هذا دورك الذي يجب أن تقوم به في أوقات الأزمات الاقتصادية الطاحنة
تحت وطأة عجزنا تجاه قسوة الحياة نتيجة غياب أي منفذ للتغيير، وفي ظِلِّ هذه السيطرة للنظام الرأسمالي والتي هي نتاج قبولنا بكل قواعد المنظومة ومقاومة أي تغير أو خروج عنها حتى وإن استيقنت أنفسنا أن هذا هو الصواب؛ وجدت الأزمات الاقتصادية والنفسية طريقها إلينا، وتمكن «الوَهَن» من نفوسنا.
فصنعت قوة السلاح من الأزمات ما يضمن لها البقاء، وتمكَّنت مِن ترسيم مسار التغيير المسموح. واحتكر أصحاب الشركات الكبرى-عابرة القارات-تحديد رغباتنا، فضلًا عن تفاصيل حياتنا الخاصة تبعًا للنزعة الاستهلاكية التي يروِّجون لها. وأَخَذَ الإعلام على عاتقه مسئولية التغييب وتشكيل العقل الجمعي، وضمان تَبنِّي الآراء وفقًا للموضة الرائجة. وأضحت قوة العادات الاجتماعية «والناس ياكلوا وشنا» تُحدِّدُ مصائر حياة لم تبدأ بعد… وكلما حاولنا استراق نسمة هواء لنبقى على قيد الحياة أغرقنا السلاح والمال والإعلام مرة أخرى.
إذًا ما هو الدور المنوط بنا في ظل هذه الأزمات الاقتصادية ؟
ولما كان الانفصال الفردي عن المنظومة والتحرر من قيودها الاقتصادية هو سبيل الفكاك الذي سينبثق عن تلك الحياة الحرة الجديدة؛ أبينا أن يكون هدفنا هو التعايش وإيجاد طريقة لِنَظَلَّ بها في مأمن تحت سقف هذه المنظومة، أو إعادة تشكيل حياتنا لتناسب متطلباتها وشروط الخدمة التي تُمليها علينا، وأدركنا أن الفكاك من قيودها وتحقيق الاستقلالية ومتطلبات الحياة بدون الاعتماد عليها، هو الهدف الذي يجب أن نسعى إليه. لذا فهذه بعض المقترحات ومعالم في طريق التحرر إلى حياة العيش البسيط والخروج عن المنظومة:
تجنب القروض البنكية والرِبَا والتقسيط
في ظل الحملات الترويجية والنزعة الاستهلاكية يتجه الكثيرون إلى شراء ما يفوق قدرتهم الشرائية ودخلهم الشهري، متغافلين عن حقيقة حاجتهم لهذه السلع من عدمها، ونتيجة للظروف والأزمات الاقتصادية التي يشهدها واقعنا؛ يجد هؤلاء في الشراء بالأجل مخرجًا لهم من هذه الضائقة، ومن هنا تبدأ المشكلة إذْ يُضطرون إلى سداد قيمة السلع أضعافًا مضاعفة، فتتراكم عليهم الديون، أو تتأثر متطلباتهم الأساسية فيما بعد للوفاء بتلك التعهدات، ويُثقَلُ كاهلهم بمبالغ إضافية لم يكونوا بحاجة لها منذ البداية.
وعند العجز عن الوفاء بكل هذه المتطلبات يجدوا أنفسهم أمام خيارين: إما الدفع أو الحبس، وعند النظر في كثير من قضايا الغارمين يتَّضح أن أصل المبلغ لم يكن ليتعدى بضعة آلاف، ولكنها المصروفات الإضافية والأقساط والفوائد الربوية. ولسنا بحاجة للتأكيد على حرمة التعاملات الربوية.
الاستعداد لِعَالَم ما بعد الطبقة المتوسطة
لم تعد الكمات المُزخرفة المنمَّقة ذات قيمة كبرى في أتون هذه الحرب الاقتصادية التي يخوضونها، فبعض الحقائق قد تكون قاسيةً ولكن انعدامها سيكون أكثر قسوة وضراوة. إذْ أننا نشهد تآكلًا غير مسبوق في تعداد الطبقة المتوسطة والتي تراجعت لصالح الطبقة الفقيرة التي تراجعت هي الأخرى لما تحت خط الفقر.
كما نجد كثيرًا من الأفراد عالقين بين الطبقة المتوسطة والفقيرة يحلمون لهم ولأبنائهم بحياة أفضل من التي عاشوها في كنف أُسرهم مع آبائهم، ولكن الحالة الاقتصادية تمنعهم من ذلك؛ فيكافحون للحفاظ على ما أطلقوا عليه «فقراء لابسين لبس حلو». ومن هنا تظهر أهمية الاستعداد النفسي لعالم ما بعد الطبقة المتوسطة، ويكون ذلك بتقليل بعض النفقات التي تُثقل الكاهل بدون كبير مردود لها، فليس ثمَّة داعٍ لأكون فقيرًا يرتدي «براندات»، ويستقل Smart Car.
الدراسة وتكاليفها المالية والعُمْريَّة
في زمن أصبح فيه التعليم والتعلم سلعًا رديئة تُباع لمن يدفع أكثر، كان لابد من مراجعة أنفسنا وإعادة حساباتنا فيما يخص الدراسة والمدارس. ففي مصر-والتي أصبحت خارج التصنيف العالمي لجودة التعليم-تصل مصروفات أقل مدرسة دولية إلى 38 ألف جنيه لمرحلة KG 1. ويتوازى هذا مع الشكاوى المتكررة لأولياء الأمور من زيادة مصروفات المدارس الخاصة، والتي يصحبها شكاوى مستمرة من جودة التعليم وتعديات على حق ولي الأمر في التعبير عن جودة التعليم والتهديد بطرد أبنائه من المدرسة.
في ظل هذه الأزمة لا أدعي أن الحل الأمثل هو اللجوء إلى التعليم المنزلي، إذ أن التجربة ما زالت جديدة على المجتمع العربي وما زالت لها عيوبها التي لا يمكن التغاضي عنها، وإن كانت أقل من عيوب التعليم النظامي. ولا أزعم أن الحل في إهمال تعليم الأبناء وتركهم لمدارس خارج التصنيف العالمي لجودة التعليم، ولكن الحل في الاعتدال في تكاليف الدراسة، والاستثمار في التعلم عن بعد وال online courses حسب رغبة الطفل وميوله فهذا أكثر إفادة له، كما أنه أقل كُلفة من التعليم النظامي القائم على «الدروس الخصوصية» والمناهج منتهية الصلاحية. الاختيار الذكي للأمور الضرورية في الحياة
ليس كل ما روَّج الإعلام إلى أنه أساسي يكون كذلك، فحياتنا الجديدة تُحتِّمُ علينا إعادة النظر في متطلباتنا والاستغناء عن الكماليات والتركيز على الضروريات، فما فائدة اقتناء جهاز كمبيوتر بأحدث مواصفات، ونحن في الأصل لا نحتاج إلى الجهاز نفسه؟ وما فائدة شراء شاشات عرض وكأنك تجلس داخل قاعة سنيما وأنت في الأصل لا تشاهد التلفاز؟
الادخار وصناعة خطتك المالية الخاصة
- اقتباس :
«وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» [الإسراء: 29]
قد يبدو الادخار في ظاهره مشابهًا للبُخل أو الشُّح، ولكن هناك فاصلًا دقيقًا بينهم، إذ أن الادخار هدفه هو تجميع المال لبناء مناعة ذاتية ضد الأزمات، أو الاستثمار في شيء مُحبَّبٍ لدينا، على عكس البخل والشُّح اللذان يدفعان للحرمان مما نحب خوفًا من فقدان المال.
فصناعة خطة مالية خاصة ليست من الرفاهيات التي ينعم بها أصحاب الشركات الكبرى والودائع البنكية، بل على العكس فهي الطريق لبناء المناعة المالية والتي يجب أن تصبح ثقافة سائدة لدى الطبقات الوسطى والفقيرة، إذْ أنهم أكثر عُرضة للتأثر بأي قرارات هوجاء صبيانية تفرضها الحكومات.
ويُعدُّ الادخار هو أساس صناعة المناعة المالية ضد الأزمات، ولا نقصد بالادخار كنز الأموال والاحتفاظ بالعملات الورقية في الخزائن، إذ أن تلك العملات هي الأخرى عُرضة لأن تفقد الكثير من قيمتها السوقية نتيجة قرار أهوج كقرار التعويم، بل المقصود هو استثمار هذا المال في مشروع خاصٍ بك، أو غيره من الأمور التي توفر مردودًا ماليًا إضافيًا ولا يفقد المال فيها قيمته، أو حتى تضمن لك شراء سلعة أساسية لا يكفي دخلك الشهري لتحملها مرة واحدة.
ربما يبدو ادخار جزء من الدخل-الذي لا يكفي-أمرًا صعبًا في أوله، ولكن عند اتباع أسلوب العيش البسيط والبُعد عن ثقافة الاستهلاك، سيتضح لك أن الأمر ليس مستحيلًا.
مثال لخطة مالية تضمن إعالتك لـ 3 أشهر بدون عمل سنويًا
- اقتباس :
«فادخار 20 % فقط من الدخل الشهري لمدة عام يضمن لك تحمل 3 أشهر بدون دخل.»
وللتوضيح: إذا كان دخلك الشهري 100 دولار، واستطعت أن تكون مصروفاتك الشهرية هي 80 دولار فقط، فأنت بذلك ادَّخرت 20% من دخلك الشهري، كما استطعت المحافظة على مصروفاتك الشهرية بمعدل 80 دولارًا فقط.
فبعد مرور عام سيصبح ناتج مدَّخراتك = 20 × 12 = 240 دولارًا.
وكما اتفقنا فإنك استطعت المحافظة على مصروفاتك الشهرية بمعدل 80 دولارًا / الشهر. إذًا فهذه المدخرات (240 دولارًا) تكفي لإعالتك لثلاثة أشهر بدون عمل، أو دخل.
تعلّم بعض الحِرَف والمهارات اليدوية الضرورية
لم يَعُد تعلم بعض المهارات اليدوية الأساسية يقتصر على من لم يتحصَّلوا على شهادات جامعية كسبيل لتأمين دخل شهري، والقيام بمسئولياتهم المالية، بل أصبح عددٌ من حاملي الشهادات الجامعية يلجئون إلى تلك المِهَن كعملٍ يُدِرُّ دخلًا إضافيًا، أو على الأقل للقيام بالصيانة اللازمة لمنازلهم والاستغناء عن الفنيِّين قدر الإمكان.
التحرر من قيود العادات الاجتماعية البالِيَة
بنظرة قاصرة نذهب دائمًا باللوم إلى الفقراء الذين يتجهون إلى النزعة الاستهلاكية واقتناء ما يمكن الاستغناء عنه. فنظرًا لضيق ذات يدِّهم كان يتوجَّبُ عليهم الاستغناء عن بعض الحاجات التي تُمثِّل عبئًا عليهم، كالإسراف في اقتناء بعض الأثاث، أو الأجهزة، أو تجهيز منازل أبنائهم وبناتهم بما ليسوا بحاجة له، فقط رغبةً منهم في مسايرة العادات والتقاليد.
وفي حقيقة الأمر هؤلاء ضحايا إسراف الأغنياء، والقوالب المجتمعية، بل هم أوَّلُ من يريد التحرر من تلك العادات ولكن شبح الخوف من المعايرة بالفقر أو الشفقة يقف رادعًا لهم، فكلٌ مِنَّا لديه كرامته والتي هي فوق كل اعتبار، فَيَقْبَلُ الموت ولا يَقْبَلُ المساس بها.
فسبيل تحرير هؤلاء وإعطائهم مكانتهم الإنسانية هو الخروج على العادات وكسر القوالب الاجتماعية التي تفرض نظرةً خاصة للأمور وتُعطي تقييمها للأشخاص بناءً على ماركاتهم التي يرتدون والكماليات التي يقتنون، ولا تفكر أبدًا في أن الحاجة هي ما تحكم الشراء وليس الثقافة الاستهلاكية الرائجة.
اقرأ
- اقتباس :
وما يبقينا في حالة وعي وانتباه وضد الصدمة هو (تاريخنا)
(ناعومي كلاين-عقيدة الصدمة)
وكما تُؤكِّد ناعومي كلاين في عقيدة الصدمة فإن فترة الأزمة-كالتي نمر بها الآن-هي الوقت المناسب جدًا للتفكير في التاريخ، للتفكير في الاستمرارية، للتفكير في الجذور. إنه الوقت المناسب لنضع أنفسنا في القصة الممتدة لصراع البشرية. فعقيدة الصدمة ليست عنَّا ببعيد، لذا ما عليك سوى البحث والقراءة لتتعلم من تجارب الدول التي وقعت في غياهب الركود الاقتصادي والأزمات الاقتصادية وكيف تدبَّر مواطنو تلك الدول أمورهم في ظل الأزمات التي مروا بها. ويمكن قراءة بعض هذه التجارب في هذه الموضوعات:
تذكر حقيقة المعركة
وأنت في غمار هذه الظروف والكفاح لتأمين مستقبل لك ولأسرتك ولتحقيق كفايتك مما يضمن لك حياة كريمة، لا تنسَ من فعلوا بنا هذا، ومَن هم المسئولون عن وصولنا لتك الحالة، وتذكَّر أن هدفهم هو تركيعنا وإلهائنا بـ «لقمة العيش». ولا تنسَ أبدًا أنَّ ما نفعله هو سبيل للتحرر من قيود منظومتهم، وليس البقاء فيها تحت إمرتهم وشروطهم، إذْ لا حاجة لنا بالرضا بحياة الذل التي يفرضونها علينا. ولا تنسَ أنَّ كفاحنا هدفه تأمين حياة كريمة لنا ولمن نعول، وأن تلك الحياة لا يمكن تحقيقها في ظلِّ عبودية الأجر والعمل والفكر التي تفرض علينا حياة الأنعام.
أدُّوا حقَّ النِعَم
ومن جميل شمائل ديننا أن أمرنا بالزكاة، ودعانا إلى إخراج الصدقات وأعاننا عليها ورغَّب بها، وأثاب عليها؛ بما يضمن لنا تكافلًا وأخوة في ظل البلاءات التي نمرُّ بها، كما اتخذ من التضامن سبيلًا لقيام الجماعة المسلمة، وتحرير فقرائها من أيدي الطغاة إذ يتحكمون برقابهم بأغلال العوز والحاجة، فحقهم ألَّا نتركنَّهم للطغاة والمستعبِدِين. وأمَّا أَسْرانا فأقلُّ الواجب في حقهم رعاية من يعولون، والقيام على متطلباتهم، لِألَّا يجتمع عليهم الأَسْرُ والحاجة، وحقهم ألَّا نتركنَّ سبيلًا للحاجة ولا للطغاة على عوائلهم.
ختامًا
ليس ما نقوله من قبيل التخدير باسم الدين للفقراء ولا هو من قبيل الرضا بحياة الذل والمهانة والتعايش مع المنظومة أو الرضوخ لها ولقيودها الاقتصادية. بل على العكس تمامًا فهو سبيل الخروج عليها والتحرر من قيودها لبناء استقلالية ذاتية، فسبيل التحرر وإن كان يحتاج إلى حراك جمعي في نهاية المطاف؛ إلا أنه لا بد أن يبدأ بالاستقلالية الفردية وانفصال الأفراد عن المنظومة وبناء حياتهم الخاصة بدون الاعتماد عليها. ولكن تذكر دائمًا أن الخروج عن المنظومة سيسبب لك بعض المتاعب في البداية كونك تحاول تغيير بعض الأشياء التي أصبحت ثوابتًا اجتماعية.