تاريخ المسلمين المغيب في أوروبا بين الحربين العالميتين
حوار مع د. عمرو رياض
عمرو رياض:
أستاذ مشارك في جامعة أوتريخت الهولندية، بمعهد البحوث للدراسات الفلسفية والدينية (OFR)، قسم الفلسفة والدراسات الدينية، تخصُّص الإسلام واللغة العربية، تركِّز أبحاث "د. رياض" الحالية على التاريخ الفكري الإسلامي المعاصر، وديناميات الشبكات الإصلاحية الإسلامية وحركات عموم الإسلاميين، وجدل المسلمين في المسيحية، وتاريخ البعثات المسيحية في العالم الإسلامي المعاصر، والإسلام العابر للحدود في أوروبا فيما بين الحربين العالميتين.
س: أولًا وقبل كل شيء، أعلم بأنك متخصِّص في الدراسات الإسلامية، أتساءل: ما الذي جعلك تركِّز على دراسة تاريخ المسلمين في أوروبا بين الحربين العالميتين؟
د. عمرو رياض: يرجع تاريخ فكرة المشروع إلى عام 2005، خلال بحثي عن أوراق شخصية في أرشيف عائلة الشيخ محمد رشيد رضا في القاهرة، لفت انتباهي أن هناك ثلاث عشرة رسالة وجِّهت إليه من برلين تعود تواريخُها إلى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي 1920 و1930، في هذه المرحلة لم تتوفر معلومات لي عمن أرسل هذه الرسائل، إلا أن اسمه الدكتور زكي حشمت بك كرام، وعنوانه 10 Karlstrasse في برلين، على الرغم من أن المصادر الثانوية القائمة لا تقول الكثير عنه، إلا أن الخطابات تكشف لنا عن شخص له دور يُذكَر في العلاقات بين الغرب والشرق، والتي تمَّ دفنها تقريبًا في التاريخ، ومرة أخرى وأنا في ليدن، بدأت للتحقق من دليل الهواتف لألمانيا المتاح على الإنترنت (Dastelefonbuch)، ولأن اسمه ليس شائعًا في اللغة العربية، وبحثتُ لأعثر على أي شخص من عائلته ربما يكون منهم مَن لا يَزال يعيش هناك، وكم كانت دهشتي كبيرة حين وجدت اثنين من الأشخاص ما زالوا يَحملون هذا الاسم العائلي في البلد كله، وبعد إجراء مكالمة هاتفية مع أحدهما، وهو الدكتور هارون الرشيد كرام (ت: 2015) يقطن في Kornwestheim (قرية قريبة من شتوتغارت)، حدثني بأنه ابنه الذي ولد في عام 1923 في نفس العنوان الذي كان ذكر في رسالة كرام لرشيد رضا، وابن كرام في ألمانيا لا يزال يُحافظ على أوراق والده الشخصية التي تحتوي على الآلاف من اليوميات والرسائل والصور، ومن خلال فحص ودراسة هذه الأوراق نكتشف أن كرام كان قائدًا عثمانيًّا سوريًّا خلال الحرب العالمية الأولى، أُصيب خلال الحرب، وتمَّ نقله إلى ألمانيا في عام 1917 لتلقي العلاج الطبي في برلين، وانضم إلى الشبكة الإسلامية الهائلة من الناشطين الذين يَعيشون في أوروبا فيما بين الحربين العالميتين، والذين حافظوا على اتصالات بين الشرق والغرب سليمة، كان كرام في اتصال مع الأمير شكيب أرسلان، والإمام يحيى من اليمن، والأمير فيصل بن عبدالعزيز (لاحقًا الملك)، والكثير من الشخصيات العربية البارزة الأخرى في وقته.
س: نحن نعلم أنك الباحث الرئيسي لفريق يزخر بأعضاء منهم: مهدي ساجد، صوفي إسباني، أندريه تيرتان، ومدة هذا المشروع خمس سنوات: 2014 - 2019، أيمكنُكَ أن تتوسَّع حول المشروع، من فضلك؟
د. عمرو رياض: يركز المشروع على وجود المسلمين في أوروبا خلال فترة ما بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، التي تمَّ تناولها في الغالب كجزء من منطقة الشرق الأوسط وتاريخ آسيا والدراسات الاستعمارية لفترة وجيزة، وعلاقتها بتاريخ الهجرة الأوروبية، وكانت الدراسات السابقة إما تضمنهم على اعتبار أنهم ضمن حسابات المسافرين والمقيمين العرب / المسلمين في أوروبا في القرن التاسع عشر أو في وقت لاحق من هجرة العمالة المسلمين بعد الحرب العالمية الثانية، هذا النهج بلا شك له مبرِّراته، ومع ذلك فإنه يَميل إلى التغاضي عن تأثير المهاجرين القومي والفكري الإسلامي؛ باعتباره في التاريخ قضايا متشابكة (تاريخًا متشابكًا) مع السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي عبر أوروبا نفسها.
والمؤرِّخون - بشكل عام - كانوا متردِّدين في إلقاء نظرة نقدية في المصادر الأساسية لفهم الواقع وتقييم معنى وجود هذه الجهات الإسلامية إلى معرفتنا للوضع التاريخي للإسلام في أوروبا، والمصادر الأولية والأبحاث التي أجريت تكشف حتى الآن رواية بديلة، وقد تمَّ اختيار الفترة الزمنية 1919-1945 بدقة وعناية؛ ليتمَّ اختيار الحرب العالمية الأولى كنقطة انطلاق، كما لو كانت حافزًا في تشجيع هجرة المسلمين إلى أوروبا بسبب مطالب الحرب، وهذه الشبكات والأنشطة الإسلامية توقفت في نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم ظهرت من جديد مع وصول العمالة الوافدة في أوائل 1960.
في دراسة الشبكات الإسلامية في أوروبا ما بين الحربين العالميتين يجب أن نسلِّط الضوء على الطبقات المتعددة من تحديد البُعد السياسي والعمل؛ لأنه غالبًا ما يتم الجمع بين التوجه الديني والطموحات السياسية والوضع الاجتماعي والعادات، هذا التحقيق الشامل في تفاصيل غير معروفة من جيل من المسلمين يَعرض دينامية الذين تحدثوا عن الإسلام في أوروبا، ومكانهم في تاريخ العالم.
س: لا شك أنك تدرس تاريخ المسلمين في أوروبا ما بين الحربين العالميتين، كيف يمكننا أن ننظر لهذا التاريخ؟
د. عمرو رياض: تمثِّل فترة ما بين الحربين العالميتين أيضًا فترة كبيرة من الإمبريالية، بالإضافة إلى ذلك، عصر نفسه يُشكِّل مصاير المُجتمعات الأوروبية ذات الأغلبية المسلمة المُعاصِرة، وفي تلك الفترة أصبحت أوروبا واجهةً جذابة للطلاب العرب والمسلمين، والثوَّار والناشطين القوميين، والمنفيِّين السياسيين والمثقفين، تستخدم أوروبا هنا ليس فقط باعتبارها كيانًا جغرافيًّا، ولكن بوصفِها الفضاء الفكري المتجانس للجهات المسلمة الفاعِلة، ومِن أجل إعادة بناء تاريخ المسلمين في أوروبا فيما بين الحربين العالميتَين، يتمُّ تناول المسائل الرئيسية التالية:
• كيف كان المسلمون في أوروبا بين الحربين العالميتين، وكيف كان العمل والتفاعل بين بعضهم البعض، ومع الساسة الغربيين والدبلوماسيين والمستشرقين، والناشرين ووسائل الإعلام؟
• إلى أيِّ درجة أنهم لم يَنجحوا في خَلق هُويَّة مميزة كـ "الإسلام الأوروبي"، يَجمع بين سحر الحضارة الغربية مع الحفاظ على الكيان الديني والسياسي الإسلامي؟
• كيف أثَّر المسلمون في أوروبا بين الحربين العالميتَين على أفكار الغرب في العالم الإسلامي؟
• إلى أيِّ مدى كان لكتاباتهم وأنشطتهم التي مارَسوها، أو هل تلقَّت أي تأثير في السياق الأوروبي؟
يُمكن تقسيم الشبكات الإسلامية في أوروبا ما بين الحربين العالميتين إلى الشبكات الاجتماعية والسياسيَّة من ناحية، ومنها الدينيَّة من جهة أخرى، وهذا الانقسام لا يَعني أن المنطقتين فُصلتا تمامًا، وعلى العكس من ذلك، كانت مُتداخلة ومتشابكة في كثير من الحالات، ويرجع ذلك إلى تأثير الروابط الدينيَّة وزيادة المعلومات، وانتشرت العديد من الأفكار السياسية والدينية المُختلفة بين الناشطين المسلمين بين المُستعمرات والدول الأوروبية، وبما فيه الكفاية، ولا سيما بين هذه الشبكات في اتصال المسلمين الموالين للإمبراطورية الاستعمارية الأوروبية بالمسلحين وعموم الإسلاميين الآخرين الذين قاتَلوا ضد التبعية الاستعمارية.
بشكل عام، كانت الفكرة من الاتفاقيات الدولية الوحيدة الظاهرة الأكثر لفتًا التي تربط عموم الإسلاميين في عصرِ ما بين الحربين العالميتين، وكانت المؤتَمرات في مكة المكرمة في (1924) وفي (1926)، والقاهرة (1926)، والقدس (1931)، والمؤتمرات التابعة لها في أوروبا، وبالمثل كان إنشاء الجمعيات والسفر والمراسلات الدينية والسياسية، وقبل كل شيء نشَرت الصحُفُ الأدوات الرئيسية لبناء هذه الشبكات، ومِن الأمثلة على هذه الجمعيات: "المجتمع من أجل تقدُّم الإسلام"، "التحالف الإسلامي الدولي"، "المعهد المركزي للإسلام Zentralinstitut"، "الجماعة الإسلامية في برلين GEMEINDE" و "جمعية الشعائر الإسلامية في Gottesverehrung" (برلين)؛ "رابطة علماء المسلمين oulémas musulmans الجزائريين" (باريس)؛ "Orientbund" و "رابطة الثقافة الشرقية والإسلامية Kulturbund" (فيينا)؛ والمؤتمر الأوروبي الإسلامي الأول عام 1935 تحت قيادة الأمير شكيب أرسلان، وكان الشخصية الأكثر أهمية في أوروبا فيما بين الحربين العالميتين الأمير اللبناني شكيب أرسلان، الذي كان على اتصال مباشر مع الزعماء السياسيين الأوروبيين، والمستشرقين وصانعي السياسات.
صورة المؤتمر الأوروبي الإسلامي الأول في جنيف (1935)، وجد عمرو رياض هذه الصورة الفريدة في أرشيف عائلة هولندية اعتنقت الإسلام، وتَسمَّى رب هذه الأسرة باسم محمد علي فان بيتم Beetem (ت: 1938)، الذي كان على اتصال وثيق مع شبكة شكيب أرسلان الإسلامية العابرة للحدود الوطنية.
س: ماذا عن التحديات المنهجية التي تُواجِهُكم وفريقكم؟
د. عمرو رياض: فرضية العمل الرئيسية لهذا المشروع هو أن فريق البحث تعامل مع المسلمين في أوروبا بين الحربين العالميتين على أنهم لم يكونوا مجرَّد زوار ولا ضحايا الاستعمار، ولكنهم شكلوا مجموعة من اللاعبين الفاعلين في الفضاء الأوروبي والدولي، وبما في هذه الجهات الإسلامية العاملة في أوروبا، بعد اتصالات مكثفة مع نظرائهم عبر الخطوط الاستعمارية، والتركيز على الأنشطة وشبكاتها يتحدى افتراضات كتابة تاريخ زمن طويل ظلت تتجاهل أهميته بالنسبة لتاريخ أوروبا.
إذا ثبَت هذا المُنطلق الصحيح، فالمسلمون في أوروبا بين الحربين العالميتين لا يُمكن أن يُختزلوا في غرباء سلبيين بعيدين عن السياسة المحليَّة الأوروبية الداخلية والمُناقشات العامة، فإن مفهوم كسب التعقيد الديناميكي يعبِّر عن المصالح السياسية والدينية والفكرية للمسلمين خارج حدودِهم الأصلية، وتقوم الدراسة على فحص الفاعلين المسلمين في أوروبا بين الحربين العالميتين، وبالتالي عمل (خط واعد للتحقيق لكتابة تاريخ أوروبي) جديد.
س: لقد أمضى فريقكم عامين تقريبًا، هل اكتشف أي نتائج بحثية مثيرة؟
د. عمرو رياض: يُرجى مراجعة موقعنا على الإنترنت لمعرفة الاكتشافات:
www.muslims-in-interwar-europe.comwww.uu.nl/medewerkers/URyad/0 س: هل تعتقد أن ينظر إلى المسلمين باعتبارهم تهديدات ثقافية في أوروبا، ولماذا؟
د. عمرو رياض: أعتقد أن هذا السؤال خطابي، ويُحاول مشروعنا القول بعكس ذلك، أنشأنا أداة تاريخيَّة لفهم جذور التيارات الإسلامية الحديثة الحالية في مجالات التاريخ الأوروبي، الإسلام في أوروبا، ودراسات الشرق الأوسط تدفَع لمزيد من البحوث التي ستولد "المعرفة" في دراسة تاريخيَّة قبل الهجرة وقبل دمج الخبراء المسلمين في أوروبا، ويُمكن تعزيز فهمنا للاتجاهات الحالية في أوروبا والإسلام الدولي من خلال دراسة التطوُّرات الاجتماعية والثقافية للأنشطة الإسلامية في أوروبا في تلك الحقبة التكوينية، وتنظر الدراسة من جديد في الجدل الدائر حاليًّا حول أوروبا والعالم الإسلامي والمشهد المعاصر دون اللجوء إلى فرضية مصمَّمة بدقة أو مُبالَغ فيها قبل التعرف على النشطاء الإسلاميين الأوائل، الذين وضعوا الأساس للنشاط الإسلامي المستمر في أوروبا في فترة ما بعد عام 1945.
في أوائل القرن العشرين، والشبكات العابرة للحدود الوطنية الإسلامية، استمرَّ تولي رشيد رضا ورفاقه موقعًا مركزيًّا، كانوا على خط النار في التطورات اللاحِقة في الفكر الإسلامي المعاصر، ووصف رضا كشخص وسيط مثالي بين الخطاب الكلاسيكي والعامي، وبين الحكام والجماهير العلمانية التي يتمُّ اتباعها مع ظهور التكنولوجيا الرقميَّة.
اليوم النمط الثقافي والصحفي بعد الحرب العالمية الثانية وضَعَ ورثة التراث الفكري الديني ونشاط هذه الشبكة على التنوع في الإسلام: إصلاحيين وسلفيين ومُنفتحين للنُّفوذ، وراديكاليين، وجامدين ومنغلقين، استمرت كل الأنواع في استقطاب الجاليات المسلمة في الغرب.
عبدالرحمن أبو المجد: شكرًا جزيلًا لك على المشاركة معنا حول مشروعكم الخاص بالمسلمين في أوروبا بين الحربين العالميتين، حقًّا إنه تاريخ لا يُمكن اختزاله باعتبارهم غرباء سلبيين