصلحة راجحة كما أبـاح الله النظر إلى المخطوبة قبل الزواج، وذلك لدوام العشرة، وقد يباح أيضاً هذا النظر في العلاج، وما هو من جنس الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأما المحرم لذاته فإنه لا يباح إلا في ضرورة.
3- هل يكون العبد طائعاً عاصياً في وقت واحد؟:
هذه المسألة يذكرها علماء الأصول في هذا الباب ويضربون لذلك أمثلة منها:
الصلاة في الأرض المغصوبة، فالإمام أحمد يرى في هذه المسألة أن الصلاة عينها في غصب لأن قيام المصلي، وقعوده في ملك غيره غصب، وليس صلاة، فالصلاة هنا لاغية لأن فعل الطاعة هو نفس فعل المعصية، وجمهور العلمـاء يرون أن الصلاة حقيقة مستقلة عن الغصب، فالصلاة طاعة، والغصب معصية... ولذلك فصلاة المصلي صحيحة.
وأما على قول الإمام أحمد فصلاته باطلة، وعليه إعادة هذه الصلاة في أرض ليس غاصباً لها، ويورد الجمهور على الحنابلة في هذه القضية الصلاة في الحرير والذهب فيقولون: إذا كانت الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة فكذلك يجب عليكم أن تقولـوا في الصلاة مع لبس الحرير ولبس الذهب لأن المصلي عاص أيضاً وقت صلاته، والحنابلة يرون هنا أن جهة النهي منفكة لأن اللبس غير القيام والقعود في الأرض المغصوبة.
ومن المسائل أيضاً التي تذكـر هنا:سرقة المصلى أثناء صلاته، والصحيح أن مثل هذه المسألة لا يجوز التوقف في القول ببطلان صلاة من صلى وسرق، لأنه حتماً ساهٍ عن صلاته، ولاهٍ عن غايتها وثمرتها، فكيف يكتب له ثواب صلاة يسرق فيها!
وعلى كل حال فإن من قال ببطلان الطاعة وقت المعصية يوجب الإعادة، ومن قال الطاعة هنا منفصلة عن المعصية لا يوجب الإعادة، وهذه المسألة مبنية على قاعدة أصولية وهي: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟
بعض الأصوليين يرون أن الأمر بالشيء غير النهي عن ضده، وآخرون يرون أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ومذهب ثالث يرى أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الضد وهذا المذهب الأخير هو الصحيح فلا يجوز أن يكون وقت الطاعة هو عينه وقت المعصية.
حكمة وجود الحرام في الشريعة:
1- التعبد، والابتلاء.
2- الحفاظ على الضرورات الست: الدين، العقل، النفس، العرض، المال، النسل.
3- سد الذرائع إلى الفواحش والإثم وكبائر الذنوب
خامسا : المكروه
المكروه لغةً:
ما تعافه النفس، وتنفر منه.
ولكن معناه الاصطلاحي:
هو الأمـر الذي لا يعاقب فاعله ويثاب تاركه. ومعنى ذلك أنه الشيء الذي نهينا عنه نهى تنزيه فقط لا إلزام معه بالترك، ولكن اعلم أن المكروه قد جاء في القـرآن بمعنى الحرام، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء بعد أن ذكر قتل النفس والزنا، وأكل مال اليتيم، واتباع الظن والكبر قال تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} (الإسراء:38)
ومعلوم أن بعض ما ذكر من الكبـائر العظيمة، ولذلك فالمعنى الاصطلاحي هنا يخالف المدلول الشرعي للكلمة، ولكن جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين الحرام والمكروه فيجعل المكروه درجة أخف من الحـرام ومن ذلك قوله صل الله عليه وسلم: [إن الله تعالى حـرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم:قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال] (متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة)
ومعلوم أن الذنوب الثلاثة الأولى في الحديث من الكبائر وأنها أعظم من الذنوب الثلاثة الأخرى، ولكن على كل حال ليست الكراهة في الحديث هنا أيضاً كراهة بمعنى التنزيه فقط الذي لا إثم فيه بل يشعر الحديث أن هناك إثماً لمن فعل ذلك، وهذا غير المكروه بالمعنى الاصطلاحي لأن المكروه في عرف الفقهاء واصطلاحهم هو ما لا يعاقب فاعله.
ويدخل في المكروه كثير من الأمور التي يجب أن يتورع عنها المسلم تنزهاً كفضول القول والجدال العقيم الذي لا فائدة منه، وقد يمثل له أيضا بالبول واقفاً، والمزاح في غير حاجة، وكثرة الضحك، ونحو ذلك من عادات السلوك السيئة التي لم يأت نص قاطع بتحريمها.
أمثلة للمكروه:
تأخير الصـلاة عن أول وقتها (وقت الكراهة).. التوسع في المآكل والمشارب والملابس والزينة فهو مباح مع الكراهة، فإذا بلغ حد الإسراف فهو حرام.. تأخير الفطور، وتعجيل السحور في الصوم.. دخول عرفة قبل الزوال.. المزاحمة عند الحجر الأسود.. والخروج من منى لغير حاجة.. كثرة السؤال.. إضاعة المال.. قيل وقال.. يكره سؤال الناس.. وقبول هدية المنان.. رفع الصوت لغير حاجة.. وزيارة المسلم وهو مستاء والبقاء في ضيافته أكثر منثلاث.. والجلوس على مكرمته إلا بإذنه.. ودخول منزله في غيبته حتى وإن أذن له.. والتعرض لمواطن الشبهة.. ومنه الأكل في الطرقات، والجلوس عليها مع أداء حقها..
حكمة المكروه:
1- الحفاظ على جانب الحرام، وهذه درجة بعد سد الذرائع.
2- استكمال النزاهة، وسمو الخلق، وحسن السمعة.
3- الحرص على الفضائل
.................................................................
الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
اعلم أنه يفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع بفارقين ظاهرين:
وهما أن خطاب الوضع علامته أنه إما ألا يكون في قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس والنقاء من الحيض أو يكون في قدرته ، ولا يؤمر به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج وعدم السفر للصوم.
وبهذا تعرف أن خطاب التكليف علامته أمران أن يكون في قدرة المكلف، ويؤمر به فعلاً كالوضوء للصلاة أو تركا كسائر المنهيات.
وخطاب الوضع أعم من خطاب التكليف لأن كل تكليف معه خطاب وضع إذ لا يخلو من شرط أو مانع مثلاً ، وقد يوجد خطاب الوضع حيث لا تكليف كلزوم غرم المتلفات وأروش الجنايات لغير المكلف كالصبي.
..........................................................
أقسام الحكم الوضعي
الحكم الوضعي: هو ما اقتضي أن يكون شيء سبباً لشيء أخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه .
فمن خلالِ تعريفِ الحكمِ الوضعيِّ يُلاحظُ أنَّ البحثَ فيه يعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:
( أ ) السَّبب.
( ب ) والشَّرطِ.
( ج ) والمانعِ.
ووجودُ كلٍّ منها أو تخلُّفُه (عدَمُ وجودِهِ) يتفرَّعُ عنه:
(د ) صحّةُ العملِ أو فسادُهُ.
كما يتفرَّعُ ما وضعَتْهُ الشَّريعةُ من الاعتباراتِ التَّابعةِ لقُدرةِ المكَلَّفِ على الامتثالِ إلى:
( هـ ) عزيمة، ورُخصة.
فهذه خمسةُ أقسام: ( السَّببُ، الشَّرطُ، المانعُ، الصِّحَّةُ والبُطلانِ (أو الفَساد)، الرُّخصةُ والعزيمةُ).
أولا : السبب
تعريفـه:
لُغَةً: كُلُّ شيءٍ يُتوصلُ بهِ إلى غيرِهِ.
واصطلاحًا: الأمرُ الَّذي جعلَ الشَّرعُ وجودَهُ علامةً على وجودِ الحُكمِ، وعدَمَهُ علامةً على عدَمِ الحُكمِ.
أي هو الذي يلزم من وجوده وجود الحكم و يلزم من عدمه عدم الحكم.
فإذا كانَ السَّببُ معقولَ المعنى يُدرِكُ العقلُ مناسبَتَهُ للحُكمِ سُمِّي بـ(العلَّة) كما يُسمَّى (السَّببُ)، مثلُ: الإسكَارِ علَّةٌ لتحريمِ الخمْرِ.
وإذا كانَ السَّببُ غيرَ معقولَ المعنى، بأنْ خفِيَ علَى العقلِ أنْ يُدركَ مُناسبَتَهُ للحُكمِ، فيُقتصرُ على تسميتهِ (سببًا) ولا يُسمَّى (علَّةً)، مثلُ: دخولِ الوقتِ سببٌ لوجوبِ الصَّلاةِ.
فائدةُ هذا التَّفصيلِ:
ما سُمِّي (علَّةً) صحَّ فيه القياسُ، وما لمْ يُسمَّ (علَّةً) امتنعَ فيهِ القياسُ.
ومِمَّا يُساعدُ على معرفةِ كونِ الشَّيءِ سببًا: إضافَةُ الحُكمِ إليهِ، تقولُ مثلاً: (صلاَةُ المغربِ، وصومُ الشَّهرِ، وحدُّ الشُّربِ، وكفَّارةُ اليمينِ)، فالمغربُ والشَّهرُ والشُّربُ واليمينُ أسبابٌ لما أُضيفَتْ إليه من الأحكامِ.
تقسيمـه:
ينقسمُ (السَّببُ) باعتبارِ من سبَّبه إلى قسمينِ:
1ـ ما جعلتْهُ الشَّريعةُ سببًا ابتداءً من غيرِ أن يكونَ للمكلَّفِ فعلٌ فيه.
من أمثلتـهِ:
( أ ) زوالُ الشَّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، قال تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78).
( ب ) دُخولُ الشَّهر لوُجوبِ صومِ رمضانَ، قال تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } (البقرة: 185).
( ج ) الاضطِرارُ لجوازِ أكلِ الميتَةِ، قال تعالى: { فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه}(البقرة: 173).
( د ) المرضُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}(البقرة: 184).
2ـ ما سببُهُ المكلَّفُ فرتَّبَتِ الشَّريعة الآثارَ على وجودِهِ.
من أمثلتِـهِ:
( أ ) السَّفرُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى في الآية المتقدمة: { أو على سفر} .
( ب ) الزِّنَا لإقامةِ الحدِّ، قال تعالى: { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}(النور: 2).
( ج ) الرِّدَّة لإباحةِ دَمِ المرتدِّ، قال النَّبيّ صل الله عليه وسلم : ( من بدَّل دينَهُ فاقْتُلوهُ) ، أخرجه البُخاريُّ.
( د ) الإهداءُ لمِلكِ المُهدَى إليهِ للهديَّة، والبيعُ لِملكِ المشتري للسِّلعةِ، والتَّصدُّقُ لملكِ المُتصدَّقُ عليه للصَّدقَةِ، فهذهِ وشِبهُهَا أسبابٌ لنقلِ ملكيَّةِ الشَّيءِ لمن صارتْ إليهِ، ويكونُ بها حُرَّ التَّصرُّفِ فيها
وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه واعتمده القرافي في الفروق
ثانيا الشرط
تعريفـه:
لُغَـةً: العلامَةُ.
واصطلاحًا: ماتوقَّفَ وجودُ الشَّيءِ على وجودِهِ، وليسَ هوَ جزْءًا من ذاتِ ذلكَ الشَّيءِ، بلْ هوَ خارجٌ عنهُ، كما لا يلزمُ من جودِهِ وُجودُ ما كانَ شرْطًا فيهِ.
أي هو ما لا يلزم من وجوده وجود الشيء ، و لكن يلزم من عدمه عدم الشيء.
من أمثلتِهِ:
( أ ) الوُضوءُ لصحَّةِ الصَّلاةِ، قال تعالى: { يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...}الآية (المائدة: 6)، وقال النَّبيُّ صل الله عليه وسلم : ( لايقبلُ الله صلاةً بغيرِ طُهورٍ)) ، أخرجهُ مسلمٌ وغيرُهُ عن ابن عمرَ.
فصحَّةُ الصَّلاةِ موقوفةٌ على وجودِ شرطِ الوُضوءِ،وليسَ الوُضوءُ جزءًا من نفسِ الصَّلاةِ، كما لا يلزمُ من وُجودِ وجودُ الصَّلاةِ.
( ب ) إذنُ وليِّ الزَّوجةِ شرْطٌ لصحّةِ عقدِ النِّكاحِ عندَ جُمهورِ العلماءِ، لقوله صل الله عليه وسلم : ( لا نكاحَ إلاَّ بِولِيٍّ) ، حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن وغيرُهم.
الفرق بين الشَّرط والرّكن:
يشتركُ (الشَّرطُ) و (الُّركن) في أنَّ كُلاًّ منهما يتوقَّفُ عليهِ وجودُ الشَّيءِ، فالوضُوءُ شرطٌ للصَّلاةِ، والرُّكوعُ رُكنٌ فيها، ولا بُدَّ من وجودِ كلٍّ منهمَا لصحَّةِ الصَّلاةِ، لـكنْ يُلاحظُ الفرقُ بينهمَا في أنَّ:
الشَّرطَ : خارجٌ عن نفسِ الصَّلاةِ ليس جُزءًا منها.
والرُّكنَ : جزءٌ من نفسِ الصَّلاةِ.
أقسـامـه:
ينقسمُ الشَّرطُ باعتبارِ مُشترِطِهِ إلى قسمينِ:
( أ ) شرطٌ شَرْعِيٌّ:
وهوَ الَّذي جعلتْهُ الشَّريعةُ شرطًا، كَحَولِ الحوْلِ علَى المالِ الَّذي بلغَ النِّصابَ لإيجابِ الزَّكاةِ فيهِ.
( ب ) شرطٌ جَعْلِيٌّ:
وهو الَّذي يضعُهُ النَّاسُ باختيارِهم في تصرُّفَاتِهمْ ومُعاملاَتِهِمْ لا في عبادَاتِهم، كَالشُّرُوطِ الَّتِي يصطلحونَ عليها في عُقُودِهِمْ.
والفُقهاءُ مختلفُونَ في هذا النَّوعِ من الشُّروطِ في صحَّتهَا أو فسادِهَا، وما تدلُّ عليهِ الأدلَّةُ فيه التَّفصيلُ، وذلكَ بتقسيمِهِ إلى قِسمينِ:
[1] شرْطٌ صحيحٌ: وتُعرفُ صحَّتُهُ بأنْ لا يكونَ ورَدَ في الشَّرعِ ما يُبطِلُهُ، مثالُهُ: اشْترَاطُ البائعِ منفعةً معيَّنةً على المشتري في عقْدِ البَيعِ لا تُنافي مقصودَ البَيعِ، فقدْ صحَّ عن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنهما أنَّهُ كان يسيرُ على جملٍ لهُ قَدْ أعْيَا، فمرَّ النَّبيُّ صل الله عليه وسلم فضرَبَهُ، فسارَ سَيْرًا ليسَ يسيرُ مِثْلَهُ، ثمَّ قالَ: (بِعْنِيهِ بِأوقيَّةٍ) فبِعتُهُ، فاسْتَثْنيتُ حُمْلانَهُ إلى أهلِي، فلمَّا قَدِمْنَا أتيتُهُ بالجمَلِ ونقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثمَّ انصرَفْتُ، فأرسَل على أثرِي قالَ: (مَا كُنتُ لآخُذَ جمَلَكَ، فَخُذْ جمَلكَ ذلكَ فهُوَ مَالُكَ) متَّفقٌ عليه.
وما رُوي من النَّهي عن بيعٍ وشرطٍ فلا يصحُّ من جهةِ الإسنادِ، وكذلك كلُّ شرطٍ عُرفيٍّ في أيِّ عقدٍ ليس معارضًا لدليل في الشَّرعِ فهو شرطٌ صحيحٌ.
والدَّليل على صحَّةِ الشُّروطِ في الأصلِ قوله تعالى: { يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود}(المائدة: 1) ، وقوله: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} (الإسراء: 34)، وقال النَّبي صل الله عليه وسلم : (أحقُّ الشُّروطِ أن توفُو بها ما استحللْتُم بهِ الفُروجَ) ، متفقٌ عليه عن عقبة بن عامرٍ.
[2] شرطٌ باطلٌ: ويعرفُ بُطلانه بوُرود ما يُبطِلهُ في الشَّرعِ، ومثالهُ: حديثُ عائشة رضي الله عنها قالتْ: جاءتْني بريرةُ فقالتْ: كاتبتُ أهلي على تسعِ أواقٍ، في كلِّ عامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني، فقالت: إن أحبُّوا أن أعدَّها لهم ويكونَ ولاؤُُكِ لي فعلتُ، فذهبتْ بريرةُ إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءتْ من عندِهِم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالتْ: إنِّي عرضتُ ذلك عليهم، فأبوا إلاَّ أن يكونَ الولاءُ لهم فسمعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتْ عائشةُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((خُذيها واشترطِي لهمُ الولاءَ، فإنما الولاءُ لمن أعتقَ، ففعلتْ عائشةُ، ثم قام رسول الله صل الله عليه وسلم في النَّاسِ فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما بالُ رِجالٍ يشترطُونَ شروطًا ليستْ في كتابِ الله؟ ما كانَ من شرْطٍ ليس في كتابِ الله فهوَ باطلٌ وإن كانَ مائَة شرْطٍ، قضاءُ الله أحقُّ، وشرْطُ الله أوثقُ، وإنما الولاءُ لمنْ أعتقَ) (مُتَّفقٌ عليه).
والمقصودُ من كونِ الشَّرطِ في كتابِ الله أو ليس فيهِ أن يكونَ مشروعًا لا ممنوعًا، وهو التَّقسيمِ المذكُورِ. على هذا مذهبُ الحنابلةِ وطائفةٍ غيرهِم من الفُقهاءِ، والدَّليلُ فيه أبينُ، وهو المناسبُ لاعتبارِ المصالحِ والمفاسِدِ.
ومذهبُ الحنفيَّةِ قريبٌ منه، لكنَّهم قالوا: هو ثلاثَةُ أقسامٍ: شرطٌ صحيحٌ، وشرطٌ فاسدٌ، وشرطٌ باطلٌ، وفرَّقوا بين الفاسِدِ والباطلِ بأنَّ الفاسدَ ما كانَ فيه منفعةٌ لكنَّه معارضٌ لوصفِ الصَّحيحِ فيفسُدُ به العقدُ لذلكَ، أما الباطلُ فليسَ ممَّا يصحُّ العقدُ به أو يفسدُ بلْ هو شيءٌ خارجٌ عن نفسِ العقدِ، فهوَ بمنزلَةِ اللَّغوِ لا يُؤثِّرُعلى العقدِ،
ثالثا : المانع
تعريفـه:
لُغةً: من (المنع) وهوَ أن تحولَ بين الشَّخصينِ وبينَ الشَّيءِ فتجعلَ بينهما (مانعًا).
واصطلاحًا: ما رتَّب الشَّرعُ على وجودِهِ العدَمَ.
أي هو ما يلزم من وجوده العدم.
هو قسمان:
( أ ) مانعٌ للحُكمِ:
والمعنى: أن يقعَ فعلٌ من المكلَّف يستوجبُ حُكمًا شرعيًّا بأن وُجدَ في ذلكَ الفعلِ تحقُّقُ الأسبابِ الموجِبةِ لذلكَ الحُكمِ، فوضعَت الشَّريعَةُ (مانعًا) دونَ تنفيذِ ذلك الحُكْم.
مثالهُ: قوله صل الله عليه وسلم : (لا يُقتلُ والدٌ بولَدِهِ) حديثٌ صحيحٌ لغيره أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ، فهذا (مانعٌ) عند جمهورِ العلماءِ من إقامةِ القِصاص على الوالدِ إذا قتلَ ابنَه عمدًا، فمعَ استيفاءِ الوالدِ لشُروطِ القِصاصِ فقدْ جعلتِ الشَّريعَةُ أبوَّته مانعةً من القصاصِ.
( ب ) مانعٌ لسبب:
والمعنى: أن تكونَ الشَّريعةُ قرَّرت حكمًا تكليفيًّا بناءً على وجودِ سببٍ اقتضى وجودُهُ وجودَ ذلك الحُكمِ، لكنْ عرضَ دُون إعمالِ ذلك السَّببِ (مانِعٌ) أسقطَ السَّببَ والحُكمَ.
مثالُهُ: مكلَّفٌ ملكَ نصابَ الزَّكاةِ وحالَ الحولُ عليهِ عندَهُ، لكنَّه جمع ذلكَ المالَ لدينٍ عليهِ، فظاهرُ الأمرِ وجوبُ تنفيذ حكمِ إخراجِ الزَّكاةِ لوجودِ السَّببِ المقتضي لذلكَ وهو ملكُ النِّصابِ، لكنْ عرض لذلكَ السَّببِ (مانعٌ) من الاعتبارِ فألغاهُ، وهوَ (الدَّين)، فقد صحَّ عن النَّبي صل الله عليه وسلم أنه قال: ( لا صدَقة إلاَّ عن ظهرِ غِنًى) رواه أحمدُ وغيرهُ بسندٍصحيحٍ من حديثَ أبي هريرةَ، والله عزَّ وجلَّ جعل في أصنافِ الزَّكاةِ الغارمينَ، وصاحبُ الدَّينِ غارمٌ، فاستقامَ أن لا تجبَ عليهِ الزَّكاةُ وإن وُجدَ سببُ الوجوبِ وهو بلوغُ النِّصابِ، لأنهُ إنَّما يجمعُ لأجلِ الدَّينِ
رابعا : الصحة والفساد والبطلان
أفعال المكلَّفين إذا استوفتْ شروطَها وانتفتْ موانِعُها ووقعتْ على أسبابهَا فقد حكمَ الشَّرعُ بأنَّها (صحيحةٌ) ، وإذا اختلَّ ذلك أو بعضُهُ فقد حكم َ الشَّرعُ بأنَّها (باطلةٌ).
و(الصَّحيحُ) ما ترتَّبتْ عليه آثارُهُ الشَّرعيةُ، من: براءةِ الذِّمةِ وسُقوطِ المطالبةِ في العباداتِ، ونفاذِ العقدِ في العقُودِ والتَّصرُّفاتِ فلاَ يُطالبُ المكلَّفُ بإيقاعِ نفسِ العبادةِ مرَّةً أخرى ما دامَتْ قدْ حقَّقتْ وصفَ الصِّحَّةِ، كما أنَّ عقدَ البيعِ مثلاً حوَّل مِلكيَّةَ المبيعِ من البائعِ إلى المشتري بغيرِ ريبَةٍ ما كانَ العقدُ قدْ حقَّقَ وصفَ الصِّحَّة.
(الباطِلُ) ما لا تترتَّبُ عليهِ الآثارُ الشَّرعيَّة، فلا تبرأُ الذِّمةُ لمن صلَّى بغيرِ طُهورٍ مختارًا، ولا يصحُّ طلاقُ من أُكرِهَ على الطَّلاقِ، لوجودِ مانع من صحَّةِ هذا التَّصرُّفِ.
لا فرقَ بين الباطل والفاسد:
جمهورُالعلماء على عدمِ التَّفريق بين وصفِ الشَّيءِ بأنه (باطلٌ) أو (فاسدٌ).
والحنفيَّةُ وافقوهم على عدمِ التَّفريقِ بين الوصفينِ في العباداتِ، لكن خالفُوهم في المعاملاتِ ففرَّقوا بينهما، فقالوا:
1ـ الباطلُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أركانِ العقدِ، مثل: (بيع المجنونِ) فإنَّ الشَّارعَ ألغى اعتبارَ عقُودِهِ وتصرُّفاتهِ، وأهليَّةُ العاقِدِ من أركانِ صحَّةِ البيعِ، فالبيعُ باطلٌ غيرُ نافِذٍ.
2ـ الفاسدُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أوصافِ العقدِ لا إلى أركانِهِ، مثل: (النِّكاح بغيرِ شُهودٍ) إذ الشُّهودُ فيه من أوصافِ العقدِ لا منْ أركانِهِ، فالعقدُ فاسدٌ لكن تترتَّبُ عليه آثارٌ شرعيَّةٌ، فيجبُ للمرأةِ المهرُ إذا دخل بها، كما تجبُ عليها العدَّةُ، ويُلحقُ الولدُبهمَا.
وقولُ الجمهورِ أظهرُ في عدَمِ التَّفريقِ
خامسا : العزيمة والرخصة
العزيمةُ لغَةً: الإرادَةُ المؤكَّدة، ومنه قوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما}(طـه: 115) أيْ: قصدُ مؤكَّدٌ في فعلِ ما أُمِرَ به.
وشرعًا: اسمٌ لما هوَ الأصلُ في المشروعاتِ غيرُ متعلِّقٍ بالعوارضِ.
مثالهَا: الصَّلاةُ في أوقاتهَا هي الأصلُ، فهي العزيمةُ، وإتمامُ الصَّلاةِ هو الأصلُ فيها، فهو العزيمةُ، وحرمَةُ الميتةِ هي الأصل، فهي العزيمة.
والرُّخصةُ لغةً: اليُسرُ والسُّهولَةُ.
وشرعًا: اسمٌ لِما شُرعَ متعلِّقًا بالعوارضِ خارجًا في وصفِهِ عن أصلهِ بالعُذْرِ.
مثالُها: جمعُ الصَّلاتينِ للعُذرِ كالسَّفرِ والمطرِ، وقصرُ الصَّلاةِ للمسافرِ، وإباحَةُ الميتةِ للمُضطَرِّ، أحكامٌ خارجَةٌ عن الأصلِ الَّذي هو العزيمَةُ، والمؤثِّرُ فيها العُذْرُ.
فالعزيمَةُ أصلُ الأحكامِ التَّكيفيَّة، والرُّخصَةُ الخرُوجُ عن الأصلِ بِعُذرٍ.
وعليه فالرُّخصةُ باقيةٌ ببقاءِ العُذرِ، متفيةٌ بانتفائِهِ.
أسباب الرخص:
الأسبابُ الَّتي ترجعُ إليها جميعُ الرُّخصِ الشَّرعيَّةِ سبعةٌ، إليكَهَا
( 1 ) ضعفُ الخلقِ، سببٌ لإسقاطِ التَّكليفِ عن الصَّبيِّ والمجنونِ، وتخفيفِ التَّكليفِ في حقِّ النِّساءِ فلم تجبْ عليهنَّ جُمُعةٌ ولا جماعةٌ ولا جهادٌ.
( 2 ) المرضُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، والصَّلاةِ من قعُودٍ أوِ اضطِجاعٍ، وتناولِ الممنُوعِ للعلاجِ إن فقدَ سِواهُ.
( 3 ) السَّفرُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، وقصرِ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ، وسُقوطِ الجُمُعةِ، والزِّيادَةِ في مُدَّةِ المسحِ على الخُفَّينِ.
( 4 ) النِّسيانُ، سببٌ لإسقاطِ الإثمِ والمؤاخَذةِ الأخرَويَّةِ، وصحَّةِ الصَّومِ لمن أكَلَ أو شرِبَ وهوَ كذلكَ.
( 5 ) الجهلُ، سببٌ لإسقاطِ المُؤاخذَةِ إذا لم يقعْ بتقْصيرٍ في التَّعلُّم، كما يكونُ سببًا لرَدِّ السِّلعةِ بعدَ شِرائِهَا لعيبٍ جهِلَهُ المشترِي وقتَ التَّبايُعِ، كما يكونُ سببًا للعُذْرِ في خَطإ الاجتهادِ، لأنَّ المجتهِدَ بنى على ظنِّ العلمِ.
( 6 ) الإكراهُ، سببٌ لإباحةِ الوُقوعِ في المحظُوراتِ دَفْعًا للأذَى الَّذي لا يُحتَمَلُ.
( 7 ) عُمُومُ البلْوَى، وهوَ في الأمْرِ الَّذِي يَعْسُرُ الانفِكَاكُ عنهُ، كالنَّجاسةِ الَّتي يشقُّ الاحتِرازُ عنهَا، كمنْ بهِ سلسُ بوْلٍ، واحتمالِ يسيرِ الغَبْنِ في البُيُوع، ونحوَ ذلكَ.
أنواعُ الرُّخص:
الرُّخصُ الشَّرعيَّةُ تعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:
( 1 ) إباحَةُ المحرَّم لعُذرِ الضَّرورةِ، وإليه ترجعُ قاعدَةُ: (الضَّرُوراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ).
مثالهَا: التَّلفُّظُ بكلمةِ الكُفرِ عندَ الإكراهِ، كما قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}{النحل: 116}، وأكلُ الميتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزيرِ وشُربِ الخمرِ للمُضطرِّ، كما قال تعالى:{ فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه}(البقرة: 173)، وقال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}(الأنعام: 119).
( 2 ) إباحَةُ تركِ الواجبِ، وفيهِ قوله صل الله عليه وسلم : (وإذا أمرْتُكُم بأمرٍ فَأْتُوا منهُ ما استَطعتُمْ) ، متفقٌ عليه من حديثِ أبي هرَيرةَ.
مثالها: تركُ القيامِ في الصَّلاةِ للعاجزِ مع فرْضِهِ، فعنْ عمرانَ بنِ حُصينٍ رضي الله عنه قال: كَانَتْ بي بواسيرُ، فسألتُ النَّبيَّ صل الله عليه وسلم عن الصَّلاةِ؟ فقال: ( صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تستطِعْ فعلى جنبٍ) ، أخرجه البُخاريُّ.
والفِطرُ في رمضانَ للمسافرِ والمريضِ، قال تعالى: { ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}(البقرة: 185).
( 3 ) تصحيحُ بعضِ العُقودِ مع اختلالِ ما تصحُّبه رفعًا للحرجِ وتيسيرًا على النَّاسِ.
مثالها: الإذنُ في بيعِ السَّلمِ (أو: السَّلف)، أو عقدِ الاستِصناعِ، مع أنَّ كلاًّ منهما بيع معدومٍ ليسَ موجودًا وقتَ التَّعاقُدِ، نعمْ ذلك بشُروطٍ، كما قال النَّبيُّ صل الله عليه وسلم : (منْ أسلفَ في شيءٍ ففي كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، على أجلٍ معلومٍ) ، متَّفقٌ عليه عن ابنِ عبَّاسٍ.
درجات الأخذ بالرخص:
الأخذُ بالرُّخصِ الشَّرعيَّةِ يتفاوَتُ حكمُهُ إباحَةً ونَدبًا ووجوبًا، فهو على أربعِ درجاتٍ:
( 1 ) التخييرُ بين الأخذِ بالرُّخصةِ وتركهَا.
مثالهُ: الفطرُ للمسافرِ عند استواءِ حالهِ بالصَّومِ والفطرِ، فإنَّ له أن يُفطرَ أو يصومَ من غيرِ بأسٍ، كما قال حمزَةُ بنُ عمرٍو الأسلميُّ للنَّبيِّ صل الله عليه وسلم أَأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّومِ، فقالَ: (إن شئتَ فصُمْ، وإنْ شئتَ فأفطِرْ) (متفقٌ عليه).
( 2 ) تفضيلُ الأخذِ بالرُّخصةِ.
مثالهُ: قصرُ الصَّلاةِ في السَّفرِ، فإنَّها رُخصةٌ جرىالعملُ النَّبويُّ على الأخذِ بها في جميعِ الأسفارِ، حتَّى أنهُ لم يصحَّ أنَّ النَّبيَّ صل الله عليه وسلم أتمَّ صلاةً قطُّ في السَّفرِ، وهذه المُداومةُ دالَةٌ على تفصيل الأخذ بالرُّخصةِ.
هذا على مذهبِ جمهورِ العلماءِ في أنَّ قصرَ الصَّلاةِ في السَّفرِ سُنَّةٌ، خلافًا لمن ذهبَ إلى وجوبهَا.
( 3) تفضيل التَّرك للرُّخصةِ.
مثالهَا: احتمالُ الأذى في الله لمن أُكرهَ على أن يقولَ كلمَةَ الكُفرِ بلسانِهِ، فإنْ أرادَ أن يأخذَ برُخصةِ الله لهُ فلهُ ذلكَ، وإن صبرَ وَاحتملَ ولو بلغَ الأمرُ إلى قتلِهِ فذلكَ أفضلُ، وقد كَانَ هذا حالَ المُرسلينَ وكثيرٍ من أتباعهمْ.
( 4 ) وجوبُ الأخذِ بالرُّخصةِ.
مثالهُ: أكلُ المُضطرِّ للميتةِ دفعًا للهلكَةِ عن نفسهِ، فإنَّ تحريم الميتةِ إنَّما كان لضررهَا على النَّفسِ، فحينَ كانتْ سببًا للحياةِ أُبيحتْ، والهلاكُ أعظمُ الضَّررِ بالنَّفسِ، فيُدفعُ الضَّررُ الأكبرُ بارتكابِ الضَّررِ الأدنَى، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا انفسكم إن الله كان بكم رحيما } (النساء: 29).
هل يُمنعُ الأخذبالرُّخص؟
صحَّ عن النَّبيِّ صل الله عليه وسلم أنه قالَ: (إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخصَهُ، كما يكرهُ أن تُؤتَى معصيتُهُ)، أخرجهُ أحمدُ وغيرُهُ، فما أحبَّهُ الله تعالى لا يصحُّ أن يقالَ: هو ممنُوعٌ منعَ كرَاهَةٍ ولا منعَ تحريمٍ.
وفي الحديث المذكورِ كراهةُ تركِ الأخذ بالرُّخصِ تنزُّهًا عنها، فإنه لا يصحُّ التَّنزُّه عمَّا يُحبُّه الله تعالى، ويؤكِّدهُ حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: صنعَ رسول الله صل الله عليه وسلم أمرًا فترخَّص فيه، فبلغَ ذلكَ ناسًا من أصحابهِ فكأنَّهُم كرهُوهُ وتنزَّهوا عنهُ، فبلغَه ذلكَ فقامَ خطيبًا فقالَ: (ما بالُ رِجالٍ بلغَهُم عنِّي أمرٌ ترخَّصتُ فيهِ فكرِهوهُ وتنزَّهُوا عنهُ، فوالله لأنا أعلمُهم بالله وأشدُّهُمْ لهُ خشيَةً) متفقٌ عليه.
أمَّا ما يُروى عن بعضِ السَّلفِ والعلَماءِ من كرَاهةِ تتبُّعِ الرُّخصِ وذَمِّ من يفعلُ ذلكَ، فليسَ كلامُهُم في رُخصِ الله ورسولهِ ممَّا جاءتْ بِهِ الشَّريعةُ، إنَّما الرُّخصُ الَّتِي يستفيدُها النَّاسُ من خلافِ الفُقهاءِ، فهذا العالمُ حرَّمَ كذا وهذا رخَّص فيه، فذمَّ العلماءُ من يبحثُ عن تلكَ الرُّخص ويعملُ بها أو يُشيعُهَا بين النَّاسِ ذَمًّا شديدًا، لأنهَا تصيرُ بفاعلِ ذلكَ إلى استحلالِ ما حرَّم الله ورسولُه، فالمجتهِدُ قدْ يقُولُ الرَّأيَ في الشَّيءِ يخالفُ حكمَ الله ورسولِهِ صل الله عليه وسلم ، لا بقصدٍ منهُ بلْ باجتهادِهِ ظنًّا منهُ أنَّهُ الصَّوابُ، فمن عمَدَ إلى رُخصَةِ هذا العالمِ أو ذاكَ ممَّا أخطأَوا فيهِ فتتبَّعَهُ فقدِ اجتمَعَ فيه الشَّرُّ كلُّهُ.
حكى إسماعيلُ بنُ إسحاقَ القاضِي المالكيُّ أنَّهُ دخَلَ على الخليفةِ المعتضِدِ بالله العبَّاسِيِّ، قال: فدَفعَ إليَّ كتابًا، فنظرتُ فيهِ، فإذا قدْ جُمعَ لهُ فيه الرُّخصُ من زَللِ العلماءِ، فقلتُ: مُصنِّفُ هذا زِنْدِيقٌ، فقالَ: ألمْ تصحَّ هذه الأحاديثُ؟ قلتُ: بلى، ولكن من أباحَ المسكِرَ لم يُبِح المُتْعةَ، ومن أباحَ المُتعَةَ لم يُبِحِ الغِناءَ، وما من عالمٍ إلاَّ ولهُ زّلَّةٌ، ومن أخذَ بكُلِّ زَللِ العُلماءِ ذهبَ دينُهُ، فأمرَ بالكتابِ فأُحْرِقَ [سِير أعلام النُّبلاء 13/465].
وإنَّما الواجبُ في هذا أن ينظُرَ في حُكمِ الله ورسوله صل الله عليه وسلم ، فتُقاسَ رُخصُ المجتهدينَ بموافقَتهَأ للكتابِ والسُّنَّةِ أو مخالفتها لهمَا، فإن وافقَتْ فهي رُخصَةٌ شرعيَّةٌ يحبُّهَا الله والأخذُ بها حسنٌ، وإنْ خالفَتْ فلهَا حكمُهَا من الحُرمَةِ أو الكراهَةِ
سادسا : الأداء والقضاء والإعادة
( 1 ) الأَدَاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا المعيَّنِ لها شرعًا.
( 2 ) القضاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ خارجَ وقتِهَا الَّذِي عيَّنَهُ الشَّارعُ.
وجديرٌ بالتَّنبيهِ عليه هـهُنَا أنَّ القضاءَ لم يرِدْ في نصوصِ الشَّرعِ إلاَّ في إيقاعِ العبادَةِ بعدَ خُروجِ وقتهَا بعُذْرٍ كالنَّومِ عن الصَّلاةِ، أو الصَّومِ للحائضِ أو النُّفسَاء، أمَّا خُروجِ الوقتِ بدونِ عُذْرٍ فلمْ يرِدْ فيهِ القضاءُ، بِخلافِ الَّذي عليهِ كثيرٌ من الفُقهاءِ.
ويُؤكِّدُ ذلكَ مسألَةٌ أثارَهَا الأصُوليُّونَ، هيَ: هلِ القضاءُ يكونُ بالأمرِ الأوَّلِ الَّذي كان بهِ الأداء، أو يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ؟ جمهُورُهُمْ أنهُ يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ، وهذا هُو الصَّوابُ، فإنَّ العبادَةَ المعلَّقةَ بوقتٍ إنَّما مقصُودُ الشَّارِع أن تقعَ في الوقتِ الَّذِي حدَّدَه لها، فإذا أخلَّ المكلَّفُ بذلكَ فأدَّاهَا خارجَ وقتهَا بدونِ عُذرٍ فلمْ يقعْ فعلُهُ لهَا كمَا أُمرَ، وقدْ قال النَّبيُّ صل الله عليه وسلم : (من عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهُوَ رَدٌّ) أخرجهُ مسلمٌ عن عائشةَ، وهذا بخلافِ المعذُورِ، فهوَ إمَّا أن تكونَ الشَّريعَةُ أسقطتْ عنهُ القضاءَ فلمْ تأمُرْهُ بهِ، كما في قضاءِ الصَّلاةِ للحائضِ، وإمَّا أن تكونَ أَمَرَتْهُ بهِ بأمرٍ جديدٍ، كصلاَةِ النَّائمِ والنَّاسي، وقضاءِ الصَّومِ للحائضِ والنُّفساءِ والمريضِ والمسافِرِ، وقضاءِ الحجِّ عمَّنْ عجزَ عنهُ في حياتِهِ.
ويتفرَّعُ عن هذا مسألةٌ مشهورَةٌ، وهي قضاءُ الصَّلاةِ والصَّومِ ونحوهِمَا لمن تركَ أدَاءَ ذلكَ في وقتِهِ متعمِّدًا، فهَذَا ليسَ لهُ رُخصَةٌ في القضاءِ، إنَّمَا سبيلُهُ التَّوبَةُ النَّصوحُ وأن يُكثِرَ من التَّطَوُّعِ.
( 3 ) الإعادَةُ: وهي إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا بعدَ تقَدُّمِ إيقاعِهَا على خللٍ في الإجزاءِ، كإنقاصِ رُكنٍ