تغيرات القوة الدولية تاريخياً وسياسيا في عالم البحر المتوسط
بقلم: عبد اللطيف مشرف
باحث وأكاديمي مصري
على مدار مئات السنين كان البحر المتوسط مركز الساحة الدولية، ومع الوقت انتقل ثقل الأحداث للمحيط الأطلسي، وفي الآونة الأخيرة انتقلت الساحة المركزية للمحيط الهادئ، ومع ذلك، فإن الجزء الشرقي لحوض البحر المتوسط، والذي شهد في الماضي نقطة التقاء بين الشرق والغرب وكان إحدى بؤر صراعات القوى العظمى بفترة الحرب الباردة، فلا زالت هناك أهمية استراتيجية له. بحيث أن الجزء الشرقي لحوض البحر المتوسط هو ساحة القوة العسكرية للشرق الأوسط، وتوجد فيه مسارات حروب الصليبية.
البحر الأبيض المتوسط أو بحر الروم أو البحر الداخلي أو البحر الأبيض كلها أسماء تاريخية اشتهر بها أهم بحار شرقية – غربية مهمة، مثل طريق الحرير وقناة السويس (في الطريق للخليج الفارسي والهندي)، في العالم أجمع، وهو المجال المائي الذي تكونت على ضفافه أعظم الحضارات بالتاريخ في آسيا وإفريقيا وأوروبا.
البحر الأبيض المتوسط هو بحر كبير نسبيا يقع ما بين قارات العالم القديم الثلاث وتحيط به اليابسة بالجهات الأربع لكن له منفذين أحدهما طبيعي وهو مضيق جبل طارق بين المغرب وإسبانيا، ومنفذ صناعي يصله بالبحر الأحمر وهو قناة السويس ومضيق جبل طارق، يفصل أوروبا عن أفريقيا ويصل البحر الابيض المتوسط بالمحيط الأطلسي، كما أنه أيضا يفصل مضيق الدردنيل آسيا عن أوروبا، بالإضافة إلى أن قناة السويس تفصل بين المتوسط والأحمر وما بين آسيا وإفريقيا، حيث تعتبر من أهم الطرق المحورية قديما ومجالا لتنافس القوى الاستعمارية.
ويعتبر المتوسط عموما أهم منطقة تاريخية بالعالم، إذ قامت على ضفافه أعظم الحضارات بالتاريخ ابتداءاً بالحضارات السورية القديمة إلى الفراعنة والرومان والفينيقيين والأمازيغ والإسلامية والاوروبية الحديثة.
وبعد سقوط الامبراطورية الرومانية حافظ المتوسط على تصنيفه كأهم المعابر المائية بالعالم كله، وكانت التجارة بين المدن الاوروبية العظيمة كجنوى والبندقية وبين الأمم كالهنود وأوروبا … لكن اكتشاف الأراضي الجديدة بالعام 1492 واكتشاف رأس الرجاء الصالح قلل من أهمية المتوسط إلى أن تم افتتاح قناة السويس بالعام 1869م، كما ازدادت أهميته بعد اكتشاف البترول كأهم المعابر المائية لنقل الخام من أكبر مراكز إنتاجه بالعالم بالخليج العربي إلى أوروبا وأمريكا عبر المتوسط إلى الأطلسي.
إذن، شكل موقع البحر المتوسط نقطة هامة في استراتيجية كل الدول المطلة عليه فهو الرابط بين ثلاث قارات وبين محيطين …. وعلى ضفافه تتواجد دول عظمى لها تاريخ نتيجة لعدة عوامل أخرى تمثلت في أنه كان ساحة للمعارك منذ فجر التاريخ وحتى الآن ومن أشهر الصراعات بالبحر المتوسط تاريخيا … فترة سيادة الامبراطورية الرومانية الأعظم بالتاريخ وحروبها المتعددة الذي يسميه الرومان (بحرنا)، وخاصة حروبهم مع قرطاجنة الامبراطورية الفتية التي هزمت الرومان عبر المتوسط بقيادة ” هانيبال العظيم ” قبل أن يرد الرومان بسحق القرطاجيين وتدمير حضارتهم في 202 قبل الميلاد، بالإضافة الى حروب الامبراطوريات الإغريقية والمنوية بجزر كريت وحملات الإسكندر الأكبر. ثم الحروب الإسلامية والحملات الصليبية عبر المتوسط إلى حروب الامبراطورية العثمانية مع دول أوروبا حتى الحرب العالمية الأولى والثانية وحتى آخر عملية كبرى بالمتوسط فجر أوديسا ضد ليبيا وبالتأكيد لن تكون آخر العمليات.
وترجع أهمية الموضوع إلى الدور المهم الذى لعبه البحر المتوسط، ولن نكون مبالغين إذا قلنا: إنَّ القوى البحرية لعبت دورا في تشكيل التاريخ الحديث، وعاملا رئيساً للكثير من الصراعات الدولية وذلك نظرا لأهمية حوض البحر المتوسط الاستراتيجية أو الاقتصادية، إذ نجد ظهور قوى دولية واختفاء أخرى لما تملكه من قوى بحرية تستطيع السيطرة على حوض البحر المتوسط وحسم معركة بحرية مع قوى بحرية أخرى، وذلك خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلادي.
وقد ارتبط البحر المتوسط ارتباطاً عضوياً وثيقاً في جميع الفترات التاريخية، التي مر بها العالم من صراعات دولية تمت السيطرة فيها على أجزاء كبيرة من حوض البحر المتوسط، وقد تمثلت أجلى مظاهر هذا الارتباط في صراع القوى البحرية الإسبان والإنجليز في معركة الأرمادا البحرية، والدولة العثمانية والدول الاوربية في عام 1571م، فزاد الصراع الدولي على مناطق حوض البحر المتوسط ودوافع السيطرة عليه.
ونجد في وقتنا الحالي أن التاريخ يعيد نفسه، فنرى رويداً رويداً، يعمل الغرب من خلال عملاءه في الشرق، بعد إنهاء فكرة الاستعمار العلني إلى إشعال منطقة البحر المتوسط، بين تركيا وأشقائها المسلمين، مثل مصر وفلسطين وليبيا وتونس والجزائر، بل عمل العرب على وضع يدهم مع العدو الصهيوني، وذلك بحجة التوسع التركي والعثماني كما يقال حالياً، وإشعال قضايا الثروات بين مصر وتركيا وقبرص في البحر المتوسط، فالغرب يحرك الجميع من أجل مصالحه كقطع الشطرنج، لأنه يعلم أن العرب يحكمهم من يعرفون مقام السلطة لا مقام العلم والتاريخ ومصالح العقيدة والشعوب، فالتاريخ دوما يعيد نفسه، هل تتفق مع ذلك ؟
من مجمل القول، فالمتأمل في تاريخ الصراع الدولي للقوى البحرية في البحر الأبيض المتوسط، يكتشف أنه لعب دورا كبيراً في كثير من الأحداث الدولية، من معارك بحرية، ومعاهدات واتفاقيات دولية لحماية ممرات التجارة الدولية.