تعزيز ثقافة الأمن الفكري
إن أعظم العناية والرعاية ما كان متوجهاً إلى الاعتقاد والفكر، فهو أولى ما تجب العناية به؛ ذلك أن الدين الحق أثمن شيء وأغلاه على المعتقد بالحق العالم به، ومن علم الحق واعتقده كان عليه القيام بتعليم الحق للخلق، وتحصينهم من العوادي على هذا الحق.
إن تفرق الناس في الحياة واختلاف ألسنتهم وأعراقهم وأديانهم ومذاهبهم أنتج ألواناً من الصراع والمهددات لأمن الأمة خاصة ما كان متعلقاً بأمنها: (الاعتقادي والفكري) وهذا الأمن الفكري هو روح أمن الأمة وأساسه؛ إذ يرتبط بالمقصد الأول ابتداء وهو حفظ الدين، كما يرتبط بسائر مقاصد الشريعة التي جاءت لتحقيق مصالح العباد في الحال والمآل، فحاجة الناس إلى الأمن الفكري كبيرة لاعتبارات عديدة منها:
1- إن الأمن الفكري حماية لأهم المكتسبات، وأعظم الضروريات: دين الأمة وعقيدتها، وحماية الأمة من هذا الجانب ضرورة كبرى، وهو حماية لوجودها وما به تتميز الأمة عن غيرها.
2- إن اختلال (الأمن الفكري) مؤدٍ إلى اختلال أمن الأمة في الجوانب الأخرى: الجنائية والاقتصادية وغيرها، فكثيراً ما يكون القتل وسفك الدماء، وانتهاك الأعراض نتاج أفكار خارجة عن دين الله تعالى وشرعه.
والمتأمل في تيارات الغلو في المجتمعات المسلمة، يجد أن أفعال الغلاة من قتل وتفجير هي نتاج لفكر معوج.
3- إن الضرر المتوقع من الإخلال بالأمن الجنائي، أو انتهاك الأموال والأعراض في معظمه محدود بمن وقع عليه الجرم، أما بالنسبة لضرر الإخلال بالأمن الفكري، فإنه يتعدى إلى كل شرائح المجتمع، وعلى اختلاف مستوياته.
في جملة أخرى من الاعتبارات.
إن الإعلام أساس في حفظ أمن الأمة الفكري، كما أنه أكبر منافذ غزو الأمة فكرياً واعتقادياً؛ إذ يتأثر الناس بوسائل الإعلام التي أصبحت تشكل شخصية الأفراد، بل وتعيد صياغة ما تشكل من فكر سابق، ولقد شهد العالم في القديم وسائل للإعلام والتوجيه كانت بدائية غير معقدة ومحددة الأثر: زماناً ومكاناً وموضوعاً.
ووسائل الإعلام ليست وسيلة جامدة محايدة - وهذا شأنها كآلة- بل أضحى ملاكها من دول وأفراد ومؤسسات يوجهون من خلالها أيا كان نوع ذلك التوجيه واتجاهه فـ (الإعلام سلاح فتاك إن أسيء استخدامه، فهو يغزو العقول ويتسلل إلى الأنفس، ويستولي على القلوب.
وقد يحمل في ثناياه ما يهدم القيم بدلاً من أن يدعمها، ويزعزع الإيمان بدلاً من يعمقه، ويعوق نشر الفكر المستقيم بدلاً من أن يشجعه، كما أنه قد يجسد ما يبرز في المجتمع من تناقضات وانفصام بدلاً من أن يزيلها ويقضي عليها).
والإعلام - يفترض أنه - عندنا معشر المسلمين ليس كغيرنا، فهو يحمل رسالة خير وعلم وبر ونفع للناس حتى وإن كان في صورة ترفيه.
إن الإعلام يجب أن يكون موجهاً للحق الذي تدين به الأمة فينطلق من ذلك الحق ويعززه ويدعو إليه.
وقد فقهت الأمة ذلك فجاء في المادة: (التاسعة والثلاثون) من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية عن رسالة وسائل الإعلام في تحقيق الأمن الفكري، فتقول: (تلتزم وسائل الإعلام والنشر وجميع وسائل التعبير بالكلمة الطيبة، وبأنظمة الدولة، وتُسهم في تثقيف الأمة ودعم وحدتِها، ويُحظر ما يؤدي إلى الفتنة، أو الانقسام، أو يمس بأمن الدولة وعلاقاتها العامة، أو يُسيء إلى كرامة الإنسان وحقوقه، وتبين الأنظمة كيفية ذلك).
وتنبع أهمية الإعلام الموجّه بالنظر إلى جانبين:
1- المجال الذي يتم فيه التوجيه.
2- المستهدفون بهذا التوجيه.
وفي خاصة موضوعنا، فإن الإعلام الموجّه يقوم على أعظم مقومات الأمة، وهو اعتقاها وفكرها بتحقيق الأمن الفكري المؤدي إلى سلامة واستقامة فكر المجتمع وسلامته من الانحراف، وبعده عن المهددات، وكل المجتمع على اختلاف شرائحه مقصود بتعزيز ثقافة أمنه الفكري.
فالإعلام يوجِّهُهُ قادة الأمة وولاة الأمر، والعلماء وقادة الفكر فيها ليكون من بعد موجها للأمة يسوقها إلى كل خير، ويرد عنها العوادي.
مفهوم
الأمن الفكري):
يعد مفهوم: (الأمن الفكري) من المفاهيم الحديثة التي لم تعرف قديماً في ثقافتنا الإسلامية بلفظها، وإن كان للشريعة رؤيتها في حفظ الدين والعقل.
وبالرغم من أن هذه الجملة (الأمن الفكري) لم ترد في النصوص، بل وليس لها وجود في تراث علماء المسلمين إلا أن مقاصد الشريعة المأخوذة من استقراء نصوص: الكتاب والسنة، بضميمة كلام علماء الأمة، تضمنت ما يدل على المضامين الرئيسة لهذا المفهوم.
فالشريعة جاءت لحفظ الضرورات الخمس: (الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض) وبالتالي: فإن بناء مفهوم: (الأمن الفكري) في الإسلام يستدعي مراجعة نصوص الشريعة وتطبيقاتها؛ للخلوص بالرؤية المتكاملة لتحقيق الأمن على الفكر الاعتقادي، وهو عمل ينبني على الاستقراء الموصل لليقين، مع دراسة المفاهيم التي تتصل بهذا المفهوم، أو تتقاطع معه أو تختلط به.
وقد اجتهدت في تتبع واستقراء النصوص؛ لتكوين العناصر الرئيسة لـ
الأمن الفكري) والمحددة له، وتبين لي أنها:
العنصر الأول: الاعتصام بحبل الله تعالى.
العنصر الثاني: التأصيل على الحق.
العنصر الثالث: التحصين من الباطل.
العنصر الرابع: التفاعل مع الثقافات والحضارات.
العنصر الخامس: المعالجة (معالجة الضلال).
وبما أن كمال بناء المفاهيم يكون بصياغة تعريفٍ مبني على هذا البناء، فإنه يمكن صياغة تعريف موجزٍ بناء على عناصر المفهوم التي سبق ذكرها، وذلك بالقول:
إن الأمن الفكري هو
تحقيق الطمأنينة على سلامة الفكر والاعتقاد بالاعتصام بالله، والأخذ من المصادر الصحيحة، مع التحصن من الباطل والتفاعل الرشيد مع الثقافات الأخرى، ومعالجة مظاهر الانحراف الفكري في النفس والمجتمع).
التعزيز التأصيلي:
إن الإعلام الموجه إذا حمل رسالته فإنه لا ينبني على ردود الأفعال، بل هو يؤصل الناس على الحق، ويبني الإيمان والقيم في نفوسهم، كما يضبط مصادر تلقيهم، ويشيع فيهم ثقافة الأخذ عن المصادر الصحيحة، وترك المصادر الكاذبة أو المشوشة للحقيقية ويمكن إجمال دور الإعلام في التعزيز التأصيلي لثقافة الأمن الفكري فيما يلي:
أولاً: ربط الناس بربهم (الاعتصام بالله): إن الإسلام يربط أحكام الحياة كلها بالله - عز وجل- مصدراً وغايةً، فسلامة الناس وأمنهم من جميع النواحي مرتبط بخالقهم، فالله - عز وجل - يقول: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [ آل عمران: 103].
والفكر إنما ينضبط بارتباط العبد بالله - عز وجل- وهذا يظهر في أمور أهمها:
1- توجه القلب إلى الله نية وقصداً.
2- تقوى الله - عز وجل -.
3- لزوم جماعة المسلمين.
ثانياً: إشاعة الوعي بأهمية المصادر:
لقد خلق الله الإنسان خلواً من المعرفة ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل:78].
إن التأصيل وضبط مصارد المعرفة والتلقي أساس الأمن الفكري، فالاعتقاد وصحته، والعمل وسلامته كل ذلك رهين سلامة المصدر الذي أخذ عنه.
وبإزاء هذه المصادر الصحيحة حذرت الشرعية من اعتماد المصادر المكذوبة المضللة، ودعت إلى إجراءات تحقق للمرء سلامة معلوماته من خلال أمور عديدة أهمها:
1- التثبت في باب الأخبار والوقائع.
2- التثبت في باب الأخبار الشرعية وقد وضع علماء الحديث قاعدتهم المشهورة في تلقي الأخبار الشرعية
إن كنت ناقلاً فالصحة، وإن كنت مدعياً فالدليل).
3- التحذير من الأخذ عن الخرافة والدجل ونحوها فعن صفية عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صل الله عليه وسلم - قال:" من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ".
ثالثاً: ضبط منهج الفهم: فـ (صحة الفهم، وحسن القصد: من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده، بل ما أعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم).
ولقد أتي بعض المنحرفين من سوء فهمهم للنصوص:
إما لعدم فهم معاني ألفاظها من جهة اللغة.
وإما من جهة عدم فهم معانيها في استعمال الشارع.
التعزيز المفاهيمي:
أولاً: الوعي بالمفاهيم والمصطلحات، والعمل على تحريرها:
يعد العلم بحقائق الأشياء، والوعي بالمفاهيم أساساً لسلامة الفكر والاعتقاد؛ إذ تجد كثيراً من المشكلات والمخالفات العقدية والفكرية يعود إلى اختلاف المفاهيم، أو الجهل بحقائق الأمور، وهذا أمر متفق عليه بين الأمم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: ( إن كثيراً من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلاً عن أن يعرف دليله ).
ولقد أصبحت المصطلحات أدوات في الصراع الحضاري والفكري بين الأمم، وفي داخل الأمة الواحدة، إذ يهتم أعداء أي مبدأ أو فكر في صراعهم مع المبادئ الأخرى بالألفاظ والمصطلحات، وحين يكون القوم يعادون الحق فإنهم يحرفون الألفاظ والمعاني، ويغيبون القول الحقَّ فيها.
ثانياً: مفهوم الاختلاف وواقعه:
إنه ابتغاء تحقيق الأمن الفكري لا بد أن يعتني الإعلام الموجه بالاختلاف، ويضبط أمره، وذلك عبر الاهتمام بجوانب أهمها:
1- بيان أن الاختلاف بين البشر واقع قدراً:
قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [ هود:118 - 119].
فالخلاف بين البشر بتصوراتهم وأفكارهم وعقائدهم سنة قدرية من سنن الله في الخلق لا يمكن مغالبتها وإنكارها.
2- الاختلاف أمرنا باجتناب أسبابه وتقليل آثاره:
مع ما تقدم من كون الخلاف بين الخلق واقع كوناً وقدراً إلا أننا كلفنا شرعاً بتجنب أسبابه، والتقليل من آثاره ومضاره، فـقد (ذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة).
ثالثاً: الاختلاف وإن وقع فإن الحكمة ضالة المؤمن:
جاء في الحديث: " الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها، فهو أحق بها ".
وقد قرر ابن حجر - رحمه الله - في ذكر فوائد هذا الحديث: أن الحكمة قد يتلقاها الفاجر، فلا ينتفع بها، وتؤخذ عنه فينتفع بها، وأن الكافر قد يصدق.
مفهوم الانحراف الفكري وخطورته:
والانحراف الفكري هو
الميل عن الحق والعدل في العقيدة والفكر والعمل).
وتظهر خطورته من خلال آثاره السلبية التي تهدد المجتمع كأفراد وككيان، ومن هذه الآثار:
1- إضراره بعقيدة وفكر الأمة بما يحمله من تصورات مناقضة لما جاء به الإسلام بل ومصادمة لها، مع تنفير الناس عن الإسلام، وتشويه صورته وصورة المسلمين، وإعاقة سير العمل الإسلامي والدعوة إلى الله.
2- انتشار الفتن: ومنها فتنة تمييع الدين وتضييع حدوده، أو فتنة التكفير خاصة تكفير المعين من الحكام دون النظر لما قد يكون عليه من جهل، أو إكراه، أو إيمان بحكم الله عز وجل، مع وجود بعض الأعذار التي تنقل حكم هذا الفعل من الكفر المخرج من الملة إلى الكفر غير المخرج من الملة، أو إلى كونه معصية أو خطأ.
وهذا التكفير ينتج بدوره سلسلة من المفاسد كالقتل والتفجيرات ونحوها.
3- انتشار الإرهاب والتطرف مع ما يرافق ذلك من مفاسد تطال كيان الدولة السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والفكري.
4- الانحراف الفكري يؤجج الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية بين أبناء المجتمع الواحد وهذا مؤذن بالهلاك والتفتت.
وإشاعة مفهوم الانحراف الفكري، مع بيان خطورة ذلك الانحراف وأسبابه، من أعظم ما يمكن أن يقوم به الإعلام الموجّه؛ تعزيزاً لثقافة الأمن الفكري في الأمة، وحماية لمعتقداتها، وقطعاً لطريق الانحرافات الفكرية.
التعزيز التربوي:
أولاً: بنشر العلم الشرعي: إن كثيراً من أسباب الانحراف الفكري، تعود إلى الجهل، فالجهل أساس من أسس الانحراف، ولقد أمرنا بطلب العلم ونشره؛ لأن العمل الصالح لا يكون إلا بعلم.
قال الله - عز وجل-: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنبياء:7].
والمراد بالعلم المأمور به في نصوص الشريعة: العلم الشرعي، علم الكتاب والسنّة.
ثانياً: نشر الوسطية والاعتدال: فالمسلمون هم الأمة الوسط يقول الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [ البقرة: 143].
والصراط المستقيم هو الوسطية التي هي سمة هذه الأمة، فإن الله - عز وجل- علمنا أن ندعوه أن يرزقنا الهداية إلى الصراط المستقيم، ويسلمنا من الانحراف بعامة.
يقول الله تعالى:﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾ [ الفاتحة: 6- 7 ].
إنه دعاءٌ بالتزام الوسطية والحذر من طرفيه المنحرفين: طرف الغضب، وطرف الضلال.
ذلك أن (جماع الشر: تفريط في حق، أو تعد إلى باطل، وهو تقصير في السنة، أو دخول في البدعة، كترك بعض المأمور، وفعل بعض المحظور، أو تكذيب بحق، وتصديق بباطل).
وقد بين المعيار الدقيق في ذلك حين قال - صل الله عليه وسلم -:" أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن أمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ".
ثالثاً: ربط الأمة بعلمائها: ذلك أن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فإن يُقبض العلماء يهلكوا: فعن عبد الله ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صل الله عليه وسلم - يقول:" إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم يبق عالماً، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا وأَضَلُّوا "[1]
ضلوا بإفتاء الناس بالباطل، وقولهم على الله تعالى بغير علم ولا هدى، ولا كتاب منير، وأضلوا الناس الذين اتبعوهم، وحينذاك يهلك الجميع.
رابعاً: حماية جناب أهل العلم من الطعن والذم: إن منزلة العلم تقتضي حماية أهل العلم من التطاول بالقدح أو الذم أو الاستهزاء بهم، لأن الطعن فيهم إنما هو طعن بعقيدة وفكر الأمة وهو انحراف يولد انحرافاً مقابلاً وربما عنفاً وفساداً.
خامساً: تقديم الأصلح في المنابر الإعلامية: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم-:"إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة "[2].
وقد سئل الإمام أحمد: عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف مع أيهما يغزى؟ فقال
إما الفاجر القوي فقوله للمسلمين وفجوره على نفسه؛ وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين فيغزى مع القوي الفاجر ).
وتقديم الأصلح هو دليل رشاد وفهم، وعوائده بلا شك خير وفلاح.
سادساً: إشاعة ثقافة الحوار: إن الحوار وسيلة يتوصل بها إلى مقصد عظيم متمثل بتحقيق فوائد عدة فوائد منها:
الأولى: إبانة الحق، وإظهار دلائله.
الثانية: كشف شبهات المنحرفين التي أوقعتهم في الانحراف.
الثالثة: إظهار عوار المنحرفين للناس؛ حتى لا يصغوا إليهم أسماعهم، فيشاركوهم الانحراف.
الرابعة: إرجاع من انحرف إلى جادة الحق والصواب.
التعزيز الوقائي:
إنه كما يعزز الإعلام ثقافة الأمن الفكري بالتأصيل، يعززها بالوقاية والتحصين، ولذلك إجراءاته الكثيرة، ولكن أذكر منها أوجه نربطها بالسنّة النبوية، وهذه الأوجه هي:
أولاً: التحذير من الفرق المخالفة لمنهج الحق:
إن أمن المجتمع بشكل عام إنما هو راجع لهذا المنهج:" ما أنا عليه، وأصحابي" ومن خرج عليه فقد فتح على نفسه وعلى مجتمعه باب: قلاقل واضطراب وفتن لا تنتهي إلا بالرجوع لهذا المنهج الحق.
فهو العاصم المانع، وهو السد الدافع لكل من أراد النيل من الأمة، وأمنها واستقرارها.
لذا جاء تحذير الشريعة من فرق الضلال، وأمرت بلزوم منهج الحق، ورأس ذلك بين في قوله - صل الله عليه وسلم -:" افتَرَقَت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فِرقةً، وتَفرَّقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقةً وتفتَرقُ أمَّتي على ثلاث وسبعين فرقة ".
ولقد جاء التحذير مبيناً بوجه أخص خطر فرقة الخوارج، لعظيم ضررهم على الأمة ولحجم فسادهم العريض الذي يطال ضرورات الأمة ومقدارتها فما دخل هؤلاء بقعة إلا أفسدوها ديناً ودنيا، وأمناً وطمأنينة.
(وهؤلاء أمر النبي -صل الله عليه وسلم- بقتالهم؛ لأن معهم دينا فاسداً لا يصلح به دنيا، ولا آخرة).
والأحاديث التي جاءت في شأنهم كثيرة، منها: عن سويد بن غفلة قال: قال عليّ - رضي الله عنه -: إذا حدَّثتكم عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- حديثاً فلأن أخرَّ من السماء أحبُّ إليَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنما الحرب خدعة، سمعت رسول الله - صل الله عليه وسلم - يقول: " يأتي في آخر الزمان قوم حُدَثَاءُ الأسنَانِ سُفَهَاءُ الأحْلاَمِ، يقولون من قول خير البريَّة، يمرُقون من الإسلام كما يَمْرُقُ السَّهمُ من الرَّمِيَّةِ، لا يجاوز إيمانهم حَنَاجِرَهُم، فأينما لقيتموهم فاقتُلُوهُم، فإنَّ في قتلهم أجراً لمن قتَلهم يوم القيامة ".
ثانياً: التحذير من أعمال أهل الضلال:
وأظهر هذا التحذير حين حذرت الشريعة من (الغلو) باعتباره منهجاً منحرفاً يسوق مناصريه إلى الهلاك بما يحمله من فساد وإفساد.
قال تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ﴾ [المائدة:77] (أي: لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ).
وفي الحديث:" وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ".
والنهي هنا وإن كان خاصاً، فهو نهي عام لكل غلو.
وعن عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -:" هلك المتنطّعون " قالها ثلاثاً.
أي هلك المتعمقون المتشددون في غير موضع التشديد، المجاوزون الحدود في أقوالهم، وأفعالهم.
ثالثاً: ذكر أخبار الأمم لأخذ العبرة من أسباب ضلالهم:
قال تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف:111].
وجاءت لفظة:﴿ عِبْرَةٌ ﴾ [يوسف:111] منكرًا؛ ليفيد الشمول والعموم، ففي قصصهم عبرة عن كل شيء، وفي كل شيء لكن الاعتبار محصور: ﴿ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف:111].
ويعد استخدام (إنما أهلك من كان قبلكم) أحد الأساليب التي اعتمدتها السنة في التبليغ والبيان، والوعظ والإرشاد، فمن ذلك: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صل الله عليه وسلم- قال:" دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم، بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
رابعاً: التحذير من أوصاف محدودة:
إن أظهر هذه الأوصاف المحذر منها: التفرق؛ ذلك أن (نتيجة الفرقة: عذاب الله ولعنته، وسواد الوجوه، وبراءة الرسول - صل الله عليه وسلم - منهم ).
ولقد شهد على هذا الأصل العظيم نصوص الوحيين الكتاب والسنة، فمن الكتاب:
قال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران:103].
فأمرنا بالاعتصام بحبل الله الذي هو معقد الاجتماع، ونهى عن التفرق والاختلاف.
كما أكدت السنة على ذلك فقد وردت جملة أحاديث في التحذير من الفرقة منها: عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صل الله عليه وسلم -: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك الجماعة ".
خامساً: التحذير من الإحداث والابتداع: البدعة
طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه).
ولقد جاء التحذير من الابتداع في الدين في كثير من النصوص، فمن ذلك:
قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة:3].
وفي الحديث عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما- أن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال: " أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " وفي رواية:" وكل ضلالة في النار ".
سادساً: التحذير من الأئمة المضلين:
قال تعالى: ﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الجمعة: 5].
قال ابن حزم -رحمه الله-: (لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنَّهم يجهلون ويظنُّون أنَّهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون).
[1] رواه البخاري: برقم: (100) ومسلم: برقم: (2673).
[2] رواه البخاري: برقم: (6496).