من الخلافة للجمهورية.. شباب تركيا بين فكي متناقضاتيلفت النظر دومًا -عند استخدام أي وسيلة مواصلات في مدينة إسطنبول- الحضور والتنوع الكبير للشباب التركي، سواء في هيئته؛ التي تعكس تدين وتنوع المجتمع التركي، أو في نشاطاته؛ بين القراءة واستخدام الهاتف بكثرة وانخراط العاشقين فيما يُسمى هنا بالتعبير التركي "الصحبة محبة"، أو في خلفيته الاجتماعية الواضحة؛ كعامل أو موظف أو طالب مدرسي أو جامعي. هؤلاء الشباب الذين يغلقون شوارع إسطنبول عند مباراة بين قطبين من الأقطاب الثلاثة الكبرى في الدوري التركي، هم ذاتهم الذين فتحوا الشوارع عندما أغلقتها الدبابات ليلة الانقلاب، وهُم -أيضًا- من يجتذبون أنظار العالم في مظاهراتهم المليونية الضخمة المؤيدة للحزب الحاكم أو المعارضة له. هم العصب الفكري لتركيا، والعضل المحرك لحكومتها، والوجه الأكبر لشعبها؛ لكنه لا يزال غامضًا أو صامتًا بمواجهة سيل من الصور النمطية التي ينظر بها إلى تركيا، سواء كدولة "خلافة" من جانب البعض في العالم العربي، أو كجمهورية استبدادية من جانب آخرين في الغرب.رغم أهمية دور الشباب الموضوعي بالنسبة للدولة، والذاتي بالنسبة لفعاليتهم هم، وحضورهم المرتفع بالنسبة لأوروبا والمنخفص بالنسبة للعالم العربي، إلا أنهم غائبون عن العرض والتحليل بأي شكل
رغم أهمية دور الشباب الموضوعي بالنسبة للدولة، والذاتي بالنسبة لفعاليتهم هم، وحضورهم المرتفع بالنسبة لأوروبا والمنخفص بالنسبة للعالم العربي (13 مليون شاب تقريبًا بنسبة 16.4 بالمائة من الأتراك)، إلا أنهم غائبون عن العرض والتحليل بأي شكل. نحاول هنا كسر غيبة الشباب التركي تلك، والدخول إلى أفكاره على اختلافها، وإفساح المجال له ليتحدث عن نفسه فيما يرى بخصوص تركيا، سواء من داخلها في علاقاتها بمحيطها والعالم، وذلك عبر مقابلات مع ستة شباب أتراك يمثلون أنماطًا مختلفة: الناشط الطلابي (محمد أكتع)؛ عضو فرع الشباب بلجنة العلاقات الخارجية بحزب العدالة والتنمية سابقًا، و(مروة سريرة)؛ العضو الحالي بنفس اللجنة، و(محمد فاتح يشار)؛ عضو لجنة الشؤون الخارجية بحزب السعادة، و(نعمان أيدن)؛ المحرر بمجلة "قرار"، وعضو مجلس الشباب ببلدية إسطنبول (دنيز بيران)؛ وأخيرًا خريج العلوم السياسية من جامعة إسطنبول والمهتم بالعمل الأكاديمي (أحمد شكري أوغلو). عجائز تركيا: جيل الكبار
"نحن نطلب ضوء النجوم، لا ضوء المصابيح."
(الحب على أجنحة الطير، مسلسل تركي)
في نيسان /أبريل ٢٠١٦، بدأ التلفزيون التركي بعرض أحداث مسلسل "الحب على أجنحة الطير"، الذي يوثق أحداث نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، والتي قامت على أكفّ الطلاب، خصوصًا كلية الحقوق التي ضمت كل أطياف المجتمع وينتسب لها بصعوبة بطل المسلسل عارف، وقتل بها عدد منهم، أبرزهم الناشط الطلابي اليساري "دنيز ﮔزميش"، الذي تم إعدامه عام ١٩٧٢، وكيف شكل ذلك الجيل الحالة الراهنة اليوم، والاستقطاب ما بين اليمين واليسار، وما بين الدولة والمعارضة. من تجربته كناشط طلابي، يرى محمد أكتع، والذي عمل ممثلًا لطلاب هندسة عمارة الحدائق في جامعة إسطنبول، أن طلاب اليوم "لا يؤثرون بالسياسة"، وأنهم "مجرد امتداد للتجربة الطلابية والسياسية السابقة"، وانعكاس للحالة الحزبية الحادة خارج الجامعات بين اليمين واليسار والمحافظين والعلمانيين، منشغلين بهموم الطالب الأساسية من تدبير السكن والمنح، والتي تسعى مختلف الأحزاب لتأمينها وتوفيرها لاستقطابهم؛ خصوصًا القادمين من الريف. بينما يتفق كل من خريج العلوم السياسية شكري أوغلو، ومحرر صحيفة "قرار" دنيز بيران، مع أكتع بأن الشباب مستقطبين و"تابعين" لأحزابهم الرئيسة، إلا أنهما يختلفان معه في شيء آخر؛ فهُم يرون الشباب أكثر فعالية مما يبدو، وأقدر على اتخاذ قرارات مصيرية تجاه المجتمع والدولة؛ لكنهم يعتقدون بأن الشباب يفقد "ديناميته العالية" تلك في النهاية داخل مجتمع شديد الاستقطاب ومضطرب الهوية، بحسب ما يرى شكري أوغلو. تقلل مروة سريرة من الدور السياسي للشباب؛ حيث ترى أن دورهم الأكبر اجتماعي وإنساني من خلال المنظمات غير الحكومية، مؤكدة أن الأحزاب السياسية لا تمنح الشباب الفعالية المطلوبة، وذلك بسبب الدور الذي يلعبه "الجيل الأكبر"، إلا أن هذا لا يجب أن يمنعهم من إعداد أنفسهم، بحسب ما يقول عضو حزب السعادة نعمان أيدن، وأن يدفعهم لـ"تطوير أحكامهم الخاصة" لا سيما وهُم على مفترق طرق اليوم. "إما أن يسيروا بنفس الطرق السابقة والأجندة القديمة، أو يمتلكوا أدوات النقد لبناء أفكارهم الخاصة"، بتعبير بيران. يتفق الشباب التركي الذين قابلناهم جميعًا، باختلاف أيديولوجياتهم وتجاربهم وخلفياتهم، على نقطتين اثنتين: أهمية دورهم والحاجة له، وغيابه في نفس الوقت؛ نتيجة لعجزهم عن التأثير بسبب جيل "الكبار"، وحضورهم الطاغي في الحياة السياسية الراهنة المستقطبة والمصنوعة مسبقًا؛ لكنهم في الوقت نفسه يقرون بـ"سهولة" حياة الشباب؛ حيث أكدوا جميعًا سهولة الدراسة، لانتشار الجامعات وكثرتها، وسهولة العمل -للمجتهدين حسبما عبرت أغلبيتهم- وتسهيلات الدولة للمشاريع الصغيرة، ولذا لا يفكر أحد منهم بالهجرة، ولكن للسفر لفترة للدراسة ثم العودة ليس إلا، مؤكدين بأنهم يتوقعون استكمال معظم حياتهم وموتهم في تركيا، رُغم وجود نسبة البطالة المرتفعة عن معظم بلدان أوروبا، وتراجع الأداء الاقتصادي مؤخرًا. المؤسِّسْ
"هنالك اثنان مصطفى كمال وليس واحدًا. مصطفى كمال الواقف أمامك من لحم ودم، وسيموت عاجلًا أم آجلًا، ومصطفى كمال المتجسد فيكم أينما حللتم في شتى أنحاء العالم."
(مصطفى كمال أتاتورك)
لعله قد تفوّه بتلك الكلمات من باب تحميس الشباب في زمانه؛ لكنها تنطبق اليوم بمعناها الحرفي، فمؤسس الجمهورية حاضر في السياسة والمجتمع والدولة حتى اللحظة، وفي أحاديث الجميع بالمديح والنقد والثناء واللعن في آن، وهو حضور لا يفهمه كثيرون، والعرب على وجه الخصوص؛ فهم ينظرون له كعدو الإسلام واللغة العربية، بيد أن روح أتاتورك الباقية هنا أكثر تعقيدًا من ذلك، فليس ثمة تركي ينكر فضله بتأسيس الجمهورية التركية، -والتي لولاها لكانت تركيا متخلفة كسائر بلدان العرب-، بحسب تعبير أحد الشباب القوميين، ولذا فهو محل احترام حتى من جانب المحافظين وأصحاب الرؤى الإسلامية، وإن انتقدوا "حماسه المفرط للعلمانية وطغيانه السياسي" كما يشير دنيز. تجسّد مصطفى كمال؛ ولكنه تجسّد بألف شكل ولون، وكذا ترسخت أفكاره بألف تفسير لماهيتها، ولعل العلمانية هي الفكرة الأكثر إثارة للجدل، فهناك مؤيد لها كقاعدة للدولة، وليس كسُلطة مضادة للدين اجتماعيًا؛ على غرار النموذج الإنجليزي، مثل مروة سريرة العضوة بالعدالة والتنمية، وهناك معارض لها تمامًا؛ انطلاقًا من اعتقاده بأن "الدين عند الأتراك هو الملح للدولة مثل السُكر للشاي" كما يقول أيدن من حزب السعادة الإسلامي المتواجد على الساحة رغم الشعبية الصغيرة. إلا أن الجميع يُجمع على الحق بحضور الدين في الحياة الاجتماعية متمثلًا برموزه مثل الحجاب، وهو حضور يزداد بالفعل وإن كان يختلف عن حضور الدين الاجتماعي في العالم العربي، فالإسلام هنا بنسخته "العثمانية" وفق ما يصفها أكتع، والتي تجمع القومية التركية والتصوف، بعكس النسخة العربية أو الإيرانية. حين التقينا مروة في أحد فروع مقاهي "ستاربكس"، دخلت الفتاة التركية المنتسبة للعدالة والتنمية والذي وصفته بـ"الحزب الإسلامي"، بدون حجاب مع صديقها القومي ياووز، وتحدثت بكل أريحية عن انتقاداتها للحزب الحاكم، ورئيسه الذي صوتت له رغم ذلك، وإن كانت تنوي التصويت بـ"لا" على استفتاء النظام الرئاسي. هي حالة تركية مركّبة تبدو لنا كعرب؛ باعتبارها تناقضًا أو اضطرابًا، تمامًا كما تبدو صورة الشباب التركي في شوارع المدن الكبرى التركية واضعًا حلق الأذنين رُغم التزامه الديني وزواجه من فتاة ملتزمة بالحجاب الكامل. على عكس رؤية الاختزالية السائدة بين العرب حيال السياسة التُركية، لا يتم التعبير عن الاختلافات السياسية هنا بالانضمام للمعارضة بين ليلة وضحاها، أو الانشقاق عند أول خلاف، فالتقليد السياسي هنا يحمل تاريخًا من النفس الطويل، وتقدير الأحزاب السياسية كمؤسسات متجاوزة لقياداتها مهما تجذرت سلطوية القيادات، وهي ثقافة لها جذورها الصوفية التي ترى وجوب طاعة ولي الأمر كما يرى شكري أوغلو. على سبيل المثال، هنا استمر رئيس الوزراء التركي عصمت إينونو في حزبه الشعب الجمهوري لسنوات طويلة رغم توجهه الليبرالي وخلافاته مع مصطفى كمال أتاتورك؛ حتى خلفه في نهاية المطاف، ونجح في تغيير مسار الحزب، وهنا أيضًا يعج حزب العدالة والتنمية اليوم بآلاف مؤلفة من المختلفين مع أردوغان؛ رغم هيمنته كقائد فعلي للحزب، مولين أولوية للإبقاء على تجربة الحزب على حساب التعبير عن خلافاتهم الشخصية. هناك شبه إجماع على إمكانية انقسام العدالة والتنمية إلى حزبين بعد رحيل أردوغان عن السياسة، وعودة الشخصيات القديمة البارزة
حضر هذا التقليد السياسي بقوة في إجابات الشباب، فعلى الرغم من بقاء أربعة من أصل ستة ممن قابلناهم على صلاتهم بالحزب الحاكم، إلا أن جميعهم عبر صراحة عن تخوّفه من الاستبداد داخل الحزب بدرجات مختلفة، ومن هيمنة الرئيس أردوغان على الحزب والحكم، فبعضهم رغم عضويته الرسمية يتخذ قراراته الخاصة مثل مروة، وإن أقر في نفس الوقت بفضل أردوغان والجيل القديم على الحياة السياسية؛ لكن أحدًا لا ينشق هكذا عند أول مفترق طرق، وهي واحدة من أسباب ثقل الأحزاب من ناحية، وتنوّعها من ناحية أخرى.
بخصوص مستقبل حزب العدالة والتنمية، كان هناك شبه إجماع على إمكانية انقسامه لحزبين بعد رحيل أردوغان عن السياسة، وعودة الشخصيات القديمة البارزة، مثل الرئيس السابق عبد الله ﮔُل، ورئيس الوزراء المستقيل العام الماضي أحمد داود أوغلو، والذي حضر في أحاديث الشباب بنوع من النوستالجيا والحنين والاحترام الكبير لشخصه وفكره، بيد أنه حتى تلك القيادات القديمة قد تصبح ثقيلة حين يرحل أردوغان؛ نظرًا لتقدّمها بالسن، وخضوعها لتجربتها الطويلة والقديمة الآن؛ مقارنة بجيل الشباب الجديد. أينما حللنا هناك ثمة فرع للشباب في كل المؤسسات، فهنالك مجلس للشباب تابع لبلدية إسطنبول، ولجنة شبابية لحزب العدالة والتنمية، ورُغم ما يبدو لأول وهلة من لمحة إيجابية في هذه الظاهرة؛ فإنها في الحقيقة تكرّس التواجد الشبابي على هامش المؤسسات باعتباره كُتلة اجتماعية خاصة لها كيان منفصل عن دهاليز المؤسسة الأم، ومن ثم تُبقي على هيمنة الجيل السابق على قلب المؤسسات، وكأن الفروع الشبابية تحاول احتواء طاقات الشباب فقط؛ وليس تمكينه، إلا أن مسار السياسة التركية شاء أن يسلط الضوء على تلك الشريحة الشبابية في ليلة الانقلاب العام الماضي، ولعله بذلك قد فرض على الساحة السياسية -على الأقل- الالتفات لها ولما قدمته، ولم يكن باستطاعة أحد أن يقدمه من الأجيال السابقة. ليلة طويلة وأعداء كثر
ليلة الانقلاب؛ حيث كانت شخصيات التقرير في الشوارع ترسم مصيرها لا تنتظره، وتتجاوز خلافاتها الشخصية مع الحزب والرئيس، حفاظًا على الدولة والديمقراطية، كان هنالك وجه جديد لتركيا قد بدأ بالظهور بعد أن ظهر أعداؤها جميعًا مرة واحدة. أول هؤلاء الأعداء وأبرزهم ليلة الانقلاب كانت "جماعة الخدمة" برئاسة فتح الله ﮔولن، والذي أجمع كل من تحدث من الشباب على مسئوليته عن الانقلاب، رغم النظرات المتفاوتة للجماعة بشكل عام، فقد نظر لها البعض باعتبارها كيانا يقوم بدور اجتماعي وتربوي جدير بالاحترام؛ رغم الخلاف السياسي، في حين نظر لهم البعض الآخر (والإسلاميون منهم بشكل خاص) ككيان يستغل الدين؛ ومن ثم فقد مصداقيته، حتى وصفهم أيدن بأنهم "عبيد للصهيونية خانوا الإسلام". العدو الآخر الذي تدخل تركيا في معركتها معه هو حزب العمال الكردستاني، الذي يحاول استغلال القضية الكردية لتجنيد أتباع له، تمامًا كما يفعل تنظيم الدولة مع الإسلام، كما قال أحدهم، بيد أن الجميع أقر بحقوق الأكراد وأشاد بالمصالحة ودورها بتفريغ الغضب الكردي، ودعا -في الوقت نفسه- لحل القضية سياسيًا، وضبطها عسكريًا، وسط تفاوت بإمكانية التفريق من عدمه بين الحزب والأكراد، وبين إمكانية الدولة تلبية الحقوق والبدء بالسلام؛ دون استغلال الحزب لها لتخزين السلاح. أما ثالث الأعداء، فهو تنظيم الدولة، الذي يبدو حالة أكثر التباسَا وأشد خطورة، وهو التباس تراوح بين ما قالته مروة بأنها "لا تعلم شيئًا عن داعش"، وحتى محمد أكتع الذي رأى خطورة التنظيم في دعايته التي يجتذب بها بعض السلفيين داخل تركيا، مؤكدًا على خطأ وصفهم بالإسلاميين، هذا ورأى آخرون أن ظهور التنظيم يرجع للأزمة السورية، ومن قبلها الاحتلال الأمريكي للعراق، والروسي لأفغانستان، ومن ثم استحالة حل هذه الأزمة دون حل تلك الأزمات الثلاث!يستهدف تنظيم الدولة العالم العربي كما يستهدف تركيا، وهو عرض من أعراض الأزمات التي دفعت تركيا إلى تغيير سياساتها جذريًا في بعض الملفات، مثل التقارب مع روسيا وإسرائيل
يستهدف تنظيم الدولة العالم العربي كما يستهدف تركيا، وهو عرض من أعراض الأزمات التي دفعت تركيا إلى تغيير سياساتها جذريًا في بعض الملفات، مثل التقارب مع روسيا وإسرائيل، والذي رآه الشباب التركي ضرورة سياسية؛ وإن كان تراجعًا أخلاقيًا. في نفس السياق تأتي أزمة اللاجئين والتي كانت محل خلاف بين الشباب، ما بين مؤيد للتجنيس واستغلال الطاقات السورية، ومتخوّف من آثاره السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الدولة. هنا تظهر الاختلافات والمخاوف الأكبر لدى الأتراك، والمرتبطة بالعلاقة التركية مع العرب والغرب؛ حيث يرى أكتع مع العرب وحدة التاريخ والمصير، ورأى شكري أوغلو خطأ التقارب مع الغرب، في حين رأى أيدن عدم الحاجة السياسية للتقارب مع العرب لكونهم "دولًا مفرقة"، أما مروة، فتقول بأنه رغم وجود سمات مشتركة ثقافية مع العرب وتاريخ طويل يعود للعثمانيين، إلا أنها ترى فائدة أكبر في أهمية التقارب مع الغرب.
وإن أجمع كافة الشباب هنا على عدم أهمية الانضمام للاتحاد الأوروبي، والاستفادة فقط من التجربة الديمقراطية الغربية والاقتراب من الدول الأقوى في العالم، بيد أن البعض اعتبر الغرب عدوًا لتركيا بدعمه للأحزاب التي تعاديها، علاوة على اتهامه بمساندة الانقلاب، وكأن الشباب قد حسم معركته المعنوية مع الغرب بالانتصار على الانقلاب؛ لكنه لم يحسم -بعدُ- معركته السياسية والاقتصادية حيال تحديد طبيعة العلاقات معه. تشابهات تركية وعربية وإيرانية
اليوم، يبدو أن هنالك سمات مشتركة تجمع الجيل الحالي من الشباب التركي مع نظيره العربي رُغم الهوة الواسعة بين حالة قمع الشباب المستمرة في العالم العربي، وحالة المجتمع الأكثر انفتاحًا أمامهم في تركيا، فجيل الشباب التركي الحالي بعيد عن قلب العملية السياسية نتيجة لهيمنة تجربة الجيل السابق عليه والمؤسس لحزب العدالة والتنمية، والموجود بالسُلطة حتى الآن، ورُغم أن جيل أردوغان -إن جازت تسميته كذلك- شكّل منذ 15 عامًا الانفتاح الأكبر في تاريخ المنظومة السياسية والاجتماعية التُركية.
وما تبع ذلك من تزاوج النمو الاقتصادي في الداخل مع تأثيرات العولمة، وانتشار التكنولوجيا عالميًا بشكل أتاح للشباب التركي الاتصال بالغرب أكثر من أي وقت سابق؛ بالتوازي مع تشجيع الحزب الحاكم للارتباط بالشرق الإسلامي في نفس الوقت، فإن آثار هذا الانفتاح والتواصل شرقًا وغربًا أدت -للمفارقة- إلى ظهور جيل يختلف كثيرًا عن جيل أردوغان، ويرغب اليوم في تجاوز تجربته. بالأمس، كانت أجيال متعاقبة من الأتراك انقسمت وفق خطوط الاستقطاب الأيديولوجي، في مجتمع صناعي كلاسيكي هيمنت فيه الدولة على الإعلام التقليدي والحياة السياسية، ومن ثم لم تتبلور ظاهرة شبابية واضحة في المجال العام، فقد ارتبط الشباب آنذاك بمن يكبره سنًا ويشبهه أيديولوجيًا، وليس بمن ينتمي لنفس جيله، أما في مجتمع الاقتصاد ما بعد الحديث المفتوح على العالم، والذي يملك فيه الأفراد مساحات أوسع للحركة، فإن جيلًا جديدًا قد نشأ أكثر انتماءً لتجربته الاجتماعية وصلاته بالعالم الخارجي على حساب الانتماء الأيديولوجي الصلب. لذا، تبلورت خلال العقد الماضي ظاهرة شبابية تُركية في صفوف الطبقات الوسطى، وإن لم تكن قوية في حضورها بالشارع مثل نظيرتها المصرية والعربية عمومًا، أو الإيرانية التي شهدناها منذ احتجاجات 2009، فهي ظاهرة لم تصطدم بنظام قمعي على غرار ما جرى بالربيع العربي؛ بل بتجربة حزبية تدين لها بالكثير، ولكن ترغب بعبورها نحو تجربة أخرى في نفس الوقت دون أن تمتلك آليات حقيقية لاستلام زمام الأمور (داخل الحزب أو الدولة بشكل عام) من جيل أردوغان. لم يكن جيل الشباب التركي الحالي بحاجة للنزول إلى الشارع في الداخل، ولا وهو راغب في نفس الوقت بالهجرة إلى الخارج، فهنالك مساحات يفرّغ فيها بالفعل طاقاته وأفكاره؛ لكنها ليست مساحات كافية لنقل التجربة التركية من جيل إلى جيل؛ بل مجرد مساحات أتيحت له الحركة فيها، وكأن الجيل السابق عليه يحاول احتواءه عبر أفرع المؤسسات الحكومية المخصصة للشباب المذكورة آنفًا، وليس تمكينه وإتاحة الفرصة له لصبغ التجربة التركية بصبغته الخاصة باعتباره "الجيل الثاني" لتلك التجربة الديمقراطية.لم يكن جيل الشباب التركي الحالي بحاجة للنزول إلى الشارع في الداخل، ولا وهو راغب في نفس الوقت بالهجرة إلى الخارج، فهنالك مساحات يفرّغ فيها بالفعل طاقاته وأفكاره
ثمة إحباطات -أيضًا- هنا في نهاية المطاف إذن، على عكس ما يتصوّر بعض العرب والإيرانيين ممن يعتقدون بأن تركيا البلد الأكثر حرية ورخاءً في الشرق الأوسط، وهي إحباطات شبيهة بتلك التي يعاني منها الشباب العربي والإيراني وإن لم تكن متطابقة معه، ولا يظهر بسهولة أي اهتمام إعلامي عالمي بها نتيجة لطابعها الخاص، فنظرة سريعة بالبحث على جوجل عن الشباب العربي أو الإيراني تُتنج الملايين من المقالات والأبحاث عن شباب إيران ما بعد 2009، وشباب الربيع العربي والهجرة والثورات، أما الشباب التركي فتكاد تكون ملاحظته منعدمة كظاهرة سياسية. هو غياب له أسبابه، لا سيما مع هيمنة الأيديولوجيا على السياسة التركية لعقود طويلة، وثقافة الانصياع للقيادات، والانغلاق الثقافي الذي وسم المجتمع التركي على عكس نظيريه العربي والإيراني، بيد أن الأحاديث القليلة مع الشباب في إسطنبول تكشف لنا -في الأخير- تصدّع ذلك الحائط الأيديولوجي لدى جيل لم يعُد يعاني من مظلومية الإسلاميين السابقة، ولا من هوس العلمانيين بمعاداة الدين، جيل كسر قوقعة الثقافة التركية المغلقة وشرع في الاتصال بالغرب والشرق.
وهي تحولات ستظهر لسطح السياسة التركية عاجلًا أم آجلًا بينما تزداد أعداد الشريحة الشبابية من ناحية، ويقترب أردوغان وجيل مؤسسي العدالة والتنمية من عتبة السبعين عامًا من ناحية أخرى، فالأخير جيل عجوز الآن، وهو مستمر في السلطة، لا بفضل كفاحه السابق وتجربته الفريدة فقط؛ بل وأضيف للقائمة مؤخرًا فضل الشباب بعد وقوفه أمام دبابات الانقلاب يوم الخامس عشر من تموز.