مفهوم الشرف في الثقافة العربية
تعرض مفهوم الشرف لتشويهات جوهرية وتحريفات خطيرة أكثر من أي مفهوم آخر، أدت في النهاية إلى تفريغه من مضامينه واستبداله بمفهوم جديد مختلف ومغاير تماما للمفهوم الأصلي، وقد جاء هذا التشويه ليمنح المعنى الجديد دورا وظيفيا يسعى دوما لترسيخ تفوق الرجل وتعليق أخطائه وشروره على شماعة المرأة، وكذلك تثبيت انتصارات قيم الذكورة وتثبيت امتيازاتها.
فإذا كان مفهوم الشرف مفهوما نسبيا تختلف تعبيراته وشروطه من مجتمع لآخر، إلا أن كثيراً من المعاني الإنسانية تندرج تحت هذا المفهوم، ولا يستطيع أي فكر إنساني أن يتجاوزها أو يغفلها، وعلى رأس هذه المعاني يأتي الصدق والعدل وعمل الخير.
والسؤال هو: هل فعلاً أن الرجل متفوقٌ على المرأة ؟؟ وهل نظـرته تجاهها نظرة دونية هي نظرة عادلة، وحكم صائب ؟؟ وهل فعلاً ينحصر مفهوم الشرف في المرأة وتحديدا في جسدها وسلوكها ؟؟ أم أن هذه الثقافة قد تكونت على يد وعاظ السلاطين، لخدمة قوى اجتماعية سياسية معينة، ولتثبيت سلطة حكم ونظام مجتمع بطريركي ؟؟ لنتابع :
في العصور الأولى من تاريخ البشرية عاشت المرأة عصراً ذهبيا ضمْن بيئات اجتماعية سُميت مجتمعات الأمومة، وكانت حينها موضع حـبٍ ورغبة وموضع خوف ورهبة في آن معا، هذه المكانة المرموقة التي أخذتها المرأة بسبب نظرة المجتمع لها واقترانها بتفسيره لبعض الظواهر: فمن جسدها تُولد الحياة، ومن صدرها ينبع الحليب، ودورتها الشهرية تنتظم مع دورة القمر، وخصبها وما تفيض به على أطفالها هو خصب الطبيعة، وبعد اكتشاف الزراعة أدرك الإنسان أن المرأة هي الوجه الآخر للأرض، فهي تحبل بالبذور وتطلق من رحمها الزرع الجديد، وهي منشـأ الأشـياء ومردها ، ولذلك وصلت بها مرحلة التقديس إلى مستوى التأليه "الآلهة المؤنثة" وقد كانت "عشتار" تجسيداً لهذه الثقافة، حسب رأي فراس السواح في كتابه "لغز عشتار"، ولكن هذه الفترة المشمشية للمرأة لم تدم طويلا كما يرى بو علي ياسين في "الثالوث المحرم"، فمع توصل الإنسان البدائي إلى المعرفة الجنسية واكتشاف الصلة بين الجماع والإنجاب، صار يمارس الجماع ليس فقط للمتعة، بل من أجل الإنجاب أيضا، فنـزلت المرأة من منـزلة القدسـية باعتبارها "أم" تملك القدرة الإلهية على الإنجاب والإرضاع ووهْب اللذة، إلى مرتبة حاضنة للبذور التي يلقيها الرجل فيها، وبقرة إرضاع، وأصبح الرجل هو المخصب الإلهي، والمرأة هي الأداة، والرجل هو الذي يتمتع والمرأة إناءً لمتعته، وانتقلت العبادة من الآلهة الأم إلى الإله السـيد، حدث هذا مع سيطرة الرجل اقتصاديا ونشوء النظام البطريركي.
ومع استنفاذ قوة المرأة بيولوجيا بسبب الحمل والولادة والرضاعة والتفرغ لتربية الأولاد، ومع تتابع هذه العملية والانشغال بشؤون الأسرة، وبسبب عجزها الذي يعاودها مع الحيض وعدم تدريبها على السلاح ( الذي بقي حكرا على الرجل )، أدى ذلك إلى أعاقتها في حربها مع الرجال ومن ثم إلى هزيمتها، مما يعني أن عليها أن تنـزل منـزلة دنيا.
في هذا السياق تقول د. نوال سعداوي في كتابها المرأة والجنس أنه مع نشوء الملكية الخاصة وتكوُّن المجتمعات والطبقات، والتي ساد فيها الذكور بطبيعة الحال بعد الانقلاب التاريخي على المرأة، فإنه من البديهي أن تخوض هذه الطبقات السائدة حربا ضارية لتثبت مراكزها، وتستحوذ على امتيازات المجتمع، فكان اضطهاد المرأة سابقا لاضطهاد الطبقات ونشوء العبودية، أي أن الحرب التي شنتها الفئات الذكورية المسيطرة قد وُجِّهت ضد المرأة كمقدمة ضرورية لتثبيت نظام الإقطاع وحمايته، وانطلقت لهذا الغـرض من "أسطورة الخليقة" والقصة الشهيرة بين آدم وحواء وتثبيت مقولة أن "حواء" هي التي أغوت "آدم" بالإثم وتسببت بطرده من الجنة، وبالتالي فهي مسؤولة عن شقاء الإنسانية في الدنيا، وخروجها من رحمة الله، ومسؤولة عن الخطيئة في العالم، ومن بعدها تحملت النساء الوزر نفسه .
وتستنتج د. نوال أن هذه القصة والطريقة التي فُسرت بها، قد رسخت مفهوما خاطئاً أدى في النهاية إلى سيطرة ثقافة الرجال، والتي مفادها أن الجنس إثم، وحواء هي السبب في هذا الإثم، ومنها أصبحت صفة كل النساء، وأصبحت المرأة سبب الكوارث والآلام في الحياة، وأصبحت كبش فداء لكل آثام الرجال وأخطائهم، ولكل الشرور في العالم، وأصبح الرجل هو ظل الله في الأرض وممثل الخير والسمو، والمرأة أصبحت ممثلة الشيطان والإثم والجنس، أي نُسب الخير إلى الرجل والشر إلى المرأة، ومن هنا أوجد الرجل لنفسه المبرر الذي يحكم به المرأة ويضطهدها، واعتمد في هذا التبرير على زعْمَيْن:
• إن الشر سيظل موجودا في العالم طالما أن المرأة موجودة لأنها منبعه .
• وأن الرجل يجب أن يحكم المرأة حتى لا ينتصر الشر .
والرجل بذلك إنما يبرر لنفسه التحكّم في المرأة من ناحية، وممارسة الشر من ناحية ثانية طالما أنه نُسب إلى غيره، ولكي يكون هذا الاضطهاد شرعيا ومقبولاً، كان لا بد من أدلجته وتأطيره من خلال الشعارات والنصوص التي كانت تقرر أن المرأة مخلوق مدنس، وبالذات أيام الدورة الشهرية وفترة الولادة، وأنها غير حكيمة وعقلها ناقص، وبالتالي فإن مكانها المناسب هو البيت وخدمة الرجل، ومن هذا الاعتقاد الديني والفلسفي جاءت الفكرة العلمية التي تقول أن المرأة كمخلوق أقل تطورا من الرجل، وأنها في نظام الكون والطبيعة والتطور تأتي بعده، ومع أن هذه الفلسفة استمرار للفلسفة الساذجة التي سادت أيام اليونان والتي كانت تفضل الدائرة على المربع واليمين على اليسار والهواء على التراب ... إلا أن هدفها هو حماية احتكار الرجل للمال والسلطة، واحتكاره أيضا للدين والفلسفة واحتكاره أيضا للجنس والمتعة الجنسية، وأصبحت هذه الفلسفة لاحقا مقومات وركائز أساسية لدعم الإقطاع والسلطة والتسلط الطبقي، ومع بعض التحويرات والتطويرات أصبحت صالحة أكثر لتبرير القمع والظلم والإرهاب من قبل الدول والحكومات بحق شعوبها .
ويطرح المفكر المصري سامي لبيب تفسيره لمنشأ مفهوم الشرف في المجتمعات الإنسانية عامة، ويرى أن منشأ أى قيمة أو سلوك هو لتحقيق حاجة ومصلحة، ولا تتكون أى مفردة سلوكية من ذاتها بدون غاية وحاجة .. فمفهوم الشرف مثلاً جاء من أجل مصالح تعرضت للخطر، أو فى سبيلها لذلك, فالمرأة التى تحب وتتزوج من خارج العشيرة يعتبرونها جالبة للعار، ولكن السبب الحقيقى الخالق لفكرة العار والشرف ليس كونها أحبت، بل الخشية من إنهاك قوة الجماعة، وخصم من رصيدها الإنتاجى .. فهذه المرأة هى وعاء إنتاجى للأطفال الذين سيكونون رصيد وقوة إنتاج تضاف إلى القبيلة مستقبلا ً, فخروجها عن إطار الجماعة يعنى خصم حقيقى من الجماعة وإضافة إنتاجية لرصيد جماعة أخرى منافسة, لذا جاء الغضب والثورة من الجد الأكبر بناء على المصالح التى تضررت، ليتم تصدير وتوريث هذا الغضب والحميّة من بيئة الحدث الماضي إلى المستقبل، ويتم نسيان السبب الرئيسى الدافع للرفض والثورة, فلا يتبقى فى الوعى سوى ثقافة وتربية إستمدت مفرداتها من تراكم صور لغضب الآباء والأجداد الأوائل لتختزل الصورة فى الأجيال اللاحقة بمفهوم الشرف المعلق فى رحم المرأة .. ولكن يبقى السبب البدئى مع الجد الأول الباحث الحقيقى عن مصلحة القبيلة .
ويرى المفكر المصري جمال البنا في كتابه "الحجاب والشخصية المزدوجة للمرأة" أن اضهاد المرأة مسألة أعقد من مجرد عداوة الرجال للنساء، وأنه يعود إلى جملة أسباب من ضمنها أن النفس البشرية تميل إلى استسهال الظلم كلما تمكنت منه، أي تسلط القوي على الضعيف، وطالما أن تاريخ البشرية القديم يقوم على قوة العضلات، في الوقت الذي ستكون فيه المرأة كجنس أضعف من الرجل فسيولوجيا، فإنه سيكون موقف كل النظم الذكورية منها واحدا وهو موقف الاستبداد والاستغلال، ويضرب أمثلة على ذلك تمتد بلادنا حتى الهند والصين.
في حين يرى د. محمد شحرور في كتابه "فقه المرأة" أن الفُرس من أوائل الحضارات التي اضهدت المرأة، وفرضت عليها أن تضع لثاما على وجهها حتى لا تدنس أنفاسها النار المقدسة، الأمر الذي تطور إلى فرض حجاب كامل على الرأس حتى تخفي عارها تحت هذا الحجاب ، ويضيف أن اليهودية التي نشأت برعاية كورش الفارسي وداريوس وعزرا، هي أول دين يدعي الصلة بالسماء يُشرْعِن اضهاد المرأة ويحتقرها، ويرسخ النظرة الدونية لها، وقد امتدت هذه الثقافة فيما بعد من خلال المسيحية في عهد قسطنطين وخلفاءه الذكور الذين نجحوا في تحويل الأنثى المقدسة إلى شيطان مريد، ومحوا تماما أي أثر لاحترام الأنثى في الدين المسيحي الحديث، فالنساء اللواتي كن يوما نصفا أساسيا في التنوّر الروحي والديني طُردن اليوم من معابد العالم فلا تجد اليوم "نساء دين" لهن الحق في الإفتاء.
ويستطرد دان براون في روايته الشهيرة "شيفرة دافنشي" في ذات الموضوع ويقول أن محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت تحكم بقتل كل النساء العالمات والكاهنات والغجريات والمتصوفات ومحبات الطبيعة وجامعات الأعشاب الطبية وحتى القابلات كلهن بتهمة الهرطقة وممارسة السحر ، وعلى مدار ثلاثة قرون حرقت الكنيسة خمسة ملايين إمرأة !!! بل أن المرأة مُنعت من المداواة أو من شرب أعشاب قد تخفف عنها آلام الولادة، لأنه حسب ادعاء الكنيسة على المرأة أن تتحمل الآلام التي فرضتها العدالة الإلهية على النساء عقابا لهن على ذنب حواء ! ويضيف براون بأن ممارسة الجنس كانت قديما في زمن "الألهة المؤنثة المقدسة" عبارة عن طقس روحي للتواصل مع الرب من خلال الاتحاد الجسدي ، إلا أن هذه الفكرة لم ترق للكهنة في عصر التسلط الكنسي، فرأت الكنيسة أنها تشكل خطرا يتهدد قاعدة السلطة الكاثوليكية، بحيث يقلل من أهمية الكنيسة التي نصبت نفسها الطريقة الوحيدة المؤدية إلى الرب، ولهذا عمدت الكنيسة جاهدة على تحقير الجنس وجعله عملا شيطانيا وخطيئة مقرفة، وللأسف فقد حذت الأديان حذوها من بعدها.
وقد امتدت هذه الثقافة لتصل إلى جزيرة العرب، فيتلقفها بعض الفقهاء ويعتبرونها فيما بعد كجزء أساسي من الدين الإسلامي، وهي في الحقيقة لا تعدو عن كونها استمرار لفلسفات دينية سابقة وجدت في أجواء الصحراء القاسية بيئة خصبة لها، كما يرى المفكر المصري د. طارق حجي الذي يعتبر أن اهل نجد – موطن هذه الثقافة الوافدة من الفرس - هم الأكثر تشددا وتزمتا بسبب مئات الأميال من الكثبان الرملية التي تفصلهم من الجهات الأربع عن العالم الآخر وتحجبهم عن الثقافات الأخرى، وفي هذا الصدد يورد د. محمد عمارة في كتابه "الإسلام والمرأة" رأي الشيخ المجدد محمد عبده ويذكر أن البدع والخرافات التي تراكمت على الفكر الإسلامي في عصور الإنحطاط المظلمة حول المرأة والتي يحسبها البعض إسلاما أو في صلب الإسلام، هي في الحقيقة تعبيرا عن فكر عصر الحريم وليست من الإسلام في شيء .
وللدلالة على التأثير السلبي الذي خلفه بعض الفقهاء على نظرة المجتمع للمرأة وتكريس "ثقافة الحريم" وربط سلوك المرأة الجنسي بالشرف، تورد فاطمة المرنيسي في كتابها "ما وراء الحجاب" نصوصا من الجامع الصحيح للبخاري حول عادات العرب في الزواج قبل الإسلام، وتوضح أنه كان هنالك أربعة أنماط من الزيجات منتشرة بين العرب ، ثلاثة منها تكاد تكون شكلا من الزنى حسب مفهومنا الحالي وحسب ما يقره الكثير من الفقهاء، وبالرغم من ذلك كانت تلك النسوة ممن يأتين هذا الفعل لا يتعرضن لأية تهم أو مضايقات، ولم يكن يُنظر إليهن كعاهرات منبوذات، مما يدل على ثقافة جنسية كانت سائدة آنذاك، وكانت تتسم بشئ من المرونة والانفتاح، مع أن الإسلام نظم هذه المسألة فيما بعد، إلا أن ربط هذا السلوك بالشرف وعلى النحو الذي نراه الآن قد تم على يد الفقهاء، وبالذات في عصور التراجع والانحطاط، والزخم الإضافي الذي أضيف إلى هذه المسألة تم على يد فقهاء الإسلام السياسي في القرن العشرين.
ومثالا آخر يتجلى بتلك الصورة المشرقة للجمال والحب والمرأة عند العرب، والتي كانت واضحة في الشعر العربي القديم وفي قصص الحب الشهيرة، فقد ارتبط الحب العذري بقبيلة "عذرة"، وكان موضع تفاخر لا يخجل منه الطرفين، والجمال يُعبر عنه بأعذب أبيات الغزل ويتغنى به العشاق، أما الثقافة السائدة حاليا لدى البعض فتمتهن المرأة وتحتقر الجمال، وتقرن الحب بالإثم والعار وتعده أكبر الكبائر.
إذاً، فالمسألة لم تكن محصورة في القالب الفقهي وحسب بل كانت تأسيساً لثقافة مجتمعية جديدة قوامها النظرة السلبية تجاه المرأة، فقد كان اضطهاد المرأة مقدمة موضوعية تمهد لاضطهاد العبيد واضطهاد المجتمع بأسره ومن ثم قمع الإنسانية وإخضاعها لخدمة السلطة، وسلاحا تشهره ذهنية التحريم والقائمين عليها في وجه حركات التنوير والتغيير والثورة على الظلم، وقد احتاجت السلطة والفئات المسيطرة إلى إطار أيديولوجي وقيمي تستند إليه، ويمكّنها من المضي قدما في مظالمها واستغلالها وتوظفه لخدمة سياساتها، ويجعل من سلوكها أمرا عاديا ومقبولا من قبل المجتمع، أي بالاتكاء على الطرف الأضعف وهي المرأة، وجعلها شماعة لأخطائهم وسببا لسلوكهم القائم على التعسف والقهر، أي بعبارة أخرى من خلال ربط الشرف والأخلاق بالمرأة وحدها، واقترانهما بجسدها وسلوكها، لتُبرأ بعدها ساحة الرجال.
وتؤكد د. نوال أن هذا الربط قد فرغ الشرف من محتواه ومضامينه الإنسانية، وهكذا تمكن الرجل من تأسيس نظامه الاجتماعي المخصص لخدمته، ولم يعد الشرف يعني العمل الخلاق والانتماء والنـزاهة والدفاع عن الأوطان، بل أصبح شيئا مرتبطا بجسد المرأة وسلوكها فقط، ولا علاقة له بالرجل وسلوكه إلا بقدر سلوك زوجته وأمه وابنته، وبذلك أصبح معيار الشرف هو التملك، وبما أن الزوجة والابنة والأم وبقية أفراد الأسرة هي من ممتلكات الرجل في الأسرة البطريركية، فإن هذه الملكية والاحتكار قد منحتاه مشروعية تملك غيرها من الأشياء في المجتمع، وأصبحت الصورة على النحو التالي:
- الرجل يمتلك الأسرة (الإناث بشكل خاص) ويخضعها لسيطرته وأهوائه، وبالتالي فإن سلوك الأسرة هو الذي يحدد نوعية شرف الرجل بغض النظر عن مسلك الرجل نفسه.
- الرجل يمتلك المال والجاه والعقار والسلطة، وبالتالي فإن حجم ممتلكاته لهذه الأشياء هو الذي يحدد مستوى شرفه ومكانته الاجتماعية، بغض النظر أيضا عن مسلك الرجل وطريقة امتلاكه لهذه الأشياء.
- تمكن الرجل من فرض ثقافته هذه على البيئة المحيطة به بحيث تكيف معها وأصبحت من البديهيات والمسلمات .
- الطبقات العليا في المجتمع تضطهد الرجل وأسرته معا وتسخرهما لخدمة مصالحها وتقيم على أكتافهم نظامهم الطبقي / الإقطاعي دون مقاومة الرجل وأسرته، لأن الأمر سيبدو طبيعيا وامتدادا لثقافة الأسرة.
- السلطة تقمع المجتمع بأسره وبكافة طبقاته وأيضا دون مقاومة، إذ أن الأمور قد سارت على نحو يسهل مهمتها ويمهد الطريق أمام آلة قمعها، ويطبع عقول المجتمع لتتقبل الأمر بشكل اعتيادي، فإن كان العنف يولد العنف فإن الخنوع يولد الخنوع، وفي النهاية سينتظم المجتمع على النحو الذي يخدم السلطة والطبقات المسيطرة، والرجل بحيث يأخذ كل منهم نصيبه من الغنائم، وطبعا أولها المرأة، وهكذا سيؤسس المجتمع نظامه القيمي والأخلاقي بما يخدم هذا الواقع ويعيد تعريف معنى الشرف بما يتماشى مع طبيعة المجتمع ونظرته الطبقية تجاه بعضه البعض.
فالرجل الفاسق شريف إذا كانت زوجته لا تخونه مع رجل آخر، والرجل المنافق شريف طالما أن ابنته تحافظ على عذريتها، والرجل الظالم المستبد شريف طالما أن نساء أسرته يحافظن على عذريتهن، ونلاحظ هنا أن تقييم الشرف قد اقترن بالمرأة وتحديدا في جسدها، وانتقل هنا التشويه إلى المرأة نفسها لتصبح المرأة الحقودة الحسودة شريفة طالما أنها تحافظ على فرجها، والمرأة الخبيثة الماكرة هي أيضا شريفة طالما أنها تراعي بعض التقاليد الشكلية، وكذلك فإن المرأة الخانعة الجاهلة الكسولة تعتبر شريفة، ما دامت مسخرة للمطبخ ولخدمة زوجها .
وهذا مفهوم غريب للشرف يهبط بمستواه ويحدده بحدود الممارسة الجنسية، وبطبيعة الحال فإن المرأة التي لا تحترم نفسها ولا تحترم جسدها ولا تقيم وزنا للمجتمع هي بالتأكيد امرأة غير شريفة، ولكننا نؤكد على أنها ليست الوحيدة التي تمثل العهر في المجتمع، وهكذا فإن هذا التشويه لمفهوم الشرف سيطول بقية قيم المجتمع، فيصبح الغني صاحب الجاه والنفوذ إنسانا شريفا حتى لو حصل على ثروته بالنصب والاحتيال، والتاجر الكبير شريفا، حتى لو اعتمد الغش في معاملاته .
أما الزنى الفكري والتساقط السياسي والانحطاط الأخلاقي والنفاق والاستغلال واحتلال الأوطان وتدنيس المقدسات وانتهاك الحرمات وسحق حقوق الإنسان والسجون والبطالة والمعاهدات المذلة وغيرها، كل هذه الأشياء في نظر المجتمع لا علاقة لها بالشرف، طالما أن القائمين عليها أو منفذيها لم يتجاوزوا بعض الشكليات السطحية، وما داموا أغنياء وأقوياء، وسيبقى المجتمع يتقرب إليهم ويتملق لهم، وسيبقى متسلطا على الفقير والضعيف ويرجمه وينبذه إذا ما أقدم على أي انحراف .
من أجل إعادة الاعتبار لمفهوم الشرف وإعطائه مضامينه الحقيقية وترقيته إلى درجة أخلاقية أعلى، لا بد أن يتعلق الشرف برأس الإنسان وبمسلكه وأخلاقه لا بفرجه وماله، ولا بد أن تسود القيم الإنسانية على قيم التملك والملكية الخاصة، وأن لا نجعل من الأطفال والنساء كبوش فداء لأخطاء الرجال وشماعة لفسقهم وفجورهم، ويجب أن يتمسك الناس بجوهر الشرف من حيث الصدق والعدالة والمساواة والحرية، وأن يكون للإنسان حياة واحدة وشخصية واحدة، هي حياته العلنية وشخصيته العلنية وهذا هو معيار الشرف، أما أن يكون للإنسان حياتين وشخصيتين، واحدة يدعي فيها الشرف وأخرى سرية يمارس فيها كل الرذائل فهذا هو العهر بعينه، ويجب أن يكون العلم والأخلاق والعمل هو معيار الشرف ومقياسه، لا الشكليات والمظاهر البراقة.
وترى د. نوال أن الحل يكمن في تحرير الأسرة من أي سلطة وقهر سواء أكانت من الأب أم من الأم، وأن يحل الحب محل السلطة، والتفاهم محل القمع، والعطف والثقة محل الشك والخوف، وأن يكون الحب غير مشروط بالملكية ولا مشروط بالعلاقات البيولوجية، بمعنى أن نتعلم كيف نحب أنفسنا أولا بعيدا عن الأنانية، وأن نحب الآخرين دون أن نمتلكهم, وأن نتعاون مع بعضنا دون استغلال.
ونرى أن مفتاح التغيير الجذري في مجتمعنا هو بترسيخ النظرة الإيجابية للمرأة ومساواتها بالرجل وتحرير عقلها من الخرافة والتقليد، وتحرير المجتمع من المفاهيم المتخلفة للشرف، ومستحيل أن يتغير المجتمع العربي ما دامت المرأة العربية في وضعها الراهن كما يرى د. هشام شرابي في مقدمات لدراسة المجتمع العربي، وما دامت نظرتنا لها وللشرف على هذا المستوى من الجهل والضحالة، وطالما أن المرأة العربية لم تتغير بعد فالإنسان العربي غير قابل للتغيير، وسنبقى كما كنا في الجاهلية: قبائل وعشائر تغير على بعضها، مع فارق شكلي بسيط هو أننا تعرفنا على الموبايل وصرنا نستخدم الإنترنت لإذاعة انتصاراتنا الوهمية.