حوار مع صديقي الأديب المقاوم!
بقلم د. عماد الدين عيشة —
يُعرَّف أدب المقاومة في التراث العربي على أنه:
“أدب الجماعة الواعية بهويتها من أجل الحرية في مواجهة الآخر العدواني من أجل الخلاص الجمعي”.
الكلمات الأساسية هنا هي الحرية والجمعي والوعي، والأشخاص الذين يقاتلون من أجل حريتهم هم أشخاص واعون بهويتهم ومستعدون للتضحية من أجل الآخرين بدلًا من التفكير في منفعتهم الشخصية بغض النظر عن الآخرين في مجموعتهم أو مجتمعهم.
هذا هو تعريف السيد نجم، مؤلف وناقد أدبي الذي بذل قصارى جهده في مصر لضمان أن ينال أدب المقاومة التقدير الذي يستحقه بشدة. لقد كتب في هذا النوع الأدبي ذاته وكتب عن أدب المقاومة، بالإضافة إلى ذلك فإنه كاتب في أدب الطفل والخيال العلمي، وقد أحس ببهجة كبيرة عندما عرف أننا في الجمعية المصرية للخيال العلمي نخطط أن يكون العدد القادم من سلسلة شمس الغد (العدد رقم 7) عن أدب المقاومة في الخيال العلمي، وهو شيء لم يحدث من قبل بحسب السيد نجم نفسه.
بالحديث مع الأستاذ محمد نجيب مطر، مهندس وكاتب خيال علمي، شرح أن أدب المقاومة هو أدب الممانعة، أدب أن تقول لا، أدب الاحتجاج ومواجهة ما يضعفنا. إنها أداة ليس فقط لتأكيد ذاتنا ولكن أيضًا لاستكشاف أنفسنا واكتشاف الطبيعة الحقيقية للحواجز التي تعوقنا كأشخاص. مصر والعرب هم كقطعة من معدن نفيس يلمع من الداخل ولكنه مغطى بطبقة من الصدأ تحجب قيمتنا الحقيقية لنا وللآخرين.
نحتاج أن نعرف ككتاب ما الذي يعوق أوطاننا وما المسؤول عن انحدارنا كأشخاص على الجانب الأخلاقي والاجتماعي أو العلمي والتكنولوجي.
أضاف محمد نجيب مطر أن أدب المقاومة لا يجب النظر إليه كنوع أدبي منفصل، عن المعارك والحركات الفدائية والنضال فقط، ولكن كموقف في كل الألوان الأدبية. المقاومة أو الممانعة هي عن تأكيد الهوية خصوصًا كعرب ومسلمين، ضد الثقافة الإمبريالية. نحن لم نعد صادقين مع أنفسنا كعرب ومسلمين في كتاباتنا، نستعير الألوان الأدبية والمواضيع والتيمات من الثقافات الأخرى. يمكنك أن ترى ذلك في أدب الرعب في مصر، بالتركيز الذي يكاد أن يكون حصريًّا على الزومبي ومصاصي الدماء، أشياء لم تنبع من ثقافتنا الشعبية ولكنها زُرِعَت في أدبنا من أفلام الرعب وقصص الغرب. نحن نريد أن نتعلم من الآخرين، آدابهم وفنونهم، ولكن أن نكون مخلصين لجذورنا في الوقت ذاته، أدبنا يجب أن تمتد جذوره في ثقافتنا وديننا وتقاليدنا الأدبية.
يقول محمد نجيب مطر إن هناك جملة في رواية أحمد صلاح المهدي الشتاء الأسود تلّخص المعضلات التي نعيشها الآن كعرب، هناك مشهد يقول فيه البطل الشاب إنه يشعر كطفل صغير ضائع يبحث عن أمه في يأس في مول تجاري!
أدب المقاومة هو طريقة لإصلاح تلك المشكلة. بالحديث مع أحمد المهدي نفسه شرح أن أدب المقاومة هو مرآة الأمة. أي أمة تحتاج إلى مثل هذه المرآة، ليس فقط الأمم المهزومة أو المحتلة بل حتى الأمم المنتصرة تحتاج من وقتٍ لآخر إلى شيء يذكّرهم بمن هم حقًّا كشعب. إنهم يحتاجون إلى معرفة من يكونون وما الذي يمثّلونه؛ قيمهم وهويتهم. فنلندا على سبيل المثال عندما عانت من الاحتلال الأجنبي، عكف عالم اللغة الفنلندي “الياس لونروت” على جمع الأساطير والأغاني الشعبية الفنلندية في كتاب الكاليڨالا، وكان الهدف منها إذكاء الروح القومية عند الفنلنديين والذين بدأوا يفقدون هويتهم بعد تعاقب احتلال دول أجنبية عدة عليهم لقرون عدة مثل السويد وروسيا. ويعزى الفضل للكاليڤالا في إلهام الصحوة الوطنية التي قادت في نهاية المطاف إلى استقلال فنلندا عن روسيا في عام 1917.
إنه ليس مجرد أدب عسكري أو روايات جاسوسية ولكنها القصص التي تعبّر عن الروح الحقيقية وهوية الأمة وهي التي تحفّز الأمة على القتال والمقاومة.
يُشدِّد أحمد المهدي على أن العرب يجب أن يتعلموا من الأدب العالمي، الكلاسيكيات التي كُتِبَت في هذا النوع الأدبي، إنه يحب أن يرى الأدب العالمي كبناء، كل أمة تضع فيه حجرًا إضافيًّا، يجب أن نتعلم من تجارب الأمم الأخرى في هذا الأدب، كروسيا وفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية. إنه مفيد لكل من الكتاب العرب والقراء كذلك، حتى على مستوى تقنيات الكتابة فقط.
وعند سؤال أستاذ نجيب عن أدب المقاومة العربي قال إن هناك مشاركات ملموسة في هذا اللون الأدبي ولكنها متناثرة، لم تُجمع في مجموعات أو تُصنّف أو تُدرس، يجب أن يكون هناك نقاد أدبيون متخصصون في هذا المجال، أشخاص يستطيعون أن يبحثوا في الأدب والمنشورات الأكاديمية ويجذبوا الانتباه إلى أهمية هذا اللون الأدبي ويبرزوا الأسماء المميّزة التي ساهمت بشكلٍ جدير في أدب المقاومة العربي. بدون هذا لن نخلص إلى شيء سوى بعض اللمحات المختصرة لقدراتنا الكتابية في هذا المجال النقدي، ولن نستطيع أن ندفع بعجلة التغيير سواء في الأدب أو في حياتنا اليومية. هناك أسباب سياسية وراء إهمال أدب المقاومة، مثل حالة الضعف الحالية والتفكك في العالم العربي والشرق الأوسط، بجانب التأثر الثقافي بالغرب وأوروبا.
يعتقد الناس أن الطريق الوحيد إلى الحرية هو من خلال الغرب، بأن نتماهى تمامًا مع ثقافتهم وننسى من نحن. لهذا لا يُولى اهتمام كافٍ لأدب المقاومة. رغم ذلك كان أستاذ نجيب متفائلًا، وقال إن الكتاب الفلسطينيين يسهمون بشكلٍ ملحوظ في هذا اللون الأدبي. لطالما كانوا يكتبون أدب المقاومة، ولكن قديمًا لم يكن بقية العرب يسمعون سوى ببعض الأسماء الكبيرة في الأدب الفلسطيني، الآن يدخل الساحة كتاب جدد، وهناك حركة أدبية تتطور في هذا اللون الأدبي.
أحمد المهدي محظوظ لكونه واحدًا من أول كتاب الخيال العلمي المصريين في كتابة رواية مقاومة في القرن الواحد والعشرين. روايته الشتاء الأسود هي الجزء الذي يُمثّل الأحداث السابقة لرواية ملاذ: مدينة البعث، التي صُنفت كأدب مقاومة. الناقد الأدبي المرموق خالد جودة أحمد شدَّد على ذلك أثناء صالون الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي في السادس والعشرين من آب -أغسطس عام 2017، وبالحديث مع أحمد المهدي نفسه شدَّد على أن الرواية من أدب المقاومة.
تدور أحداث القصة في المستقبل في مدينة ملاذ في شمال مصر بعد كارثة نووية، بطل القصة قاسم شاب مخترع في ملاذ سَخَّر نفسه لهدف بناء تكنولوجيا الطاقة النووية من الماضي ليكون قادرًا على مجابهة الخطر الجديد من المملكة الجنوبية، والمملكة الجنوبية نفسها قد أعادت إحياء تكنولوجيا الماضي. الاستعداد للحرب لا يعني فقط الشجاعة والتضحية ولكن أيضًا الوحدة والتكنولوجيا والتخطيط. هناك أيضًا رمزية في الرواية تتعلق بالنيل، بما أن الناس يعيشون حوله، يُصَوَّر الفلاحون على نحوٍ مسالم وخانع، وهذا رمز شهير مستخدم في الأدب المصري.
ومع هذا أثناء فترات الخطر والتهديد الخارجي يصبح المصريون إيجابيين ومبتكرين في طرق المقاومة، كما كان الأمر أثناء حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر. ملاذ كما يشرح أحمد المهدي تمثّل المجتمع في أوقات السلام وأوقات الحرب. قد تكون صورة مجتمع خيالي ولكنها تحمل علاقة قوية مع المجتمع الحقيقي الذي نعيش فيه.
شارك عمار المصري أيضاً في هذا الحقل من خلال روايته ظلال أطلانتس ملحمة غزو فضائي حيث تكون مصر أول دولة تتعرض للهجوم وأيضاً أول دولة عازمة على المقاومة. ذكر مدينة أطلانتس الأسطورية ليس من قبيل المصادفة، جاعلا ًالتاريخ البشري في مواجهة الغزو الخارجي الذي يريد أن يمحو كل آثار وجودنا.
رؤية عمار الخاصة لأدب المقاومة هي ما يلي: أدب المقاومة هو جزء لا يتجزأ من كيان وعصب الأمم المستضعفة في الأرض. فأدب المقاومة هو الأداة المناسبة لوصف حالة هذه الشعوب حتى يصل إلى العالم والأجيال المستقبلية كيف كان أجدادهم يعانون من الظلم والاستبداد. ولهذا فهو يصف معاناة الإنسان ورغبته في المقاومة أكثر من الكتب التي تحصي بالأرقام سوء الأنظمة الاستبدادية فتفقد الواجهة الإنسانية التي نلتمسها في وصف الأديب لمعاناته عبر شخصياته في عمله الأدبي. أدب المقاومة يضع الحلول ويحاول أن يضع الخطط المناسبة للتخلّص من المحتل الأجنبي المستبد ويطبقها عبر روايته حتى يجد الطريقة المثلى للوصول إلى شمس الحرية.
يضيف عمار أن أدب المقاومة قد انتشر في العصر الحديث لكثرة الأنظمة الاستبدادية التي بدأت من الغرب وانطلقت بعد ذلك كالنار في الهشيم إلى كل أنحاء العالم. رأينا ستالين والأنظمة الشيوعية المستبدة وهتلر وليبولد الثاني وفرانكو وفيديلا وغيرهم ممن أبادوا الملايين من البشر من أجل مصالحهم القومية والدولية والاستعمارية. ومن أشهر الأعمال التي تتحدث عن المقاومة أو تصف الأنظمة الديكتاتورية هي: رواية 1984 وفهرنهايت 451 وحرب النجوم، والكثير من الأعمال السينميائية المختلفة مثل قناع العروس الكوري وشيفرة جياس الياباني والكربون المتغير الأميركي والكثير من الأعمال الأخرى.
يعلق الأستاذ نجيب بدوره على ملاذ شارحًا أن أدب المقاومة هو الأدب الذي يقاوم عوامل فناء المجتمع، أي مجتمع. مجددًا يجب تعريف أدب المقاومة بشكل أكثر استيعابًا وشمولية، إنه الأدب الذي يقاوم الظروف التي تؤدي إلى انهيار الأمة وفنائها.
وأخيرًا يضيف نجيب أن الأدب النسوي والمرأة في أدب الخيال العلمي يُعدَّان أدب مقاومة أيضًا. أدب المرأة هو عن مقاومة المجتمع المتسلّط الذكوري العنصري، والثقافة التي لا تُعطي أي دور للمرأة عدا حمل الأطفال.
يمكنني أن أضيف روايتين مشهورتين في هذا اللون الأدبي؛ اليد اليسرى للظلام (1969) للراحلة أورسولا لوجوين، واللغة الأم (1984) من تأليف سوزيت هادين إلجين. تقع أحداث رواية أورسولا لوجوين في كوكب آخر سُكانه ذكور وإناث في الوقت ذاته. تُروى أحداث الرواية من منظور مبعوث من الأرض، رجل يجد صعوبة في تقبّل هذه الحقيقة. إنه معتاد على فكرة أن الذكور والإناث متمايزون، وأثناء تلك التجربة يتعلم أن البشر ليسوا مختلفين كثيرًا عن هؤلاء الفضائيين، الرجال لهم جانب أنثوي والنساء لهن جانب ذكوري، وكذلك فإن الفضائل كالشجاعة والرحمة مقسمة بين الجنسين. تُعد القصة أيضًا من أدب المقاومة لأن الكوكب مقسّم بين قوتين عظميين إحداهما تُخطط لغزو الأخرى. ترى الكاتبة أن هذه الرغبة في السيطرة ذكورية للغاية، ويقع على عاتق البطل البشري تحذير الدولة الأخرى ومحاولة أن يجعل الأرض في جانب الدولة التي تُدافع عن استقلالها والتي يعيش فيها الجنس المختلط من الرجال والإناث في سلام مع أحدهما الآخر.
اللغة الأم هي رواية “ديستوبيا” التي تقع أحداثها في المستقبل حيث تُطرد المرأة من سوق العمل وتُجبر على العودة إلى البيت. النساء الوحيدات المرموقات هن علماء اللغة الإناث، والأرض في تواصل مع أجناس فضائية وعلماء اللغة مهمون للغاية كمترجمين ووسطاء. علماء اللغة الإناث يكوّنن منظمة سرية لاستخدام اللغة كوسيلة للمقاومة، وتغيير مسار اللغة من التركيز على الشؤون العامة ـ عمل الرجال ـ إلى الشؤون الخاصة؛ حياة الأسرة التي تُسيطر عليها المرأة.
يمكن للمرء أن يختلف مع هذا التنظير ويرى أنه طريقة غربية للنظر إلى الأمور، بما أنه لا يسمح للدين كوسيلة لتوجيه العلاقة بين الرجل والمرأة بطريقة عادلة ومنصفة. مثال جيد على المنظور الإسلامي للمساواة بين الجنسين والمقاومة في رواية “Eugenics” لمحمد أحمد الناغي، حيث يُعَدَّل البشر جينيًّا ليكون لهم متوسط عمر محدود، وتجري عملية الولادة وحمل الأطفال خارج الأسرة، وحيث تُعزل الأجناس ويُبقى الرجال في أعداد محدودة لمنع اندلاع الحروب مجددًا. تتمرد مجموعة من النساء وتلد البطلة طفلًا لتبدأ التوازن الطبيعي من جديد.
هذه هي النقطة التي يُثبتها اللغة الأم واليد اليسرى للظلام، أن أدب المقاومة أكثر من مجرد الحديث عن الحروب والاحتلال ومسيرات الاحتجاج. الأدوات التي بحوزتك لا حصر لها، حتى الكلمات والقواعد النحوية وما هو على المحك كما يشرح السيد نجم ليسا مجرد الاستقلال السياسي ولكن هويتك وقيمك وإحساسك بذاتك والفخر القومي والتميّز الثقافي. هذا يُثبت أيضًا أن المرأة يمكنها أن تشارك في هذا الأدب، حتى لو لم يَكُنَّ أنفسهن مقاتلات.
ولا ننسى ذكر أن الكثير من النساء هن في الواقع مقاتلات ويشاركن في المقاومة السلمية في فلسطين المحتلة، خصوصًا في حماية المسجد الأقصى والهوية العربية والإسلامية للقدس. لو أن حركات المقاومة وأدب المقاومة مقصورة على الرجال ستكون متسلّطة كالاحتلال الأجنبي وستجب مقاومتها كذلك!