القهوة والإنسان
ماذا لو...؟
ماذا لو لم تعد هناك قهوة؟ أعني ماذا لو صحّت الأخبار التي بدأت تشير إلى أن إنتاج البن حول العالم مهدد؟ من أين يأتي هذا الخطر الذي يتهدد هذه النبتة الخالدة؟ طبعا، هنا يكون الجواب سهلا؛ فكل الأخطار الحقيقية يكون مصدرها الإنسان، الكائن الوحيد الذي يقدس نفسه، ويجعل مرتبته أعلى من باقي الكائنات الأخرى. الأخطار يصنعها الإنسان وترتد عليه، لكن ليس عليه فقط ترتد، وإنما على باقي الكائنات الحية. غطرسة الإنسان في الحقيقة مثيرة للدهشة، إذ لا حدود لها.. إنه يستنزف كل شيء، يدفع بالأمور نحو نهايتها، يتعجل هذه النهاية دون إدراكه ذلك.
قد يقول قائل، وما فائدة القهوة؟ بل قد يزعم البعض أن القهوة منتوج ثانوي من الممكن الاستغناء عنه؛ فالحياة ستستمر به أو بدونه. إذا نظرنا من هذه الزاوية الضيقة فقد لا نعترض على هذا الموقف، فالحياة كانت قبل أن تُستكشف القهوة، والأمور كانت طبيعية جدا. النتيجة التي ننتهي بها مع وجهة النظر هذه هي أن القهوة نوع من الترف، شيء زائد لا لزوم له، ليس كالخضر والخبز واللحم ..
من يقول بهذا الكلام هو نفسه الذي يغذي إيديولوجية الاستنزاف، والاستفادة بشكل أكبر من الطبيعة.. بكلمة واحدة، نظرته إلى الأمور نفعية، يختصر الإنسان في حاجاته الطبيعية الأساسية، وهنا ينسى أو يتناسى بأن الإنسان كما تقول لنا الأنثروبولوجيا كائن راغب يتجاوز حدود الحاجة بكثير، وإلا فما الفرق بينه وبين الحيوان؟! هذه الرغبة باعتبارها عنصرا أساسيا لتحديد ماهية الإنسان، هي التي تظهر لنا أهمية القهوة وضرورتها في طقوس حياة الإنسان المعاصر.
عندما نود أن نؤرخ للقهوة سنجد أن أغلب المصادر ترجع زمن اكتشافها إلى القرن الخامس عشر الميلادي أو قبله بقليل.. كان ذلك أول الأمر بأثيوبيا واليمن، وبعد ذلك انتشرت في الجزيرة العربية؛ فأجود أنواع القهوة إلى الآن لا يزال يأتي من هذه المناطق وتسمى "أرابيكا".. دخلت بعد ذلك القهوة إلى أمصار أخرى كالبلقان، وتركيا فإيطاليا أين ستشهد ازدهارا كبيرا إلى اليوم. هكذا كانت البدايات. وبعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، ستتغير الأمور جذريا؛ فمنتوج القهوة سينافس البترول ومواد حيوية أخرى كأكبر المنتوجات طلبا في السوق العالمي، هنا أصبح الكل يريد أن يحتسي فنجان قهوة حتى ولو لم يكن في بلده بن.
حينما انتشرت القهوة في كل بقاع العالم، وأضحت مادة لا غنى عنها يطلبها الجميع، خلقت ثقافة أخرى؛ فسرعان ما أصبح هذا المشروب الأسود المر طقسا يوميا يصعب الاستغناء عنه عند البعض، فهو مشروب منبه يساعد على التركيز ومقاومة النوم عند البعض الآخر، إلى أن أصبحنا نتحدث عن إدمان القهوة كأنها مخدر، مخدر مسموح به.
استدمجت القهوة في ثقافة المجتمع المعاصر، فأصبحت جزءا أساسيا لا يمكن تجاوزه. الأدب يمكن اعتباره أكبر المجالات الثقافية التي اخترقتها ثقافة القهوة، ليس فقط باعتباره مجالا إبداعيا يستدعي الكثير من الصبر والتركيز لخلق المادة الأدبية. وهذا التحمل لا يمكن إلا لمشروب كالقهوة أن يسهم فيه، وإنما القهوة ذاتها شكلت تيمة أدبية يتم الحديث عنها والإعلاء من مرتبتها والإسهاب في ذكر مزاياها عن طريق الرواية والشعر والقصة...، ونحن نعلم أن عالم الأدب قبل كل شيء هو عالم التلاعب بالرموز، بالصور واللغة.. وكانت القهوة تستعمل كرمز يتم تأويلها والتصوير عبرها، يكفينا هنا أن نشير إلى أعمال خالدة لبعض من كبار الأدباء العالميين كـ"بقايا القهوة" للروائي الأورغوياني ماريو بينيديتي وكذا "القهوة السوداء" لكاتبة القصص البوليسية المشهورة أغاثا كريستي.. هذا دون أن ننسى أن الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش كانت الكثير من قصائده تُنظم على القهوة، بعد أن كان الشاعر العربي في العصور القديمة يتغنى بالخمرة.
لا نبالغ إذا قلنا بأن تاريخ إنسان العصور الحديثة لا تكتمل صورته دون ذكر تأثير البن. مرة أخرى ماذا لو لم تبقى هناك قهوة؟ ستبقى الفناجين وحدها تعاني مرارة الفراق؛ ولكن يا ليتها الفناجين وحدها التي ستعاني. إذا قلنا بأن منتوج البن مهدد اليوم بسبب أفعال الإنسان التي انعكست عليه سلبا، فإننا نقول ضمنيا بأن الإنسان وثقافته وذاكرته مهددة.. نحن ندرك أن القهوة ليست هي الخبز، ولكن من هذا الذي يعتقد بأن "بالخبز وحده يحيى الإنسان"؟