فَنّ الكاريكاتير في فلسطين.. عندما تفعل فرشاة الرسم فعل البندقية1يقولون أن “الصورة أبلغ من ألف كلمة”، وقد صدقوا، لذا لا عجب أن كان فَنّ الكاريكاتير أحد أهم الفنون الداعمة للقضية الفلسطينية، فقد تحول رساميه ومبدعيه لجنودٍ يقاومون على طريقتهم، يقاومون بالألوان ويسجلون معاناتهم في فلسطين المحتلة من خلال لوحاتٍ تسافر في كل الدنيا لتؤكد أن الشعب الفلسطيني شعب حياةٍ وإبداع لا موتٍ وخراب.
فَنّ الكاريكاتير هو فَنّ ساخر من فنون الرسم، يوظف السخرية لتوجيه النقد لشتى جوانب الحياة سياسيًا، اجتماعيًا، وفنيًا. غالبًا ما يكون هذا الفَنّ مساندًا للصحافة فيؤثر بها ويتأثر بها، مع ذلك فقدرته على النقد تفوق المقالات والتقارير الصحفية أحيانًا.
هذا الفَنّ المميز يستطيع أن يحول حدث بالغ التعقيد لرسمةٍ بسيطةٍ توصل رسالة واضحة دون الحاجة للكلمات، كما أنه يستطيع انتزاع البسمة من على شفتي المشاهد مهما كانت هذه الرسالة صعبة ومرة، لذا لا عجب أنه سُمي بفَنّ الضحك المُرّ.
في فلسطين يغدو هذا الفَنّ أحد أشكال المقاومة الناعمة التي يعمل لها الاحتلال ألف حساب، حاله حال معظم الفنون الإبداعية التي تخرج من رحم المعاناة الفلسطينية لتكون سفيرة الشعب الفلسطيني في كلِ دول العالم تخبرهم أننا شعب يحب الحياة ولسنا مجموعة من الإرهابين كما يحلو للاحتلال تصويرنا.
فَنّ الكاريكاتير في فلسطين إبداع يمتزج بالقوة، الصبر، والتضحيات، فالسجل الفلسطيني حافل بالكثير من مبدعي هذا الفَنّ الذين سقطوا ما بين شهداء وأسرى، مع ذلك تظل فلسطين قادرة على إنجاب المبدعين دائمًا وأبدًا فكلما قُصفت فرشاة رسم نبتت عنها عشرات.
في هذا المقال أسلط الضوء على بعض فناني الكاريكاتير المبدعين في فلسطين، الذين اتخذوا من فنهم سلاحًا يجابه الظلم، وإبداعًا يُوصل الصوت الفلسطيني وما يعانيه للعالم أجمع.
ناجي العلي
ولد ناجي العلي في قرية الشجرة بالجليل الشمالي عام 1938، خرج من قريته بعد عشر سنوات من ميلاده نازحًا وعائلته إلى جنوب لبنان في الأحداث التي عُرفت بنكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، حيث استقر بهم المقام في خيمة بمخيم عين الحلوة لللاجئين الفلسطينيين، وبذلك عايش ناجي العلي المعاناة الفلسطينية منذ بدايتها.
كان يمتلك موهبة الرسم التي لم يستطع أن ينميها بالدراسة التي كان يتمناها؛ لأنه كان مضطرًا للعمل في سبيل توفير لقمة العيش له ولعائلته، كان نصيبه من التعلم دبلوم في الميكانيك، وكاد أن ينسى أمر الرسم تمامًا لولا أن شاهد بعض رسوماته الأديب الفلسطيني غسان كنفاني فساعده على العمل في مجلة الحرية التي كانت بابًا للعمل في عدد من الصحف الكويتية على مدار إحدى عشر عامًا سخر فيها فنه ورسوماته للتعبير عن الهموم الفلسطينية، وفضح جرائم الاحتلال، ونقد انهزامية الأنظمة العربية. اُغتيل العلي في لندن في 22 يوليو 1987 في عملية اطلاق نار لم يتم كشف ملابساتها حتى الآن تاركًا وراءه ما يقارب أربعين ألف رسم كاريكاتوري والأيقونة الفنية الخالدة “حنظلة” الذي كان توقيعه الدائم على تلك الرسومات.
حنظلة الطفل الصغير الذي يبلغ من العمر عشر سنوات والذي أدار ظهره للجميع بعدما خذلوا أحلامه في الحرية تحول من كونه توقيع لرسام ليصبح رمزًا للهوية الفلسطينية. مات مبدع حنظلة لكن حنظلة لم ولن يموت ليكون صوت الإبداع الحُرّ على مر العصور.
بهاء البخاري
ولد بهاء البخاري في مدينة القدس عام 1944، انتقل مع والده إلى دمشق، سوريا في سبيل البحث عن لقمة العيش بعدما فقد الوالد مهنته كمهندس عند احتلال الجزء الغربي من مدينة القدس عقب النكبة الفلسطينية عام 1948، فكان هذا الانتقال ذريعة للاحتلال ليفقده حق الإقامة في القدس مجددًا، وبذلك عانى البخاري مرارة الغربة والاغتراب مبكرًا للغاية.
يُعد البخاري رمزًا من الرموز الوطنية الفلسطينية الخالدة، فقد قدم للقضية على صعيد الفَنّ التشكيلي وفَنّ الكاريكاتير الكثير، حيث استمر على مدار نصف قرن يناضل بلوحاته في سبيل ايصال الصوت الفلسطيني للعالم أجمع.
قدّم البخاري رسوماته الكاريكاتيرية من خلال شخصية “أبو العبد” الفلاح الفلسطيني المهموم بكل القضايا الاجتماعية والسياسية في داخل فلسطين وخارجها، والذي رغم الهموم التي يعبر عنها ينجح دومًا في رسم البسمة على وجوه متابعيه.
توفي البخاري في 29 أكتوبر 2015 بعد صراع مع المرض، فغاب جسده لكن لوحاته ظلت شاهدة على إبداع هذا الرجل ووطنيته.
علاء اللقطة
ولد د. علاء اللقطة في غزة عام 1972، وهو جراح تجميلي بالإضافة لكونه واحد من أشهر رسامي الكاريكاتير في فلسطين. نشأ اللقطة في مخيم الشاطئ لللاجئين الفلسطينيين في غزة بينما أصوله تعود إلى قرية الفالوجة التي تم احتلالها عام 1948.
عشق الرسم منذ صغره، وظهرت موهبته جلية أيضًا في الخط العربي. أراد تطوير مواهبه بالدراسة الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة لكن رغبة الأهل حالت دون ذلك، ليدرس الطب في رومانيا، مع ذلك كان للقدر كلمةً أخرى حيث وجد نفسه يقطن في نفس البناية التي يعيش فيها رسام كاريكاتير معروف يُدعى (شتيفان ببوس) فتتلمذ على يديه ثم أخذ مكانه في الصحيفة الرومانية التي يعمل بها “ببوس”.
أنهى دراسة الطب وعاد للوطن ليصبح طبيبًا ورسامًا كاريكاتيريا في عدد من الصحف الفلسطينية والعربية، سخّر اللقطة رسوماته في سبيل القضية الفلسطينية، حيث كانت خير تمثيل لجوانب المعاناة الفلسطينية، كما حرص على إبراز الجانب الإنساني من الصراع الفلسطيني للتأكيد على شرعية حق الفلسطينيين في حياة كريمة آمنة.
محمد سباعنة
ولد محمد سباعنة في مدينة جنين عام 1978، وهو واحد من فناني الكاريكاتير المشهورين في فلسطين، اشتهر برسوماته المناهضة للاحتلال الإسرائيلي التي تسلّط الضوء على معاناة الأسرى الفلسطينيين في السجون، والذي أصبح واحدًا منهم إذ لم تستطع سلطات الاحتلال تحمل رسومات سباعنة التي تفضح أفعالهم الإجرامية.
في 4 أبريل عام 2013 حُكم على سباعنة بالسجن مدة خمسة أشهر قضاها في الزنزانة 28، وبغرامة مالية قدرها عشرة آلاف شيكل.
استطاع سباعنة تحمل الأسر بفضل فرشاة أسنان مكسورة وكأس وملعقة بلاستيكية كانت أدواته لتصوير معاناة آلاف الأسرى اليومية في رسومات ابداعية وجدت طريقها لخارج السجن بالتهريب من خلال محامي سباعنة الخاص، رسوماته التي لم يستطع قيد الاحتلال أن ينال منها والتي بلغت نحو أربعين رسمة عُرضت في معرض حمل اسم “زنزانة 28” في مركز خليل السكاكيني في مدينة رام الله عقب الإفراج عنه؛ لتؤكد أن الإبداع لا يُمكن سجنه على الإطلاق.
أميّة جحا
ولدت أمية جحا في مدينة غزة بتاريخ 2 فبراير 1972، وهي فنانة تشكيلية ورسامة كاريكاتير فلسطينية اشتهرت محليًا وعربيًا برسوماتها المعبرة عن الواقع الفلسطيني الصعب، وهي حاصلة على جائزة الصحافة العربية لعام 2001 التي ترعاها دولة الإمارات العربية المتحدة.
تُعرف أمية جحا في غزة باسم زوجة الشهيدين، فقد استشهد زوجها الأول في عام 2003 أثناء تصديه لقوات الاحتلال الإسرائيلي، بينما استشهد الثاني عام 2009 نتيجة الحصار المفروض على غزة الذي منع سفره للخارج للعلاج.
المعاناة التي عانتها أميّة على الصعيد الشخصي والوطني كانت الوقود لآلة الإبداع في داخلها الذي ترجمته لرسومات كاريكاتيرية شقت طريقها لقلوب الفلسطينيين أولًا، ثم حلقت فوق الحصار لتصل العالم أجمع.
هذه النماذج جزء صغير من المشهد الإبداعي في فلسطين، الإبداع الذي كُتب عليه أن يخرج من رحم العتمة والحصار ومن بين فكي احتلال غاشم يُحسن عملية التشويه والهدم.
الكاريكاتير في فلسطين يؤكّد يوميًا من خلال عشرات الرسومات أن الشعب الفلسطيني محب للحياة، للألوان، وللضحك. شعب خلاق مبدع وإبداعه لا حد له، فلن تقتله رصاصة ولن يكسره قيد، ولن يحجمه حصار.