الدولة العراقية ودراما الانتقال من الملكية إلى الجمهورية (1-2)
ا. د. ميثم الجنابي
إن جغرافية الدولة هي جغرافيتها السياسية. لكن حقيقتها تتراكم حول ما يمكن دعوته بمراكزها التاريخية الثقافية، التي تجعل منها على الدوام قوة جاذبة. الأمر الذي يجعل من توسع او تقلص حدودها الجغرافية حالة عابرة، وبالأخص بالنسبة للدولة العريقة. والعراق دولة عريقة، بل احد اعرق الدولة في التاريخ العالمي. فقد كانت حدوده الجغرافية والسياسية تتوسع وتتقلص من إمبراطوريات كبرى إلى كيانات مجزئة وصغيرة، لكنها بقت على الدوام محصورة ضمن إطار الفكرة المتراكمة في تاريخه الذاتي ومراكزه الثقافية السياسية الكبرى، أي عراق أور وبابل ونينوى، وعراق البصرة والكوفة وبغداد والموصل، أي نفس الجغرافيا السياسية والثقافية. وهي مكونات طبيعية وماوراطبيعية في الكينونة العراقية، ارتقت إلى مصاف المرجعيات الذائبة في وعيه الثقافي والسياسي، وذلك لأنها ليست جزء من تاريخه، بل مستويات ذائبة في صيرورته التاريخية وكينونته الثقافية.
ففي إحدى القصائد الكبرى التي قيلت بحق سرجون الثاني، ملك آشور (ت – 705 قبل الميلاد)، نقرأ الخطاب الموجه إلى نينيجيكو (اله الحكمة):
يا اله الحكمة!
فجّر ينابيعك لسرجون، ملك آشور،
وحاكم بابل،
وملك سومر وأكد،
ومشّيد هيكلك!
واجعل للعقلاء والعلماء قدرهم
ووفقهم بالتمام وبلوغ المرام!
ويعكس هذا المقطع النموذجي فكرة وذهنية المركز السياسي، التي صنعت بدورها قيمة المركز الثقافي. بمعنى التوكيد على أن الحكمة هي منبع الحكم، وان العراق هو آشور وبابل وسومر (أي شماله ووسطه وجنوبه) وان للحكم الرشيد (العقلاني والحكيم) قدره في بلوغ التمام والمرام. وتكشف هذه الفكرة بعد مرور حوالي 2700 سنة عن ضحالة الواقع العراقي الحالي و"نخبه السياسية"! لكننا حالما نضعها ضمن سياق الحاضر والمستقبل، فإنها ليست أكثر من مؤشر على بديهة التاريخ العراقي القائلة، بأن العراق هو صيرورة تاريخية وكينونة ثقافية لا مكان فيها للتجزئة المفتعلة. بمعنى أن كل الصيغ المفتعلة التي جرى حشرها في وعيه السياسي على امتداد تاريخه الحديث (وبالأخص منذ ثلاثينيات القرن العشرين) لم تؤد في نهاية المطاف إلا إلى الزوال والاندثار دون أن تثير في الذاكرة شيئا غير مختلف نماذج الأسى والكراهية، كما هو جلي في ما آلت إليه الأيديولوجيات الكبرى كالشيوعية والبعثية، وما نراه ونسمعه من صداها الباهت في "استفحال" الأحزاب العرقية (الكردية)، وهوس الحركات الطائفية (الشيعية والسنية)، وهمجية السلفيات الإرهابية، ومختلف أشكال ومستويات التجزئة والانحطاط. إلا أن كل هذه المظاهر الخربة والمخرّبة هي جزء من زمن الضياع التاريخي للعراق الحديث الذي تراكم في مجرى انحلال مراكز الثقافية السياسية، وخصوصية ظهوره الحديث بأثر تفاعل بقايا عثمانية متهرئة وسطوة كولونيالية بريطانية. وبالتالي، فإنها جزء من زمنه السياسي العابر وتجاربه الحديثة.
إن الدولة العراقية ليست جزأ من تجارب الحركات والأحزاب، بقدر ما هي جزء من "نظامه السياسي". والعلاقة بينهما كبيرة لكنها ليست جوهرية فيما يتعلق بالثوابت أو المرجعيات الجوهرية للدولة في العراق وهويته الذاتية. وهو أمر جلي حالما نحلل علاقة الدولة العراقية الحديثة بنظامها السياسي، وأثره بالنسبة للحالة الآنية المهددة لوحدة الدولة وإمكانية تجزئتها. بعبارة أخرى، إن كل ما يجري فيه الآن هو جزء مما ادعوه بتجربة الاحتمال الكبرى الحديثة فيه من اجل إعادة تأسيس الدولة العراقية (وليس إعادة بناءها) بطريقة تستقيم مع مكوناته التاريخية الثقافية واثر مراكزه الثقافية. انه صراع من اجل السيادة والدولة والمركزية الثقافية السياسية. من هنا الطابع العنيف للصراع فيه، بوصفها الصيغة المباشرة للصراع من اجل المستقبل.
فمن المعلوم أن نشوء الدولة العراقية المعاصرة ارتبط بكيفية انهيار السلطنة العثمانية من جهة، وبطبيعة السياسة الإمبريالية آنذاك للدول الكبرى (بريطانيا وفرنسا وروسيا) من جهة أخرى. وقد أدى التقاء هذين المكونين على صياغة معاهدة سايكس - بيكو ونتائجها المترتبة على رسم الخطوط الجغرافية العامة للدولة العراقية وخضوعها المباشر للسيطرة البريطانية. ولم تكتمل هذه الدولة آنذاك (بعد نهاية الحرب العالمية الأولى) من حيث مقوماتها الجغرافية والقومية، إلا أنها كانت تحتوي على قبول حتمي للظهور بهيئة دولة موحدة بفعل جذورها الثقافية ووعيها التاريخي الذاتي واستعدادها السياسي. والقضية هنا ليست فقط في أن العراق كان من الناحية التاريخية هو مصدر فكرة المدينة – الدولة والحقوق والإمبراطوريات في المنطقة والعالم، بل ولتكامل جغرافيته وتوحيدها المتراص منذ أقدم العصور، باعتباره وحدة للسومرية والبابلية والآشورية المصهورة بالكينونة العربية - الإسلامية لاحقا. وهي وحدة لا يمكن فصل عراها. لاسيما وأنها وحدة تختلف عن الوحدات الأخرى من حيث سيادة المكون الثقافي فيها على العرقي أو القومي. ولم تكن هذه الصفة معزولة عن خصوصية المكون العربي - الثقافي - الإسلامي للعراق وأثره الجوهري في بلورة هويته التاريخية والوطنية. ك
لقد كان العراق بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ودخول القوات الإنجليزية إليه يعاني من ضعف ذاتي هائل في مجال بنية الدولة والمجتمع والسياسة والثقافة. باختصار انه كان مجرد هيئة قابلة للاستعداد، أي انه كان في حالة كمون أو في طور الإمكانية. والإمكانية هي واقع. أما كيفية تحول الإمكانية إلى واقع، فإنها مرتبطة بأسباب وشروط عديدة. إلا أن هذه الأسباب والشروط كانت متطابقة آنذاك فيما أشرت إليه من كيفية سقوط السلطنة العثمانية واحتلال القوات الإنجليزية للعراق. أما النتيجة المباشرة لتفاعل هذين السببين على خلفية ما أسميته بالضعف الذاتي الهائل للعراق آنذاك، فإنها ظهرت للمرة الأولى في اقتراح وتطبيق شكل ومحتوى الدولة العراقية المعاصرة في بداية عشرينيات القرن العشرين. ووجدت هذه العملية انعكاسها غير المباشر في ترافق "ثورة العشرين" الفلاحية - العشائرية وقياداتها الدينية (الشيعية) وإنشاء الملكية "الهاشمية".
لقد أدت "المساومة" السياسية التي جعلت من العائلة الهاشمية عائلة مالكة في العراق، إلى كسر الإمكانيات السياسية والثقافية والاجتماعية الآخذة بالنمو في أواخر المرحلة العثمانية في العراق. فقد كانت العائلة الهاشمية بعيدة عن تاريخ العراق ما قبل الحرب العالمية الأولى. كما أنها لم ترتبط به وجدانيا وسياسيا وثقافيا وتاريخيا. لقد كانت من حيث مكوناتها هذه كلها نتاجا "للأرستقراطية العلوية" المزيفة في مجرى صراعها مع آل سعود من اجل الاستحواذ على السلطة. إذ لم تعن الدولة بالنسبة لها في أفضل الأحوال سوى السلطة المحكومة بمفهوم ونفسية "الإمارة" القبلية والدينية. الأمر الذي كان جليا في "مساومتها التاريخية" مع الإنجليز قبيل وبعد ما يسمى "بالثورة العربية". وهو أمر كان يشير في الإطار العام إلى الضعف البنيوي الهائل آنذاك لمنطقة الهلال الخصيب والجزيرة العربية ككل من جهة، وللضعف البنيوي (التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي) في تركيبة العائلة الهاشمية في العراق من جهة أخرى. وسوف يظل هذا التناقض يحكم تاريخ العراق السياسي حتى الانقلاب العسكري في الرابع عشر من تموز عام 1958.
فقد كانت الملكية الهاشمية في العراق مصادرة تاريخية وسرقة عائلية لتراث الجنوب العراقي آنذاك، أي للقوة الاجتماعية والثقافية والسياسية التي بلورت الهوية العراقية منذ أقدم العصور. إن ذلك لا يقلل من مأثرتها التاريخية الهائلة بالنسبة لتكوين وبناء الدولة العراقية المعاصرة في مختلف الميادين، إلا أنها كانت في الواقع العائق الاجتماعي والسياسي الكبير أمام صيرورة العراق الفعلية في دولة حديثة بالمعنى الدقيق للكلمة. وكانت هذه النتيجة مترتبة على الضعف الذاتي العراقي قبيل تأسيس الدولة الحديثة، إلا أن الملكية الهاشمية حولته إلى حالة بنيوية سياسية كان بدوره الاستمرار الحتمي لنشوئها التاريخي بوصفها نتاجا لمساومة خارجية. وقد لازم هذا الضعف مسارها التاريخي في غضون ثلاثة عقود حتى انتهى بحالة مأساوية في الرابع عشر من تموز 1958.
الدولة الجمهورية – جمهورية الآمال والخراب
كان الانقلاب العسكري للرابع عشر من تموز عام 1958 المخرج العنيف للشحنة الراديكالية المتراكمة في مجرى تعمق الخلل البنيوي للدولة العراقية في مجرى ثلاثة عقود من بنائها المعاصر. إذ لم تستطع الملكية تحويل مساومة ظهورها التاريخي صوب الرؤية العقلانية السياسية من خلال إشراك المجتمع في عملية بناء الدولة. وهو ضعف تتحمله أيضا القوى الاجتماعية والسياسية العراقية التي افتقد اغلبها لتقاليد الرؤية العقلانية السياسية. ويمكن تفسير هذه الظاهرة بطبيعة المرحلة التاريخية آنذاك وسيطرة النزعة الثورية وتراكم أبعادها وعناصرها التي جعلت اغلب الأحزاب أسيرة الرؤية النفسية والأيديولوجية. وقد وجد ذلك انعكاسه المباشر في "الفرح الطاغي" لجميعها على "الثورة" ونسيان قيمة الفعل التاريخي والاجتماعي للصراع السياسي المتراكم في مجرى صيرورة الدولة العراقية والأحزاب السياسية وبوادر المجتمع المدني. الأمر الذي جعل من السياسة رهينة المغامرة التي صادر العسكر بريقها اللامع، بحيث أعطى للنجوم الذهبية الرخيصة على أكتافهم وزنا ابتذل بصورة شبه تامة قيمة المادة القانونية. مما أدى إلى أن تكون "الثورة" انقلابا فعليا في المسار التاريخي "الطبيعي" للدولة العراقية الناشئة. فقد قلب هذا الانقلاب موازين القيم والأعراف السياسية الناقصة أساسا، صوب ابتذالها شبه التام. مع أن النتائج الأولية لانقلاب الرابع عشر من تموز كان من الناحية النفسية تنفيسا للكبت الاجتماعي والسياسي والضعف الاقتصادي للمجتمع. وبالتالي فسح المجال أمام التثوير الراديكالي للقيم والمفاهيم والسلوك، بما في ذلك السياسي صوب توسيع أطر الحرية ومضامينها، إلا انه أدى فعليا إلى خراب هائل لمفاهيم وقيم الحرية والنظام. وذلك لأن الانقلاب العسكري للرابع عشر من تموز لم بفعل في الواقع إلا على استكمال النقص الجوهري للدولة الملكية المتركبة من مساومة تاريخية ضعيفة بحد ذاتها، عبر تجذيره في يقين أيديولوجي متنوع الصيغ والأشكال عن إمكانية الراديكالية المتطرفة في التعامل مع بنية الدولة والمجتمع والقيم. فقد كان هذا اليقين يحاكي بصورة غير واعية ما سبق وأن أحدثته الثورات الاجتماعية الكبرى. وإذا كانت "الثورة العراقية" تلتقي في زمن حدوثها مع تاريخ حدوث الثورة الفرنسية العظمى، فإن ثقل الرمز التاريخي كان مجهولا تماما بالنسبة لحفنة من العسكر متضاربة المشارب والتربية والغايات. بحيث أعطى لمحاكاتها في إعدام العائلة المالكة وقتل رجالات الدولة بطريقة لا تقل قسوة عن المقاصل القديمة صيغة دموية مغامرة. والقضية هنا ليست في القتل بحد ذاته، بل بالقوى التي أثارت زوبعته السياسية.
إذ لم تتأسس مفاهيم الانقلاب العسكري بقيم الحرية والعدالة والإخاء، ولم تعرف ماهية الديمقراطية السياسية، كما أنها بحد ذاتها غير قادرة على التمام في فئة اجتماعية قادرة على الاندماج الفعلي بمعايير القانون والمجتمع المدني. إذ ليس بإمكان العسكر القيام بهذه المهمة، كما أنها ليست مهمته التاريخية ولا وظيفته الاجتماعية والسياسية. بينما كان تدخله المباشر والقيادي والريادي في هذه العملية قد افسد المكونات الضرورية للدولة ومؤسساتها التي تراكمت بصورة صعبة في مجرى تطور الملكية العراقية في عقودها القليلة. وفي هذا كان يكمن الخطر التاريخي والسياسي القاتل لانقلاب الرابع عشر من تموز عام 1958. فقد ادخل الجيش في السياسة وإدارة شئون الدولة بصورة مباشرة مما أدى إلى تخريبه وتخريب الدولة النظام السياسي والمجتمع المدني. وهي الحصيلة التي أدت إلى نهايتها المشهورة في انقلاب الثامن من شباط عام 1963ا، الذي أنهى فصلا من فصول التاريخ الجمهوري في العراق مبتدأ فصلا دمويا ثانيا فيه.
فقد كانت الجمهورية الأولى (1958 – 1963) الصيغة الأولية للتجربة التاريخية التي رافقت القضاء على الحكم الملكي في العراق. فقد جسّد الانقلاب العسكري للرابع من تموز عام 1958 المحاكاة المضحكة المبكية لثورة الفرنسيين في الاستيلاء على الباستيل يوم الرابع عشر من تموز عام 1789. إلا أن الانقلاب العسكري العراقي كان يخلو من تاريخ فكري سياسي، بما في ذلك عند الأحزاب السياسية الكبرى، التي أيدت بين ليلة وضحاها ما يتعارض مع حقيقة الفعل السياسي. وسوف يدفع الجميع ثمن هذا التأييد. بينما كان الخاسر الأكبر والمتضرر الحقيقي هو كل من المجتمع والدولة العراقيين على مدار أكثر من أربعة عقود دموية.
ولعل الصيغة الفاقعة في هذه المحاكاة المسطحة هو استعادة البونابرتية لفاعليتها السياسية. فإذا كان نابليون بونابرت يتمتع على الأقل بتاريخ عسكري عبر البحر المتوسط و"مكتشف" مصر وتاريخها العظيم ومثير القلاقل التاريخية الجسام في جسد أوربا العجوز، فإن البونابرتيين العراقيين الجدد لم يتعدوا في الأغلب حدود الفلوجة وتكريت والرمادي وديالى وغيرها من المناطق المتربة المشبعة بتقاليد العشائر المتخلفة. الأمر الذي يفسر في الواقع انحدار "البونابرتية العراقية" اللاحق من قاسم إلى عارف، ثم إلى عارف أتفه، ثم إلى بكر أسخف، ثم إلى صدام مجرم.
لقد كان انتهاء الجمهورية "الأولى" وإعدام القادة العسكريين وبالأخص عبد الكريم قاسم النهاية المأساوية لمرحلة الراديكالية الحالمة حيث كشفت أحداثها وإنجازاتها في ميدان بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد والعلاقات السياسية عن خلل جوهري يقوم فحواه في كسر مجرى التطور الطبيعي للدولة والمجتمع. وبالتالي فسح المجال أمام إمكانيات المؤامرة والمغامرة من جانب الحثالة الاجتماعية للوصول إلى سدة الحكم عبر الانقلابات العسكرية. وتجسدت هذه النتيجة بصورة نموذجية في مجرى ونتائج الأحداث التي رافقت الانقلاب الفاشي الدموي في الثامن من شباط لعام 1963 ووصول القوميين البعثيين للسلطة.
وهي المرة الأولى التي تصل فيها حفنة من المغامرين "الخارجين" عن منطق التاريخ ومضمونه الاجتماعي من اجل إرساء أسس "جمهورية جديدة". فقد كانت هي بالفعل جمهورية من طراز خاص شكلت من ناحية تسلسلها انقلابا شديدا في تاريخ الجمهورية في العراق، بحيث يمكن اعتبارها "الجمهورية الثانية" (1963- 1968) التي شكلت نفيا واستمرار لما قبلها. فقد نفت المضامين التحررية الجزئية والأبعاد الاجتماعية للجمهورية الأولى، إلا أنها استمرت بتوسيع وترسيخ تقاليد الراديكالية الممتزجة بالنفسية الجهوية والفئوية والمتحزبة والطائفية. وليس مصادفة أن تتشكل في أولى أيامها القوات الانعزالية التي أطلق عليها تسمية "الحرس القومي"، باعتبارها القوة الضاربة المتكونة من الحثالة الاجتماعية والأفراد الأكثر وضاعة وخروجا حتى عن الأعراف والتقاليد العادية المميزة للعراق والعراقيين. بعبارة أخرى، أنها أشركت في بناء وحدة متراصة من قوى التخلف والانحطاط الجاهلة بأولى مقومات الفعل السياسي الحقيقي. إذ كانت تجهل بصورة تامة مضمون الدولة والمجتمع المدني وفكرة الحقوق. بل أن كل كيانها كان نقيضا تاما لهذا المضمون. وبالنتيجة لم تبن إلا جمهورية "حراس" تخبطت بينهم لتنتهي بطريقة مخجلة بعد الانقلاب الداخلي لعبد السلام عارف أول الأمر ثم استكماله بأخيه عبد الرحمن، لينتهي بدوره إلى جمهورية "حراس" جدد مهمتهم تشديد القبضات حول جدران القصور الجمهورية بعد انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968.
أما ما جرى في عراق "الجمهورية الثالثة" (1968 – 2003)، فانه يحاكي من حيث الصورة والنتائج ما سبق وأن جرى في "الرايخ الثالث" الألماني (الهتلري). بمعنى اشتراكهما في صنع توتاليتارية متشددة! مع أن كل منهما صنعها بطريقته الخاصة، وأعطى لها صورا متنوعة.
فقد كانت التوتاليتارية البعثية الصدامية مسخا متميزا في تاريخ العراق استطاعت تجريده من كل مقوماته الذاتية وحصانته المادية والمعنوية. وهو السبب الذي يفسر سرّ انهيارها السريع وهروبها المريع، اللذين كشفا عن حقيقة تقول بان التوتاليتارية البعثية الصدامية زمن بلا تاريخ. من هنا اندثارها الخاطف وبقاياها الخربة في كل مكان. وتشير هذه النتيجة في الإطار العام إلى فقدان التوتاليتارية البعثية إلى جذور طبيعة لها في العراق، وأنها مجرد ظاهرة عرضية ومرضية تمثلت العناصر الرخوية المميزة للهامشية الاجتماعية والسياسية في عراق القرن العشرين.
وإذا كانت آلية توليد وإعادة إنتاج التوتاليتارية ترتبط أساسا بفقدان الحدود العقلانية في العلم والعمل، وبفقدان الاعتدال العقلي الأخلاقي وكذلك بالخلل القائم في التوازن الداخلي للدولة والمجتمع والثقافة، فإنها عادة ما تؤدي إلى ظهور وسيطرة وفاعلية ما يمكن دعوته بالمشروع الواحد الذي لا يعرف البدائل، واليقين الواحد الذي لا يقر بالاحتمالات، والإرادة الواحدة التي لا يردعها رادع، والواحدية العقائدية السياسية الخاوية من كل روح ثقافي. أما النتيجة الحتمية لكل ذلك فهو تخريب المجتمع والدولة والثقافة. وفي الإطار العام يمكن القول، بان نتيجة التوتاليتارية هي تخريب الكلّ، وذلك لان كل سعي لفرض نموذج كليّ سوف يؤدي بالضرورة إلى تدمير الكلّ.
وقد جسّدت البعثية الصدامية في العراق نموذجا خاصا للتوتاليتارية أدى إلى "صناعة" نوع ربما هو الأتفه في تاريخ التوتاليتاريات بأسرها. أنها جعلت من "مشروعها" لبناء العراق عقدا أبديا لا علاقة له بالتاريخ والمجتمع، وتطاولت إلى درجة لم تسمح بأي قدر من البدائل، بما في ذلك من جانب "الحزب" الذي تمثله. وأكملت ذلك بيقينها القاطع لكل احتمالات من جانب أي فرد وجماعة ومنطقة وطائفة وحزب وقومية. مما أدى بها في نهاية المطاف إلى أن تصنع "جمهورية" قصور محمية من جانب "حرس جمهوري"، كما كان الحال بالنسبة لسابقتها التي كان يحميها "حرس قوميون". وهي استعادة لها رمزيتها ومعناها الواقعي القائم في اغترابها التام عن العراق بكافة مكوناته، جعلت من الجمهورية رديفا لسجون مطوقة بحراس من الحثالة الاجتماعية.
***
"جمهورية المستقبل" - الاحتمالات والبدائل
أدى سقوط التوتاليتارية البعثية في العراق في نيسان من هذا العام (2003) إلى انتهاء فترة طويلة من زمن الجمهوريات الدموية الخارجة على القانون. وللمرة الأولى بعد أربعة عقود من الزمن ظهرت إمكانيات متنوعة للاحتمالات في التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. فقد شكل سقوطها في عام 2003 مرور أربعين عاما بالضبط بعد استيلاء حزب البعث على السلطة في الانقلاب الغادر عام 1963. ويرتقي هذا الزمن من حيث رمزيته وفاعليته في تكون الأفراد والشخصيات إلى مستوى النضج الكامل و"سن الحكمة" و"النبوة". من هنا فإن التحول العاصف الذي يلف العراق الآن لا يقوم في انتهاء مرحلة "الجمهورية الثالثة" فحسب، بل وفي تنوع الاحتمالات العديدة لتطوره اللاحق. الأمر الذي يجعل من فكرة الاحتمال عنصرا جوهريا في تحديد ماهية "الجمهورية الرابعة" وآفاق الدولة العراقية وطابعها الوطني وحدودها الجغرافية السياسية.
إن إحدى الإشكالات الكبرى التي تعاني منها الدولة في العراق تقوم في اضمحلال فكرة السيادة، بمعنى تحلل فكرة الدولة ومرجعيتها في الوعي السياسي للأحزاب. وهو السر القائم وراء تحول الدولة إلى جزء من السلطة، والسلطة إلى أداة بيد الحزب، والحزب إلى أداة بيد "القادة" و"الزعماء". ومن ثم تحول فكرة الدولة إلى جزء من الأهواء الحزبية. فقد أدت هذه النتيجة في مجرى "الجمهوريات الثلاث" (1958، 1963، 1968) إلى تآكل فكرة الدولة بصورة شبه تامة. بمعنى فقدان ابسط مقومات الشرعية فيها. بينما لا وجود لحقيقة الدولة دون فكرة الشرعية. وفي العالم المعاصر تتطابق فكرة الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة مع فكرة الدولة الشرعية. ويتمثل هذا التطابق في الواقع حقيقة العلاقة التاريخية المتراكمة بين الدولة والشرعية. وضمن هذا السياق، يمكن اعتبار سقوط الدكتاتورية الصدامية في نيسان عام 2003 قطعا أوليا مع زمن التآكل والتحلل في فكرة الدولة. ومن ثم، أدى وللمرة الأولى بعد أكثر من أربعة عقود إلى ظهور إمكانيات جديدة واحتمالات عديدة لتجريب فكرة الدولة الشرعية، أي لتحقيق فكرة الدولة وسيادتها الذاتية.
إن "الجمهورية الرابعة"، باعتبارها نموذجا ممكنا للبديل الشرعي، هي إمكانية وليست واقعا، واحتمال لم يرتق بعد، بما في ذلك في مشاريع الأحزاب والنخب إلى مستوى النموذج الضروري. ذلك يعني أننا نقف أمام هلامية السيادة الذاتية للدولة في الفكر والواقع على السواء. وهي نتيجة مختبئة في سيادة نفسية المؤقت وذهنية السلطة. بينما حقيقة الدولة (الشرعية) هي عقل اجتماعي ومؤسساتي متراكم، وثبات في ديناميكية الإصلاح والتطور. ذلك يعني أن فكرة سيادة الدولة، باعتبارها مشروعا واقعيا وقابلا للتحقيق مرتبط بضرورة النفي العقلاني لتاريخ الجمهوريات العسكرية. وهو نفي متعدد المستويات، لكن مضمونه الفعلي ينبغي أن يتمحور حول السيادة الذاتية لفكرة الدولة بشكل عام والشرعية بشكل خاص، أي صهر السبيكة الخربة المتكونة من نفسية وذهنية الفكرة الراديكالية والمؤقت. وبالتالي التحرر من رق التراث التوتاليتاري أيا كان، والعمل من اجل إبداع بلا ضفاف في مختلف الميادين لا يقيده شيئا غير إدراكه الذاتي لأهمية سيادة الدولة الشرعية وإنهاء فكرة المؤقت.
إن انعدام الثبات الحقيقي في الدولة العراقية وتاريخها المعاصر يقوم في عدم استنادها إلى أرضية الحق الدائم والدستور الدائم، أي فكرة الشرعية، ومن ثم فكرة الدولة. لاسيما وأنه الأساس الوحيد القادر على أن يضفي على تغير السلطة وتبدل أشخاصها قوة إضافية بالنسبة لترسيخ تقاليد الحق والشرعية وتراكم قوتها الذاتية في كافة الميادين. وفي حال النظر إلى واقع العراق بعد سقوط الدكتاتورية، فإننا نقف أمام نفس الضعف الفعلي المميز لنفسية وذهنية "الانتقال". إذ لم يكن بإمكان مختلف أشكال "الحكم المؤقت" التخلص من هذه الحالة بعد سقوط الدكتاتورية، وذلك بسبب انعدام مؤسسات الدولة وتقاليدها الاجتماعية ومؤسساتها الشرعية من جهة، ولكون مختلف نماذج "الحكم المؤقت" هي نتاج مساومات سياسية واجتماعية وقومية ضعيفة. ويفسر هذا الواقع وظيفته "الانتقالية" فقط، ومن ثم قيمته السياسية، بوصفه "مؤسسة" النقص التاريخي لفكرة الدولة الشرعية. إلا انه كان وما يزال يحتوي على قدر صغير من العقلانية يقوم في تمثله للمرة الأولى فكرة المساومة السياسية، رغم أنها جرت في ظروف حرجة وبضغط قوى خارجية، أي لم يكن نتاجا تلقائيا للإدراك السياسي من جانب قواه المكونة. لكنه استطاع للمرة الأولى في تاريخ العراق السياسي من جمع اغلب القوى السياسية تحت مظلة تقر بوجودها المؤقت في السلطة، وإن ما تعمل ضمنه هو مجرد كيان عابر وكينونة انتقالية إلى أن يجري نقله إلى الوضع الدستوري الدائم. ذلك يعني إقرارها السياسي بضرورة الحصول على صيغة شرعية لحق "الثبات" في الحكم، وان هذا الثبات مقرون وملازم لثبات الدستور والقانون.
إننا نعثر في هذه الحالة على قيمة تاريخية مهمة بالنسبة لتطور الوعي السياسي والحركات والأحزاب السياسية. غير أن حقيقة هذا الإدراك وقيمته ترتبطان بمدى استعداد هذه القوى السياسية على تجسيد ماهية ومدى ووظيفة "الانتقال" المرهونة به. إلا أن تحليل طبيعة ومضمون السلوك الفعلي للأحزاب والقوى السياسية المؤثرة يكشف عنها أنها مازالت في اغلبها تمثل الاستمرار الفج لنفسية المؤقت. ولعل سيادة نفسية وذهنية الطائفية والجهوية والعرقية هو احد مظاهره القوية والبارزة. ولا تنتج هذه المظاهر غير نفسية المؤقت، أي كل ما هو عرضة للزوال والاندثار، كما كشفت عنه تجربة العراق الأخيرة، التي جعلت من تحرره من "قانون" المؤقت مقرونا بالاحتلال والغزو الأجنبي.
فالتجربة التاريخية لفقدان "السيادة" واسترجاعها في العراق بهذا الصدد تبرهن على أنها مجرد نتاج طبيعي للعملية التي رافقت مد "الطوفان" وانحساره، أي النتيجة الملازمة لابتعاده عن فكرة الدولة وسيادتها الذاتية بوصفها مؤسسة شرعية. إذ لم يكن "استرداد السيادة" الأولية من الاحتلال (الامريكي) سوى البداية الأولية لمواجهة الإشكاليات الفعلية والأكثر تعقيدا لإيجاد النسبة الواقعية والعقلانية للتحرر من العبودية أيا كان شكلها ومضمونها، بوصفه أسلوب بناء الدولة الوطنية الحديثة.
لقد خرج العراق في بداية القرن العشرين من تحت الانتداب البريطاني، وها هو يخرج في بداية القرن الحادي والعشرين من الاحتلال الأمريكي للحصول على سيادته "الكاملة". فبعد كل مائة عام يظهر له من يجدد له "دين" الاستقلال مرة و"دين" الديمقراطية مرة أخرى مع بقاء السيادة الحقيقة مبتورة أو منقوصة أو مشوهة أو مهدورة. وفي جميع الحالات يبدو هؤلاء "الغرباء" "محررين" و"مصلحين". وهي "رسالة" لها غرابتها وقيمتها التاريخية. فقد "حرر" الإنكليز العراق من شبح العثمانية الثقيل، كما "حرر" الأمريكيون العراق من همجية الدكتاتورية الصدامية. وأعطى ويعطي كل منهما "السيادة" للعراق. وما زال العراق بين السيادة الأولى والثانية يراوح في نفس المكان. إذ لا يعني الحصول على "السيادة الكاملة" الآن سوى بدايته من "الصفر" في تحسس وإدراك وتحقيق معنى كونه سيد نفسه ومستعدا للاتصاف بصفة السؤدد. ولا تزويق في هذه الحالة. فقد استعبدت الدكتاتورية الصدامية العراق، وجعلت منه عبدا ذليلا وكسرت إرادته بطريقة ليس لها مثيل في تاريخه العريق. وكشفت عن إمكانية إزالته من الوجود! وبرهنت على أن احتمال اشتقاق اسمه من العرق ليست ضمانة لعدم اقتلاعه من جذوره الفعلية. ويعطي هذا الواقع للغزو الأمريكي قيمة خاصة بالنسبة لإدراك حقيقة سيادة الدولة الشرعية بوصفها أداة السيادة الوطنية. كما انه واقع اقرب إلى المفارقة التعسة، التي تعطي لفكرة السيادة الحالية مغزاها المتميز وتجعل منها إشكالية متعددة المستويات بالنسبة للعراق وقواه السياسية والاجتماعية والفكرية. كما يجعل منها إشكالية متعددة الأوجه. والقضية لا تقوم فقط في ماهية ومستوى السيادة التي تمتع بها العراق في وجوده المعاصر، بل وبحقيقة هذه السيادة بعد قرن من الوجود "المستقل".
أما في الظروف الحالية التي تميز مرحلة ما بعد انهيار الدولة ومحاولة تأسيسها الجديد، فإن العراق يقف أمام ما يمكن دعوته بمهمة "تطهير" التاريخ السياسي للسلطة من كل أفعالها الداخلية والخارجية من خلال تعليمها والتعلم منها لغة المخاطبة الوطنية وليست لغة العنف والإرهاب. فالسيادة ليست مقولة جغرافية، بل حالة معبرة عن مستوى ولاية النفس والعمل بمعايير الشرعية والحق ومتطلبات الواجب الوطني.
فمن بديهيات الفكر المنطقي والسياسي العلمي الإقرار بالفكرة القائلة، بأن تمتع الأغلبية المعذبة والمغيبة عن السلطة بموقعها المناسب لها هو أمر معقول، وأن يتسم سلوكها بالانتقام والتشفي فهو أمر طبيعي، إلا أن المطلوب هو تجاوز هذا "الطبيعي المعقول". بمعنى الارتقاء إلى مصاف الواقع القادر على تذليل هذين المكونين اللذين كانا وما يزالا نتاجا للإخلال بمرجعية النظام والحرية وشكل تحقيقها في مبدأ الديمقراطية والحق. إذ تفترض الديمقراطية أن يكون الحق السائد للأغلبية، كما أن حق الأغلبية ينبغي أن يكون الأسلوب الطبيعي لتسيير أمور الدولة والمجتمع.
وشأن كل مفهوم، فان من الضروري النظر إليه بمعايير "المعاصرة" من اجل رؤية إمكانياته الفعلية ونواقصه المحتملة. فقد ارتبطت هذه النواقص أساسا بمستوى تطور الدولة والمجتمع والثقافة بشكل عام والسياسية منها بشكل خاص. وعندما نطبق هذه المعايير على ظروف العراق الحالية، فإنها تشير عموما إلى واقع الخلل العميق، بل الانحطاط شبه الشامل والموروث من حقبة السيادة شبه التامة لتقاليد الراديكالية السياسية، التي جسدت الصدامية نموذجها الأكثر تخريبا. لقد أدى ذلك إلى خراب الدولة والمجتمع والثقافة وانحطاط الوعي السياسي. ونعثر على هذا الواقع في صعود الطائفية السياسية والقومية العرقية. وهما التياران الأكثر فاعلية في استمرار التخريب البنيوي للدولة. وذلك لانحصار همومهم الباطنية والفعلية بقضاياهم الخاصة، أي الجزئية. بمعنى غياب فكرة سيادة الدولة.
فالهمّ الشاغل للتيارات الطائفية يقوم في محاولة الاستحواذ على الطائفة من اجل إعادة إنتاج التأثير التقليدي، ومن خلاله سرقة "الأغلبية المعذبة"، بينما لا همّ يشغل الحركة القومية الكردية غير "كركوك"، كما لو أنها سلعة ينبغي المتاجرة بها أو سرقتها على حين غفلة. والقضية هنا ليست فقط في انه لا علاقة للحركة القومية الكردية والأكراد عموما بكركوك وغيرها من مناطق العراق الأصلية من الناحية التاريخية والثقافية والجغرافية والقومية والسياسية، بل ولتحويلها إلى عصب الرؤية الذاتية لكل ما يجري في العراق. ويشير هذا الواقع إلى مستوى الاغتراب شبه الشامل عن فكرة الدولة الشرعية ومبدأ النظام الديمقراطي والحق الاجتماعي. وبغض النظر عن كل الأساليب والمستويات الممكنة للتبرير والتدليل، فان طبيعة النوايا تكمن في سيادة الرؤية النفسية وليس العقلية فيما يتعلق بفكرة الدولة. ولا ينتج هذا الأسلوب بهذا الصدد غير الاغتراب الفعلي عن "الأغلبية المعذبة" في العراق عبر زجها في معركة وهمية ومخربة للعقل والضمير السياسي والتاريخي والقومي.
إن ترابط الذهنية الطائفية والعرقية في نسيج الحركة السياسية يؤدي بالضرورة إلى اندثارهما سواء نجح العراق في الخروج من أزمته العنيفة الحالية أو فشل. ففي حال نجاحه سوف يؤدي بالضرورة إلى اندثار القوى التقليدية للطائفية والقومية العرقية. وفي حال فشله، فانه سوف يؤدي إلى سحقهما بالحديد والنار. وهي مخاطر لم يتوصل هذين التيارين بعد إلى إدراكهما كما ينبغي. وسبب ذلك يقوم أساسا في بقائهما خارج حدود المعاناة الفعلية للأغلبية المعذبة. وحصيلة التأمل الواقعي والنقدي لسلوك هذين التيارين يكشف عن ضعف إمكانياتهما الذاتية في مواجهة الإشكاليات الجوهرية الكبرى التي يعاني العراق منها. وهي عملية طبيعية وضرورية بوصفها جزء م تراكم الوعي الاجتماعي والسياسي الذي خربته تقاليد الاستبداد والتوتاليتارية.
أما الحلول الواقعية والعقلانية لإعادة تأسيس الدولة، فإنها تفترض إشراك "الأغلبية المعذبة" في إدارة شئونها. وهي عملية ممكنة من خلال بناء منظومة مرنة للمركزية واللامركزية الاجتماعية الاقتصادية السياسية، وليس الطائفية أو القومية. بمعنى بناء منظومة قانونية تحكم الدولة والمجتمع، تأخذ بنظر الاعتبار واقع التعددية الفعلية (مع أنها تعددية اقرب إلى الواحدية بالمقاييس العالمية) التي انتهت في الظرف الحالي إلى مأزق خطير. إذ من الصعب إعادة اللحمة إليها بمعايير الرؤية الأخلاقية والدينية، وذلك لأن القوى السياسية الأكثر تأثير في ظروف العراق الحالية هي قوى طائفية وعرقية. ومن ثم لا يمكن الاعتماد على "أخلاقياتها الوطنية"، لأنها لا تتمتع بالقدر الضروري منها. بينما أدى ويؤدي ضعف السلطة المركزية إلى استفحال مختلف ظواهر الانكماش والتحلل. من هنا ضرورة إعلاء وممارسة مركزية الدولة وليس مركزية السلطة.
ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر عراقي