منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 علم أصول الفقه

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 7:59 am

علم أصول الفقه

أولا مقدمة عن الشريعة
كل شريعة قامت على وجه هذه الأرض، وكل نظام أو قانون عاش فيها، لا بد أن يكون ناشئا عن أحد مصدرين اثنين لا ثالث لهما،  فهي إما أن تكون من قبل الله سبحانه وتعالى خالق البشر ومربيهم، وإما أن تكون من صنع البشر أنفسهم. 
فالنوع الأول هو ما يدعى بالشرائع السماوية،  والنوع الثاني هو ما يسمى بالشرائع الوضعية، وعلى ذلك نرى أن شرائع العالم كله تنقسم إلى قسمين بحسب طبيعة مصدرها ومنشئها، وشريعتنا الإسلامية التي هي موضع دراستنا إنما هي شريعة من النوع الأول، إذ هي شريعة سماوية صادرة عن الله سبحانه، ولا دخل فيها لأي إنسان مهما ارتفعت رتبته وعلا مقامه، فالمشرع الأوحد عندنا هو الله سبحانه وتعالى، ولا يعترف المسلون لأحد غيره بحق التشريع، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم -  فإنما نقبل قوله وعمله وتقريره لأنه مخبر عن الله تعالى وناقل لأوامره ونواهيه ليس إلا، ولذلك أجمع المسلون على أن الأقوال والأعمال التي صدرت عن النبي  - صلى الله عليه وسلم -  بمقتضى الجبلة الإنسانية لا تعتبر تشريعا ملزما بحال، كطريقته  - صل الله عليه وسلم -  في أكله وشربه ونومه … 
وكذلك الفقهاء والعلماء والمجتهدون، فإنه لا دخل لهم في التشريع أبدا، وكل مالهم أن يفعلوه هو أن يعملوا عقولهم في فهم ما ورد عن الشارع من النصوص في حدود الضوابط التي وضعوها لهذا الفهم، دون الزيادة على هذه النصوص أو الإنقاص منهــا. 
وعلى ذلك فإن المصدر التشريعي الوحيد في الشريعة الإسلامية إنما هو قول الله  سبحانه وتعالى ليس إلا، قال سبحانه: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) (الأنعام:57)، فإنه هو المشرع الحقيقي ولا مشرع غيره. والقرآن كلام الله تعالى قامت على ذلك كل البراهين والأدلة النقلية والعقلية، وسوف نورد شيئا من ذلك في موضع حجية القرآن الكريم وأدلة هذه الحجية،  ولذلك أجمع المسلمون على اختلاف نزعاتهم وآرائهم ومذاهبهم على أن القرآن مصدر من مصادر الشريعة، بل هو المصدر الوحيد فيها، وما عداه من المصادر المعتبرة إنما هو تابع للقرآن أو فرع عنه، لثبوت حجيته بالقرآن نفسه، فيكون اتباعه والاحتكام إليه واستنباط الأحكام منه وعده مصدرا أصليا إنما هو على سبيل المجاز لا الحقيقة،  إذ إن إتباعه إنما هو اتباع للقرآن حقيقة، لأن القرآن هو الذي أمر باتباعه. 
وعلى ذلك يكون القرآن هو المصدر الأصلي لهذه الشريعة، وما عداه من المصادر المتفق عليها والمختلف فيها إنما هي مصادر تبعية،  أو مصادر مجازية إن صح التعبير، لأنها في ثبوت حجيتها محتاجة للقرآن ومتوقفة عليه. 
وإلى هذا المعنى أشار الغزالي في المستصفى حيث قال: (واعلم أنا إذا حققنا النظر بأن أصل الأحكام واحد وهو قول الله تعالى: إذ قول الرسول  - صل الله عليه وسلم -  ليس بحكم ولا ملزم،  بل هو مخبر عن الله تعالى أنه حكم،  كذا وكذا،  فالحكم لله تعالى وحده، والإجماع يدل على السنة الشريفة  ، والسنة على حكم الله تعالى، وأما العقل فلا يدل على الأحكام الشرعية، بل يدل على نفي الأحكام عند انتفاء السمع، فتسمية العقل أصلا من أصول الأدلة تجوز على ما يأتي تحقيقه). 
لكننا نرى بعض العلماء بل أكثرهم يذهبون إلى أن القرآن والسنة والإجماع والقياس مصادر أصلية كلها، وما عداها مصادر تبعية، فيخالفون بذلك ظاهر ما تقدم تفصيله من اعتبار القرآن أصلا وما عداه تبعا له. 
والجواب أن لهؤلاء الفقهاء عذرهم في هذا التقسيم،  وهو تقسيم اعتباري على أي حال لا يؤثر في جوهر الموضوع في شيء، وحجتهم في هذا التقسيم هي أن هذه المصادر الثلاثة بعد القرآن الكريم هي مصادر غنية بالأحكام كالقرآن،  بل إن بعضها أكثر منه غناء من حيث الكم، كالقياس، ثم إن هذه المصادر أثبتت في كثير من الأحيان أحكاما سكت عنها القرآن الكريم بتاتا ولم يتعرض إليها، كالسنة في كثير من مواضعها أو بعضها في بعض الأحيان تنسخ أحكاما جاء بها القرآن عند أكثر الفقهاء،  فهي لهذه الأسباب تعد مصادر أصلية،  بمعنى أنها مستقلة في إنشاء الأحكام عن القرآن الكريم، ولا يضر كونها ثبتت حجيتها بالقرآن في جعلها أصلية بحال، بخلاف المصادر الأخرى، فإنها لم تنفرد عن القرآن الكريم وهذه المصادر الثلاثة التي بعده في تشريعها للأحكام، بل هي تفسير لها أو استثناء منها أو علامة عليها، ولذلك فهي محتاجة إليها وفرع عنها، فكانت تبعية لذلك، كالاستحسان والاستصحاب وعمل الصحابي وغيره.…
هاتان هما وجهتا نظر الفقهاء في بيان الأصلي والتبعي من المصادر، عرَّفتهما وبينت مناط الاختلاف فيهما، وأشرت إلى أن لكل منها وجهة نظر سليمة وموضوعية. 
والحق أن القول الأول هو الأقرب للواقع، بل هو عين الواقع، وإن كان القول الثاني، أسهل في التبويب والتنسيق، وعلى كل،  ذلك اصطلاح ولا مشاحَّة في الاصطلاح كما يقول الأصوليون، وإنني في هذه الدراسة الموجزة لمصادر التشريع الإسلامي سوف أمشي على القول الثاني لسهولته ووضوحه، فأقسم المصادر إلى قسمين: مصادر متفق عليها وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وتسمى بالمصادر الأصلية، ومصادر مختلف فيها،  وهي ما عدا المصادر الأربعة الأولى، وتسمى بالمصادر التبعية

تعريف علم أصول الفقه
الأصولُ: جمعُ أصلٍ، وهو لُغةً: ما ينبني عليه غيرُهُ.

        واصطلاحًا: يُطلقُ (الأصلُ) على أمورٍ، منها:

        1- الدليلُ، ومنه: قولهمْ: (أصل هذه المسألةِ الكتابُ والسُّنة).

        2- الرَّاجحُ، كقولهم: (الأصلُ في الكلامِ الحقيقة) أي لا المجازُ، لأنها أرجحُ منه.

        3- القاعدةُ، ومنهُ قولهُم: (الأصلُ أنَّ الفاعلَ مرفوعٌ).

        4- الاستصحابُ، ومنه قولُهم: (الأصلُ في الأشياءِ الإباحَـةُ)، وسيأتي بيانُ معناهُ.

        والفقهُ؛ لغةً: الفهمُ.

        واصطلاحًا: العلمُ بالأحكامِ الشَّرعيَّة العمليَّة المُكتسبة من أدلَّتِها التَّفصيليَّة.

        تفسير التَّعريف:

        1- الأحكام: جمع حُكمٍ، وهو: إثباتُ شيءٍ لشيءٍ.

        2- الشَّرعيَّة: المستفادة من الشَّريعةِ، فتخرُج منها أحكامُ العقلِ المحضة.

        3- العمليَّة: المتعلقة بأفعالِ المكلَّفين، فيخرجُ منها الأحكامُ الاعتقاديَّة والسُّلوكيَّة.

        4- المكتسبة: المستفادة بطريقِ النَّظرِ والاستدلالِ، فيخرُجُ من الفقهِ نوعانِ من العلمِ:

        ( أ ) علم الله تعالى أو رسولهِ صل الله عليه وسلم ، فأما علمُ الله تعالى فهو وصفٌ لازمٌ له على وجه الكمالِ، ولو عُلِّق بالاستنباط لكانَ نقصًا يُنزَّه عنه سبحانه وتعالى.

        وأمَّا علمُ رسولهِ صل الله عليه وسلم فمصدرهُ الوحيُ الَّذي هو من علمِ الله تعالى.

        ( ب ) علمُ المقلَِّّد، فإنه لم يستفدْهُ بالنَّظر والاستنباطِ، إنما حملهُ عن غيرهِ.

        5- الأدلَّة: جمعُ (دليلٍ) وهو لغةً: الهادي.

        واصطلاحًا: ما يُستدل بالنَّظر الصَّحيح فيه على حكمٍ شرعيٍّ عمليٍّ على سبيل القطعِ أو الظَّنِّ.

        6- التَّفصيليَّة: الجزئيَّة أو الفرعيَّة.

        فالأدلة نوعان :

        أدلة كلية وهي الكتاب ، و السنة ، و الإجماع ، والقياس، فهذه أدلة كلية.

        والأدلَّة التفصيليَّة، هي كلُّ دليلٍ يختصُّ بمسألةٍ معيَّنةٍ، كاختصاصِ قوله تعالى: { ولا تقربوا }[الإسراء:32] بحرمةِ الزِّنا، فهذه الآية دليلٌ تفصيليُّ يختصُّ بمسألةٍ معيَّنةٍ هي الزِّنا، وسميت بالأدلة التفصيلية ؛ لأنها جزء من الأدلة الكلية.

        فالقرآن الكريم كله دليل كلي ، و الأية منه التي تدل على حكم دليل تفصيلي.

        ومثل ذلك قوله تعالى: { و لا تقربوا مال اليتيم}[الإسراء: 34]، فهذا دليلٌ تفصيليُّ على مسألةٍ معيَّنةٍ أخرى هي حرمَةُ أكلِ مالِ اليتيمِ.

        وأصول الفقــه:

        هي القواعد والأدلَّة العامَّةُ الَّتي يُتوصَّلُ بها إلى الفقهِ.

        أي : هو العلم بالقواعد العامة التي تستخدم في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

        أو هو العلم بالقواعد العامة التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.

        ومن أمثلة القواعدِ:

        1- الأمر للوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينةٌ عن ذلكَ.

        2- النَّهي للتَّحريمِ حتَّى تصرِفه قرينةٌ عن ذلك.

        3- العامُّ شاملٌ لجميعِ أفرادِهِ ما لم يرِدِ التَّخصيصُ.

        والأدلَّةُ هي مصادرُ التَّشريعِ، كـ:الكتابِ، والسُّنَّةِ، والإجماعِ، والقياسِ
..............................................
الفرق بين أصول الفقه و القواعد الفقهية
القاعدةُ الأصوليَّةُ هي: دلالةٌ يهتدي بها المجتهدُ للتَّوصُّلِ إلى استخراجِ الأحكامِ الفقهيَّة، فهي آلتُهُ الَّتي يستعملُها لاستفادَةِ تلكَ الأحكامِ مثل :

        1- الأمر للوجوبِ حتَّى تصرفَهُ قرينةٌ عن ذلكَ.

        2- النَّهي للتَّحريمِ حتَّى تصرِفه قرينةٌ عن ذلك.

        3- العامُّ شاملٌ لجميعِ أفرادِهِ ما لم يرِدِ التَّخصيصُ


        أما القاعدةُ الفقهيَّةُ: فهيَ الجملةُ الجامعةُ من الفقهِ تندرجُ تحتهَا جزئياتٌ كثيرةٌ، بمنزلةِ النُّصوصِ الجوامعِ للمعاني،

        أو هي قاعدة كلية تنطبق على كثير من جزئياتها.

        كالمُناسبةِ الَّتي تُلاحظها بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (الأمور بمقاصدها)، وبين قوله صل الله عليه وسلم : ((إنما الأعمال بالنِّيات)) .

        أو بين القاعدةِ الفقهيَّةِ: (المشقَّةُ تجلِبُ التَّيسيرَ)) وقوله تعالى:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}[البقرة: 286].

        فالقاعدة الفقهيَّةُ جملةٌ جامعةٌ لجزئيَّاتٍ كلُّهنَّ من بابها وموضوعها، بمنزلةِ المستفاد من آيةٍ جامعةٍ أو حديثٍ جامعٍ، كالمثاليين المذكورين.

        ولو تأمَّلتَ اعتبار جميع التصرفات بالمقاصد فكم تُرى يندرجُ تحت ذلك من المسائل الفرعيَّةِ في العبادات والمعاملاتِ والجناياتِ والعقوباتِ، فأفعال المصلِّي والمزكي والبائع والمشتري والنَّاكح والمُطلق والسَّارق والزَّاني والقاتل والحالفِ والقاضي، إلى غير ذلك ممَّا تعتبرُ فيه النِّياتُ والإراداتُ كلُّه مندرجٌ تحت هذه الجملةِ، فلمَّا جاءتْ على الاستيعاب للأمورِ الكثيرةِ سمِّيتْ (قاعدة)، ولما كانتْ في المسائلِ الشَّرعيَّة العمليَّة سميَّتْ (فقهيَّة)، وهذه بخلافِ (الأصوليَّة) فإنَّها لا تندرجُ تحتها الفروعُ العمليَّة، إنما هي أداةٌ لمعرفتها من الدَّليلِ الشَّرعِّ
...............................................................
موضوع علم أصول الفقه
ذهب الآمدي من الأصوليين إلى أن موضوع علم أصول الفقه هو الأدلة الإجمالية الأربعة، من حيث إثباتها للأحكام الشرعية، فلا يبحث فيه عن هذه الأحكام إلا بطريق العرض ليتمكن من نفيها أو إثباتها.

        وذهب الإمام الغزالي إلى أن موضوعه الأحكام التشريعية من حيث ثبوتها بالأدلة، فتكون الأحكام عن هذه الحيثية أصلاً وجزءاً من أجزاء هذا العلم.

        وذهب الإمام سعد الدين التفتازاني مذهباً وسطاً بين المذهبين السابقين، فنص على أن موضوعه الأدلة من حيث إثباتها للأحكام والأحكام من حيث ثبوتها بالأدلة، فيكون بذلك كل من الأحكام والأدلة أساسا من أسس هذا العلم. وهذا هو المذهب الذي ارتضاه أكثر الأصوليين
 ..............................................................
الفائدة من دراسة علم أصول الفقه
لابد لكل علم من ثمرة وفائدة يقطفها الإنسان من وراء نصبه وتعبه في تتبع نظريات هذا العلم، وإذا كانت الفائدة من دراسة الفقه هي تصحيح الأعمال والأقوال وفق حكم الله تعالى، فما هي إذا الفائدة من دراسة علم أصول الفقه.

        الفائدة الأصلية من علم أصول الفقه هي معرفة طرق استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وضوابط هذا الاستنباط، وبذلك يكون هذا العلم الأداة التي يستخدمها المجتهد في استخراجه الأحكام من أدلتها، وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أن علم الأصول لا يستطيع أن يستفيد منه إلا المجتهدون، بل هو مقصور عليهم، وبذلك يثار تساؤل كبير، فأي فائدة لنا من هذا العلم بعد ما أقفل كثير من الفقهاء باب الاجتهاد، وعلى التسليم بعدم إقفال هذا الباب فأي فائدة لطالب العلم العادي أو للفقيه بصورة عامة من هذا العلم إن لم يبلغ درجة الاجتهاد؟ والجواب على ذلك واضح لا لبس فيه، نعم إن الفائدة الأساسية لهذا العلم هي التبصر بقواعد الاستنباط مما يمكِّن المجتهد من استنباط الأحكام من أدلتها، وعلى ذلك لا يكون مفيداً إلا للمجتهدين فقط، ولكن لا يعني هذا أنه ليس هناك أي فائدة أخرى لهذا العلم وراء تلك الفائدة! إذ هنالك فوائد أخرى كثيرة تأتي تبعاً لتلك الفائدة الرئيسة، وأهم هذه الفوائد هـي:

        1- الفائدة التاريخية، وهي اطلاع المتعلم على تلك القواعد الدقيقة التي استنبط الفقهاء بواسطتها الأحكام، ليزداد وثوقه بدقة الأحكام وأصالتها، مما يثير العزة في نفوس المؤمنين والرضا الكامل عما قدمه المجتهدون لهم من علم الفقه الذي يحتكمون إليه في كل علاقاتهم ومعاملاتهـم.

        2- اكتساب الملكة الفقهية التي تمكن الطالب من الفهم الصحيح والإدراك الكامل للأحكام الفقهية، والإطلاع على طرق الاستنباط الدقيق للاستفادة منها والقياس عليها إذا ما دعت الحاجة، وهي لابد داعية إلى ذلك، فإن النصوص التشريعية والقواعد الفقهية محدودة ومشاكل الناس ومسائلهم لا حدود لها، ومن المنطقي أن لا يصلح المحدود حلا لغير المحدود، مما يضطر الفقيه عند تعرضه لبعض الوقائع التي لا نص عليها لدى الفقهاء من إعمال فكره والاستفادة من الملكة الفقهية التي احتواها في استنباط أحكام هذه المسألة على النسق الذي استنبط المجتهدون به مسائلهم وأحكامهم.

        3- الموازنة والمقارنة بين المذاهب والآراء الفقهية لبيان الأرجح والأصح والأولى بالقبول منها، استناداً إلى الدليل الذي صدر عن قائلها، فإن لكل قول من أقوال الفقهاء معياراً أصولياً خاصاً استند إليه، ولابد في الترجيح من جمع هذه المعايير والموازنة بينها على أسس علم أصول الفقه وقواعده، للوصول إلى الرأي أو المذهب الذي يشهد له الدليل الأقوى والأصح
.........................................................
 مصادر علم أصول الفقه 
لابد لكل علم من مصادر يستمد منها قواعده وأحكامه.
  فالفقه مستمده المصادر التشريعية، وعلم النحو والقواعد مستمده لغة العرب في جاهليتهم، بالإضافة إلى القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، فما هي مصادر أصول الفقه؟. 
علم أصل الفقه مستمد من عدة علوم لا من علم واحد، فهو علوم في علم، وهو بحق كما يسميه بعض العلماء مفتاح العلوم، وهو بالجملة مستمد من العلوم التالية: 
1) علم الكلام أو علم التوحيد، وذلك لتوقف الأدلة الشرعية على معرفة الله تعالى المشرع الأوحد، ورسله الذين ينقلون شرعه إلى أنبيائه، وهما من موضوع علم الكلام. 
2) اللغة العربية بكل ما تضمنه من علوم لغوية و نحوية و بلاغية أو غيرها، وذلك لأن المصادر الأصلية للفقه وأصوله إنما هي الكتاب والسنة وهما عربيان، ولابد في فهم نصوصهما والوقوف على دقائق معانيهما من التمرس بأساليب اللغة العربية وعلومها، حتى إن بعض الفقهاء ذهب إلى أن معنى حصر الرسول- صل الله عليه وسلم -  الخلافة في قريش إنما هو سعة اطلاعهم أكثر من غيرهم على أساليب اللغة العربية واللهجة القرشية التي بها نزل القرآن خاصة، كما روى عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه شكل لجنة من كبار الصحابة لجمع القرآن بقوله: (إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش فإنه بلغتهم نزل). 
3) الأحكام الشرعية، فإنها المعين الأصيل لهذا العلم، بل هي المعين الأول له، ويدخل في الأحكام الشرعية مصادرها، فيكون بذلك الكتاب والسنة المعين الأول الرافد لهذا العلم
......................................................................
أسباب الاختلاف بين الفقهــــاء
أهم أسباب الاختلاف بين الفقهاء يمكن إدراجها فيما يلي من النقاط:

1- اختلاف أساليب اللغة العربية ودلالة ألفاظها على المعاني، فإن اللغة العربية دون شك هي أوسع لغات العالم في المفردات وأدقها في التعبير،  ولكنها مع ذلك – شأنها شأن سائر لغات العالم – تتعدد فيها وتختلف معاني الألفاظ،  غرابة واشتراكا، كما تتراوح بين الحقيقة والمجاز، والعموم والخصوص، إلى غير ذلك مما هو معروف في كتب اللغة وأصول الفقه من طرف دلالة اللفظ على المعنى، وحيال هذا العدد والاختلاف لابد أن تتعدد الأفهام وتختلف الاستنباطات، فتختلف بذلك الأحكام.

 من ذلك مثلا قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ)(البقرة:228).

 فقد اختلف الفقهاء في هذه الآية على معنى (القرء) إذ هو في اللغة اسم للحيض والطهر معا، فذهب الحنفية إلى أن المراد به في هذه الآية الحيض، واستدلوا على ذلك بأدلة وقرائن كثيرة أيضا،  ومناط اختلافهم الأصلي في هذه المسألة إنما هو الوضع اللغوي لكلمة قرء، وإنها مشتركة بين الطهر والحيض معا على التساوي.

ومن ذلك أيضا اختلافهم في حكم لمس يد الرجل المرأة هل ينقض الوضوء أو لا،  فذهب الشافعية إلى أنه ينقض الوضوء، وذهب الحنفية إلى أنه لا ينقضه، ومناط اختلافهم هو معنى المس الذي ورد في قوله تعالى: (أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:43).

 فقد ذهب الشافعية إلى أن المراد بذلك هو حقيقة المس لغة، وهو حاصل بمجرد اتصال بشرة الرجل ببشرة المرأة، لأن أصل الوضع اللغوي لهذا اللفظ هو ذلك، ولا يعدل عن هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل هنا يقتضي العدول.

 وذهب الحنفية إلى أن المراد بالمس هنا ليس هو حقيقته اللغوية، بل المراد به المباشرة الفاحشة، وهي تماس الفرجين مع الانتشار، وذلك بدلالة وقرائن كثيرة مفصلة في كتب المذهب كافية في نظرهم لنقل هذا اللفظ من الوضع اللغوي إلى وضع شرعي خاص به، فمثار الخلاف إنما هو احتمال اللغة لهذا وذلك.

2- اختلاف الأئمة في صحة الرواية في الحديث، فالسنة المطهرة هي المصدر الثاني لهذه الشريعة بعد القرآن الكريم.

  والسنة وردت إلينا منقولة في صدور الرجال،  وهؤلاء الرجال بشر يصدقون ويكذبون،  كما أنهم يحفظون وينسون، ولا يمكن رفعهم فوق هذه المرتبة، كما أن العلماء الذين اقتفوا أثرهم ودرسوا حياتهم وسلوكهم رجال أيضاً، تختلف أنظارهم في الراوي،  فمنهم من يراه موثوقاً به، ومنهم من يراه غير ذلك، ولذلك كان طبعياً أن يختلف الفقهاء في الاحتجاج ببعض الأحاديث دون الأحاديث الأخرى.

  وطبعي أيضاً أن يذهب إمام إلى ترجيح رواية راو على رواية آخر لوثوقه به أكثر،  ويذهب فقيه آخر لترجيح مخالف لهذا الترجيح، اعتماداً منه على وثوقه بالراوي الآخر.

وهذا الاختلاف أدى بطبيعة الأمر إلى الاختلاف في كثير من الأحكام الفرعية تبعاً للاختلاف في مدى الوثوق بالراوي.

كما أن اختلاف الفقهاء فيما بينهم على طرق ترجيح الروايات إذا ما تعارضت، ومدى أخذهم ببعض أنواع الحديث أو اعتذارهم عنه كان له أثر كبير في اختلافهم في الأحكام الفرعية.

 من ذلك مثلاً الحديث المرسل، يأخذ به الحنفية ويفضلونه على الحديث المتصل أحياناً، خلافاً للشافعية الذين يرفضون الاحتجاج بالمرسل مطلقاً، إلا مراسيل سعيد بن المسيب التي ثبت بتتبعها أنها كلها متصلة.

كما أن اختلاف الفقهاء في الأخذ بقول الصحابي وعمله وعدم الأخذ بهما كان له أثر كبير في الاختلاف، فالحنفية لا يجيزون الخروج على قول الصحابة إلى قول غيرهم، ويعتبرون قول الصحابي حجة، أما الشافعية فيجيزون الخروج على قولهم في كثير من المواضع.

3- اختلاف الفقهاء فيما بينهم على قوة الاحتجاج ببعض المبادئ والقواعد الأصولية،  من ذلك مثلاً أن الحنفية يذهبون إلى أن العام قطعي الدلالة قبل التخصيص،  فإذا دخله التخصيص نزل إلى مرتبة الظنية، أما الشافعية فيعتبرون العام ظنياً قبل التخصيص وبعده، وعلى ذلك فإنهم يجيزون تخصيص العام بالدليل الظني دون الحنفية الذين لم يجيزوا تخصيصه للمرة الأولى إلا بدليل قطعي.

ومن ذلك أيضاً اختلافهم في حمل المطلق على المقيد،  فقد توسع الشافعية في حمل المطلق على المقيد فقيدوا بذلك الرقبة الواردة في كفارة الإيمان بالمؤمنة جرياً على تقييدها في كفارة القتل بذلك، خلافاً للحنفية الذين لا يقيدونها بذلك.
ومنه أيضاً اختلافهم على الاحتجاج بمفهوم المخالفة،  فقد ذهب إلى الاحتجاج به الشافعية في أكثر المواضع خلافاً للحنفية الذين رفضوا التعويل عليه في أكثر المواضع.

ومنه أيضاً اختلافهم على جواز نسخ القرآن الكريم بالسنة الشريفة والسنة بالقرآن،  فقد أجازه الحنفية والجمهور ومنعه الشافعية.
ومثل هذا كثير يعرف في كتب الأصول.

4 -    اختلافهم على كثير من قواعد التعارض والترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض والتناقض، وهذا الاختلاف يعتبر صدى لاختلافهم في النسخ وقواعده وشروطه، والتخصيص وطرقه وشروطه وضوابطه، إلى غير ذلك من القواعد الأصولية الخاصة بالترجيح بين الأدلة التي ظاهرها التعارض، وهو مبسوط في كتب الأصول أيضاً.

5- اختلافهم في القياس وضوابطه، فالفقهاء مع اتفاقهم على الاحتجاج بالقياس والاستدلال به ـ عدا الظاهرية ـ يختلفون في شروط القياس وشروط العلة التي يصح القياس بها ومسالكها ومناطاتها، وترجيح علَّة على أخرى عند تعارضها وطرق ثبوت العلة وغير ذلك من الاختلافات المشروحة في كتب أصول الفقه. حتى أنك لا تكاد ترى أصلاً واحدا اتفقوا على القول بحجيته في القياس.

6- اختلافهم في صحة الاعتماد على الكثير من الأدلة الإجمالية، كالاستحسان الذي ذهب الحنفية إلى الاحتجاج به، وذهب الشافعية إلى عدم الاحتجاج به، حتى نقل عن الشافعي قوله (من استحسن فقد شرع)، والاستصلاح الذي ذهب إلى الاحتجاج به المالكية ولم يعتبره الحنفية أصلاً من أصولهم وإن كانوا يأخذون به ضمناً، وقول الصحابي الذي تقدم بيان اختلافهم فيه، وعمل أهل المدينة الذي ذهب إلى اعتباره المالكية دون غيرهم، حتى إنهم قدموه على القياس، وغير ذلك من الأصول الكثيرة التي اختلفوا 
على الاحتجاج بها أو شروط ذلك الاحتجاج وحدوده.
7- اختلاف بيئات الفقهاء وعصورهم، فقد كان لذلك أثر كبير في اختلافهم في كثير من الأحكام والفروع، حتى إن الفقيه الواحد كان يرجع عن كثير من أقواله إلى أقوال أخرى إذا تعرض لبيئة جديدة تخالف البيئة التي كان فيها،  ومن ذلك ما حدث للإمام الشافعي بعد مغادرته بغداد إلى مصر، فقد عدل عن كثير من آراءه الماضية التي استقر عليها مذهبه في بغداد، وقد كثر هذا العدول حتى عد ذلك مذهباً جديداً له، ومنها عدول


...  يتبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: رد: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 8:00 am

تابغ.....
علم أصول الفقه
العلوم المساعدة للتمكن من علم الأصول
علم الأصول هو الأساس للنظام المتكامل لحياة الإنسان.

        فبعلم الأصول تتضح المنابع وتعرف المناهج التي تقود إلى الوصول للأحكام التي تنظم حياة الأفراد والجماعات في جميع صورها وجميع مراتبها.

        وعلم هذا شأنه لا بد من ترابطه مع علوم كثيرة تعالج حياة البشر من جوانبها المختلفة، فدراسة منابع الأحكام تتطلب:-

أولا:- دراسة القرآن الكريم

        المنبع الأول للأحكام: حقيقة شموله لأحكام تفصيلية وقواعد عامة تندرج تحتها بقية الأحكام غير المنفصلة نصا، ومعانيه، والناسخ والمنسوخ منه، وألفاظه مما يقود إلى دراسة اللغة العربية، ولا معنى لدراسة القرآن الكريم كأصل من أصول الفقه إلا فهم حقيقته هذا الكتاب وفهم دلالاته والتعمق في دراسته.

ثانيا:دراسة السنة النبوية

        بأنواعها وأقسامها ومصطلحاتها لتكون تفسيرا للقرآن الكريم ومفصلة له.

ثالثا:دراسة منابع الفقه

        ومصادره دراسة دقيقة وافية مستوعبة لتفاصيل علم الفقه الإسلامي ومذاهبه واختلافات الأئمة والمنصوص عليه وغير المنصوص عليه، وأماكن الإجماع الخ، حتى يمكنه معرفة الأصول معرفة نظرية وتطبيقية عملية ولا يقتصر على المعرفة النظرية المجردة.

        ولعله من الأكمل لدارس الأصول الإلمام بأصول ومنابع القوانين الوضعية؛ وذلك لإدراك مصادر تلك القوانين وكيفية استخراجها حتى ينجلي عنده سمو الشريعة الإسلامية ويستطيع بيان نقائص القوانين الوضعية.

رابعا:- دراسة تاريخ التشريع في الإسلام

        وهو يشتمل على تاريخ الأصول والفقه، ودراسة الظروف التاريخية التي أحاطت بالفقه وأصوله وهذه دراسة تقود للإلمام بالتاريخ عموما من أوسع أبوابه ولا يقتصر على دراسة تاريخ الأصول والفقه وحده.

        وبذلك يكون الأصولي على علم بكل الظروف التي مرّ بها العلم، وهذا بدوره يسوق لدراسة منطقية وعقلية تدور حول قضية القياس وما يرتبط به من مصادر عقلية للأحكام.

        وإلى دراسة المقاصد الشرعية في الخلق والأهداف العامة والخاصة، وهذا بدوره يقود لدراسة النظريات والفلسفات الوضعية وتوضيح أهدافها ومقاصدها لمقارنتها وبيان أوجه النقص فيها.

خامسا:- دراسة المجتمع الإنساني

        دراسة تكشف عن عادات الناس فيه واختلافات بيئاتهم وتأثير ذلك في تصرفاتهم، ومدى صلاح تلك التصرفات أو فسادها بمقياس الإسلام ومبادئه، وهذه الدراسة الاجتماعية يقدم عليها أصل من الأصول الفقهية التي اعتمدتها بعض المذاهب السنية وهو "العرف".

        إلى جانب ما تقدم من علوم تتطلبها دراسة علم الأصول فهنالك علوم أخرى لها أهمية بالنسبة لدارس الأصول مثل علم الكلام أو العقيدة التي هي من مقدمات علم الأصول، ليتوصل بذلك إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما ليتوصل بذلك إلى الفقه .

        وكذلك فإن قضايا متعددة خلال أبواب الأصول تحتاج إلى زاد من العقيدة مثل قضايا التعليل، وصفات الأفعال العقلية واتفاق أو عدم اتفاق الشرع معها، وغير ذلك من القضايا التي تتطلب التسلح بسلاح العقيدة ليكون بحثها على بينة من الأمر، فتلك العلوم مساعدة للتمكن من علم الأصول

الصعوبة والعلاج في أصول الفقه
إن من أهم علوم الشريعة وأجلها قدرا وأعظمها أثرا وأكثرها فائدة وأكبرها عائدة علم أصول الفقه ؛ لأنه الطريق لاستنباط الأحكام الشرعية ، فهو منهل الأئمة ومأوى المجتهدين ومورد المفتين ، لا سيما عند النوازل والمستجدات .

        فبه يتمكن الفقيه من استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة .

        وأصول الفقه أحد العلوم الإسلامية الأصيلة توالت المؤلفات فيه عبر التاريخ ، إلا أن ظاهرة صعوبة هذا العلم ملموسة ، وهذه الرؤية محاولة لعلاج صعوبة هذا العلم.

تعتري أصول الفقه جملة من المشكلات

        في جوانب مختلفة منه في مضمونه أحياناً ، وفي منهج دراسة مسائله ، ومناقشة بعضها ، وفي الأسلوب الذي سطر به أحياناً ، وفي منهج تدريسه أحياناً أخرى ، وكلها مشكلات تسببت قلة الاستفادة من هذا العلم المهم.

        لذا فهي بحاجة ماسة للحلول والعلاج من قبل المتخصصين فيه عسى الله عز وجل أن ينفع بها.

        وأحاول في هذا المقال إن شاء الله تسليط الضوء على إحدى هذه المشكلات ، محاولاً طرح بعض الحلول لها حسب ما أراه مناسباً.

        تتمثل هذه المشكلة في منهج تدريس أصول الفقه ، تلك التي نتج عنها قضيتان خطيرتان: الأولى عدم فهم أصول الفقه ، والثانية عدم معرفة كيفية الاستفادة منه بعد ذلك.

أما القضية الأولى:

        فإن طلبة العلم الشرعي في الجامعات والمعاهد المتخصصة بل من هم دونهم يشكون من صعوبة فهم مادة أصول الفقه.

أما القضية الثانية:

        فإن هناك عدداً لا بأس به من طلبة العلم إما لأنهم رزقوا فهماً قوياً ، أو لأنهم بذلوا جهداً مضاعفاً قد أدركوا وفهموا كثيراً من مسائل هذا الفن ولكنهم للأسف الشديد لا يستفيدون من هذا شيئاً في ممارساتهم العلمية ، وذلك لعدم معرفتهم بكيفية الاستفادة من هذا العلم!

الحل:-

        إن حل هاتين المشكلتين موزع في نظري بين أطراف ثلاثة هي:

        1- طالب العلم.

        2- معلم مادة أصول الفقه.

        3- المؤسسات العلمية والتعليمية المهتمة بتدريس هذه المادة والاستفادة منها.

أولاً:- طالب العلم.

        إن أهم مسألة ينبغي أن تتوفر لدى طالب العلم تجاه هذا الفن بعد سلامة القصد هي إدراكه للغرض من دراسته والفائدة المرجوة منه ، ويحصل ذلك بمطالعة ما سطره العلماء في هذا الخصوص .

        ويمكن جمع ذلك في ثلاث نقاط:

        1- تحصيل ملكة الاستنباط للأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية وملكة الاستنباط هي رأس مال الجهد كما قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني.

        2- استنباط تلك الأحكام على وجه الصحة حسب نظر المجتهد لا في واقع الأمر، وهذا مبتغى ومطلب كل مجتهد صادق مخلص ، ورفع الإثم عنه عند الخطأ منوط بسلوكه المنهج القويم في الاجتهاد أي اعتماده قواعده الشرعية ، التي هي أصول الفقه.

        3- معرفة سبب الاختلاف في جملة من الفروع الفقهية المختلف فيها بين العلماء إذ إن الاختلاف في القاعدة الأصولية قد يسبب اختلافاً في أحكام الفروع الفقهية ، مما يمهد ويختصر للطالب أسباب الترجيح.

        4- استنباط أحكام النوازل باستخدام دليل القياس أو مقاصد الشريعة.

        كما على الطالب أن يستحضر أن أول من ألف في هذا الفن تأليفاً مستقلاً إمام جليل من أئمة أهل السنة والجماعة هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله مما يؤكد توجيه مسؤولية هذا العلم إلى من ينتمون إلى هذا المنهج منهج السلف الصالح تعلماً وتعليماً واستفادة وتجديداً.

        إن إدراك طالب العلم لأهمية هذا العلم من خلال الوقوف على أغراضه وفوائده ، ثم مقارنة ذلك بحال كثير ممن تصدروا للفتيا والاجتهاد في أيامنا هذه سواء أكانوا ممن يدعون الالتزام بالنصوص الشرعية أو ممن يغلبون النظرة العقلية المصلحية على النصوص الشرعية على حد سواء ، وما ترتب على هذا من مفاسد ، لمن أهم أسباب تنشيط الهمة والجد والاجتهاد لفهم مسائل هذا العلم مهما كانت التضحية كبيرة.

ثانياً:- معلم مادة أصول الفقه.

        تنتظم الاقتراحات المتعلقة بالمعلم في هذا الموضوع في مقدمتين:

المقدمة الأولى:

        عُرّف أصول الفقه باعتباره لقباً بأنه (القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية) (1).

        وقد عُرّفت القاعدة بأنها (حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كقولنا: كل حكم دليل على القياس فهو ثابت)(2)

المقدمة الثانية:

        هذه القواعد إنما يتوصل إليها لتكون عند عملية الاستنباط (مقدمة كبرى في القياس الحملي أو ملازمة في القياس الاستثنائي ، بعد أن يقدم لها بمقدمة صغرى موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة ودليل تفصيلي يعرفه الفقيه بيسر وسهولة كالأمر بالصلاة في قوله تعالى: ( أقيمو الصلاة ) سورة البقرة:43 .

فيكون بذلك قياساً منطقياً هذه كيفيته:

        المقدمة الصغرى: الصلاة مأمور بها في قوله تعالى: ( أقيموا الصلاة ) وهذا دليل تفصيلي.

        المقدمة الكبرى: كل مأمور به واجب ( وهذه قاعدة أصولية أو دليل كلي إجمالي ).

النتيجة:

        الصلاة واجبة ( وهذه النتيجة حاصلة بإسقاط الحد الأوسط المكرر ).

فمن هاتين المقدمتين :

        ندرك أن أصول الفقه في الاصطلاح هو القواعد الكلية نحو ( كل أمر للوجوب ) التي يتوصل بها المجتهد إلى التعرف على الأحكام الشرعية الفرعية ( كوجوب الصلاة ) من الأدلة التفصيلية التي هي في هذا المثال قوله تعالى: ( أقيموا الصلاة ) ، وهكذا...(3)

الاقتراحات المترتبة على هاتين المقدمتين:

        1- قيام مدرسي أصول الفقه بتدريسه على أساس ما عرف به سابقاً ، أي على شكل قواعد (أحكام كلية... »بحيث تكون القاعدة شكلاً ومضموناً هي موضوع الدرس يتناولها المدرس بالشرح والتفصيل.

        2- قيامهم كذلك بتدريب الطلاب على كيفية الاستفادة منها عند التطبيق على الصفة المذكورة آنفاً ، مع ذكر الأمثلة الصحيحة الواقعة في مصنفات أهل العلم.

        ويطلق على هذا المنهج (تخريج الفروع على الأصول) يستعين المدرس بما ألف فيه ، ومن ذلك: أصول الشاشي، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ، مفتاح الوصول في بناء الفروع على الأصول للتلمساني ، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للاسنوي، القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ، وكلها كتب مطبوعة وفي متناول الجميع.

ولهذين الاقتراحين فوائد منها:

        1- سهولة حفظ القاعدة واستذكارها عند الحاجة إليها باعتبارها المقصود الأول من الدرس.

        2- يسر الاستفادة منها عند التطبيق كما هو مبين في ترتيب المقدمات بخلاف ما لو عرضت على شكل بحث مبسوط.

        وبهذا إن شاء الله يجد الطالب نفسه أمام سبيل لا غموض فيه ، ولا صعوبة للتوصل إلى حكم شرعي في مسألة معينة ، ولم يبق منه سوى بذل الجهد في تحديد الأدلة المتعلقة بمسألته.

ثالثاً:- المؤسسات التعليمية والعلمية.

        أرى أن المطلوب من هذه المؤسسات للمساهمة الجادة في حل هذه المشكلة جملة من الأمور:

        1- عقد ندوات وجلسات يدعى إليها المتخصصون في هذا العلم لتشخيص المشكلة، ومحاولة تقديم حلول عملية لها.

        2- المسارعة في تنفيذ ما توصل إليه أهل الاختصاص في هذا الشأن ونشره تعميماً للفائدة.

        3- تكليف الباحثين في الدراسات العليا ممن تتعلق رسائلهم بالأحكام بوضع فهرس للقواعد الأصولية المذكورة في بحوثهم حتى يتمكن غيرهم من التعرف على كيفية استفادتهم من تلك القواعد.

        4- على المؤسسات العلمية التي تقوم بإصدار الفتاوى والبحوث وضع فهرس للقواعد الأصولية المذكورة في مجلاتها الدورية للغرض السابق نفسه.

        غير أنه بعد قراءة هذه المقترحات يتبادر إلى الذهن سؤال مهم وهو: هل القواعد الأصولية كلها قد صيغت على شكل قواعد؟ وهل هذه الصياغة موحدة بين الأصوليين؟

        لا شك أن هاتين المسألتين في غاية من الأهمية بالنسبة لزماننا هذا على الأقل ، إذ قد لا تكون بهذه المثابة عند الأوائل لاعتبارات كثيرة ، فليس سهلاً أن يقوم أي طالب أو باحث بصياغة قاعدة من بعد إدراكه للدرس ، إذ يتطلب هذا العمل الدقيق إحاطة بجميع متعلقات القاعدة، وقد لا يتوفر هذا في غير أصحاب التخصص المتمرسين من أساتذة ومجتهدين.

.............................................................
الضرورات الست في الإسلام
وضعت الشريعة المطهرة الأسس التي تقام عليها أمة صالحة قائمة بأمر الله سبحانه وتعالى، وحيث أن هذه الأمة لا تقام إلا بالحفاظ على الضرورات الست: الدين، والنفس، والنسل، والعرض، والعقل والمال - فإن الشريعة قد جاءت بالحفاظ على هذه الضرورات على أكمل الوجوه،
..............................................................
تدرج علم الأصول عبر الأجيال والعصور
إذا علمنا أن علم أصول الفقه في أشمل تعريفاته

        هو: أدلة الأحكام الشرعية- أي مصادرها- وكيفية أخذ الأحكام منها.

        فإنا نرتب على ذلك أن هذه الأصول قد بدأ وجودها مع البعثة المحمدية، ومنذ بدأ القرآن يتنزل على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وتأصلت جذورها خلال الثلاثة والعشرين عاما التي هي فترة اكتمال الرسالة الإسلامية. ففي هذه الفترة تكوّن الأصل الأول والمصدر الرئيسي للفقه الإسلامي وهو القرآن الكريم، وفي ذات الفترة تكوّن أيضا الأصل الثاني للفقه وهو السنة النبوية.

        وقد أرسى هذان المصدران أسس وقواعد الفقه التي تبلورت فيما بعد في شكل علم منفصل قائم بذاته سمي علم أصول الفقه.

النظم السابقة للإسلام ليست رافداً من روافد الأصول:

        مما هو معلوم أن المجتمعات التي عاشت قبل الإسلام كان لها بعض أعراف وتقاليد ونظم تسير عليها. كانت بعض هذه المجتمعات مكوّنة في جزيرة العرب وبعضها خارج الجزيرة .

        ومهما بدا للناظر من عدالة بعض تلك النظم والأعراف فإن مما لا شك فيه أنها كانت ترتكز على ابتداعات البشر المعرضة للانحراف عن العدل فجاء كثير منها واضح الظلم والجور.

        فلنأخذ مثلا المجتمعات التي كانت مكونة في بعض مدن الحجاز- مكة والمدينة على وجه الخصوص- فمكة مبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمدينة منطلق دعوته.

        فقد كانت المجتمعات التي تعيش في هاتين المدينتين لا تنتظمها الدولة حقيقية مع أنها أكثر المدن تحضرا. فكان يسودها- كما هو معلوم- نظام القبيلة الذي يكون فيه الشيخ هو المصّرف لجميع الأمور. وهو المرجع لأفراد القبيلة في خصوماتها ومنازعاتها، وإن كان يشاركه في بعض الأوقات بعض الرجال من ذوي الرأي من العشائر والبيوت.

        فقد نجد بعض الأفراد يلجأون إلى بعض ذوي الرأي لفض بعض الخصومات أو لتلقي المشورة، لكن شيخ القبيلة يظل المرجع الأهم والأعلى في هذا المضمار.

        ويستند شيخ القبيلة وذوي الرأي ممن يطلب منهم إصدار الأحكام على الأسس التالية:-

        أولا: العرف والتقاليد الجارية في القبيلة.

        ثانيا: العقل المجرد وما يستحسنه الحاكم.

        فهم لا يستندون إلى أصول مدونة ولا يرجعون إلى قوانين مكتوبة. وبديهي أن أحكاما كهذه معرضة للأخطاء والحيف.

        فالعرف يمكن أن يكون عرفا فاسداً فبناء الأحكام عليه يقود إلى الاستمرار في الفساد والخطأ. فالعرف كما هو معلوم ينتج عن الممارسات البشرية التي ربما يبتدعها مزاج فاسد.

        والعقل المجرد واستحسان الحاكم يتأثر بالطبع بميول الحاكم وظروفه وقوًته وضعفه، وقوة وضعف الخصوم ومكانتهم عنده.

        ومن هنا ندرك أن هذه الأسس التي كانوا يستندون عليها كانت أسساً واهية، خاصة وأنهالم تكن مدَونة ولا خاضعة لمنهج.

        وبالتالي لم تكن لتلك الأحكام التي تقوم على تلك الأسس الضعيفة احترام أو التزام من جانب كثير من الأفراد, فهم يقبلونها متى ما أرادوا, لا توجد قوة معنوية أو حسية تلزمهم بالامتثال.

        ومهما قيل من أن بعض مدن الحجاز كانت قبل الإسلام قد وصلت إلى قدر من التطور في نظام الحكم فإن ذلك لا يرقى إلى أن يقال إن الأحكام التي كانت تُتّبع كانت قد ارتقت إلى درجة اعتبارها مستقاة من مصادر عامة وثابتة، أو أن تلك الأحكام كانت لها أسس وقواعد ترتكز عليها في استنانها.

        أما النظم والأحكام التي كان يطبقها اليهود الذين نزحوا وأقاموا بالمدينة قبل الإسلام فإنها لم تكن معتمدة على التوراة المنزل على موسى عليه السلام بل كانت من نتاج أفكار أحبارهم بما يتفق مع مطامعهم وأغراضهم. وكما هو معلوم فإن تحريفهم وتبديلهم للدين اليهودي، أصوله وفروعه، كان واضحاً قبيل الإسلام فقد مسخوا الأحكام التي نزلت على موسى مسخا ومنذ زمان بعيد.

موقف الإسلام من هذه النظم:

        هذه النظم المذكورة آنفا والتي وجدها الإسلام في مكة والمدينة أبطلها الإسلام ليحل محلها ما جاء به القرآن ووردت به السنة من مبادئ وأسس وأصول وفروع, وأصبحت الحياة الاجتماعية كلها خاضعة لهذه المبادئ الإسلامية الجديدة.

        وما ظهر من أن الإسلام أبقى بعض الأحكام التي كانت مطبقة في الجاهلية أو كان يمارسها اليهود فإن ذلك الإبقاء كان لما أتفق مع مبادئ الإسلام وليس أخذاً من مصدر آخر سابق للقرآن والسنة، وما اتفق مع ما كان لدى اليهود ليس أخذا من مصادرهم ولكن اعتمادا على الوحي الذي يتنزل بالصحيح من المبادئ والأحكام التي نزلت على الرسل السابقين ولا عبرة بما لم يتنزل به القرآن فالذي صح من الديانات السماوية السابقة هو ما تنزل به القرآن وبينته السنة(1)
نعم إن اللّه تعالى شرع لنا من الدين ما شرعه على النبيين السابقين {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى الآية: 13).

        ولكن ما شرع للأنبياء السابقين لا يكون شرعا لنا إلاّ إذا جاء به القرآن أو وردت به السنة.

        والقسامة [ وهي أن يوجد قتيل ولا يُدرى من قتله فيدعى ولاة الدم على شخص ما فيحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا ] التي كان معمولا بها في الجاهلية فعمل بها جمهور الفقهاء في الإسلام استنادا على حديث متفق عليه مختلف في ألفاظه ولم يعمل به آخرون من العلماء لمخالفتها لمبادئ الشرع الأخرى مثل أن يكون المُقْسم مقسما على ما علم قطعا.

        هذه القسامة حتما قول من أخذ بها من الفقهاء في الإسلام فليس معنى ذلك أننا استقينا الحكم من أصل جاهلي ولكن استقيناه من أصل السنة النبوية لأن في العمل بها الاحتياط للدماء، لأن القاتل يحاول دائما أن يرتكب جرمه بعيدا عن أعين الناس, فكان فيها استثناء من قواعد الشرع لحفظ النفوس الذي هو من مقاصد الشريعة وأهدافها.

        أما استخدام العقل لاستخراج الأحكام الشرعية عن طريق القياس في الشريعة فلا يشبه استخدام العقل الذي عمل به في الجاهلية لنفس الغرض. ففي الجاهلية استخدم العقل من غير ضوابط غير استحسان شيخ القبيلة أو من يوكل إليه أمر الفصل في نزاع. أما في الإسلام فالعقل البشري مقيّد ومضبوط بضوابط الشرع وحدود المصلحة الإسلامية.

        والعرف الذي عمل به الجاهليون فقد ألغاه الإسلام إلاّ ما اتفق مع مبادئه- وبذلك نصل إلى أن ما سبق الإسلام من نظم لم يكن رافدا من روافد أصول الفقه في الإسلام. والذي دفعنا إلى الحديث في هذا الأمر ما يثيره بعض المغرضين من أن التشريع الإسلامي أخذ من بعض النظم السابقة له.

        وكذلك دفعنا للتعرض لهذا الموضوع ما أثاره الأصوليون أنفسهم من نقاش حول ما إذا كان شرع من قبلنا هو شرع لنا.

إرساء القرآن لأسس الفقه:

        لقد أرسى القرآن الكريم أسس الفقه في الفترتين ما قبل الهجرة وما بعدها. ومع ما يلاحظ من أن فترة ما قبل الهجرة كان القرآن يركز فيها على تأكيد العقيدة وتمكينها بالدعوة إلى الإيمان بالله وحده واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيِّين، والابتعاد عن الإشراك بالله، والتذكير بنعيم الآخرة وعذابها، والدعوة إلى مكارم الأخلاق والابتعاد عن مساوئها.

        مع التركيز على أصول الدين والعقيدة فإن الآيات المكية قد اشتملت على بعض آيات الأحكام الشرعية العملية مثل آيات تشريع الصلاة والزكاة إجمالا.

        أما السور والآيات المدنية والتي ركزت على إرساء التشريع والأحكام الفقهية العملية، فإننا نجدها تشتمل على الكثير من الآيات التي تثبت العقيدة وأركانها وتنفر من الكفر ومغباته وعواقبه، وتحكى القصص للاعتبار, فهي لم تقتصر على آيات الأحكام بل فاضت بآيات العقيدة وأصول الدين .

        فالقرآن الكريم وحدة متكاملة وكتاب منزل على نسق واحد وأسلوب واحد ولأجل هدف واحد. فكون للآيات المكيةّ خصائص وللآيات المدنية خصائص لا يعني أن القرآن منقسم إلى قسمين لكل دوره المستقل الذي يؤديه كما يروج لذلك الدائبون على حرب الإسلام ومحاولة هدمه.

        فكل ما في الأمر أن سُنّة التدرج وتقديم الأهم في ظرف ما اقتضت تكثيف آيات العقيدة في مكة وتكثيف آيات التشريع في المدينة. ولو لم يهاجر الرسول صلى اللّه عليه وسلم وأقام بمكة جميع حياته لنزل القرآن الكريم كما هو واكتمل الدين كما اكتمل ولتمت النعمة كما أتمها الله.

        ولعلنا استرسلنا في هذه المسألة لنتمكن من الحديث عن أن القرآن الكريم هو الأصل الأول من أصول الفقه.

        وبذلك فهو مبدأ هذا العلم وأساسه ومنشؤه. وما درج عليه الأصوليون من أن علم الأصول بدأ بعد بداية علم الفقه، وأن علم الفقه نفسه بدأ عقب وفاة الرسول صلى اللّه عليه وسلم فإن المقصود به بداية تنظيم العلم وكتابته وتسميته بهذا الاسم الاصطلاحي, وهذا لا خلاف عليه.

        وأما الذي قصدناه هنا فهو أن حقيقة الأصول ونشوءها وإرساء قواعدها بدأ تكوينها منذ بدء الرسالة واكتملت مع اكتمال القرآن والسنة، ثم جاء فصلها في علم خاص لاحقا، ولم يسبق تكوين الأصول أو يتأخر مبدؤه عن بدء البعثة المحمدية.

وفيما يلي:-

        سوف نعطي نبذة عن علم الأصول في مراحله المختلفة ابتداء من عهد الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

        وستكون هذه النبذة مائلة إلى الإجمال، ثم نتعرض بعد ذلك للأصول التي سيرد ذكرها في هذا العرض بشيء من التفصيل والمقارنة، موضحين أوجه الاتفاق والاختلاف بين المراحل المختلفة وبين المدارس الفقهية المتعددة.

أصول الفقه في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:

        مما لا يختلف عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حياته المرجع للأحكام الشرعية- فعنه صل الله عليه وسلم تصدر الأحكام التي يوحيها له الله تعالى قرآنا كريما متلواً مرتلا أو يلهمه إياها تعالى فتأتي سنة نبوية شريفة.

        فمصدر التشريع كان الوحي الإلهي الذي يأتي على لسان رسول اللّه صل الله عليه وسلم.

        وبينما كان الرسول صل الله عليه وسلم يصدر الأحكام من خلال القرآن والسنة كان يرسي من خلال هذين المصدرين الرئيسيين أصول الفقه الأخرى وقواعد الاجتهاد والبحث عن الحكم الشرعي. فأصول الفقه وقواعده التي تزخر بها كتب الأصول تستمدد شرعيتها وصلاحيتها من القرآن والسنة وتسترشد بها إلى غايات وأهداف الشريعة. فهي لا تتعارض مع هذين الأصلين الرئيسيين و إلاّ أسقطت من الحساب واعتبرت من الانحرافات التي لا يجوز الأخذ بها.

        وعندما نقول أصول الفقه غير القرآن والسنة فإننا نقصد الإجماع والقياس وما يلحق به من أصول تستند على العقل والشرع.

        ومما لا شك فيه أنه لا فصل بين نصوص القرآن والسنة وبين استخدام العقل البشري في استخراج الأحكام. فنصوص القرآن والسنة تتطلب استخدام العقل والنظر في تخصيص العام وتقييد المطلق وترجيح النصوص والنسخ الخ. والاجتهاد العقلي خارج دائرة النصوص ليس اجتهادا عقليا مطلقاً بل يقوم على تأييد النصوص له في المبدأ والمسار.

        ويجدر أن نشير هنا إلى الدليل المستقى من الكتاب والسنة على إقرار مبدأ العمل بالأصول الأخرى غير القرآن والسنة من إجماع واجتهاد عقلي، ثم نترك تفصيل ذلك الاستدلال ومناقشته إلى مكانه من الحديث عن هذه الأصول.

إرساء أصل الإجماع في عهد النبوة:

        هذا المصطلح يعني عند الأصوليين اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم في عصر من العصور على حكم واقعة من الوقائع(2).

        ولقد قرر العلماء بأن الإجماع بهذا المعنى قد تقررت حجيته في عهد رسول اللّه صل الله عليه وسلم في الكتاب والسنة. وجاء عمل الصحابة موافقا لهذا التقرير كما اعتقد التابعون حجية الإجماع بناء على نصوص من القرآن والسنة(3).

        ومما أورده العلماء من الكتاب الكريم كدليل على حجية الإجماع قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء الآية:115) .

        فقد استدلوا بهذه الآية على أن إجماع المسلمين المتمثل في إجماع مجتهديهم حجة يجب اتباعه وتحرم مخالفته كما تحرم مشاققة الرسول صلى اللّه عليه وسلم.

        ومما أورده العلماء من السنة النبوية كدليل على حجية الإجماع قوله صلى اللّه عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة" (4)

        وقوله: "من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" (5) .

        فقد استدل العلماء بهذين الحديثين أيضا على أن إجماع أئمة المسلمين حجة يجب اتباعه واستقاء الأحكام منه.

        وكما أشرنا فقد فهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدليل وعملوا بمقتضاه، وكذلك فعل التابعون, فكان موقفهم دليلا آخر على حجية الإجماع يضاف إلى هذه النصوص.

        ومن هنا نستطيع القول أن الإجماع قد تقررت حجيته كَأصل من أصول الفقه في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
=================
(1) إرشاد الفحول للشوكاني، ص210.
(2) الأحكام للآمدي، ج1 ص180.
(3) المعتمد لأبي الحسين البصري، ج2 ص 472 .
(4) كشف الخفاء للعجلوني، ج1 ص67 .
(5) صحيح ابن خزيمة، ج3 ص195.
*المصدر : مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، العدد:52 ، دراسات في أصول الفقه ، للدكتور علي أحمد محمد باكر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: رد: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 8:01 am

الحكم الشرعى

تعريف الحكم الشرعي
تعريف الحكم لغة:

        الحكم في اللغة يعني إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه، ويعني أيضاً القضاء والإلزام والمنع قال جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا

        ويقال أحكمت فلاناً أي منعته، وبه سمى الحاكم حاكماً لأنه يمنع الظالم، وحكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يده وحكمة اللجام ما أحاط بحنكي الدابة. (لسان العرب. مادة حكم (12/144))

تعريف الحكم اصطلاحاً:

أ- اصطلاح الأصوليين:

        يعرف علماء أصول الفقه الحكم الشرعي بأنه (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلباً أو تخييراً أو وضعاً)، فيعنون بخطاب الله كل ما يدخل تحت الدليل الشرعي كالقرآن، والسنة، والإجماع، والقياس لأن كل ذلك إما أن يكون خطاب الله مباشرة كالقرآن وإما أن يعود إلى القرآن والسنة، فالسنة شارحة للقرآن عائدة إليه والإجماع بتوفيق الله للأمة لأن الأمة لا تجتمع بتوفيق الله على ضلالة، وأما القياس والاجتهاد فهو ما يظن أيضاً أنه حكم الله وخطابه إلى المكلفين، والمهم أن التعريف الأصولي يعني (بخطاب الله) كل ذلك.

        وقولهم (المتعلق بأفعال المكلفين) خرج بذلك خطاب الله الذي لا يتعلق بأفعال المكلفين، كأسماء الله وصفاته والغيب والآخرة.

        وأما قولهم (طلباً) أي ما طلب منهم فعله أو الكف عنه، وما طلب الله فعله ينقسم إلى واجب ومستحب، وما طلب الكف عنه ينقسم إلى قسمين أيضاً، حرام ومكروه.

        وقولهم (أو تخييراً) يعنون به قسماً واحداً وهو المباح.

        وقولهـم (أو وضعاً) يعنون به ما جعله الله شرطاً لحكم ما، أو مانعاً منه، أو سبباً، وهكذا ينقسم الحكم الشرعي في
اصطلاح الأصوليين إلى قسمين من حيث الجملة:

(1) الحكم الشرعي التكليفي.

(2) الحكم الشرعي الوضعي

الحكم الشرعي... (في : اصطلاح الفقهاء ، واصطلاح الأصوليين)
الفقهاء وعلماء الفروع يعنون بالحكم الشرعي في لغتهم الأثر الذي يترتب على الدليل كالوجوب والحرمة والإباحة، وأما علماء الأصول فيعنون دليل الحكم الذي هو الآية أو الحديث أو نص الإجماع وهكذا.

        فمثلاً قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} (البقرة:43) هذا هو الحكم نفسه عند الأصوليين، وأما عند الفقهاء فيعنون ما يترتب على هذا النص وهو وجوب الصلاة
...........................................

أقسام الحكم الشرعي التكليفي
ينقسم الحكم الشرعي التكليفي إلى خمسة أقسام هي: (الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم) وهي -كما ترى- طرفان وواسطة.

        فالطرف الأول: هو المطلوب من المكلف الإتيان به، وهو الواجب والمندوب فالواجب ما طلب منا فعله على وجه الإلزام، والمستحب ما طلب منا فعله على وجه الندب والاستحباب.

        أما الطرف الثاني: فهو المطلوب منا تركه والكف عنه وهو الحرام والمكروه، فالحرام مطلوب منا الكف عنه إلزاماً، والمكروه ما طلب منا الكف عنه تنزيهاً فقط دون الإلزام.

        وأما الواسطة: فهو المباح الذي لا إلزام فيه بالفعل أو الترك فهو مخير فيه
أولا : الواجب
الواجب في اللغة: هو الحتم اللازم يقال وجبت الشمس إذا سقط قرصها وغاب، وقال تعالى: {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} (الحج:36)

        أي سقطت على الأرض بعد النحر، والمعروف أن الإبل تنحر واقفة معقلة بإحدى الرجلين الأماميتين.

        والواجب في اصطلاح علماء الأصول هو: ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه.. كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وإخراج الزكاة المفروضة، والحج مرة في العمر، وبر الوالدين، وقول الصدق ونحو هذا.

        والخلاصة أن الواجب هو ما أمرنا به أمراً لازماً ولا فرق في اصطلاح جمهور علماء الأصول بين الواجب والفرض، ولكن علماء الحنفية في مصطلحاتهم فرقوا بين الفرض والواجب، فقالوا: الفرض ما ثبت بدليل قطعي (كالقرآن والسنة المتواترة) والواجب ما ثبت بدليل ظني كسنة الآحاد (وسيأتي شرح معنى الدليل الظني في مبحث القرآن والسنة إن شاء الله تعالى)

مباحث في الواجب

1- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:

        هذه إحدى القواعـد الأصولية الثابتة بالحقيقة العقلية ومعناها أن كل ما يوصل إلى الواجب فهو واجب ما دام أنه في قـدرة المكلف واستطاعته، مثال ذلك قراءة الفاتحة في الصلاة فهي واجبـة لقوله صل الله عليه وسلم: [لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب] (رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الصامت) ومعلوم أن هذا يحتاج إلى حفظ فيكون الحفظ واجباً، وهذا الحفظ قـد يكون بترديد السورة حتى تحفظ أو كتابتها أو سماعها مرات، وكل ذلك ما دام أنه لا يتم الواجب (وهو قراءة الفاتحة) إلا به فهو واجب.

        وهكذا القول في السعي إلى الصلاة المكتوبة، وتعلم أساليب العدو في القتال، وذلك لدفع عدوانه، وتعلم مباديء الكفر للرد عليها. فكل هذه ليست واجبة بالنص، وإنما تجب بأعمال هذه القاعدة وهي: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

        ومعلوم أن الدفاع عن أموال المسلمين وأعراضهم واجب ولا يتم هذا الواجب إلا بمعرفة خطط أعداء المسلمين، وكذلك الدفاع عن عقيدة المسلمين واجب ولا يتم ذلك إلا بدراسة شبهات الكفار، وعقائدهم الباطلة حتى نتعلم كيفية الرد عليها، وكيفية دعوتهم إلى الإسـلام، فالدفاع عن عقيدة الإسلام واجب بالنص كما قـال تعالى: {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً* فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً} (الفرقان:51-52)

        أي بالقرآن، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على النصارى واليهود والمشركين من واقع عقيدتهم وعلم صل الله عليه وسلم أفكارهم ومعتقداتهم وجادلهم فيها، وكل ذلك من باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) ما دام أنه في استطاعة المسلم فعل ذلك.

2- ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب:

        ولكن القاعدة السابقة أيضاً ليست على إطلاقها، حيث توجد أمور لا يتم الواجب إلا بها، وهي في طوق المكلف في العادة ولكن الشريعة الحكيمة لم توجبها، ومن ذلك إيجاب السعي على الفقير لتحصيل نصاب للزكاة حتى يخرج الزكاة الواجبة، وكذلك حتى يجمع مالاً يمكنه من الحج الواجب، وهذا لم توجبه الشريعة ولذلك فلا يجب، وذلك أن هذا كان في طوق المكلفين وقت نزول التشريع، ولم يوجبه الله عليهم، ويعرف علماء الأصول هذا الاستثناء بقولهم: (ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب) فوجوب الزكـاة يشترط له النصاب، ووجوب الحج يشترط له الاستطاعة ولا يجب على المكلف السعي لتحصيل النصاب، وبلوغ الحج.

3- ما لا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب:

        هذه القاعدة تعني أنه إذا تعذر علينا أن نترك الحرام إلا بترك أمر ما فإن هذا الترك يكون واجباً، ومثاله: ما إذا اختلط الحرام بالحلال بصورة يستحيل تمييزها كمن اختلط عليه لحم مذكى بآخر ميتة، أو من اختلط عليه من يحل له الـزواج بها بأخته من الرضاع فعند ذلك يجب ترك الجميع لأنه لا يستطيع توقي الحرام إلا بفعل ذلك (الترك) فيكون الترك واجباً .

تقسيمات الواجب

1- الواجب العيني والواجب الكفائي:

ينقسم الواجب بحسب من يقوم به إلى قسمين:

        (أ) واجب عيني: وهو ما يجب ويلزم كل فرد من المكلفين كالصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت مرة في العمر... الخ، وهذه الواجبات ينظر فيها الشارع الحكيم إلى عين المكلف تهذيباً لنفسه، وعبادة لربه.

        (ب) واجب كفائي: وهو ما ينظر فيه الشـارع إلى نفس الفعل بصرف النظر عمن يقوم به ذلك كالإمامة الكبرى، وإمامة الصلاة، والدفاع عن المسلمين، وسد حاجة المحتاجين، ودفن الميت، وبناء المساجد، وصناعة السلاح، واكتفاء المسلمين في معاشهم عن الكفار...

        وغير ذلك مما يحتـاج إليه مجتمع المسلمين ليكون مجتمعاً كاملاً متكاملاً آمنا عزيزاً قوياً مؤدياً لحقوق الله، وكل هذه الواجبات تجب على مجموع الأمة فإن قام بها بعض منهم سقط الواجب على جميع الأمة لقوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} (النساء:58)

        وهذا خطاب للأمة كلها فإن قامت به، وعينت الإمام العادل الكفء سقط الإثم عنها، وحصلت المثوبة لها، وإن لم يقم به أحد كان الجميع آثمون.

        وهكذا رد الغاصب المحتل والدفاع عن حوزة الدين من المارقين والكافرين، ونشر راية الإسلام في العالمين، كل ذلك واجب على مجموع الأمة فإذا قام بعضهم بذلك بالغاً مبلغ الكفاية سقط الإثم عن الجميع، وإن قصر الجميع فيه ولم يقم أحد به، كان الجميع آثمين، ولذلك قلنا إن الشرع ينظر إلى نفس الفعل لا عين الفاعل، وسميت هذه الواجبات واجبات كفائية لأن الأمة إذا قام بعضها بهذا الواجب فقد كفى البقية.

2- الواجب المضيق والواجب الموسع:

ينقسم الواجب بحسب وقت أدائه إلى قسمين أيضاً:

        (أ) واجب مضيق: وهو ما كان وقته المحدد له شرعاً لا يسع إلا فعله فقط كصوم رمضان، فإنه لا مجال فيه لتأخيره وهو شهر محدد يجب صومه كله على من شهده سليماً حاضراً في بلده، ولا يجوز تأخير صومه إلى شهور أخرى.

        (ب) واجب موسع: وأما الواجب الموسع فهو ما يمكن أن يؤدي فيه هذا الواجب في وقته المحـدد له شرعاً ويبقى فائض آخر من الوقت، وذلك كالصلاة فإن لكل صلاة وقتاً طويلاً يسع الصلاة، ويبقى فائض من الوقت.

        وقد لجأ علماء الأصول إلى هذا التقسيم بناء على تصورهم أن الواجبات التي تجب على المسلم هي حقوق في ذمته لله، وأنه لو أوقعها في أي وقت من حياته فإنها تقع صحيحة، ولكنه يأثم بالتأخير فقط، ولذلك سموا فعل الصلاة في وقتها المحدد شرعاً (أداء).. وأما إيقاعها وفعلها في غير وقتها المحدد شرعاً فإنهم اصطلحوا على تسميتها (قضاء)، وأن المكلف إذا فعل الصلاة في وقتها المحدد شرعاً فهي أداء يؤجر عليه، ويسقط عنه الإثم في تركها، وأما إذا فعلها في غير وقتها المحدد شـرعاً كأن صلى الظهر مثلاً ليلاً، وصلى العشاء صبحاً، والفجر ضحىً أو عصراً فإنه يكون (قضاء) ويعنون بذلك أن الفاعل يثاب على فعلها، ولكنه يعاقب على تأخيرها، وهي صحيحة عندهم، وهذا السبب في تقسيم علماء الأصول للواجب إلى موسع ومضيق.

والصحيح أن هذا الذي ذهبوا إليه خطأ من وجوه كثيرة أهمها ما يلي:

أ- اصطلاح (القضاء والأداء) خطأ:

        أن الاصطلاح على تسمية فعل العبادة في غير وقتها المحدد شرعاً (قضاء) يخالف نصوص القرآن التي نصت على أن إيقاع العبادة في وقتها المحدد شرعاً (قضاء)، كما قال تعالى عن صلاة الجمعة التي تصلى في وقتها: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة:10)

        وفي الحج الذي يؤدى في وقته: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً} (البقرة:20)

        فسمى الله فعل الصلاة في وقتها المحدد شرعاً، وكذلك الحج في وقته المحدد شرعاً قضـاء ولم يسمه أداء والواجب علينا مراعاة المدلول الشرعي للكلمة وعـدم وضع مصطلحات تخالف المدلول الشرعي.

        ب- القول بأن الواجبات المحددة بمواقيت معينة هي واجبات في الذمة وأن المكلف يأثم فقط بالتأخير وأنها تقبل منه في أي وقت أداها من عمره.

        هذا القول كذلك فيه تهوين من شأن العبادة، واستهانة بالتوقيت الشرعي في الصلاة وغيرها من العبادات المؤقتة.. يقول تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (النساء:103)

        و{موقوتا} هنا صفة للمكتوب وهو الصلاة، والصفة ملازمة للموصوف لا تنفك عنه، لذلك جاءت الأحاديث التي تبين هدم العمل السابق لتارك صلاة واحدة متعمداً كقوله صل الله عليه وسلم: [من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله] (البخاري (553) من حديث بريدة)

        ومثل هذا الذي يحبط عمله بترك صلاة العصر لا يمكن أن يكون قد ارتكب مجرد ذنب التأخير بل قـد ارتكب إثماً عظيماً هدم عمله السابق الصالح كله حسب نص الحديث، ولذلك فالقول بأن مؤخر الصلاة عن وقتها المحدد لها شرعاً تصح منه الصلاة في أي وقت ويأثم فقط بالتأخير قـول خاطيء مبني على قاعدة فاسدة من قواعد أصول الفقه، ومما يدلك أيضاً على فسـاد هذه القاعدة قول النبي صل الله عليه وسلم: [ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تشرق الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر] (رواه البخاري (579)، ومسلم (608) من حديث أبي هريرة)

        وذلك دليل واضح على أن المكلف يستحيل أن يدرك الصلاة إذا تركها حتى يذهب وقتها المحدد لها شرعاً.

        هذا بالطبع في المتعمد بخلاف الناسي والنائم فهما معذوران -كما مر بنا- في بحث المكلف أن الناسي والنائم غير مكلفين وقت النوم والنسيان، ولذلك قال صل الله عليه وسلم: [من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك]

        ولذلك قلنا أن بعض ما ينبني على هذه القاعدة وهي تقسيم الواجب إلى موسع ومضيق باطل.

3- الواجب المعين والواجب المبهم:

        يقسم علماء الأصول أيضاً الواجب إلى قسمين بحسب تعيينه والتخيير فيه إلى قسمين:

(أ) واجب معين لا يقوم غيره مكانه وذلك كالصلاة والصوم.

(ب) واجب مخير فيه، كحال كفـارة اليمين، فإن الحانث مخير بين أمور ثلاثة هي: عتق رقبة، أو إطعـام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن لم يستطع شيئاً من هذه الثلاثة صام ثلاثة أيام كما قال تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم، واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون} (المائدة:89)

الحكمة في الإيجاب الشرعي:

يظهر لنا من دراسة الواجب أن المقاصد الشرعية فيه هي:

        التعبد لله سبحانه وتعالى بتقديسه وامتثال أوامـره لذلك خلقنا، ثم لإصلاح نفس العابد، ولا يتأتى هذا الإصلاح إلا بإلزامه بما يصلحه ويوجهه.

        ثم إصلاح الأمة وذلك بالواجبات الكفائية التي ألزم الله بها الأمة إقامة لمجتمعها وصيانة لها، وحفاظاً لعزتها وكرامتها، وقد فصلنا ذلك في باب المقاصد العامة للشريعة الإسلامية والمقصود هنا التنبيه والتذكير
ثانيا : المندوب
المندوب لغة:

هو الأمر الذي يطلب من فاعله دون إلزام له وإيجاب عليه قال الشاعر:

لا يسألون أخاهم حين يندبهم لنائبات على ما قال برهاناً

أي حين يحثهم على القتال معه، ونصرته، وأخذ حقه.

        ويعرف المندوب شرعاً: بأنه (ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه) أو (المأمور به أمراً غير لازم). ويسمى المندوب بأسماء كثيرة منها:

* المستحب: أي ما حببنا الله فيه دون إلزام.

* والنفل: وهو بمعنى الزيادة لأن المندوب زيادة في الخير على الواجب.

* وكذلك يسمى السنة: ووجهه أنه ما سنه رسول الله صل الله عليه وسلم زائداً على الفرض، وذلك لأن أكثر المندوبات جاءت بالحديث ولا ينافي هذا أن يكون كثيراً من المندوبات قد ثبت بالقرآن أيضاً، ويسمى التطوع وهو مأخوذ من قوله تعالى: {فمن تطوع خيراً فهو خير له} (البقرة:184) أي زاد عن المفروض طواعية من عنده.

أبواب المندوب واسعة جداً:

        أبواب المندوب واسعة جداً بحيث لا يستطيع فرد مهما أوتي من قوة التحمل ووافر الهمة عزيمة النفس أن يحيط بها جميعاً أو يحصيها كلها.. ففي باب الصلاة -مثلاً- شرعت صلاة الليل بداءً من ثلث الليل إلى ثلثيه، وهذه عبادة لا يقوى عليها إلا الأفذاذ من أهل الهمة والعزيمة، وكانت واجباً في حق النبي صل الله عليه وسلم لقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء:79)

        ولكنها مستحبة في حق الأمة لقوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه، وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واقرضوا الله قرضاً حسناً وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً وأعظم أجراً واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (المزمل:20)

        وهذه الآية ناسخة لوجوب قيام الليل على المسلمين الذي كان فرضاً عليهم في أول الإسلام والثابت بقوله تعالى: {يا أيها المزمل* قم الليل إلا قليلاً} (المزمل:1-2)

        ويأتي بعد قيام الليل الرواتب في الصلوات وهي اثنتا عشرة ركعة: ركعتا الفجر، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان قبل العصر، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، ويأتي بعد ذلك النفل المطلق غير هذا وهذا، ويقول الرسول صل الله عليه وسلم: [الصلاة خير موضوع] (رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3870))

        ونفل الصيام حد النبي صل الله عليه وسلم أقصاه بأنه صيام يوم وإفطار يوم، ونفل الصدقة والزكاة وهو إخراج كل ما فاض عن الحاجة الضرورية للإنسان وقد ندبنا إلى الحج والعمرة ولو كان ذلك كل عام، وتأتي نوافل الخير المطلق، من صلة الأرحام، وبر الوالدين، والسعي في حاجات الناس، والذكر والدعاء، ونشر العلم، وقراءة القرآن والدعوة إلى الله... الخ.

        وهكذا نجد أن أبواب المندوب أبواب واسعة لا يستطيع المسلم مهما أوتي من الجلد والقوة أن يحيط بها جميعاً وأن يغطي كل أبوابها، ولذلك شرع لنا أن نأخذ منها ما نستطيع، وأن لا نغالي فيها حتى لا تنقطع النفس، وتفتر العزيمة.

حكمة المندوب:

وقد شرع المندوب لحكم عظيمة منها:

(1) جبر النقص الحاصل في الواجبات، وذلك أن الإنسان مهما أوتي من الحرص والحذق لا بد وأن يحصل له بعض التقصير في الواجبات لذلك شرعت النوافل تتميماً وتكميلاً لنقص الفرائض والواجبات.

(2) فتح المجال لصلاح النفوس، وإشباع نهمتها من العبادة والتقرب، وفي هذا إفساح المجال للطاقة، وبناء الشخصية الإسلامية، والترقي بالإنسان في مجال الكمال الإنساني، وكل ذلك من أهداف الشريعة الإسلامية.

(3) فتح المجال لإصلاح المجتمعات بدفع الناس إلى البر والإحسان وتحسس حاجات الفقراء والمساكين، والسعي في مصالح الناس، وإصلاح المجتمع والإرتقاء بالأمة وهذا الأمر مقصد شرعي.

(4) بناء حصون مضاعفة بين المؤمن والفساد فمعلوم أن كل نفل من النوافل هو بمثابة بعد جديد وستار بين المسلم والمعصية فصيام يوم إنما هو بناء سور جديد بين الصائم والمعصية، وصلاة ركعتين ذكرى جديدة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت:45) ودينار صدقة إنما هو رقـة جديدة للقلب وتذكير بالآخرة وبالتالي حاجز جديد بين المؤمن والوقوع في المعاصي.

(5) بالنوافل يتفاضل المؤمنون في الإيمان والصلاح والتقوى فعلى قدر العمل الصالح والتقوى يكون القرب من الله والفوز بمحبته ورضوانه كما قال تعالى في الحديث القدسي: [ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به... الحديث] (رواه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة)
والجنة مائة درجة وتفاضل أهل الجنة إنما يكون بحسب تقواهم وعملهم الصالح فليس ثواب من أدى الواجبات واكتفى كمن تدرج في مدارج الكمال، وكان له باع طويل في النوافل والمستحبات، وأهل الجنـة يتفاضلون تفاضلاً عظيماً بذلك، بل تفاضل أهل الجنة فيها أعظم من تفاضل أهل الدنيا فيها كما قال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً* ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً* كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً* انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} (الإسراء:18-21)

        ولذلك قال صل الله عليه وسلم: [إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفـق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم...] (رواه البخاري (3256) من حديث أبي سعيد)
ومما فضل به أبو بكر الصديق رضي الله عنه كثرة نوافله وتطوعه في الخير ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أصبح منكم اليوم صائماً؟] قال أبو بكر: أنا، قال: [فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً؟] قال أبو بكر: أنا، فقال: [فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟] قال أبو بكر: أنا. فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: [ما اجتمعن في امريءٍ إلا دخل الجنة] (رواه مسلم (1028) من حديث أبي هريرة)

        وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من الجنة: يا عبدالله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة]، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على أحد دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال رسول الله صل الله عليه وسلم: [نعم وأرجو أن تكون منهم] (رواه البخاري (1867) من حديث أبي هريرة)

        وباختصار فالمندوب أبواب كثيرة من الخير ولذلك قال صل الله عليه وسلم: [الإيمان بضع وستون شعبة: أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق] (أخرجه البخاري (9) ومسلم (35) من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم)

        وقد شرع المندوب لما ذكرناه من الحكم العظيمة
ثالثا : المباح
المباح لغة:

هو ما ليس دونه مانع يمنعه قال عبيدالله بن الأبرص مفاخراً:

        وقد أبحنا ما حميت ولا مبيح لما حمينا

        أي أن نهبنا وأخذنا ما تحمونه حدث دون مقاومة منكم ومعارضة لنا، ولا يستطيع أحد أن يبيح ويستبيح ما نمنعه ونحميه.

المباح اصطلاحاً:

        هو ما أذن الله لنا في فعله وتركه بغير مؤاخذة ولا مدح بين الفعل والترك.

الطريق إلى معرفة المباح:

يعرف المباح في الشرع بطريقتين:

1- الإباحة العقلية، أو البراءة الأصلية:

        والمقصود بذلك ما لم ينزل فيه نص من الله سبحانه وتعالى يحرمه أو ينهى عنه فالأصل في الأشياء والأعمال الإباحة ما لم يأتنا دليل شرعي ينقلنا عن هذه الإباحة ودليل هذه الإباحة العقلية أن الله خلق الإنسان في هذه الأرض ليعمرها ولم يكلفه سبحانه إلا بما يأمره به على ألسنة رسله، فما لم يأتنا به الشرع فالأصل فيه الإباحة لأن مجرد خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض هو بمثابة الإذن له بالسعي والكد، وسلوك سبيل الحياة المناسب كما قال تعالى على لسان صالح عليه السلام: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود:61)

        ومعنى {استعمركم} أي خلقكم لتعمروها ولا تكون عمارتها إلا بالسعي والكدح واستكشاف المجهول والتعلم عن طريق التجربة والخطأ...

        وكذلك قال تعالى: {ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهـرة وباطنة} (لقمان:20)، وهذا التسخير يعني إباحة ما في السموات والأرض لمنفعة الإنسان وحياته ومعاشه.

        وهذه الإباحة العقلية تسمى أيضاً في علم الأصول (استصحاب العدم الأصلي) وسيأتي تفصيل آخر لها في باب الأدلة إن شاء الله تعالى.

2- الإباحة الشرعية:

        والمقصود بها ما ثبتت إباحته بنص شرعي على خصوصه كقوله تعالى: {وأحل الله البيع} (البقرة:275).. وقوله: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} (البقرة:187) أو إباحة شرب الخمر المفهوم من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} (النساء:43)، وذلك كان قبل النسخ .

الفرق بين الإباحة العقلية والشرعية:

        والفرق بين الإباحتين من جهة النسخ، فإذا أنزل الله قرآناً أو تكلم الرسول بحكم يرفع الإباحة العقلية فإن هذا لا يسمى نسخاً. فتحريم الربا ليس نسخاً لحكم شرعي لأن المسلمين كانوا يفعلونه على البراءة الأصلية والإباحة العقلية قبل ورود النص فيه، وأما تحريم الخمر الثابت في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة:90) هو نسخ للإباحة الشرعية السابقة في قوله تعالى: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} (النساء:43)

مباحث في الإباحة العقلية:

هناك خلاف بين علماء الأصول حول هذه الإباحة ومحصلته ما يلي:

(أ) قال بعضهم الأصل في الأشياء والأعمال هو المنع حتى يرد دليل شرعي لأن التصرف في ملك الغير مذموم، ولا يجوز للإنسان أن يتصرف في ملك الله بغير إذنه وهذا القول لا شك في خطئه لأن في هذا تحجيراً كبيراً على تصرف الإنسان وتجميداً للحياة على الأرض، ومعلوم أن النبي صل الله عليه وسلم قال: [إن كان شيئاً من أمر دنياكم فشأنكم به، وإن كان من أمور دينكم فإلي] (رواه أحمد (6/123) وابن ماجه (2471) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (2003))

        وهذا دليل واضح على أن الدنيا يسعى فيها، وتعم كل سبيل دون انتظار للأمر الشرعي في شئونها فإذا ورد الأمر الشرعي فهو الحاكم، فشئون الزراعة، والصناعة، والرعي، وعلوم الأحياء، والكائنات، والكون، كل ذلك مباح للإنسان قد أذن الله فيه إذناً عاماً له بمجرد أن أهبطه إلى هذه الأرض، وكان هذا هو ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم فقد تعاملوا بما كانوا يتعاملون، وعاشوا حياتهم كما كانوا يعيشون ولم ينتهوا عن أمر ما إلا بعد أن وصلهم الحكم الشرعي فيه.

(ب) وقال آخرون بل الأصل في الأشياء والأعمال هو التوقف، وهذا في النهاية مرده إلى القول الأول لأن المتوقف عن الفعل وإن لم يحرم ما توقف عنه إلا أنه منتظر أيضاً وصول الأمـر الشرعي كالذي يحرم تماماً، والرد على هؤلاء هو الرد على أولئك ولذلك فالصحيح هو ما قدمناه من أن الأصل في الأشياء والأعمال هو الإباحة والبراءة الأصلية، ولا شك أن من ثمـار هذا الأمر أن ينطلق الإنسان إلى الإبداع والاختراع والسعي والتحصيل، والعلم.. قال تعالى: {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور} (الملك:15)

        وهذا حث على السعي والتعلم والكسب، وهذه الآية نص في الإباحة العامة والبراءة الأصلية
رابعا : الحرام
الحرام لغة:

        هو الممنوع. يقال: أرض حرام أي ممنوع دخولها أو الصيد فيها، ومنه سميت أرض مكة بالحرام، لأن الله حرم فيها ما أباح في غيرها من الصيد،وقطع الشجر، ومن هذا المعنى قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} (القصص:12)، أي معناها وهو طفل أن يقبل غير ثدي أمه...

        وكذلك قوله تعالى عن بني إسرائيل: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} (المائدة:95) وذلك بعد أن أحجموا عن القتال، وجبنوا، والمعنى ممنوع عليهم دخولها قهراً، وجبراً من الله، وهذا المعنى أيضاً جاء في قوله تعالى: {وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون} (الأنبياء:95)

وأما الحرام اصطلاحاً:

        فهو ما يعاقب فاعله، ويثاب تاركه، وهو بهذا المعنى ضد الواجب، ومن أمثلة الحرام الشرك بالله، وقتل النفس التي حـرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وهكذا سائر المعاصي والذنوب فالحرام كل ما نهى الله عنه نهي تحريم لا نهي تنزيه.


... ينبع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: رد: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 8:02 am

.... تابع 
الحكم الشرعى
مباحث في الحرام

1- الذنوب كبائر وصغائر:

        ينقسم الحـرام إلى قسمين كبائر هي الذنوب والمعاصي الكبيرة البالغة مبلغها في القبح والفحش والفظاعة، وصغائر دون ذلك والدليل على ذلك قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً} (النساء:31).. وقوله تعالى: {ولله ما في السموات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم، والفواحش إلا اللمم.. الآية} (النجم:31-32)

        وقـد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على كثير من الكبائر فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: [اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حـرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات] (رواه البخاري (2766)، ومسلم (89) من حديث أبي هريرة)

        ولا شك أن هذه ليست هي الكبائر كلها، ولذلك قال ابن عباس لما سئل عن الكبائر سبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب، وأما الصغائر فهي غير ذلك ومثالها: لمزة وغمزة، وتطفيف حبة، ونظرة إلى غير محرم ونحو ذلك.

        وينبني على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر الحكم بالتثبت، ورد الشهادة لا يكون إلا لمرتكب الكبائر، وذلك أن الصغائر لا يكاد أحد يسلم منها لقوله تعالى: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} (النجم:32)

        وقـال أيضاً صل الله عليه وسلم: [كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون] (رواه الترمذي وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4515))

        فلا يجوز رد الشهادة بعمل الصغائر التي لا يسلم منها أحد، وكذلك بالكبائر التي تاب منها صاحبها، وأما فاعل الكبائر المجاهر بها فحريٌّ به أن ترد شهادته، ويتثبت في أخباره وأقواله.

2- الحرام لذاته، والحرام لسد الذرائع:

        ينقسم الحرام أيضاً إلى قسمين: حرام لذاته وهو الأمر الفاحش الغليظ الذي يؤدي إلى فساد عظيم في إحدى الضرورات الست (الدين والنفس، والمال، والعرض، والنسل، والعقل) وعموم الكبائر كذلك وهناك من الحرام ما حرمه الله سبحانه وتعالى سداً لذريعة الوصول إلى الحرام كتحريم الخلوة بالأجنبية والنظر إليها،وسفر المرأة بغير محرم لأنه قد يجر إلى الزنا، وتحريم قبول الهدية من المدين لأنه قد يفضي إلى الربا، وتحريم استعمال أواني الخمر، وشهود مجالسها وإن لم يشرب الشاهـد والحاضر حتى لا ينزلق إلى الشرب، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها لأنه يفضي إلى قطع الأرحام.

        وهكذا قد سد الشارع الحكيم أبواب الذنوب الكبيرة التي حرمت لذاتها وضررها بأمور ليست ضارة ولا فاسدة في ذاتها، وإنما توصل إلى حرام فإنه حرمها.

        ولا شك أن هذا الذي حرم لما يجر إليه من حـرام، وليس لذاته، قد يباح بعضه أحياناً لمصلحة راجحة كما أبـاح الله النظر إلى المخطوبة قبل الزواج، وذلك لدوام العشرة، وقد يباح أيضاً هذا النظر في العلاج، وما هو من جنس الحاجات فضلاً عن الضرورات، وأما المحرم لذاته فإنه لا يباح إلا في ضرورة.

3- هل يكون العبد طائعاً عاصياً في وقت واحد؟:

هذه المسألة يذكرها علماء الأصول في هذا الباب ويضربون لذلك أمثلة منها:

        الصلاة في الأرض المغصوبة، فالإمام أحمد يرى في هذه المسألة أن الصلاة عينها في غصب لأن قيام المصلي، وقعوده في ملك غيره غصب، وليس صلاة، فالصلاة هنا لاغية لأن فعل الطاعة هو نفس فعل المعصية، وجمهور العلمـاء يرون أن الصلاة حقيقة مستقلة عن الغصب، فالصلاة طاعة، والغصب معصية... ولذلك فصلاة المصلي صحيحة.

        وأما على قول الإمام أحمد فصلاته باطلة، وعليه إعادة هذه الصلاة في أرض ليس غاصباً لها، ويورد الجمهور على الحنابلة في هذه القضية الصلاة في الحرير والذهب فيقولون: إذا كانت الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة فكذلك يجب عليكم أن تقولـوا في الصلاة مع لبس الحرير ولبس الذهب لأن المصلي عاص أيضاً وقت صلاته، والحنابلة يرون هنا أن جهة النهي منفكة لأن اللبس غير القيام والقعود في الأرض المغصوبة.

        ومن المسائل أيضاً التي تذكـر هنا:سرقة المصلى أثناء صلاته، والصحيح أن مثل هذه المسألة لا يجوز التوقف في القول ببطلان صلاة من صلى وسرق، لأنه حتماً ساهٍ عن صلاته، ولاهٍ عن غايتها وثمرتها، فكيف يكتب له ثواب صلاة يسرق فيها!

        وعلى كل حال فإن من قال ببطلان الطاعة وقت المعصية يوجب الإعادة، ومن قال الطاعة هنا منفصلة عن المعصية لا يوجب الإعادة، وهذه المسألة مبنية على قاعدة أصولية وهي: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟

        بعض الأصوليين يرون أن الأمر بالشيء غير النهي عن ضده، وآخرون يرون أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، ومذهب ثالث يرى أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن الضد وهذا المذهب الأخير هو الصحيح فلا يجوز أن يكون وقت الطاعة هو عينه وقت المعصية.

حكمة وجود الحرام في الشريعة:

1- التعبد، والابتلاء.

2- الحفاظ على الضرورات الست: الدين، العقل، النفس، العرض، المال، النسل.

3- سد الذرائع إلى الفواحش والإثم وكبائر الذنوب

خامسا : المكروه
المكروه لغةً:

        ما تعافه النفس، وتنفر منه.

ولكن معناه الاصطلاحي:

        هو الأمـر الذي لا يعاقب فاعله ويثاب تاركه. ومعنى ذلك أنه الشيء الذي نهينا عنه نهى تنزيه فقط لا إلزام معه بالترك، ولكن اعلم أن المكروه قد جاء في القـرآن بمعنى الحرام، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الإسراء بعد أن ذكر قتل النفس والزنا، وأكل مال اليتيم، واتباع الظن والكبر قال تعالى: {كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً} (الإسراء:38)

        ومعلوم أن بعض ما ذكر من الكبـائر العظيمة، ولذلك فالمعنى الاصطلاحي هنا يخالف المدلول الشرعي للكلمة، ولكن جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين الحرام والمكروه فيجعل المكروه درجة أخف من الحـرام ومن ذلك قوله صل الله عليه وسلم: [إن الله تعالى حـرم عليكم: عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعاً وهات، وكره لكم:قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال] (متفق عليه من حديث المغيرة بن شعبة)

        ومعلوم أن الذنوب الثلاثة الأولى في الحديث من الكبائر وأنها أعظم من الذنوب الثلاثة الأخرى، ولكن على كل حال ليست الكراهة في الحديث هنا أيضاً كراهة بمعنى التنزيه فقط الذي لا إثم فيه بل يشعر الحديث أن هناك إثماً لمن فعل ذلك، وهذا غير المكروه بالمعنى الاصطلاحي لأن المكروه في عرف الفقهاء واصطلاحهم هو ما لا يعاقب فاعله.

        ويدخل في المكروه كثير من الأمور التي يجب أن يتورع عنها المسلم تنزهاً كفضول القول والجدال العقيم الذي لا فائدة منه، وقد يمثل له أيضا بالبول واقفاً، والمزاح في غير حاجة، وكثرة الضحك، ونحو ذلك من عادات السلوك السيئة التي لم يأت نص قاطع بتحريمها.

أمثلة للمكروه:

        تأخير الصـلاة عن أول وقتها (وقت الكراهة).. التوسع في المآكل والمشارب والملابس والزينة فهو مباح مع الكراهة، فإذا بلغ حد الإسراف فهو حرام.. تأخير الفطور، وتعجيل السحور في الصوم.. دخول عرفة قبل الزوال.. المزاحمة عند الحجر الأسود.. والخروج من منى لغير حاجة.. كثرة السؤال.. إضاعة المال.. قيل وقال.. يكره سؤال الناس.. وقبول هدية المنان.. رفع الصوت لغير حاجة.. وزيارة المسلم وهو مستاء والبقاء في ضيافته أكثر منثلاث.. والجلوس على مكرمته إلا بإذنه.. ودخول منزله في غيبته حتى وإن أذن له.. والتعرض لمواطن الشبهة.. ومنه الأكل في الطرقات، والجلوس عليها مع أداء حقها..

حكمة المكروه:

1- الحفاظ على جانب الحرام، وهذه درجة بعد سد الذرائع.

2- استكمال النزاهة، وسمو الخلق، وحسن السمعة.

3- الحرص على الفضائل
.................................................................

الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي
اعلم أنه يفرق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع بفارقين ظاهرين:

وهما أن خطاب الوضع علامته أنه إما ألا يكون في قدرة المكلف أصلاً كزوال الشمس والنقاء من الحيض أو يكون في قدرته ، ولا يؤمر به كالنصاب للزكاة والاستطاعة للحج وعدم السفر للصوم.

وبهذا تعرف أن خطاب التكليف علامته أمران أن يكون في قدرة المكلف، ويؤمر به فعلاً كالوضوء للصلاة أو تركا كسائر المنهيات.

وخطاب الوضع أعم من خطاب التكليف لأن كل تكليف معه خطاب وضع إذ لا يخلو من شرط أو مانع مثلاً ، وقد يوجد خطاب الوضع حيث لا تكليف كلزوم غرم المتلفات وأروش الجنايات لغير المكلف كالصبي.
..........................................................
أقسام الحكم الوضعي
الحكم الوضعي: هو ما اقتضي أن يكون شيء سبباً لشيء أخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه .

        فمن خلالِ تعريفِ الحكمِ الوضعيِّ يُلاحظُ أنَّ البحثَ فيه يعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:

        ( أ ) السَّبب.

        ( ب ) والشَّرطِ.

        ( ج ) والمانعِ.

        ووجودُ كلٍّ منها أو تخلُّفُه (عدَمُ وجودِهِ) يتفرَّعُ عنه:

        (د ) صحّةُ العملِ أو فسادُهُ.

        كما يتفرَّعُ ما وضعَتْهُ الشَّريعةُ من الاعتباراتِ التَّابعةِ لقُدرةِ المكَلَّفِ على الامتثالِ إلى:

        ( هـ ) عزيمة، ورُخصة.

        فهذه خمسةُ أقسام: ( السَّببُ، الشَّرطُ، المانعُ، الصِّحَّةُ والبُطلانِ (أو الفَساد)، الرُّخصةُ والعزيمةُ).


أولا : السبب
تعريفـه:

        لُغَةً: كُلُّ شيءٍ يُتوصلُ بهِ إلى غيرِهِ.

        واصطلاحًا: الأمرُ الَّذي جعلَ الشَّرعُ وجودَهُ علامةً على وجودِ الحُكمِ، وعدَمَهُ علامةً على عدَمِ الحُكمِ.

        أي هو الذي يلزم من وجوده وجود الحكم و يلزم من عدمه عدم الحكم.

        فإذا كانَ السَّببُ معقولَ المعنى يُدرِكُ العقلُ مناسبَتَهُ للحُكمِ سُمِّي بـ(العلَّة) كما يُسمَّى (السَّببُ)، مثلُ: الإسكَارِ علَّةٌ لتحريمِ الخمْرِ.

        وإذا كانَ السَّببُ غيرَ معقولَ المعنى، بأنْ خفِيَ علَى العقلِ أنْ يُدركَ مُناسبَتَهُ للحُكمِ، فيُقتصرُ على تسميتهِ (سببًا) ولا يُسمَّى (علَّةً)، مثلُ: دخولِ الوقتِ سببٌ لوجوبِ الصَّلاةِ.

        فائدةُ هذا التَّفصيلِ:

        ما سُمِّي (علَّةً) صحَّ فيه القياسُ، وما لمْ يُسمَّ (علَّةً) امتنعَ فيهِ القياسُ.

        ومِمَّا يُساعدُ على معرفةِ كونِ الشَّيءِ سببًا: إضافَةُ الحُكمِ إليهِ، تقولُ مثلاً: (صلاَةُ المغربِ، وصومُ الشَّهرِ، وحدُّ الشُّربِ، وكفَّارةُ اليمينِ)، فالمغربُ والشَّهرُ والشُّربُ واليمينُ أسبابٌ لما أُضيفَتْ إليه من الأحكامِ.

        تقسيمـه:

        ينقسمُ (السَّببُ) باعتبارِ من سبَّبه إلى قسمينِ:

        1ـ ما جعلتْهُ الشَّريعةُ سببًا ابتداءً من غيرِ أن يكونَ للمكلَّفِ فعلٌ فيه.

        من أمثلتـهِ:

        ( أ ) زوالُ الشَّمسِ لوجوبِ صلاةِ الظُّهرِ، قال تعالى: { أقم الصلاة لدلوك الشمس} (الإسراء: 78).

        ( ب ) دُخولُ الشَّهر لوُجوبِ صومِ رمضانَ، قال تعالى: { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } (البقرة: 185).

        ( ج ) الاضطِرارُ لجوازِ أكلِ الميتَةِ، قال تعالى: { فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه}(البقرة: 173).

        ( د ) المرضُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى: { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}(البقرة: 184).


        2ـ ما سببُهُ المكلَّفُ فرتَّبَتِ الشَّريعة الآثارَ على وجودِهِ.

        من أمثلتِـهِ:

        ( أ ) السَّفرُ لإباحةِ الفِطرِ، قال تعالى في الآية المتقدمة: { أو على سفر} .

        ( ب ) الزِّنَا لإقامةِ الحدِّ، قال تعالى: { الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}(النور: 2).

        ( ج ) الرِّدَّة لإباحةِ دَمِ المرتدِّ، قال النَّبيّ صل الله عليه وسلم : ( من بدَّل دينَهُ فاقْتُلوهُ) ، أخرجه البُخاريُّ.

        ( د ) الإهداءُ لمِلكِ المُهدَى إليهِ للهديَّة، والبيعُ لِملكِ المشتري للسِّلعةِ، والتَّصدُّقُ لملكِ المُتصدَّقُ عليه للصَّدقَةِ، فهذهِ وشِبهُهَا أسبابٌ لنقلِ ملكيَّةِ الشَّيءِ لمن صارتْ إليهِ، ويكونُ بها حُرَّ التَّصرُّفِ فيها
وقيل بينهما عموم وخصوص من وجه واعتمده القرافي في الفروق
ثانيا الشرط
        تعريفـه:

        لُغَـةً: العلامَةُ.

        واصطلاحًا: ماتوقَّفَ وجودُ الشَّيءِ على وجودِهِ، وليسَ هوَ جزْءًا من ذاتِ ذلكَ الشَّيءِ، بلْ هوَ خارجٌ عنهُ، كما لا يلزمُ من جودِهِ وُجودُ ما كانَ شرْطًا فيهِ.

        أي هو ما لا يلزم من وجوده وجود الشيء ، و لكن يلزم من عدمه عدم الشيء.

        من أمثلتِهِ:

        ( أ ) الوُضوءُ لصحَّةِ الصَّلاةِ، قال تعالى: { يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...}الآية (المائدة: 6)، وقال النَّبيُّ صل الله عليه وسلم : ( لايقبلُ الله صلاةً بغيرِ طُهورٍ)) ، أخرجهُ مسلمٌ وغيرُهُ عن ابن عمرَ.
فصحَّةُ الصَّلاةِ موقوفةٌ على وجودِ شرطِ الوُضوءِ،وليسَ الوُضوءُ جزءًا من نفسِ الصَّلاةِ، كما لا يلزمُ من وُجودِ وجودُ الصَّلاةِ.

        ( ب ) إذنُ وليِّ الزَّوجةِ شرْطٌ لصحّةِ عقدِ النِّكاحِ عندَ جُمهورِ العلماءِ، لقوله صل الله عليه وسلم : ( لا نكاحَ إلاَّ بِولِيٍّ) ، حديثٌ صحيحٌ رواهُ أصحابُ السُّنن وغيرُهم.

        الفرق بين الشَّرط والرّكن:

        يشتركُ (الشَّرطُ) و (الُّركن) في أنَّ كُلاًّ منهما يتوقَّفُ عليهِ وجودُ الشَّيءِ، فالوضُوءُ شرطٌ للصَّلاةِ، والرُّكوعُ رُكنٌ فيها، ولا بُدَّ من وجودِ كلٍّ منهمَا لصحَّةِ الصَّلاةِ، لـكنْ يُلاحظُ الفرقُ بينهمَا في أنَّ:

        الشَّرطَ : خارجٌ عن نفسِ الصَّلاةِ ليس جُزءًا منها.

        والرُّكنَ : جزءٌ من نفسِ الصَّلاةِ.

        أقسـامـه:

        ينقسمُ الشَّرطُ باعتبارِ مُشترِطِهِ إلى قسمينِ:

        ( أ ) شرطٌ شَرْعِيٌّ:

        وهوَ الَّذي جعلتْهُ الشَّريعةُ شرطًا، كَحَولِ الحوْلِ علَى المالِ الَّذي بلغَ النِّصابَ لإيجابِ الزَّكاةِ فيهِ.

        ( ب ) شرطٌ جَعْلِيٌّ:

        وهو الَّذي يضعُهُ النَّاسُ باختيارِهم في تصرُّفَاتِهمْ ومُعاملاَتِهِمْ لا في عبادَاتِهم، كَالشُّرُوطِ الَّتِي يصطلحونَ عليها في عُقُودِهِمْ.

        والفُقهاءُ مختلفُونَ في هذا النَّوعِ من الشُّروطِ في صحَّتهَا أو فسادِهَا، وما تدلُّ عليهِ الأدلَّةُ فيه التَّفصيلُ، وذلكَ بتقسيمِهِ إلى قِسمينِ:

        [1] شرْطٌ صحيحٌ: وتُعرفُ صحَّتُهُ بأنْ لا يكونَ ورَدَ في الشَّرعِ ما يُبطِلُهُ، مثالُهُ: اشْترَاطُ البائعِ منفعةً معيَّنةً على المشتري في عقْدِ البَيعِ لا تُنافي مقصودَ البَيعِ، فقدْ صحَّ عن جابرِ بن عبدِالله رضي الله عنهما أنَّهُ كان يسيرُ على جملٍ لهُ قَدْ أعْيَا، فمرَّ النَّبيُّ صل الله عليه وسلم فضرَبَهُ، فسارَ سَيْرًا ليسَ يسيرُ مِثْلَهُ، ثمَّ قالَ: (بِعْنِيهِ بِأوقيَّةٍ) فبِعتُهُ، فاسْتَثْنيتُ حُمْلانَهُ إلى أهلِي، فلمَّا قَدِمْنَا أتيتُهُ بالجمَلِ ونقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثمَّ انصرَفْتُ، فأرسَل على أثرِي قالَ: (مَا كُنتُ لآخُذَ جمَلَكَ، فَخُذْ جمَلكَ ذلكَ فهُوَ مَالُكَ) متَّفقٌ عليه.

        وما رُوي من النَّهي عن بيعٍ وشرطٍ فلا يصحُّ من جهةِ الإسنادِ، وكذلك كلُّ شرطٍ عُرفيٍّ في أيِّ عقدٍ ليس معارضًا لدليل في الشَّرعِ فهو شرطٌ صحيحٌ.

        والدَّليل على صحَّةِ الشُّروطِ في الأصلِ قوله تعالى: { يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود}(المائدة: 1) ، وقوله: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا} (الإسراء: 34)، وقال النَّبي صل الله عليه وسلم : (أحقُّ الشُّروطِ أن توفُو بها ما استحللْتُم بهِ الفُروجَ) ، متفقٌ عليه عن عقبة بن عامرٍ.

        [2] شرطٌ باطلٌ: ويعرفُ بُطلانه بوُرود ما يُبطِلهُ في الشَّرعِ، ومثالهُ: حديثُ عائشة رضي الله عنها قالتْ: جاءتْني بريرةُ فقالتْ: كاتبتُ أهلي على تسعِ أواقٍ، في كلِّ عامٍ أُوقيةٌ، فأعينيني، فقالت: إن أحبُّوا أن أعدَّها لهم ويكونَ ولاؤُُكِ لي فعلتُ، فذهبتْ بريرةُ إلى أهلها فقالت لهم، فأبوا عليها، فجاءتْ من عندِهِم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، فقالتْ: إنِّي عرضتُ ذلك عليهم، فأبوا إلاَّ أن يكونَ الولاءُ لهم فسمعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرتْ عائشةُ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((خُذيها واشترطِي لهمُ الولاءَ، فإنما الولاءُ لمن أعتقَ، ففعلتْ عائشةُ، ثم قام رسول الله صل الله عليه وسلم في النَّاسِ فحمدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: (ما بالُ رِجالٍ يشترطُونَ شروطًا ليستْ في كتابِ الله؟ ما كانَ من شرْطٍ ليس في كتابِ الله فهوَ باطلٌ وإن كانَ مائَة شرْطٍ، قضاءُ الله أحقُّ، وشرْطُ الله أوثقُ، وإنما الولاءُ لمنْ أعتقَ) (مُتَّفقٌ عليه).

        والمقصودُ من كونِ الشَّرطِ في كتابِ الله أو ليس فيهِ أن يكونَ مشروعًا لا ممنوعًا، وهو التَّقسيمِ المذكُورِ. على هذا مذهبُ الحنابلةِ وطائفةٍ غيرهِم من الفُقهاءِ، والدَّليلُ فيه أبينُ، وهو المناسبُ لاعتبارِ المصالحِ والمفاسِدِ.

        ومذهبُ الحنفيَّةِ قريبٌ منه، لكنَّهم قالوا: هو ثلاثَةُ أقسامٍ: شرطٌ صحيحٌ، وشرطٌ فاسدٌ، وشرطٌ باطلٌ، وفرَّقوا بين الفاسِدِ والباطلِ بأنَّ الفاسدَ ما كانَ فيه منفعةٌ لكنَّه معارضٌ لوصفِ الصَّحيحِ فيفسُدُ به العقدُ لذلكَ، أما الباطلُ فليسَ ممَّا يصحُّ العقدُ به أو يفسدُ بلْ هو شيءٌ خارجٌ عن نفسِ العقدِ، فهوَ بمنزلَةِ اللَّغوِ لا يُؤثِّرُعلى العقدِ،

ثالثا : المانع
تعريفـه:

        لُغةً: من (المنع) وهوَ أن تحولَ بين الشَّخصينِ وبينَ الشَّيءِ فتجعلَ بينهما (مانعًا).

        واصطلاحًا: ما رتَّب الشَّرعُ على وجودِهِ العدَمَ.
        أي هو ما يلزم من وجوده العدم.

        هو قسمان:

        ( أ ) مانعٌ للحُكمِ:

        والمعنى: أن يقعَ فعلٌ من المكلَّف يستوجبُ حُكمًا شرعيًّا بأن وُجدَ في ذلكَ الفعلِ تحقُّقُ الأسبابِ الموجِبةِ لذلكَ الحُكمِ، فوضعَت الشَّريعَةُ (مانعًا) دونَ تنفيذِ ذلك الحُكْم.

        مثالهُ: قوله صل الله عليه وسلم : (لا يُقتلُ والدٌ بولَدِهِ) حديثٌ صحيحٌ لغيره أخرجهُ التِّرمذيُّ وغيرُهُ، فهذا (مانعٌ) عند جمهورِ العلماءِ من إقامةِ القِصاص على الوالدِ إذا قتلَ ابنَه عمدًا، فمعَ استيفاءِ الوالدِ لشُروطِ القِصاصِ فقدْ جعلتِ الشَّريعَةُ أبوَّته مانعةً من القصاصِ.

        ( ب ) مانعٌ لسبب:

        والمعنى: أن تكونَ الشَّريعةُ قرَّرت حكمًا تكليفيًّا بناءً على وجودِ سببٍ اقتضى وجودُهُ وجودَ ذلك الحُكمِ، لكنْ عرضَ دُون إعمالِ ذلك السَّببِ (مانِعٌ) أسقطَ السَّببَ والحُكمَ.

        مثالُهُ: مكلَّفٌ ملكَ نصابَ الزَّكاةِ وحالَ الحولُ عليهِ عندَهُ، لكنَّه جمع ذلكَ المالَ لدينٍ عليهِ، فظاهرُ الأمرِ وجوبُ تنفيذ حكمِ إخراجِ الزَّكاةِ لوجودِ السَّببِ المقتضي لذلكَ وهو ملكُ النِّصابِ، لكنْ عرض لذلكَ السَّببِ (مانعٌ) من الاعتبارِ فألغاهُ، وهوَ (الدَّين)، فقد صحَّ عن النَّبي صل الله عليه وسلم أنه قال: ( لا صدَقة إلاَّ عن ظهرِ غِنًى) رواه أحمدُ وغيرهُ بسندٍصحيحٍ من حديثَ أبي هريرةَ، والله عزَّ وجلَّ جعل في أصنافِ الزَّكاةِ الغارمينَ، وصاحبُ الدَّينِ غارمٌ، فاستقامَ أن لا تجبَ عليهِ الزَّكاةُ وإن وُجدَ سببُ الوجوبِ وهو بلوغُ النِّصابِ، لأنهُ إنَّما يجمعُ لأجلِ الدَّينِ

رابعا : الصحة والفساد والبطلان
أفعال المكلَّفين إذا استوفتْ شروطَها وانتفتْ موانِعُها ووقعتْ على أسبابهَا فقد حكمَ الشَّرعُ بأنَّها (صحيحةٌ) ، وإذا اختلَّ ذلك أو بعضُهُ فقد حكم َ الشَّرعُ بأنَّها (باطلةٌ).
و(الصَّحيحُ) ما ترتَّبتْ عليه آثارُهُ الشَّرعيةُ، من: براءةِ الذِّمةِ وسُقوطِ المطالبةِ في العباداتِ، ونفاذِ العقدِ في العقُودِ والتَّصرُّفاتِ فلاَ يُطالبُ المكلَّفُ بإيقاعِ نفسِ العبادةِ مرَّةً أخرى ما دامَتْ قدْ حقَّقتْ وصفَ الصِّحَّةِ، كما أنَّ عقدَ البيعِ مثلاً حوَّل مِلكيَّةَ المبيعِ من البائعِ إلى المشتري بغيرِ ريبَةٍ ما كانَ العقدُ قدْ حقَّقَ وصفَ الصِّحَّة.

        (الباطِلُ) ما لا تترتَّبُ عليهِ الآثارُ الشَّرعيَّة، فلا تبرأُ الذِّمةُ لمن صلَّى بغيرِ طُهورٍ مختارًا، ولا يصحُّ طلاقُ من أُكرِهَ على الطَّلاقِ، لوجودِ مانع من صحَّةِ هذا التَّصرُّفِ.

        لا فرقَ بين الباطل والفاسد:

        جمهورُالعلماء على عدمِ التَّفريق بين وصفِ الشَّيءِ بأنه (باطلٌ) أو (فاسدٌ).

        والحنفيَّةُ وافقوهم على عدمِ التَّفريقِ بين الوصفينِ في العباداتِ، لكن خالفُوهم في المعاملاتِ ففرَّقوا بينهما، فقالوا:

        1ـ الباطلُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أركانِ العقدِ، مثل: (بيع المجنونِ) فإنَّ الشَّارعَ ألغى اعتبارَ عقُودِهِ وتصرُّفاتهِ، وأهليَّةُ العاقِدِ من أركانِ صحَّةِ البيعِ، فالبيعُ باطلٌ غيرُ نافِذٍ.

        2ـ الفاسدُ: ما رجعَ الخللُ فيه إلى أوصافِ العقدِ لا إلى أركانِهِ، مثل: (النِّكاح بغيرِ شُهودٍ) إذ الشُّهودُ فيه من أوصافِ العقدِ لا منْ أركانِهِ، فالعقدُ فاسدٌ لكن تترتَّبُ عليه آثارٌ شرعيَّةٌ، فيجبُ للمرأةِ المهرُ إذا دخل بها، كما تجبُ عليها العدَّةُ، ويُلحقُ الولدُبهمَا.

        وقولُ الجمهورِ أظهرُ في عدَمِ التَّفريقِ
خامسا : العزيمة والرخصة
العزيمةُ لغَةً: الإرادَةُ المؤكَّدة، ومنه قوله تعالى: {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما}(طـه: 115) أيْ: قصدُ مؤكَّدٌ في فعلِ ما أُمِرَ به.

        وشرعًا: اسمٌ لما هوَ الأصلُ في المشروعاتِ غيرُ متعلِّقٍ بالعوارضِ.

        مثالهَا: الصَّلاةُ في أوقاتهَا هي الأصلُ، فهي العزيمةُ، وإتمامُ الصَّلاةِ هو الأصلُ فيها، فهو العزيمةُ، وحرمَةُ الميتةِ هي الأصل، فهي العزيمة.

        والرُّخصةُ لغةً: اليُسرُ والسُّهولَةُ.

        وشرعًا: اسمٌ لِما شُرعَ متعلِّقًا بالعوارضِ خارجًا في وصفِهِ عن أصلهِ بالعُذْرِ.

        مثالُها: جمعُ الصَّلاتينِ للعُذرِ كالسَّفرِ والمطرِ، وقصرُ الصَّلاةِ للمسافرِ، وإباحَةُ الميتةِ للمُضطَرِّ، أحكامٌ خارجَةٌ عن الأصلِ الَّذي هو العزيمَةُ، والمؤثِّرُ فيها العُذْرُ.
فالعزيمَةُ أصلُ الأحكامِ التَّكيفيَّة، والرُّخصَةُ الخرُوجُ عن الأصلِ بِعُذرٍ.
وعليه فالرُّخصةُ باقيةٌ ببقاءِ العُذرِ، متفيةٌ بانتفائِهِ.

        أسباب الرخص:

        الأسبابُ الَّتي ترجعُ إليها جميعُ الرُّخصِ الشَّرعيَّةِ سبعةٌ، إليكَهَا

        ( 1 ) ضعفُ الخلقِ، سببٌ لإسقاطِ التَّكليفِ عن الصَّبيِّ والمجنونِ، وتخفيفِ التَّكليفِ في حقِّ النِّساءِ فلم تجبْ عليهنَّ جُمُعةٌ ولا جماعةٌ ولا جهادٌ.

        ( 2 ) المرضُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، والصَّلاةِ من قعُودٍ أوِ اضطِجاعٍ، وتناولِ الممنُوعِ للعلاجِ إن فقدَ سِواهُ.

        ( 3 ) السَّفرُ، سببٌ للفطرِ في رمضانَ، وقصرِ الصَّلاةِ الرُّباعيَّةِ، وسُقوطِ الجُمُعةِ، والزِّيادَةِ في مُدَّةِ المسحِ على الخُفَّينِ.

        ( 4 ) النِّسيانُ، سببٌ لإسقاطِ الإثمِ والمؤاخَذةِ الأخرَويَّةِ، وصحَّةِ الصَّومِ لمن أكَلَ أو شرِبَ وهوَ كذلكَ.

        ( 5 ) الجهلُ، سببٌ لإسقاطِ المُؤاخذَةِ إذا لم يقعْ بتقْصيرٍ في التَّعلُّم، كما يكونُ سببًا لرَدِّ السِّلعةِ بعدَ شِرائِهَا لعيبٍ جهِلَهُ المشترِي وقتَ التَّبايُعِ، كما يكونُ سببًا للعُذْرِ في خَطإ الاجتهادِ، لأنَّ المجتهِدَ بنى على ظنِّ العلمِ.

        ( 6 ) الإكراهُ، سببٌ لإباحةِ الوُقوعِ في المحظُوراتِ دَفْعًا للأذَى الَّذي لا يُحتَمَلُ.

        ( 7 ) عُمُومُ البلْوَى، وهوَ في الأمْرِ الَّذِي يَعْسُرُ الانفِكَاكُ عنهُ، كالنَّجاسةِ الَّتي يشقُّ الاحتِرازُ عنهَا، كمنْ بهِ سلسُ بوْلٍ، واحتمالِ يسيرِ الغَبْنِ في البُيُوع، ونحوَ ذلكَ.

        أنواعُ الرُّخص:

        الرُّخصُ الشَّرعيَّةُ تعودُ إلى أنواعٍ ثلاثةٍ:

        ( 1 ) إباحَةُ المحرَّم لعُذرِ الضَّرورةِ، وإليه ترجعُ قاعدَةُ: (الضَّرُوراتُ تُبيحُ المحظُوراتِ).

        مثالهَا: التَّلفُّظُ بكلمةِ الكُفرِ عندَ الإكراهِ، كما قال تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان}{النحل: 116}، وأكلُ الميتةِ والدَّمِ ولحمِ الخنزيرِ وشُربِ الخمرِ للمُضطرِّ، كما قال تعالى:{ فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه}(البقرة: 173)، وقال: {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه}(الأنعام: 119).

        ( 2 ) إباحَةُ تركِ الواجبِ، وفيهِ قوله صل الله عليه وسلم : (وإذا أمرْتُكُم بأمرٍ فَأْتُوا منهُ ما استَطعتُمْ) ، متفقٌ عليه من حديثِ أبي هرَيرةَ.

        مثالها: تركُ القيامِ في الصَّلاةِ للعاجزِ مع فرْضِهِ، فعنْ عمرانَ بنِ حُصينٍ رضي الله عنه قال: كَانَتْ بي بواسيرُ، فسألتُ النَّبيَّ صل الله عليه وسلم عن الصَّلاةِ؟ فقال: ( صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تستطِعْ فعلى جنبٍ) ، أخرجه البُخاريُّ.
والفِطرُ في رمضانَ للمسافرِ والمريضِ، قال تعالى: { ومن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}(البقرة: 185).

        ( 3 ) تصحيحُ بعضِ العُقودِ مع اختلالِ ما تصحُّبه رفعًا للحرجِ وتيسيرًا على النَّاسِ.

        مثالها: الإذنُ في بيعِ السَّلمِ (أو: السَّلف)، أو عقدِ الاستِصناعِ، مع أنَّ كلاًّ منهما بيع معدومٍ ليسَ موجودًا وقتَ التَّعاقُدِ، نعمْ ذلك بشُروطٍ، كما قال النَّبيُّ صل الله عليه وسلم : (منْ أسلفَ في شيءٍ ففي كيلٍ معلومٍ، ووزنٍ معلومٍ، على أجلٍ معلومٍ) ، متَّفقٌ عليه عن ابنِ عبَّاسٍ.

        درجات الأخذ بالرخص:

        الأخذُ بالرُّخصِ الشَّرعيَّةِ يتفاوَتُ حكمُهُ إباحَةً ونَدبًا ووجوبًا، فهو على أربعِ درجاتٍ:

        ( 1 ) التخييرُ بين الأخذِ بالرُّخصةِ وتركهَا.

        مثالهُ: الفطرُ للمسافرِ عند استواءِ حالهِ بالصَّومِ والفطرِ، فإنَّ له أن يُفطرَ أو يصومَ من غيرِ بأسٍ، كما قال حمزَةُ بنُ عمرٍو الأسلميُّ للنَّبيِّ صل الله عليه وسلم أَأصُومُ في السَّفرِ؟ وكان كثيرَ الصَّومِ، فقالَ: (إن شئتَ فصُمْ، وإنْ شئتَ فأفطِرْ) (متفقٌ عليه).

        ( 2 ) تفضيلُ الأخذِ بالرُّخصةِ.
مثالهُ: قصرُ الصَّلاةِ في السَّفرِ، فإنَّها رُخصةٌ جرىالعملُ النَّبويُّ على الأخذِ بها في جميعِ الأسفارِ، حتَّى أنهُ لم يصحَّ أنَّ النَّبيَّ صل الله عليه وسلم أتمَّ صلاةً قطُّ في السَّفرِ، وهذه المُداومةُ دالَةٌ على تفصيل الأخذ بالرُّخصةِ.
هذا على مذهبِ جمهورِ العلماءِ في أنَّ قصرَ الصَّلاةِ في السَّفرِ سُنَّةٌ، خلافًا لمن ذهبَ إلى وجوبهَا.

        ( 3) تفضيل التَّرك للرُّخصةِ.

        مثالهَا: احتمالُ الأذى في الله لمن أُكرهَ على أن يقولَ كلمَةَ الكُفرِ بلسانِهِ، فإنْ أرادَ أن يأخذَ برُخصةِ الله لهُ فلهُ ذلكَ، وإن صبرَ وَاحتملَ ولو بلغَ الأمرُ إلى قتلِهِ فذلكَ أفضلُ، وقد كَانَ هذا حالَ المُرسلينَ وكثيرٍ من أتباعهمْ.

        ( 4 ) وجوبُ الأخذِ بالرُّخصةِ.

        مثالهُ: أكلُ المُضطرِّ للميتةِ دفعًا للهلكَةِ عن نفسهِ، فإنَّ تحريم الميتةِ إنَّما كان لضررهَا على النَّفسِ، فحينَ كانتْ سببًا للحياةِ أُبيحتْ، والهلاكُ أعظمُ الضَّررِ بالنَّفسِ، فيُدفعُ الضَّررُ الأكبرُ بارتكابِ الضَّررِ الأدنَى، قال الله تعالى: {ولا تقتلوا انفسكم إن الله كان بكم رحيما } (النساء: 29).

        هل يُمنعُ الأخذبالرُّخص؟

        صحَّ عن النَّبيِّ صل الله عليه وسلم أنه قالَ: (إنَّ الله يحبُّ أن تُؤتَى رُخصَهُ، كما يكرهُ أن تُؤتَى معصيتُهُ)، أخرجهُ أحمدُ وغيرُهُ، فما أحبَّهُ الله تعالى لا يصحُّ أن يقالَ: هو ممنُوعٌ منعَ كرَاهَةٍ ولا منعَ تحريمٍ.

        وفي الحديث المذكورِ كراهةُ تركِ الأخذ بالرُّخصِ تنزُّهًا عنها، فإنه لا يصحُّ التَّنزُّه عمَّا يُحبُّه الله تعالى، ويؤكِّدهُ حديثُ عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: صنعَ رسول الله صل الله عليه وسلم أمرًا فترخَّص فيه، فبلغَ ذلكَ ناسًا من أصحابهِ فكأنَّهُم كرهُوهُ وتنزَّهوا عنهُ، فبلغَه ذلكَ فقامَ خطيبًا فقالَ: (ما بالُ رِجالٍ بلغَهُم عنِّي أمرٌ ترخَّصتُ فيهِ فكرِهوهُ وتنزَّهُوا عنهُ، فوالله لأنا أعلمُهم بالله وأشدُّهُمْ لهُ خشيَةً) متفقٌ عليه.

        أمَّا ما يُروى عن بعضِ السَّلفِ والعلَماءِ من كرَاهةِ تتبُّعِ الرُّخصِ وذَمِّ من يفعلُ ذلكَ، فليسَ كلامُهُم في رُخصِ الله ورسولهِ ممَّا جاءتْ بِهِ الشَّريعةُ، إنَّما الرُّخصُ الَّتِي يستفيدُها النَّاسُ من خلافِ الفُقهاءِ، فهذا العالمُ حرَّمَ كذا وهذا رخَّص فيه، فذمَّ العلماءُ من يبحثُ عن تلكَ الرُّخص ويعملُ بها أو يُشيعُهَا بين النَّاسِ ذَمًّا شديدًا، لأنهَا تصيرُ بفاعلِ ذلكَ إلى استحلالِ ما حرَّم الله ورسولُه، فالمجتهِدُ قدْ يقُولُ الرَّأيَ في الشَّيءِ يخالفُ حكمَ الله ورسولِهِ صل الله عليه وسلم ، لا بقصدٍ منهُ بلْ باجتهادِهِ ظنًّا منهُ أنَّهُ الصَّوابُ، فمن عمَدَ إلى رُخصَةِ هذا العالمِ أو ذاكَ ممَّا أخطأَوا فيهِ فتتبَّعَهُ فقدِ اجتمَعَ فيه الشَّرُّ كلُّهُ.

        حكى إسماعيلُ بنُ إسحاقَ القاضِي المالكيُّ أنَّهُ دخَلَ على الخليفةِ المعتضِدِ بالله العبَّاسِيِّ، قال: فدَفعَ إليَّ كتابًا، فنظرتُ فيهِ، فإذا قدْ جُمعَ لهُ فيه الرُّخصُ من زَللِ العلماءِ، فقلتُ: مُصنِّفُ هذا زِنْدِيقٌ، فقالَ: ألمْ تصحَّ هذه الأحاديثُ؟ قلتُ: بلى، ولكن من أباحَ المسكِرَ لم يُبِح المُتْعةَ، ومن أباحَ المُتعَةَ لم يُبِحِ الغِناءَ، وما من عالمٍ إلاَّ ولهُ زّلَّةٌ، ومن أخذَ بكُلِّ زَللِ العُلماءِ ذهبَ دينُهُ، فأمرَ بالكتابِ فأُحْرِقَ [سِير أعلام النُّبلاء 13/465].

        وإنَّما الواجبُ في هذا أن ينظُرَ في حُكمِ الله ورسوله صل الله عليه وسلم ، فتُقاسَ رُخصُ المجتهدينَ بموافقَتهَأ للكتابِ والسُّنَّةِ أو مخالفتها لهمَا، فإن وافقَتْ فهي رُخصَةٌ شرعيَّةٌ يحبُّهَا الله والأخذُ بها حسنٌ، وإنْ خالفَتْ فلهَا حكمُهَا من الحُرمَةِ أو الكراهَةِ
سادسا : الأداء والقضاء والإعادة
( 1 ) الأَدَاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا المعيَّنِ لها شرعًا.

        ( 2 ) القضاءُ: وهوَ إيقاعُ العبادَةِ خارجَ وقتِهَا الَّذِي عيَّنَهُ الشَّارعُ.

        وجديرٌ بالتَّنبيهِ عليه هـهُنَا أنَّ القضاءَ لم يرِدْ في نصوصِ الشَّرعِ إلاَّ في إيقاعِ العبادَةِ بعدَ خُروجِ وقتهَا بعُذْرٍ كالنَّومِ عن الصَّلاةِ، أو الصَّومِ للحائضِ أو النُّفسَاء، أمَّا خُروجِ الوقتِ بدونِ عُذْرٍ فلمْ يرِدْ فيهِ القضاءُ، بِخلافِ الَّذي عليهِ كثيرٌ من الفُقهاءِ.

        ويُؤكِّدُ ذلكَ مسألَةٌ أثارَهَا الأصُوليُّونَ، هيَ: هلِ القضاءُ يكونُ بالأمرِ الأوَّلِ الَّذي كان بهِ الأداء، أو يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ؟ جمهُورُهُمْ أنهُ يحتاجُ إلى أمرٍ جديدٍ، وهذا هُو الصَّوابُ، فإنَّ العبادَةَ المعلَّقةَ بوقتٍ إنَّما مقصُودُ الشَّارِع أن تقعَ في الوقتِ الَّذِي حدَّدَه لها، فإذا أخلَّ المكلَّفُ بذلكَ فأدَّاهَا خارجَ وقتهَا بدونِ عُذرٍ فلمْ يقعْ فعلُهُ لهَا كمَا أُمرَ، وقدْ قال النَّبيُّ صل الله عليه وسلم : (من عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهُوَ رَدٌّ) أخرجهُ مسلمٌ عن عائشةَ، وهذا بخلافِ المعذُورِ، فهوَ إمَّا أن تكونَ الشَّريعَةُ أسقطتْ عنهُ القضاءَ فلمْ تأمُرْهُ بهِ، كما في قضاءِ الصَّلاةِ للحائضِ، وإمَّا أن تكونَ أَمَرَتْهُ بهِ بأمرٍ جديدٍ، كصلاَةِ النَّائمِ والنَّاسي، وقضاءِ الصَّومِ للحائضِ والنُّفساءِ والمريضِ والمسافِرِ، وقضاءِ الحجِّ عمَّنْ عجزَ عنهُ في حياتِهِ.

        ويتفرَّعُ عن هذا مسألةٌ مشهورَةٌ، وهي قضاءُ الصَّلاةِ والصَّومِ ونحوهِمَا لمن تركَ أدَاءَ ذلكَ في وقتِهِ متعمِّدًا، فهَذَا ليسَ لهُ رُخصَةٌ في القضاءِ، إنَّمَا سبيلُهُ التَّوبَةُ النَّصوحُ وأن يُكثِرَ من التَّطَوُّعِ.

        ( 3 ) الإعادَةُ: وهي إيقاعُ العبادَةِ في وقتِهَا بعدَ تقَدُّمِ إيقاعِهَا على خللٍ في الإجزاءِ، كإنقاصِ رُكنٍ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: رد: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 8:03 am

البيان والدلالات

مصدر اللغة:

        البيان اللغوي من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان.قال تعالى: {الرحمن* علم القرآن* خلق الإنسان* علمه البيان} (الرحمن:1-4)..

        فعن طريق هذا البيان تفاهم البشر كل في مجموعته وعرف الفرد مراد الآخرين، ونقلت العلوم ثم جاءت الكتابة فدونت هذه الأفكار والعلوم، ولا شك أنه كان يستحيل على البشر إقامة حضارتهم ونشوء
عمرانهـم وبقاء نوعهم، وعمارة هذه الأرض دون وجود اللغة التي يتفاهمون بها.

        ولا شك أن مصدر اللغات من الله إلهاماً وتوفيقاً وتمكيناً، قال تعالى عن آدم: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} (البقرة:31)

        فالرب سبحانه وتعالى هو الذي علم آدم أسماء كل شيء.. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (علمه أسماء كل شيء حتى القصعة من القصيعة)، أي التصغير والتكبير. ثم علم آدم أولاده، ثم تفرعت اللغات وتعددت اللهجات هذه. آية أخرى من آيات الله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين} (الروم:22)، فكان هذا الاختلاف للتميز وليستطيع الناس معرفة بعضهم بعضاً، ولو كانوا أمة واحدة وشكلاً واحداً ولساناً واحداً.. لضعف العمران واختلط على الناس التمييز بين بعضهم بعضاً.

        والصحيح أن تعليم الله البشر للغات قد جاء عن طريق التوفيق لهم وكما قال تعالى: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه:50)، كما قـال تعالى: {والذي قدر فهدى} (الأعلى:3) فهو سبحانه الذي هدى كل مخلوق لما تقوم به حياته على هذه الأرض كما قال تعالى عن النحـل: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} (النحل:68-69)

        فهداية البشر لاختراع لغاتهم، والنطق بلهجاتهم إنما هي على هذا النحو، وليست عن طريق إرسال رسل لتعليم الناس كيف يتكلمون وبماذا يسمون الأشياء وينطقون.

الحق والباطل في التسميات والإطلاقات:

        ولا شك أيضاً أن بعض الناس قد يطلق اللفظ الحسن على المعنى الفاسد تلبيساً على الناس، وإفساداً للعقول والقلوب، والأعمال، كما قال صل الله عليه وسلم: [ليستحلن طائفة من أمتي الخمر يسمونها إياه، وفي رواية، يسمونها بغير اسمها] (رواه أحمد (5/318) وابن ماجه (3385) وصححه الألباني في الصحيحة (90))

        فقـوله صل الله عليه وسلم عن الخمر يسمونها بغير اسمها كما سميت الآن بالشراب الروحي، والطلاء، والنبيذ، وغير ذلك من مسميات.. وكما يسمى الربا الآن الفائدة والائتمان، وسمي الزنا بالحب والرقص والغناء بالفن، ونحو ذلك كثير مما أطلقه من أطلقه من شياطين الإنس الذين أرادوا تبديل الشرائع بتبديل اللغات، وتغيير الأسماء، فمعلوم أن تبديل الاسم اللغوي الذي نطق به الشرع، هو تبديل للشرع بالضرورة والالتزام.. لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (إبراهيم:4)

        فإذا جاء من يغير اللغة، فإنه يهدم بالتالي لغة الرسول وبالتالي يهدم البيان الشرعي الذي جاء به، وهدم البيان هدم للدين.. لأن الدين لا يفهم إلا عن طريق هذا البيان.

        ولذلك كان من أصول الدين الأصيلة المحافظة على أصل اللغة وأصولها لأن البيان الشرعي جاء بها ولأن تبديل هذه اللغة تبديل للدين.

ماذا يعني نزول القرآن بلغة العرب؟

        اختار الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين نذيراً، وهذا النبي الكريم صل الله عليه وسلم كان عربياً نشأ فيهم يتكلم لسانهم، وأنزل الله سبحانه وتعالى عليه كتاباً بلغة العرب {قرآناً عربياً غير ذي عوج} (الزمر:28).. {إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} (يوسف:2).. {إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون} (الزخرف:3)

        ولما كان الكتاب الذي أمرنا بتدبره والعمل بأحكامه عربياً، ولسان النبي المبين للقرآن عربياً وجب علينا أن نفهم الكتاب من واقع هذا اللسان العربي.

        ولما كان للعرب طرائقهم في التعبير، وتصرفهم في الكلام فإنه يتوجب فهم لغة العرب كما نزل بها القرآن، وهذا يستلزم معرفة قواعد النحو، والصرف، والبلاغة، ومراد العرب من ألفاظهم وتراكيبهم.

ويتأتى ذلك باتباع الخطوات الآتية:

الحقيقة اللغوية: (المعنى الأصلي للكلمة):

        الخطوة الأولى في فهم دلالة كلام العرب على معانيه أن يعرف المعنى الأصلي للكلمة، ويسمى المعنى اللغوي لها، وهو المعنى الذي أرادته العرب فاستعملت فيه اللفظ، فلفظ (البحر) مثلاً أساسه الشق، ومنها سميت الناقة التي يشقون أذنها علامة على تسييبها لأصنامهم البحيرة، وفي حديث عبدالمطلب: "وحفر زمزم ثم بحرها بحراً أي شقها ووسعها حتى لا تنزف"، وسمى الشق الواسع المملوء ماءً بحراً..

        ولما كان واسعاً منبسطاً سمى كل ما اتصف بالسعة بحراً، كما قال صل الله عليه وسلم في فرس أبي طلحة: [وجدناه بحراً] (البخاري (2820)، ومسلم (2307) من حديث أنس بن مالك)

        أي واسع الخطو عظيم الجري، وسمى ابن عباس رضي الله عنه بحراً لسعة علمه وكثرته. وهـذا مثال واحد يبين لك كيف أنه يجب أولاً فهم المعنى اللغوي للكلمة، وما الذي أراده العرب بها عند نطقهم لها،وكيف تصرفوا فيها بعد ذلك.

الحقيقة الشرعية (المعنى الشرعي للكلمة):

        ثم يأتي بعد فهم المعنى اللغوي إدراك المعنى الشرعي الذي ساق الشارع الكلمة فيه.

        وذلك أن المعاني الشرعية التي نقلت إليها الألفاظ العربية معاني مخصوصة تتفق في أصل الوضع اللغوي وتختلف بأنواع من التخصيص عن المعنى اللغوي الأول، فلفظ الإسلام والإيمان، والتوحيد، والشرك، والكفر، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج يختلف مدلولها الشرعي عن المدلول اللغوي.

        فلفظ الإيمان في لغة العرب يعني التصديق بخبر ما في أمر يغيب عن المخاطب، ونقل في لغة القرآن والسنة إلى التصديق بالغيب وهـو الله، وكتبه، ورسالاته، والبعث بعد الموت، وسائر ما أخبرنا الله عنه من الغيب.

        والإسلام في اللغة الاستسلام، وفي لغة القرآن الاستسلام لدين الإسلام، والانقياد له.

        والصلاة في اللغة الدعاء، وهي في الشرع أدعية وأذكار مخصوصة تؤدى مع حركات مخصوصة وطهارة مخصوصة في أوقات مخصوصة...

        والصـوم في اللغة هو الإمساك مطلقاً، ولكنه في القرآن والسنة إمساك مخصوص في أوقات مخصوصة..

        والزكاة في اللغة هي الطهارة والنماء، ولكنه في الشرع إخراج مال مخصوص وفق أحكام مخصوصة...

        وهذا يعني أنه يجب تحديد المفهوم الشرعي للكلمة بعد فهم معناها اللغوي.

المصطلحات الأصولية للدلالات اللغوية:

        وضع الأصوليون مصطلحات لهم من أجـل التعرف على الدلالات اللغوية وكانت مصطلحاتهم على النحو التالي:

- اللفظ والعبارة العربية إما أن تكون مما لا يحتمل إلا معنى واحداً وهذا سموه (النص).

- وإما أنه يحمل معنيين أو أكثر دون أن يترجح أحدهما على الأخر عند المستمع فهذا سموه (المجمل).
- وإذا جاء ما يرفع إشكال هذا الإجمال ويوضح المعنى المراد سمي هذا (تفسيراً)

- وإذا كان اللفظ مما يحتمل معنيين أحدهما ظاهر، والآخر خفي، سمي المعنى الأول (الظاهر)، والثاني الخفي سمي (المؤول).

- وإذا حمل اللفظ على المعنى الأول قيل هذا اللفظ على ظاهره.. وإذا كان المقصود هو المعنى الثاني الخفي وأريد حمل اللفظ عليه كان هذا (تأويلاً).

- واللفظ إذا كان يندرج تحته أفراد كثيرون قيل عنه لفظ (عام).. وإذا كان يراد به فرد بعينه أو جماعة بعينها سمي (بالخاص).

- وإذا كان لفظ قد ورد دون قيد من صفة أو عدد أو حالة تقيده سمي (مطلقاً).. وإذا جاء ما يحدده بصفة أو عدد أو حالة سمي (مقيداً).

- والكلام إما أن يفهم المعنى المراد منه من نفس الصيغة، فهذا هو مدلول (النص)

- وإما أن يكون معنى آخر خارجاً عن الصيغة يقتضيه اللفظ فهو (المقتضي) أو يشير إليه فهو (الإشارة).

- وقد ينص المتكلم على أمر ما، ولا ينص على مساويه فيدخل المساوي تحت الحكم وإن لم يكن منصوصاً عليه وهذا يسمى عندهم (مفهوم الموافقة).

- وكل كلام فإن له ضد يفهم منه فإذا قلت هذا رجل فإنه يفهم منه أن المشار إليه ليس امرأة وهذا المفهوم يسمى (مفهوم المخالفة).

وإليك تفصيل هذه المجملات:

أولاً: النص

        النص في اللغة: هو الظهور.

ويأتي في اصطلاح أهل الأصول لمعنيين:

(1) الكلام المأثور عن الله سبحانه وتعالى، وكلام رسوله.

(2) الكلام الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً فقط وهو المـراد هنا كقوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} (البقرة:196)

        وقول النبي صل الله عليه وسلم: [من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحل أن يثوي عنده حتى يحرجه] (رواه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع (6502)) وقوله: [احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك] (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع (203))
وحكم النص هو العمل به، وعدم العدول عن منطوقه إلا بناسخ.

ثانياً: الظاهر:

        وهو اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى، ولكن أحد هذه المعاني ظاهر والمعاني الأخرى خفية وقد يكون هذا الخفاء لأسباب منها:

(1) أن يكون خارجـاً عن طريق المجاز كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع، والبدر في الوجه المنير، والذهب والسبيكة في الإنسان الخالص الذي لا شبهة عليه... وطويل العماد، وكثير الرماد، وندى الكف في الرجل الكريم...

        والأصل حمل النص على ظاهره إلا إذا جاءت قرينة تصرف عن المعنى الظاهر، كما حمل زوجـات النبي صلى الله عليه وسلم قوله عليه السلام: [أولكن بي لحوقاً أطولكن يداً] (رواه البخاري (1420) ومسلم (2452) من حديث عائشة) على الظاهر حتى علمن أن مراد النبي صل الله عليه وسلم (هو أكرمكن).

        وطول اليد كناية عن البذل والعطاء.

(2) أن يكون للفظ معنى آخر خفياً كلفظ (الصقب) فإنه ظاهر في الجار، خفي في الشريك... وقد حمل قول النبي صل الله عليه وسلم: [الجار أحق بصقبه] (رواه البخاري (2258))

        في هذا الحديث إلى الشريك وهو المعنى الخفي فعن جابر رضي الله عنهما قال: [قضى النبي صل الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة] (رواه البخاري (2257))

        وحكـم هذا النوع هو ألا يحمل اللفظ على المعنى المرجوح إلا بقرينة صارفة عن إرادة المعنى الظاهر.

(3) أن يكون اللفظ عامـاً ولكن خرج منه بعض أفراده فيظن السامع أن اللفظ باق على عمومه والحال أنه قد خصص كما فهم نوح عليه السلام من قوله تعالى: {أحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول...} الآية (هود:40)

       وبعد هلاك ابنه غرقاً بسبب عصيانه لأبيه دعا نوح عليه السلام ربه قائلاً: {رب إن ابني من أهلي} (هود:45) وظن أنه داخل في عموم الأهل فأجابه الله أنه قد عمل عملاً غير صالح أخرجه من عموم الأهل..
وكما ظن الصحابة أن قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} (المائدة:3) يمكن أن يستثني منه شحومها للاستصباح فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن شحمها كلحمها في الحرمة، كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بمكة عام الفتح: [إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام. فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله صل الله عليه وسلم عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه] (رواه البخاري (2236)، ومسلم (1581))

        وظنوا أن جلد الميتة يدخل في عموم التحريم فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن جلد الميتة له حكم آخر وهو جـواز الانتفاع به كما في حديث ابن عباس قال: (تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صل الله عليه وسلم فقال: [هلا أخذتم إهابها فدبغتموه، فانتفعتم به؟]. فقالوا: أنها ميتة. فقال: [إنما حرم أكلها]) (رواه البخاري (1492) ومسلم (363)) وفي رواية: [إذا دبغ الإهاب فقد طهر] (رواه مسلم (366))

        والأصل في هذا النوع هو العمل بالعموم حتى يعلم دليل التخصيص، لأن العموم هو ظاهر اللفظ، والتخصيص هنا هو المعنى الآخر الخفي المؤول.

        الأصل في كل كلام أنه يحمل على ظاهره، ولا يتحول عن هذا (الظاهر) إلى المعنى (المؤول) إلا إذا تعذر الحمل على هذا الظاهر، أو كانت هناك قرينة واضحة أو نص تصرفه عن هذا الظاهر.

        والخلاف في هذا الأصل قد أدى بأقوام كثيرين إلى الضلال والزيغ، والإلحاد في أسماء الله تعالى وصفاته كما فعلته الفرق الكلامية فإن أصل بدعتهم هو صرف كلام الله تعالى وكلام رسوله صل الله عليه وسلم في أبواب الأسماء والصفات عن ظاهرها بحجة أن الظاهر غير مـراد، أو إن إثبات الظاهر تجسيم لله، ووصف له بصفات المخلوقين، ولذلك نفوا عنه المجيء والاستواء والعلو، والمحبة، والرضا، والغضب، والوجه، واليد، والكلام، وغلا عن هؤلاء غلاة الجهمية فنفوا تعدد الصفات، وقالوا السمع هو البصر، هو الحياة، هو الذات..

        وغلا فوق هؤلاء أناس فقالوا لا موجود ولا غير موجود، فنفوا الصفة وضدها كذلك، وكل هؤلاء كان معتمدهم هو ما سموه (تأويل) النص وصرفه عن ظاهره.. ومحل بيان هذا هو كتب التوحيد وأصول الدين.

واعلم أن التأويل في اصطلاح أهل الأصول على ثلاثة مراتب:

(1) تأويل صحيح يؤيده الدليل.

(2) تأويل فاسد أو تأويل بعيد.

(3) تأويل لعب وزندقة.

- فأما التأويل الصحيح فهو الذي يؤيده الدليل وتقوم القرينة عليه.

- وأما التأويل الفاسد أو البعيد كتأويل من فسر من الفقهاء قوله صل الله عليه وسلم [أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل] (رواه أبو داود (2083) والترمذي (1102) وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1840))
وأن هذا خاص (بالمكاتبة) وهذا تأويل بعيد لأن لفظ المرأة عام، وتخصيصه بالمكاتبة هنا لا دليل عليه، والولي أعم من السيد، ولفظ (أي) من صيغ العموم، وكذلك حمل قوله صل الله عليه وسلم: [من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له] (رواه أبو داود (2405) وصححه الألباني في الإرواء (914)) على النذر والقضاء فقط، لأن اللفظ عام ويدخل فيه رمضان دخولاً أولياً ولا شك.

- وأما تأويل اللعب فهو تأويلات الباطنية والزنادقة كتأويل الشجرة الملعونة في القرآن ببني أمية، وتأويل (المشكاة) في آية النور بأنها فاطمة، والمصباح بأنه علي رضي الله عنه والزجاجة على أنه الحسن رضي الله عنه، والكوكب الدري الحسين!! الخ

- وتأويل الجبت والطاغوت بأبي بكر، وعمر، والسامري بعمر، وفرعون بأبي بكر، والفحشاء والمنكر والبغي بأبي بكر وعمـر وعثمان، فهذا من تأويلات الزنادقة الذين أرادوا هدم الإسلام، ومثل هذا تأويل الإسماعيلية للصلاة بالإمام، والصوم بعدم إفشاء أسرار الدين، والحج بزيارة إمامهم.

ثالثاً: المجمل:

        المجمل في الاصطلاح هـو ما احتمل معنيين كالقرء الذي يطلق على الحيض والطهر، والشفق الذي يطلق على الحمـرة والبياض، ويدخل في المجمل أيضاً اللفظ المشترك كالمشتري فإنه يطلق على النجم الذي في السماء، والمبتاع، وكذلك يطلق المجمل على اللفظ الذي يحتمل معان عدة كالعين فإنها تطلق على آلة البصر، وعين الماء الجارية، والذهب (النقود) وقد يكون الإجمال في حرف كالواو في قوله تعالى: {والراسخون في العلم} (آل عمران:7) فإنها تعرب استئنافية، وتعرب عاطفة، وفي كل نوع من أنواع الإعراب يكون للآية معنى آخر، وقد يكون الإجمال في اسم مركب كما في قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} (البقرة:237) فهذا دائر بين ولي المرأة، والزوج.

        قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-: "كل فعل على وزن افتعل إذا كان معتل العين: المختار، والمصطاد، والمجتاب، ومثاله في المضعف المضطر والمعتل، وكذلك كل صيغة [فاعل مضعفة] يستوي لفظ اسـم فاعلها "كمضار" لهما و "مضار" للفعلين ولأجله اختلف في إعراب والدة فيقوله تعالى: {لا تضار والدة} (البقرة:233) فقيل فاعل، وقيل نائب فاعل، وكذلك كاتب وشهيد في قوله تعالى: {ولا يضار كاتب ولا شهيد} (البقرة:282)" (المذكرة ص/180)

        وحكم المجمل هو التوقف حتى يعرف المراد منه ويأتي البيان له.

رابعاً: البيان:

        البيان في الاصطلاح هو إيضاح ما يشكل فهمه، بسبب إجمال أو غيره كما قال سبحانه وتعالى بعد ذكر الميتة فيما يحرم أكله مبيناً أنواعاً من الميتات {الميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم} (المائدة:3).

        وذلك أنه قد ينصرف إلى الذهن أن المقصود بالميتة ما مات حتف أنفه فقط وأما التي ماتت بسبب من هذه الأسباب الخنق والوقذ، والتردي ليست بميتة فجاء هذا (البيان) هنا لإجلاء ما قد يفهم خطأً من حصر الميتة فيما مات حتف أنفه.

        والبيان يمكن أن يكون تفسيراً بالكلام كما مضى في المثال السابق، ويمكن أن يكون بالإشارة كما جاء في الحديث أن رسول الله صل الله عليه وسلم عقد بأصبعه الإبهام والسبابة حلقه، وقال (هكذا) في حديث يأجوج ومأجوج.

        وكما عقد فتح أصابعه العشرة، وقال الشهر هكذا وهكذا هكذا. ثلاثين أو هكذا وهكذا وهكذا وفتح تسع أصابع فقط وقبض واحداً أي تسعاً وعشرين حتى يدرك منهم من لا يستطيع أن يفهم مدلول كلمة الثلاثين وتسع وعشرين.

        وقد يكون البيان رسماً توضيحياً كما خط رسول الله صل الله عليه وسلم خطاً مستقيماً وقال هذا صراط الله مستقيماً، وخط على جانبي الخط المستقيم خطوطاً متعرجة، وقال هذه السبل على كل سبيل شيطان يدعـو إليه، وتلا قوله تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (الأنعام:153) فكان هذا الرسم (بياناً) لمعنى الآية..

        وقـد يكون (البيان) بالفعل كما صلى النبي صل الله عليه وسلم للمسلمين فوق منبره فكبر وقرأ ثم تأخر فسجد في أصل المنبر ثم صعد فأكمل الركعة الثانية، وقال لهم: [صلوا كما رأيتموني أصلي] (رواه البخاري (631))، فكان هذا (بياناً) بالفعل وكذلك حج وقال [خذوا عني مناسككم] (رواه مسلم)

        والبيان من أعظم مهمات الرسول صل الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل:44) .

        وقد بين الرسـول صل الله عليه وسلم الدين بياناً لا إشكال فيه كما قال: [ولقد تركتكم على مثل البيضاء] (رواه ابن ماجه (5) وحسنه الألباني في الصحيحة (688))

خامساً: العام والخاص:

        (العام): هو اللفظ الذي يدل بحسب وضعه اللغوي على شموله واستغراقه على جميع الأفراد التي يصدق عليها معناه من غير حصر في كمية معينة منها. كقول النبي صل الله عليه وسلم: [المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله...الحديث] (رواه مسلم (2564)) فلفظ المسلم يعم كل من يشهد الشهادتين، ولفظ يظلمه يشمل جميع أنواع الظلم.

        ويختلف العام عن (المطلق) في أن المطلق يدل على فرد شائع أو أفراد شائعة لا جميع الأفراد كقوله تعالى لبني إسرائيل: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة:67) فبقرة هنا يصدق على أي بقرة في الدنيا، ثم لما شددوا قيدت هذه البقرة بأوصاف، فالوصف الأول بكونها لا فارض ولا بكر، والوصف الثاني أنها صفراء فاقع لونها، والثالث أنها لا تثير الأرض و لا تسقي الحرث، ولا شية فيها.. وكل هذه قيود على الوصف الأول.

        فالعام يتناول معناه دفعة واحدة، والمطلق يتناول معناه فرداً فرداً فهو عام من كونه يصدق على أي بقرة، ولكنه لا يتناول البقر جميعاً دفعة واحدة، وإنما عن طريق البدل.

        وعند الأصوليين يستعملون العام للمعنى الأول.

ألفاظ العموم:

1- لفظ كل، وجميع، وكافة كقوله تعالى في الحديث القدسي: [يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته] (رواه مسلم (2577) وتقدم تخريجه).. وكقوله تعالى: {كل من عليها فان} (الرحمن:26) فإنها تشمل جميع من على الأرض، وأنه يفنى قبل يوم القيامة.
(وجميع): كما في قـوله تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} (البقرة:30) فإنه لم يتخلف ملك عن السجود، ويشمل هذا جميع الملائكة بلا استثناء.

        (كافة): كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} (البقرة:208) أي ادخلوا في شرائع الإسلام كلها، أو ادخلوا جميعكم في شرائع الإسلام.

(2) الاسم المعرف بالألف واللام إذا لم تكن (أل) هـذه للعهد سواء كان في حالة الجمع كما في قـوله تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات..} الآية (الأحزاب:
35) فإنها تعم كل مسلم ومسلمة، ومؤمن ومؤمنة.

        أو الأفراد كقوله تعالى: {والسارق والسارقة} (المائدة:38) وقوله: {والزانية والزاني} (النور:2) فإنها تشمل كل سارق وسارقة، وزانية وزان.

        أو التثنية كقوله صل الله عليه وسلم: [إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار] (رواه البخاري (31)، ومسلم (2888))

        فإنه يعم كل المسلمين.

(3) الأدوات الآتية كـ: (من، وما، وأي، وأين، وأيان، ومتى) إذا جاءت في صيغة الشرط، أو كانت للصلة، أو كانت للاستفهام .

(4) النكرة إذا أضيفت إلى معرفة كما في قوله تعالى: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} (إبراهيم:34) أي نعم الله.

(5) النكرة في سياق النفي (كلا إله إلا الله).. نفي لكل الآلهة، وإثبات إله واحد وهو الله سبحانه وتعالى وإذا أضيفت من قبل النكرة فإنها تكون نصاً في العموم كقوله تعالى: {وما من إله إلا الله} (آل عمران:62).

        وكقول المشركين: {ما جاءنا من بشير ولا نذير} (المائدة:19) فهو ادعاؤهم إنه لم يأتهم نذير قط..

        وكذلك إذا سبقها لا النافيـة للجنس العاملة عمل (إن) كما تقول: (لا رجل في الدار) نفي لوجود مطلق الرجل .

أحكام العام:

(1) يجب العمل باللفظ العام على عمومه، ولا يجوز تخصيصه إلا إذا جاء ما يخصصه.

(2) إذا ورد اللفظ العام على سبب خاص فإن العبرة تكون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما جاء حكم السرقة بعد أن سرقت المخزومية، وحكم اللعان بعد أن اتهم عويمر العجلاني، وهلال بن أمية زوجتيهما، وحكم الزواج من الزانية بعد أن سأل مرثد بن أبي مرثد الغنوى رسول الله صل الله عليه وسلم عن زواجه من (عناق) وهي بغي بمكة، والعبرة في كل ذلك بألفاظ العموم لا بخصوص الأسباب التي نزلت فيها الأحكام.
ويدل على هذا الأصل ما يلي:

(1) أن الوضع اللغوي للعموم يقتضي إعماله.

(2) أن قضاء الرسول وإفتاءه، وأمره ونهيه لواحد من المسلمين هو لكل المسلمين ما لم يدل دليل على هذه الخصوصية كقوله صل الله عليه وسلم لأبي بردة لما استشاره في التضحية بالجذعة من الضأن [اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك] (رواه البخاري (955)، ومسلم (1961))

(3) أن ألفاظ العموم لو اقتصرت على السبب الخاص الذي نزل فيه لتعطلت عامة أحكام الشريعة فإن غالبها نزل لأسباب خاصة.

قواعد في العموم:

(1) النسـاء داخلات في خطاب التكليف ولو كان المخاطب هو الرجال.. إلا ما دل الدليل على اختصاصهن به فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا...} يدخل فيه النساء حتماً، ولا يخص ذلك الذكور.

        وكذلك جمع المذكر السالم يشمل النساء بدليل قوله تعالى: {وكانت من القانتين} (التحريم:12) ولم يقل من القانتات، وقوله: {إنها كانت من قوم كافرين} (النمل:43).

(2) خطاب الله سبحانه وتعالى لرسوله يعم المسلمين جميعاً ما لم يدل دليل على التخصيص كقوله تعالى: {يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً} (المزمل:1) فقد قام رسول الله والمؤمنين معه بدليل قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه، وثلثه وطائفة من الذين معك...} الآية (المزمل:20) وهذه ناسخة لقوله تعالى {قم الليل إلا قليلاً} ثم جاء استثناء الرسول صل الله عليه وسلم من نسخ قيام الليل في حقه لقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً} (الإسراء:79)

        وكذلك لما شرع الله لرسوله حكماً خاصاً في زواجه من الواهبة نفسها قال تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصـة لك من دون المؤمنين..} الآية (الأحزاب:50)
ومما يدل أيضاً على دخول المؤمنين في خطاب النبي صل الله عليه وسلم قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم..} الآية (الطلاق:1)

سادساً: المطلق والمقيد:

        اللفظ المطلق هو الذي يتناول فرداً من نوعه أو جنسه غير مقيد بقيد خاص. فقوله تعالى لبني إسرائيل: {إن اللهيأمركم أن تذبحوا بقرة} (البقرة:67) يصدق وصف البقرة على أي بقرة في الدنيا صغيرة أو كبيرة صفراء أو سوداء أو بيضاء أو رقطاء... وقوله تعالى: {فتحرير رقبة} (المجادلة:3) يصدق على أي رقبة في الدنيا ذكراً أو أنثى مؤمنة كانت أو كافرة.

        واللفظ المقيد قد يكون مطلقاً من وجه آخر كقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء:92) فإنها قيدت بقيد الإيمان، ولكنها مطلقة من حيث الذكورة والأنوثة، والسلامة والعيب.

أحكام المطلق والمقيد:

        إذا جاء لفظ من ألفاظ الشارع مقيداً تارة، ومطلقاً تارة أخرى فما حكم ذلك؟

(1) إذا اتحد السبب والحكم وجب حمل المطلق على المقيد كما في قوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة والدم ولحـم الخنزير..} الآية (المائدة:3) مع قـوله تعالى: {قل لا أجـد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً} (الأنعام:145) فالدم في هذه الآية جاء مقيداً بأنه مسفوح، وفي آية البقرة مطلقاً..

        والسبب والحكم هنا واحد وهو تحريم أكل الدم، ولا شك أنه لا يحرم إلا الدم المسفوح سواء عند الذبح أو ما كانت تصنعه العرب من فصد الحيوان واستقبال الدم ثم أكله إذا جمد.
وأما الدم الباقي في العروق أو على اللحم فإنه لا يحرم أكله، ولا يجب غسل اللحم تماماً حتى يخرج منه أثر الدم ...

(2) وأما إذا اتحد الحكم واختلف السبب كما جاء في كفارة القتل الخطأ {فتحرير رقبة مؤمنة} (النساء:92) قيدت الرقبة بوصف الإيمان، وأما في كفارة الظهار فجاءت الرقبة مطلقة {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} (المجادلة:3)

        فذهب بعض الفقهاء إلى وجوب حمل المطلق على المقيد، وذهب بعضهم إلى العمل بمنطوق كل آية في مكانها لاختلاف سبب الحكم.
(3) وأما إذا اختلف الحكم واتحد السبب كخصال الكفارة في الظهار فإن العتق، والصوم قيدا بأنه ذلك لا بد أن يكون {من قبل أن يتماسا} وأما في الإطعام فقد جاء مطلقاً..
وكذلك قيد الإطعام في كفـارة اليمين بأنه {من أوسط ما تطعمون أهليكم} (المائدة:89) وأطلقت الكسوة.. وفي هذه خلاف أيضاً بين أهل الأصول.

(4) وأما إذا اختلف الحكم والسبب جميعاً فلا خلاف من أنه لا يحمل هنا مطلق على مقيد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: رد: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 8:04 am

المذاهب الفقهية

 
المذهب الفقهي إصطلاح ظهر خلال القرن الرابع الهجري، بعد تميز المذاهب الفقهية، وهو عند الفقهاء الإتجاه الفقهي في فهم أحكام الشريعة والطريقة التي ينهجها المجتهد أو عدد من المجتهدين في الاستنباط، وكيفية الإستدلال، والفروع التي تضاف في ضوء أصول المذهب..

وأصول المذاهب تتميز عن بعضها بسبب اختلاف أصحابها في مناهج الاجتهاد والاستنباط، وليس في الأصول الكلية أو الأدلة الإجمالية.. إذ المنهج الاجتهادي الخاص، واختيارات كل إمام فيما يأخذ به من الأدلة التبعية، هو الذي يميز بين "أصول المذهب" و"أصول الفقه".
وثمة مجموعة من العوامل والخلفيات ساهمت في ظهور المذاهب الفقهية، بحيث يمكن حصر أهم تلك العوامل والأسباب في العاملين السياسي والفكري. هذان العاملان ساهما في ظهور مناطق فراغ في المجال الفقهي، فنشأت عشرات من المذاهب الفقهية خلال القرن الثاني والثالث الهجري لسد هذه المناطق، من خلال بلورة اجتهادات واتجاهات فقهية مختلفة.. حتى أنها عدت خمسين مذهبا انقرض غالبيتها مثل مذهب الليث بن سعد، وداود بن علي الظاهري، وعبد الرحمن الأوزاعي.. ولم يبق منها إلا أربعة سنية، وأخرى غير سنية كالمذهب الجعفري والزيدي والإمامي والإباضي وغيرها من المذاهب التي تتوزع مختلف أقطار العالم الإسلامي.

مراحل تطور المذاهب السنية
مرّت المذاهب الفقهية (السنية) بعد قيامها وتبلور مناهجها بثلاث مراحل أساسية:
- مرحلة التأسيس والبناء: امتدت هذه المرحلة على ما يربو عن ثلاثة قرون حتّى سقوط بغداد (سنة 656)هـ. تميزت هذه المرحلة بتنظيم وترتيب الفقه المذهبي. كما ألفت مدونات جمعت المسائل الخلافية مع المذاهب الأخرى..
- مرحلة شيوع ظاهرة التقليد وإغلاق باب الاجتهاد: مع بداية القرن الثامن الهجري، حيث اقتصر النشاط الفقهي على اجترار التراث الفقهي عن طريق شرحه واختصاره أو تنظيمه، من دون إضافة جديدة. مع طغيان المباحث اللفظية والمسائل الافتراضية، فابتعد الفقه عن الحياة.
- مرحلة التجديد والانطواء: مع بداية القرن التاسع عشر، حيث أخذت الدراسات الفقهية تشق طريقها نحو التجديد والتطوير ومواكبة العصر ومشكلاته المختلفة تحت ضغط التطور الزمني، وتقدم المعارف الإنسانية، والإحتكاك بالحضارات. فظهرت نخبة من العلماء قادوا حركة التجديد وحذروا من الجمود والركود.
ثم نأتى إلى التعريف بالمذاهب الفقهية

أولا : المذاهب السنية الأربعة
وهكذا ظهرت المذاهب الفقهية الكبرى في عصر الدولة العباسية. وهذه المذاهب حسب التسلسل التاريخي في الظهور:
- المذهب الحنفي: نسبة إلى الإمام أبي حنيفة النعمان ( 80 - 150 هجرية ) -وإن كان المذهب الحنفي يشتمل على تحقيق مناهج شيوخ المذهب كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، ولم يكن قاصرا على منهج أبي حنيفة بالذات- نشأ المذهب الحنفي في الكوفة ونما في بغداد، واتسع بمؤازرة الدولة العباسية له.
وكان مذهبه يعتمد –بالإضافة إلى الأصول النقلية المتفق عليها- على القياس والاستحسان والعرف وقول الصحابي وشرع من قبلنا، فتوسع المذهب في اعتماد الأصول العقلية وتشدد في ضوابط الأخذ بالحديث بسبب تعقد الحياة وتطور المدنية في البيئة العراقية.
ومن أهم كتب المذهب الحنفي: كتب" ظاهر الرواية" الستة، وكتب "النوادر" للإمام محمد بن الحسن، وكتاب "الكافي" للحاكم الشهيد، وكتاب "المبسوط" للسرخسي، وكتاب "بدائع الصنائع" للكاساني، وكتاب حاشية ابن عابدين المسماة "رد المحتار على الدر المختار" وغير ذلك.
- المذهب المالكي: وهو عبارة عما ذهب إليه الإمام مالك ( 39 - 179 هجرية ) من الأحكام الاجتهادية مراعيا في ذلك أصولا معلومة وأخرى مخصوصة. ويعتمد المذهب ـإضافة إلى الأصول المتفق عليها بين جميع الأئمة من الكتاب والسنة والقياس وإجماع الصحابة ـ على عمل أهل المدينة والاستصلاح. ومن أبرز المؤلفات في هذا المذهب:"الموطأ" للإمام مالك، و"المدونة الكبرى" وهي آراء الإمام مالك الفقهية جمعها ودونها سحنون بن سعيد التنوخي..
انتشر المذهب المالكي أكثر ما انتشر في شمال إفريقية ومصر والأندلس، وقام علماء كثيرون بنشره في العراق وبلاد خراسان..
- المذهب الشافعي: وصاحبه محمد بن إدريس الشافعي ( 150 - 204 هجرية)، عاش في مكة ثم رحل إلى العراق حيث تعلم في بغداد فقه "أبي حنيفة" قبل رحيله واستقراره قي مصر. ومن ثم جاء مذهبه وسطاً بين مذهب " أبي حنيفة" المتوسع في الرأي، ومذهب "مالك بن أنس " المعتمد على الحديث. ويعتمد المذهب الشافعي في استنباطاته وطرائق استدلاله على الأصول التي وضعها الإمام الشافعي ودونها في كتابه الشهير "بالرسالة"، بحيث يعد أول من دون كتاباً متكاملاً في علم أصول الفقه. من أبرز علماء الشافعية في حياة الشافعي هم تلامذته: الربيع بن سليمان الجيزي والربيع بن سليمان المرادي، والبوطي..
ومن أشهر كتب مذهبه إضافة إلى كتب الشافعي نفسه كتاب "فتح العزيز في شرح الوجيز" للرافعي، و"روضة الطالبين" و"المجموع" للنووي، و"المهذب" و"التنبيه" للشيرازي، و"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيثمي.
- المذهب الحنبلي: وصاحبه الإمام أحمد بن حنبل ( 164 - 241 هجرية )، وهو آخر المذاهب الأربعة من الناحية الزمنية. وكان ابن حنبل يرى أن يقوم الفقه على النص من الكتاب أو الحديث، وأنكر على أستاذه " الشافعي " أخذه بالرأي، واعتبر الحديث أفضل من الرأي. لذلك عد في نظر كثير من العلماء من رجال الحديث لا من الفقهاء. ومن أشهر كتبه "المسند" الذي يعتبر موسوعة لأحاديث الرسول صل الله عليه وسلم، والذي يحوي أربعين ألف حديث .
ومن أشهر رجال الحنابلة الذين قاموا بنشر المذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية . وأهم تلاميذه صالح ابن الإمام أحمد، وابنه الآخر عبد الله وأبو بكر الأثرم والمروذي وأحمد بن محمد بن الحجاج وإبراهيم الحربي. وأهم كتب مذهبه "مختصر الخرقي"، الذي شرحه ابن قدامه في كتابه "المغني" وكتاب "كشاف القناع" للبهوتي، و"الفروع" لابن مفلح، و"الروض المربع" للحجاوي.
انتشر في عدد كبير من البلاد من أهمها بلاد الشام، ونجد في الجزيرة العربية


ثانيا :  المذاهب الأخرى ومن أشهرها

1 - مذهب عبد الله بن مسعود علم أصول الفقه Radia ( ت 32 هـ ) .
2 - مذهب عائشة رضي الله عنها ( ت 57 هـ ) .
3 - مذهب عبد الله بن عمر علم أصول الفقه Radia ( ت 73 هـ ) .
وهؤلاء الثلاثة من كبار الصحابة وللاستزادة ممكن الرجوع الى قول الصحابة فى صفحة مصادر التشريع وأيضا ممكن الرجوع الى صفحة الصحابة ضمن شخصيات تاريخية للتعرف على هؤلاء الصحابة
4 - مذهب عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم ( ت 101 هـ ) .
.قال د . محمد بن سعيد بن شقير في " فقه عمر بن عبد العزيز " ( 1 / 106 ) :
مع أن عمر بن عبد العزيز قد بلغ القمة في العلم إلاّ أن علمه لم يُنقَل إلينا منه إلاّ القليل،
وذلك يرجع لأمرين :
أ - انشغاله بأمور تدبير الرعية وقيادة الأمة ورد المظالم والسهر على مصالح المسلمين .
ب - قرب وفاته، فقد توفّي في الأربعين من عمره؛ الأمر الذي لم يمكّن تلاميذه من نقل ما عنده من العلم .
اهـ
5 - مذهب مجاهد ( ابن جبر، توفي بعد المئة هجرية بقليل ) .
مجاهد بن جبر (21-104 هـ - 642-722م) هو أبو الحجاج مجاهد بن جبر المكي المخزومي. ويعرف اختصاراً في المصادر والكتب التراثية بمجاهد. وهو أمام وفقيه وعالم ثقة وكثير الحديث, وكان بارعاً في تفسير وقراءة القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.
شيوخه ومن روى عنهم الحديث
روى مجاهد الكثير عن ابن عباس، كما عرض عليه القرآن ثلاث مرات, وكان خلال كل مرة يقف عند كل آية فيسأله عنها, كيف كانت؟ وفيم نزلت؟. كما أخذ عن ابن عباس إضافة إلى قراءة القرآن تفسيره, وكذلك أخذ عنه الفقه. وروى مجاهد عن عائشة وعن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وعن أبي سعيد الخدري.
رواته والذين أخذوا عنه
روى الحديث عن مجاهد الكثيرون ومنهم عكرمة وطاووس وعطاء بن السائب وسليمان الأعمش وعمرو بن دينار وجماعة آخرون. أما قراءة القرآن فقد قرأ عليه ثلاثة من أئمة القراءات, وهم ابن محيصن, وابن كثير, وأبو عمرو بن علاء البصري.
مناقبه
كان مجاهد من أعلم الناس بالقرآن حتى أن الإمام الثوري قال خذوا التفسير من أربعة: مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك. وله كتاب في التفسير ويقول بعض المفسرين أن من منهجه في ذلك الكتاب أنه كان يسأل أهل الكتاب ويقيد فيه ما يأخذه عنهم, ووما يذكر عنه أنه كان شغوفاً بالغرائب والأعاجيب ولأجل ذلك فقد ذهب إلى بئر برهوت في حضرموت ليتقصى ما علمه عنه, كما أنه بنفس هذا الدافع ذهب إلى بابل يبحث بها عن هاروت وماروت.
6 - مذهب الشعبي ( عامر بن شراحيل، توفي بعد المئة هجرية بقليل ) .
عامر بن شراحيل الشعبي، كان الشعبي من شعب همدان، كنيته أبو عمرو، وكان علامة أهل الكوفة، كان إماماً حافظاً، ذا فنون، وقد أدرك خلقاً من الصحابة وروى عنهم وعن جماعة من التابعين، وعنه أيضاً روى جماعة من التابعين.
قال أبو مجلز: ما رأيت أفقه من الشعبي.
قال مكحول: ما رأيت أحداً أعلم بسنة ماضية منه.
قال داود الأودي: قال لي الشعبي: قم معي هاهنا حتى أفيدك علماً بل هو رأس العلم. قلت: أي شيء تفيدني؟ قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم، فإنه عالم حسن.
قال: لو أن رجلاً سافر من أقصى اليمن لحفظ كلمة تنفعه فيما يستقبل من عمره ما رأيت سفره ضائعاً، ولو سافر في طلب الدنيا أو الشهوات إلى خارج هذا المسجد، لرأيت سفره عقوبة وضياعاً.
قال: العلم أكثر من عدد الشعر، فخذ من كل شيء أحسنه, توفي سنة 100 هجرية
7 - مذهب عطاء ( ابن أبي رباح، ت 114 هـ ) .
أبو محمد عطاء بن أبي رباح أسلم بن صفوان (27 هـ-114 هـ) مولى آل أبي خيثم الفهري القرشي من أصول نوبية، فقيه عالم محدث، من أجلاّء الفقهاء والتابعين في القرن الأول والثاني الهجريين. ولد عطاء بن أبي رباح في الجند إحدى ضواحي مدينة تعز وتتبع المناطق الوسطى لليمن وهي نفس المدينة التي مكث فيها معاذ بن جبل عندما أرسله المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم لنشر تعاليم الإسلام والعمل على دعوة أهل اليمن. نشأ بمكة، وتعلم من علمائها. أخذ عن عائشة وأبي هريرة وأم سلمة وأم هانئ وابن عباس وعبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر وابن الزبير ومعاوية وأبي سعيد وعدة من الصحابة ومن التابعين، حدث عن عبيد بن عمير ومجاهد وعروة وابن الحنفية وغيرهم كثير. وأخذ عنه الأوزاعي وابن جريج وأبو حنيفة والليث. وحدث عنه مجاهد بن جبر، وأبو إسحاق السبيعي، وعمرو بن دينار، وقتادة، وعمرو بن شعيب، والأعمش، وأيوب السختياني، ويحيى بن أبي كثير، وكثير غيرهم.
8 - مذهب الأعمش ( سليمان بن مهران، ت 147 أو 148 هـ ) .
أبو محمد سليمان بن مهران مولى بني كاهل من ولد أسد، المعروف بالأعمش (61هـ - 148هـ) من علماء الكوفة المشهورين.
ولد الأعمش في الكوفة وأصله من بلاد الري، لحق بأنس بن مالك وكلمه، لكنه لم يرو عنه شيء. كان عالما بالقرآن، والحديث، والفرائض حيث روى نحو (1300) حديث. التقى بسفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وحفص بن غياث.
قال عنه الذهبي: «كان رأسًا في العلم النافع، والعمل الصالح» وقال السخاوي: «لم ير السلاطين والملوك والأغنياء في مجلس أحقر منهم في مجلس الأعمش مع شدة حاجته وفقره»
 9 -  مذهب سفيان الثوري ( 65 - 161 هجرية ) :
ولد في الكوفة ، وكان أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، وهو أحد الأئمة المجتهدين ، وله مذهب لم يدم العمل به لقلة أتباعه ،
وأراد الخليفة أبو جعفر المنصور قتله ، فهرب . وبقي مذهبه معمولا " به لغاية القرن الرابع . وقد لقب بأمير المؤمنين 
10 - مذهب الليث بن سعد ( 92 - 175 هجرية ) :
 وهو فقيه مصر ، وقد برز هناك عندما تصدى للدفاع عن عثمان بن عفان لكثرة انتقاص أهل مصر له .
وقال فيه الشافعي : الليث أفقه من مالك . ويقال أن سبب انقراض مذهبه هو عدم قبوله منصب القضاء في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي
11 -  مذهب سفيان بن عيينة ( ت 198 هـ ) .
سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون الهلالي الكوفي ثم المكي إمام ومحدث شهير وعرف بالزهد والورع. وقد ولد في الكوفة سنة 107 هـ وتوفي 198 هـ. أجمع الناس على صحة حديثه وروايته. طلب العلم وهو غلام وروى الحديث عن الكبار ومنهم: الزهري وأبي اسحق السبيعي وعمرو بن دينار ومحمد بن المكندر وأبي الزناد وعاصم بن أبي النجود المقري والأعمش وعبد الملك بن عمير وغيرهم.
و روى عنه عدد كبير من العلماء الأجلاء والأئمة الكبار. منهم: الأعمش، وابن جريج، وشعبة بن الحجاج - وهؤلاء من شيوخه - وهمام بن يحيى، والحسن بن حي، وزهير بن معاوية، وحماد بن زيد، وإبراهيم بن سعد، وأبو إسحاق الفزاري، ومعتمر بن سليمان، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، والشافعي، وعبد الرزاق، والحميدي، وسعيد بن منصور، ويحيى بن معين، وعلي بن المديني، وإبراهيم بن بشار الرمادي، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله بن نمير، وإسحاق بن راهويه وغيرهم خلق كثير
12 - مذهب إسحاق ( ابن إبراهيم بن راهويه، ت 238 هـ ) .
ابن رَاهَوَيْه (161 هـ- 238 هـ / 778 - 853 م)، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخْلد الحنظلي التميمي المروزي. الإمام الكبير، شيخ المشرق، سيد الحفاظ، أحد أئمة المسلمين، وعلماء الدين، اجتمع له الحديث والفقه والحفظ والصدق والورع والزهد.
نزل نيسابور، ورحل إلى العراق والحجاز واليمن والشام وعاد إلى خراسان. روى عن ابن عُليَّة، وابن عيينة، وابن مهدي، وعبدالرزاق، وغيرهم، وروت عنه الجماعة سوى ابن ماجة. قال الإمام أحمد عنه: إسحاق إمام من أئمة المسلمين. وقال نعيم بن حماد: إذا رأيت الخراساني يتكلم في إسحاق بن راهويه فاتهمه في دينه. وقال الدارمي: ساد إسحاق أهل المشرق والمغرب بصدقه. وقد حكى إجماع الصحابة رضي الله عنهم في كفر تارك الصلاة.
وله مصنفات منها؛ المُسْند، والتفسير. وقد أملى المسند والتفسير من حفظه، وما كان يُحدِّث إلاّ حفظاً
 13 - مذهب داوود بن علي الظاهري ( 202 - 270 هجرية ) :
ولد بالكوفة ، ونشأ ببغداد واستمر العمر بمذهبه حتى القرن السابع الهجري حتى أن بعضهم عده رابع الأئمة بدلا " من الإمام أحمد بن حنبل ومذهبه يقال له مذهب الظاهرية ولمذهب الظاهرية إمامان، الأول: داود بن علي الأصبهاني وهو منشيء المذهب. الثاني: أبو محمد ابن حزم الأندلسي وهو المجدد للمذهب الظاهري، وقد كان له الفصل في بيان المذهب وبسطه،
أما عدم شيوع مذهب الظاهرية فله عدة أسباب من أهمها قلة علماء المذهب وقلة كتبه فلم يشتهر منها إلا كتب أبي محمد ابن حزم، إلا أنه كان شديد العبارة على بعض العلماء، فكان ذلك سبباً لإعراض بعض العلماء عن كتبه وطعن بعضهم فيه فكان لذلك أكبر الأثر في خمول المذهب.
قال في الموسوعة: والحق أن بقاء مذهب ما أو انتشاره يعتمد على ثقة الناس بصاحب المذهب واطمئنانهم إليه، وعلى قوة أصحابه ودأبهم على نشره. اهـ
هذا بالإضافة إلى أنه حكيت أقوال كثيرة مكذوبة عليه، وعلى داود بن علي أدت إلى نفرة العوام والخواص عن المذهب.
أما قول بعض أهل العلم تطرف ابن حزم في رأيه وما شابه فسببه إفراطه بالقول بالظاهر مع نفيه لفحوى الخطاب والقياس الجلي والقياس مع عدم الفارق مما أوقعه في غرائب في بعض الأحيان جعلت العلماء يعجبون منها لما يعلمونه من فرط ذكائه ومعرفته بالسنة حتى قال ابن تيمية: فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. اهـ
وقد كان رحمه الله موافقاً لأهل السنة معظماً للسلف، لكنه خلط بين أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات، مما جعله مخالفاً لأئمة أهل السنة في بعض المسائل، ولعل هذا من أسباب عدم كونه إماماً لأهل السنة كباقي الأئمة إلا أنه رأس في علوم الإسلام، ولم يخالف أبو محمد الإجماع إلا نادراً وفي مسائل محصورة، والسبب في ذلك أن ابن حزم لا يقول بحجة الإجماع الذي لا يستند إلى دليل، فكان إذا وجد إجماعاً لا دليل عليه لم يقل به وإلا فهو يقول بإجماع كل عصر خلافاً لداود بن علي، ولكن يشترط وجود الدليل، قال في الإحكام :الأصول التي لا يعرف شيء من الشارع إلا منها هي: نص القرآن ونص كلام الرسول صل الله عليه وسلم مما صح عنه ونقله الثقات أو التواتر وإجماع جميع العلماء. اهـ
وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى بما حاصله أن العلماء يكتفون في بعض الأحيان بذكر الإجماع عن ذكر الدليل
.14 - مذهب محمد بن جرير ( الطبري، ت 310 هـ )
محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الشهير بالإمام الطبري (838-923) (224 هـ آمل ، طبرستان - 28 شوال 310 هـ) مؤرخ ومفسر وفقيه مسلم صاحب أكبر كتابين في التفسير والتاريخ. يعتبر أكبر علماء الإسلام تأليفًا وتصنيفًا.إمام المؤرخين والمفسرين الإمام الطبري
بدأ الطبري طلب العلم بعد سنة 240هـ وأكثر الترحال ولقي نبلاء الرجال، قرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد ثم ارتحل منها إلى دمشق والمدينة المنورة ثم الري وخراسان، تفقه الطبري على الشافعي حتى أصبح من كبار الشافعية، ثم أصبح مجتهدًا مطلقًا فانفرد بمذهب مستقل لم يكتب له الدوام، وذلك لذهاب مدوناته، وتفرق أصحابه وأتباعه
تعرض الطبري لمحنة شديدة في أواخر حياته بسبب التعصب المذهبي، فلقد وقعت ضغائن ومشاحنات بين ابن جرير الطبري ورأس الحنابلة في بغداد أبي بكر بن داود أفضت إلى اضطهاد الحنابلة لابن جرير، وكان المذهب الحنبلي في هذه الفترة هو المسيطر على العراق عامةً وبغدادَ خاصةً، وتعصب العوامّ على ابن جرير ورموه بالتشيّع وغالوا في ذلك. حتى منعوا الناس من الاجتماع به، وخلطوا بينه وبين أحد علماء الشيعة واسمه متشابه مع ابن جرير، وهو «محمد بن جرير بن رستم» وكنيته أيضًا أبو جعفر، ولقد نبه الذهبي على هذا الخلط في تأريخه وفي كتابه سير أعلام النبلاء. ظل ابن جرير محاصرًا في بيته حتى تُوفّي
 15 -  مذهب عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ( المتوفى سنة 257 هجرية ): وقد انتشر هذا المذهب في الشام والأندلس ، وبقي هناك لغاية 302 هجرية قبل أن يحل مكانه مذهب الإمام الشافعي
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (7/117) : " كان للأوزاعي مذهب مستقل عمل به فقهاء الشام مدّة، وفقهاء الأندلس مدّة، ثم فني "، وقال عبد الباسط الفاخوري في " تحفة الأنام مختصر تاريخ الإسلام " (ص 82) : " وقد بقي أهل الشام وما يليها وأهل الأندلس يتعبّدون على مذهبه نحو مئتين وعشرين سنة
أول من أدخل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس هو صعصعة بن سلام، قال الحميدي في ترجمته في " جذوة المقتبس " (ص 237/ ط .المكتبة العصرية) : 
أندلسي، فقيه، من أصحاب الأوزاعي، وهو أول مَن أدخل الأندلس مذهب الأوزاعي، مات سنة 192 هـ ، قاله ابن حزم . اهـ
16 - مذهب ابن خزيمة :
.قال ابن القيم "و قد كان إمام الأئمة ابن خزيمة رحمه الله تعالى له أصحاب ينتحلون مذهبه ، ولم يكن مقلدا ، بل إماما مستقلا كما ذكر البيهقي في مدخله عن يحيى بن محمد العنبري ، قال : طبقات أصحاب الحديث خمسة : المالكية ، والشافعية ، والحنبلية ، والراهوية ، والخزيمية أصحاب ابن خزيمة ".اعلام الموقعين


أسباب انتشار المذاهب الأربعة
انتشار المذاهب الأربعة وبقائها وتقليد من بعدهم لها :
إن لانتشار المذاهب الأربعة، وبقائها دون غيرها من المذاهب، وتقليد المتأخرين لها، أسبابًا كثيرة أهمها الأسباب الآتية:
1- التلاميذ:
فقد هيأ الله لكل إمام من الأئمة الأربعة تلاميذ نجباء، ذوي قوة، أعجبوا بطريقة الإمام، وتأثروا بها، ودافعوا عنها، وكان لهؤلاء التلاميذ مكانة عند الجمهور تدعوهم إلى الأخذ عنهم والعمل بفتواهم، ولما تأصلت الثقة في قلوب الجماهير بهؤلاء الأئمة كان من الصعب بعد ذلك أن يقوم قائم بمذهب جديد يدعو الناس إلى اتباعه، ولو فعل ذلك أحد لثاروا عليه، وعدوه بذلك خارجًا عن الجماعة وكادوا له، وكانت همة الفقيه -بعدهم- الذي سَمَتْ نفسه إلى الاجتهاد أن يكون في النهاية مجتهد مذهب، يفتي بمذهب إمامه، أو يرجح أحد الرأيين له في مسألة من المسائل.
2- القضاء:
فقد كان الخلفاء في الماضي يختارون قضاتهم ممن يتوسَّمُون فيهم العلم بكتاب الله وسنة رسوله، والقدرة على استنباط الأحكام، فيَكِلُون إليهم الحكم، بعد أن يأخذوا عليهم ألا يعملوا إلا بالنصوص فيما فيه نصٌّ، أو الرأي الذي هو أقرب إلى النصوص فيما لا يكون فيه نص، كما في كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء: " الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة، فاعرف الأشباه وقس الأمور عند ذلك، واعمد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق " ا. هـ.
وكان جمهور الناس يثقون بهؤلاء القضاة ثقة تامة، ثم تغيّرت الحال بامتداد الزمن، فوُجِد من القضاة من لم يحافظ على سمعته وثقة الناس به، بما يظهر للناس من خطئه فظهر منهم الميل؛ لأن يكون القاضي مقيدًا في قضاءه بأحكام مذهب معيّن، حتى لا يتيسر له الشذوذ ليقضي به إذا وافق هواه وغرضه.
وهيأ الله لكل مذهب من الملوك والسلاطين من يقلده ويقصر تولية القضاء عليه، فيزداد العلماء الذين يقومون به بنشره وإشاعته، كما حصل لمذهب الشافعي من نصرة محمود بن سُبكتكين في بلاد المشرق وصلاح الدين الأيوبي في مصر وكما كان لمذهب أبي حنيفة من نصرة العنصر التركي له، وكما حصل لمذهب مالك من نصرة الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل من نشره في بلاد الأندلس وكما حصل لمذهب أحمد من نصرة الدولة السعودية له في بلاد نجد والحجاز وملحقاتهما في العصر الحاضر، وكان من أنشأ مدرسة أو وقف وقفًا قصره على ذلك المذهب، فكان ذلك سببًا في انتشاره وتقليد الناس له.
3- تدوين المذاهب:
فقد وُفّق لكل مذهب مدوّنون موثوق بهم، فدوّنوا ما تلقوه عن إمامهم من الأحكام، وأخذها منهم العدد الكثير من تلاميذهم، فبثوها بين الناس الذين اتبعوهم ثقة منهم بمن يفتونهم، وبذلك قضي على المذاهب التي لم ينشط أتباعها إلى تدوينها وتهذيبها حتى يسهل تناولها، ولذلك لم ينتشر مذهب الليث بن سعد مع فقهه وورعه، حتى قال الشافعي كان الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به.
أي لم يُعْنَوا بتدوين آرائه وبثها بين الناس، كما فعل أتباع مالك -رحمه الله-، ومثل الليث كثير من أئمة الصحابة والتابعين الذين لهم آراء واستنباطات جيدة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: رد: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 8:06 am

أقسام الفقه

الفقه الإسلامي ينقسم إلى سبع أقسام هي :

1- فقه العبادات " مثل الصلاة والصيام والزكاة ....... " .

2- فقه المعاملات " مثل البيع والشراء والرهن  ....... " .

3- فقه الأحوال الشخصية " مثل الزواج والطلاق والإرث ....... " .

4- فقه الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية – واجبات الحاكم والمحكوم .

5- فقه العقوبات : حفظ الأمن والنظام وعقوبة القاتل ....... " .

6- فقه السير " علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى ....... " .

7- فقه الآداب والأخلاق .










مصطلحات فقهية مهمة


1. الفرض : ما طلب الشارع فعله طلبا جازما و ثبت الطلب بدليل قطعي لا شبهة فيه كالقرآن و السنة المتواترة , أو الإجماع , و كانت الدلالة قطعية , و هو اعلى مراتب التكليف الشرعي .
حكمه : لزوم فعله مع الثواب , و العقوبة على تركه . ( و من ينكر الفرض كفر و خرج عن الإسلام ) .

2. الواجب : ما طلب الشرع فعله طلبا جازما , و لكنه دون مرتبة الفرض , لأنه ثبت بدليل ظني .
حكمه : الثواب على فعله , و العقاب على تركه . ( و لا يكفر منكره )

3. السنة : هي ما طلب الشرعف فعله طلبا غير لازم .
حكمها : يثاب فاعله و لا يعاقب تاركه . و لكن تارك السنة معرض للعتاب من الرسول صل الله عليه و سلم , و قد قسمت السنن إلى قسمين :
- سنة مؤكدة : و هي ما واظب النبي صل الله عليه و سلم على فعلها , و نبه على عدم فرضيتها أو مع الترك أحيانا , كصلاة ركعتين قبل الفجر مثلا , و كصلاة الجماعة مثلا .
- سنة غير مؤكدة : و هي التي لم يواظب الرسول صل الله عليه و سلم على فعلها , بل تركها في بعض لأحيان , كالصلاة أربع ركعات قبل العصر و العشاء .

4. المستحب : هو أمر يعد من السنة و لكنه دون المرتبتين السابقتين .
حكمه : يثاب فاعله و لا يلام تاركه .

5. الحرام : ما طلب الشرع تركه طلبا جازما , و ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه .
حكمه : وجوب اجتنابه و العقوبة على فعله . ( و يكفر منكره )

6. المكروه كراهة التحريم : ما طلب الشرع تركه طلبا لازما جازما , و لكن ثبت الطلب بدليل ظني و ليس قطعي .
حكمه : الثواب على تركه و العقاب على فعله . ( و لا يكفر منكره ) .

7. المكروه كراهة التنزيه : هو ما طلب الشرع تركه طلبا غير جازم .
حكمه : يثاب تاركه و يلام فاعله .

8. المباح : هو ما لا يكون مطلوبا فعله و لا تركه , بل يكون الإنسان فيه مخيرا بين الفعل و الترك .

9. الشرط و الركن : سبق أن عرفنا الفرض , و الفرض ينقسم إلى قسمين , قسم خارج عن حقيقة الفعل المطلوب و يجب الإتيان به قبل البدء بالفعل , لأنه تتوقف عله صحة الفعل , و هو ما يسمى بعرف الفقهاء الشرط , و قسم يكون جزءاً من حقيقة الفعل أي لا يتحقق إلا به , و هو الركن .

10. الأداء و القضاء : الفرائض و الواجبات المقيد فعلها من قبل الشارع بزمان إذا فعلها المكلف في وقتها الذي حدده الشارع مستوفيا أركانها و شرائطها , سمي فعله اداء ( أي أدى ما وجب عليه , و برئت ذمته ) . و إذا فعلها بعد وقتها الذي حدده الشرع , سمي فعله قضاء .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 75802
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 78
الموقع : الاردن

علم أصول الفقه Empty
مُساهمةموضوع: رد: علم أصول الفقه   علم أصول الفقه Emptyالسبت 08 ديسمبر 2018, 8:06 am

أقسام الفقه

الفقه الإسلامي ينقسم إلى سبع أقسام هي :

1- فقه العبادات " مثل الصلاة والصيام والزكاة ....... " .

2- فقه المعاملات " مثل البيع والشراء والرهن  ....... " .

3- فقه الأحوال الشخصية " مثل الزواج والطلاق والإرث ....... " .

4- فقه الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية – واجبات الحاكم والمحكوم .

5- فقه العقوبات : حفظ الأمن والنظام وعقوبة القاتل ....... " .

6- فقه السير " علاقة الدولة الإسلامية بالدول الأخرى ....... " .

7- فقه الآداب والأخلاق .










مصطلحات فقهية مهمة


1. الفرض : ما طلب الشارع فعله طلبا جازما و ثبت الطلب بدليل قطعي لا شبهة فيه كالقرآن و السنة المتواترة , أو الإجماع , و كانت الدلالة قطعية , و هو اعلى مراتب التكليف الشرعي .
حكمه : لزوم فعله مع الثواب , و العقوبة على تركه . ( و من ينكر الفرض كفر و خرج عن الإسلام ) .

2. الواجب : ما طلب الشرع فعله طلبا جازما , و لكنه دون مرتبة الفرض , لأنه ثبت بدليل ظني .
حكمه : الثواب على فعله , و العقاب على تركه . ( و لا يكفر منكره )

3. السنة : هي ما طلب الشرعف فعله طلبا غير لازم .
حكمها : يثاب فاعله و لا يعاقب تاركه . و لكن تارك السنة معرض للعتاب من الرسول صل الله عليه و سلم , و قد قسمت السنن إلى قسمين :
- سنة مؤكدة : و هي ما واظب النبي صل الله عليه و سلم على فعلها , و نبه على عدم فرضيتها أو مع الترك أحيانا , كصلاة ركعتين قبل الفجر مثلا , و كصلاة الجماعة مثلا .
- سنة غير مؤكدة : و هي التي لم يواظب الرسول صل الله عليه و سلم على فعلها , بل تركها في بعض لأحيان , كالصلاة أربع ركعات قبل العصر و العشاء .

4. المستحب : هو أمر يعد من السنة و لكنه دون المرتبتين السابقتين .
حكمه : يثاب فاعله و لا يلام تاركه .

5. الحرام : ما طلب الشرع تركه طلبا جازما , و ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه .
حكمه : وجوب اجتنابه و العقوبة على فعله . ( و يكفر منكره )

6. المكروه كراهة التحريم : ما طلب الشرع تركه طلبا لازما جازما , و لكن ثبت الطلب بدليل ظني و ليس قطعي .
حكمه : الثواب على تركه و العقاب على فعله . ( و لا يكفر منكره ) .

7. المكروه كراهة التنزيه : هو ما طلب الشرع تركه طلبا غير جازم .
حكمه : يثاب تاركه و يلام فاعله .

8. المباح : هو ما لا يكون مطلوبا فعله و لا تركه , بل يكون الإنسان فيه مخيرا بين الفعل و الترك .

9. الشرط و الركن : سبق أن عرفنا الفرض , و الفرض ينقسم إلى قسمين , قسم خارج عن حقيقة الفعل المطلوب و يجب الإتيان به قبل البدء بالفعل , لأنه تتوقف عله صحة الفعل , و هو ما يسمى بعرف الفقهاء الشرط , و قسم يكون جزءاً من حقيقة الفعل أي لا يتحقق إلا به , و هو الركن .

10. الأداء و القضاء : الفرائض و الواجبات المقيد فعلها من قبل الشارع بزمان إذا فعلها المكلف في وقتها الذي حدده الشارع مستوفيا أركانها و شرائطها , سمي فعله اداء ( أي أدى ما وجب عليه , و برئت ذمته ) . و إذا فعلها بعد وقتها الذي حدده الشرع , سمي فعله قضاء .

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
علم أصول الفقه
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» موسوعة الفقه الشاملة
» أصول حماية المستهلك في الفقه الإسلامي وآلياتها (PDF)
» أصول حماية المستهلك في الفقه الإسلامي وآلياتها (PDF)
» أولا : مصطلحات وتعريفات وموضوعات مهمة فى الفقه وأصول الفقه
» كتب في الفقه .. للتحميل

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة العلوم والمعارف :: الموسوعة الإسلامية الشاملة :: موسوعة الفقه الشاملة-
انتقل الى: