أحداث تاريخية في مرآة 2019
الحدث العالمي الأهم الذي أحيت الإنسانية ذكراه هذا العام هو مئوية معاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى في ملابسات حبلى بشياطين النزاعات المتجددة، وبشروط سياسية وعسكرية مذلّة لم تفعل سوى تهيئة الشروط، أي الأسباب والعوامل، النفسية والاقتصادية في ألمانيا لاندلاع الحرب العالمية الثانية. ولهذا، رغم تهديد الجنرال فردينان فوش باستئناف الهجمات الفرنسية عندما رفضت ألمانيا التوقيع على معاهدة فرساي، فإنه كان مدركا أن المعاهدة انتقامية ومجحفة ومهينة إلى حد ينذر بالأوخم والأخوف. ولأنه من طراز تشرشل وديغول، أي من العسكريين القارئين للتاريخ المتبصّرين بأحوال الأمم، فقد قال إن ما فرضته معاهدة فرساي «ليس سلاما وإنما هو هدنة لعشرين سنة». نبوءة ندر مثيلها صوابا ودقة. إذ لم تمض عشرون سنة بالضبط حتى كانت ألمانيا الهتلرية قد أطلقت، باحتلالها لبولندا يوم 1 أيلول/سبتمبر 1939، المسار الذي سيؤدي لاندلاع الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن ألمانيا في المركز مما حدث قبل مائة عام، فإنها لم تبد كبير اهتمام بمئوية معاهدة فرساي. كما أنها لم تشارك بقية البلدان الغربية العام الماضي إحياء مئوية نهاية الحرب العظمى في الساعة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الحادي عشر. والسبب أن الحدث الأهم، ألمانياّ، عام 2018 هو مئوية الثورة الاجتماعية والسياسية التي أطاحت بالحكم الامبراطوري وأدت إلى ميلاد جمهورية فايمار. أما الأحداث الأخرى التي يشهد عام 2019 إحياء ذكراها، فإنها واسعة الدلالة بعيدة الأثر على كامل الصعيد الأوروبي. ومع ذلك فإنها، تحديدا، ألمانية المنشأ والميسم. إذ تحيي ألمانيا هذا العام سبعينية تأسيس ألمانيا الفدرالية. كما تحيي الذكرى الثلاثين لسقوط، أو بالأحرى إسقاط، جدار برلين وانطلاق الموجة التي أدت إلى تحرير جميع بلدان «الديمقراطيات الشعبية» في أوروبا الشرقية من استبداد أنظمة الكذب الكريهة وهيمنة الأخ الأكبر الخاوي على عروشه السوفييتية، اللائذ بأساطيره الدستويفسكية القديمة.
الحدث العالمي الأهم الذي أحيت الإنسانية ذكراه هذا العام هو مئوية معاهدة فرساي التي أنهت الحرب العالمية الأولى في ملابسات حبلى بشياطين النزاعات المتجددة، وبشروط سياسية وعسكرية مذلّة
أما ما يصل بين الحدثين في رأيي فهو خمسينية فوز الحزب الديمقراطي الاشتراكي بالانتخابات لأول مرة وتولّي زعيمه فيلي براندت منصب مستشار ألمانيا الفدرالية في إطار حكومة ائتلافية مع ليبراليّي الحزب الديمقراطي الحر. ذلك أن الحلم الذي ظل يراود كثيرا من الألمان الشرقيين، طيلة عقود أربعة، بالفرار إلى ألمانيا الغربية لا يجد تفسيره في «المعجزة الاقتصادية»، أي الازدهار الباهر الذي دشنته ألمانيا الغربية منذ أوائل الخمسينيات، بقدر ما يجد تفسيره في سياسات الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي ظل يناضل منذ تأسيسه عام 1863، أي منذ عهد بيسمارك، في سبيل إحقاق الديمقراطية، على أن يكون ذلك بالتضافر مع نشر العدالة الاجتماعية. علما أنه قد كان هنالك في ألمانيا الغربية إجماع سياسي وشعبي على الأخذ بما سمّي اقتصاد السوق الاجتماعي، أي أن الثقافة السياسية العامة قد كانت تميل أصلا إلى تصحيح الاقتصاد الرأسمالي بسياسات تعيد توزيع الثروات الوطنية بهدف ضمان أكبر قدر من تكافؤ الفرص. وقد كان بين الديمقراطيين الاشتراكيين وبين الشيوعيين، في عهد جمهورية فايمار، انقسامات ساهمت في تعبيد الطريق أمام هتلر. ولكن بخلاف الأمر في فرنسا وإيطاليا، صار الحزب الديمقراطي الاشتراكي هو الممثل الوحيد لليسار في ألمانيا الغربية نتيجة حظر الحزب الشيوعي عام 1956.
ولهذا فإن الحكومات الائتلافية التي تزعمها فيلي براندت وهلموت شميدت من 1969 حتى 1982 هي التي غيرت وجه ألمانيا الغربية سياسيا واجتماعيا في سياق من الازدهار الاقتصادي المتّصل. فقد أنجزت وعود تعميم خدمات الرعاية الاجتماعية وضماناتها، وتعميم التعليم والتدريب المهني ومخصصات التقاعد، بالإضافة إلى الانفتاح على ألمانيا الشرقية في إطار سياسة «أوستبولتيك» الشهيرة.
على أن ما سبق لا يمثل قائمة كاملة بالأحداث الهامة التي تحيي ألمانيا ذكراها هذا العام. بل إن هنالك مئوية أخرى، سنتطرق لها مستقبلا، قد يرى بعضهم أنها الأهم، نظرا لجمعها بين المجالين المعرفي والسياسي