السودان من التاريخ القديم إلى رحلة البعثة المصرية تاريخ النوبة
تقع بلاد النوبة فيما بين الشلال الأول والرابع، وقد أطلق عليها التاريخ أسماء كثيرة، فهي في التوراة بلاد الكوش، وكوش هذا — فيما تقول التوراة — هو جدُّ النوبيين، وأخو «مصرايم» جدِّ المصريين، وكلاهما من حام بن نوح. وأطلق عليها الإغريق اسم إيتيوبيا، ومعناه الوجه شديد السمرة، ويطلق هذا الاسم الآن على بلاد الحبشة.
أما اسم النوبة، فهو — فيما يقال — نسبة إلى كلمة نب، ومعناها في اللغة النوبية: الذهب، أي: بلاد النوبة هي بلاد الذهب، ولوفرة هذا المعدن في صحاريها.
وكان يسكن هذه البلاد قوم يجتمعون في نسبهم بقدماء المصريين، حتى ليذهب المؤرخ ديودور إلى القول بأن أصل المصريين جالية نوبية نزحت من الجنوب، ويؤيده في ذلك أن موتى المصريين — قبل عصور التاريخ — كانت تُدفن ورءوسها متجهة نحو الجنوب، وأن البخور كان يستعمل في العبادة المصرية منذ القدم، وما كان ذلك ممكنًا لو لم يكن المصريون قد جاءوا من الجنوب، وأن أشهر آلهة مصر من النوبة، مثل: أوزيريس الذي أنقذ مصر من الهمجية، وعلَّم أهلها الزراعة، ووضع لهم الشرائع، وشيَّد المباني في طيبة. ومثل زوجته إيزيس التي أخرجتهم من الوحشية، وصرفتهم عن أكل لحوم البشر، وعلَّمتهم قواعد الزواج الشرعي، وكذلك ابنهما حورس رب الوطنية والفروسية، الذي طهَّر مصر من آلهة الشر والفساد.
ويذهب آخرون إلى أن النوبيين نزحوا قديمًا من مصر إلى الجنوب، وحملوا معهم بذور الحضارة والعقائد المصرية، ويستدلُّ هؤلاء على ذلك بأن النوبيين كانت لهم حضارة قديمة، لا تختلف كثيرًا عن حضارة المصريين، كما أن الإله المصري أمون كان مقدسًا عندهم في نبته ومروى.
وسواء أكان المصريون جالية نوبية نزحت إلى الشمال، أم كان النوبيون جالية مصرية هاجرت إلى الجنوب، فإن مما لا شك فيه أنهما من عنصر واحد، فقد أثبتت الأبحاث العلمية التي أجراها العلامة إليوت سميث Elliot Smith في مقابر مصر والنوبة، أنه لا فرق بين المصري والنوبي في التكوين الجثماني، حتى ليتعذَّر من هذه الوجهة تعيين حدٍّ فاصل يميِّز أحدهما عن الآخر!
وقد١ وقعت في بدء الأسرات الملكية في مصر غزوات جاءت بكثير من الدماء الزنجية، فأثَّرت في الدم المصري والنوبي، وكانت أشد تأثيرًا في المنطقة الواقعة فيما بين جبل السلسلة والشلال الثاني. أما قبائل النوبة التي تقطن بين الزنوج جنوب كردفان، فإنها لا تمت إلى الزنوج بصلة، وإنما وُجدت هنالك منذ القدم، فرارًا من التصادم بالموجات البشرية القوية التي تدفَّقت إلى تلك البلاد، ولا تزال هذه القبائل في مستوى أرقى من الزنوج، وتمتاز عنهم في تكوين الجسم والطباع.
وهناك عنصر حامي لم يختلط بالزنوج، كالنوبة، وهو المعروف بقبائل البجة، بل ظل محافظًا على بداوته في الصحراء، بينما كان العنصر النوبي يعيش على ضفاف النيل.
ولما جاء الفتح الإسلامي تدفقت سيول القبائل العربية إلى تلك البلاد؛ لانتجاع الرزق واستغلال مناجم الذهب، فاختلطت دماء النوبيين والبجة بدماء العرب، ونزلت هنالك بعض قبائل البربر، ثم جاء الفتح التركي بعنصر آخر، حتى صار النوبيون الآن خليطًا من عدة عناصر، أهمها: العربي، فالتركي، فالبربري، فالنوبي.
(١) مصر والنوبة
ويرتبط تاريخ النوبة ارتباطًا وثيقًا بتاريخ مصر، حتى ليصح القول بأن كلًّا منهما متمِّم للآخر؛ فإن وحدة الأصل والوطن والدين قد أحكمت بينهما أواصر القربى والجوار، فإذا هما شعب واحد في آماله وآلامه، على الرغم من اختلاف الإقليم والمناخ.
وللتاريخ النوبي أطوار عدة تبدأ منذ فجر التاريخ، حيث عهد البداوة والقبلية في النوبة، وبدء الحضارة والملكية في مصر، وفي هذا الطور قامت مصر بكثير من الحملات التجارية والحربية في بلاد النوبة، وبذل ملوكها جهودًا متوالية في فتح الطرق البحرية بين الجنادل، وإخضاع القبائل النوبية المجاورة التي كثيرًا ما كانت تُغِير على الحدود المصرية.
وكان من آثار ذلك نمو العلاقات بين مصر والنوبة، وتبادل المنافع والدماء، فقد غزا سنوفرو، آخر ملوك الأسرة الثالثة، بلاد النوبة، ثم توغل في الجنوب وعاد ومعه سبعة آلاف أسير من الزنوج والنوبة، ومائتا ألف رأس من الماشية، واستخدم هؤلاء الأسرى في استثمار مناجم الفيروز بطور سيناء، أو في تشييد قبره بدهشور، وبناء هرمه في ميدوم، واستطاع بيبي الأول أحد ملوك الأسرة السادسة — بعد أن بسط نفوذه على شمال النوبة — أن يجنِّد منها جيشًا هَزم به أمراء الوجه البحري.
ولما سهلت المواصلات بين مصر والنوبة، هاجر كثير من المصريين إلى تلك البلاد؛ للبحث عن مناجم الذهب، أو فرارًا من ظلم الولاة، فدخلت بلاد النوبة في طور جديد، ونمت فيها بذور الحضارة المصرية، وازدادت عناية الفراعنة باستعمارها، فأقام ملوك الدولة الوسطى هنالك الحصون والقلاع؛ للسيطرة عليها وتأمين الطريق.
وفي عهد الدولة الجديدة، تم الاستيلاء على تلك البلاد، وامتزج بها الدم المصري، وانتشرت المدنية المصرية، ثم استقلت النوبة عن مصر، وقامت فيها مملكة قوية عاصمتها «نبته» على مقربة من الشلال الرابع، بسطت سلطانها على مصر فيما بعد.
وقد أسفرت هذه الأطوار عن إيجاد رابطة قوية بين مصر والنوبة، فإن مملكة «نبته» لم تقم إلا على أساس الحضارة المصرية، وبرعاية كهنة أمون الذين هاجروا إليها بعد سقوط طيبة، كما أن أحمس أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة تزوَّج بابنة ملك النوبة على عهده، فأمدَّه هذا الملك بجيش نوبي استطاع أن يطرد به الرعاة من مصر، وتزوج كاتشا ملك النوبة بابنة كاهن مصري، فأنجبت له بعض ملوك الأسرة الخامسة والعشرين.
ثم اضمحلت مملكة «نباتا» بعد سقوط هذه الأسرة، واستقلت كل من مصر والنوبة، وتعاقب على مصر الفرس والبطالسة والرومان، وقامت في النوبة مملكة مروى، فنالت في التاريخ شهرة واسعة لم تنلها نبته من قبل، وبعد أن زالت مملكة مروى ظهرت في النوبة ممالك أخرى، أشهرها: مملكة النوبة السفلى، من الشلال الأول إلى الرابع، وعاصمتها دنقلة العجوز، ومملكة علوة، من الشلال الرابع إلى أعالي سنار، وعاصمتها سوبة على النيل الأزرق، ومملكة أكسوم، وهي المعروفة الآن بالحبشة.
وحوالي القرن السادس الميلادي كانت المسيحية قد انتشرت في تلك البلاد، ولم يبقَ على الوثنية إلا قبائل البجة، وكان الإسلام إذ ذاك قد دخل مصر، وأحاط المسلمون ببلاد النوبة من الشمال والشرق، وكان لهم مع نصارى النوبة ووثنيي البجة وقائع كثيرة كانت تفرض فيها الجزية، وقلَّما تؤدى، حتى انتمى النوبيون إلى الإسلام حوالي القرن الثامن الهجري.
وقامت في المهاجر العربية في بلاد النوبة ممالك صغيرة، مثل: مملكة الشايقية، والدفار، ودنقلة، والحندق، وأرقو، وكانت على صغرها ذات بأس وقوة، حتى إن ملوك الشايقية كثيرًا ما كانوا يغزون ممالك النوبة ويفرضون عليها الجزية، ثم انقسمت بلاد النوبة بعد ذلك بين الفونج في الجنوب والكشاف في الشمال، حتى جاء الفتح المصري الأخير، فعادت كلها تابعة لمصر.
وقد ظهرت الحضارة هنالك منذ أربعة آلاف سنة، ثم أخذت تنمو وتزدهر وتصطبغ بالصبغة الفرعونية، حتى بلغت شأوًا بعيدًا في الدين والسياسة والفنون، فقامت هناك الأهرام والمعابد، وارتقت الفنون والصناعات، وانبسط سلطان النوبة على وادي النيل.
وقد وفِّقت هذه البعوث إلى كثير مما ترجوه، واستطاعت أن تجمع صورًا قيِّمة لتلك الحضارة؛ أهمها ما يختص بالعصر المروي، وهي بلا شك ثروة جديدة تضاف إلى نفائس التاريخ.
ولعل أقدم هذه الآثار ما وُجد في مقابر عنيبة، ويرجع تاريخها إلى ألفي سنة قبل الميلاد؛ منها مائتا آنية من الخزف والفخار، محفور عليها نقوش بديعة ملونة، وفي هذه المقابر أيضًا تماثيل صغيرة، كانت توضع مع الميت لتنوب عنه في أداء الأعمال الشاقة في الحياة الأخرى، وهذا لون من العقائد المصرية القديمة.
أما حضارة العصر المروي، فقد تأثَّرت بالفن المصري والروح البيزنطية، وفي مقابر فسطل وبلانة آثار ثمينة من الوجهة التاريخية والفنية، تمثل هذه الحضارة في أزهى عصورها، فهناك تيجان من الفضة المرصَّعة بالجواهر والتماثيل الصغيرة، ومجموعة ثمينة من الحلي والأسلحة والأطباق والملاعق، وتحف بديعة من البرنز على شكل مواقد ومباخر ومصابيح، ورقعة للشطرنج من العاج والأبنوس، وأطقم فاخرة من السروج والبراذع، مصنوعة من الجلد المصبوغ باللون الأزرق، ومطعَّمة بالفضة والأحجار الكريمة، ومحلَّاة بزخارف، هي مثل حي على رقي الفنون الجميلة في ذلك العهد.من مشايخ أبي حمد والشلال وهم كأهل الصعيد. وهذه المقابر خاصة بطبقة الملوك والأشراف، يُلبِسونهم التاج والحلي والسلاح، ويزوِّدونهم بالطعام والشراب، ويُودِعون قبر الملك تحفه الخاصة، ثم يشنق العبيد أنفسهم لديه، وتطهَّم خيوله حيث تُقتل داخل القبر؛ ليكون الجميع في خدمته في الحياة الأخرى!
وقد روى هيرودوت أن النوبيين كانوا يحنِّطون الميت، ويطلون جسده بالجصِّ، ويدهنونه بمادة تجعله قريب الشبه بالحياة، ثم يوضع في أسطوانة من البلُّور؛ بحيث يُرى الميت ولا تنبعث منه رائحة الموت، وتُحفظ هذه الأسطوانة لدى أقارب الميت سنة كاملة، يقدَّم له في خلالها الذبائح وبواكير كل شيء، حتى ينتهي العام فتُنقل هذه الأسطوانة إلى المقابر.
وفي المتحف المصري قسم خاص بالتاريخ النوبي، تمتلئ غرفه وأروقته بآثار ثمينة، تمثل الحضارة النوبية في كثير من العصور، ويوجد تمثال من المرمر للأميرة أمنرتيس Amenartais الزوجة المقدسة لأمون وحاكمة طيبة، وهو قائم على قاعدة من الجرانيت الأسود، بقدٍّ أهيف وقوام رشيق ووجه صبوح، يزيِّنه التاج على رأسها، والأساور العريضة في معصميها، والحجول الكبيرة في رسغيها، وعلى قاعدة التمثال منقوش اسم أخيها الملك شبكا.
(٢) مملكة نبته أو نباطا وملوك النوبة في مصر
ومن المحقق أنه نشأت ممالك بالنوبة، ولكن تاريخها غامض، وقد ثبت أن الملك أحمس أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة قد استعان بملك النوبة على الرعاة الذين أرهقوا المصريين أكثر من ستمائة عام «٢٢١٤–١٦٠٠ق.م»، حتى تشتَّت كثير منهم في بلاد النوبة، وأسسوا فيها مهاجر كثيرة، وأمدَّه هذا الملك بجيش نوبي طرد به هؤلاء الرعاة من مصر.
ولما سقطت مملكة «طيبة» بعد عهد الرعامسة،٢ نفى الملك «سمنتوميامون»، أحد ملوك الأسرة الحادية والعشرين، كهنة أمون معبود طيبة من مصر، فلجأ هؤلاء إلى بلاد النوبة؛ لأنها كانت تعبد هذا الإله، وشملوا ملوك النوبة برعايتهم، وقوَّوا فيهم نزعة الحرية والسيادة، فإذا بمملكة «نباته» «أو نباطا» مملكة قوية ذات حضارة وسلطان، وإذا بها تبسط سيادتها على وادي النيل، وتعيد لأمون نفوذه وسلطانه. ومن ملوك «نبته» قامت الأسرة الخامسة والعشرون «٧١٥–٦٦٤ق.م»، ولا يزال باقيًا من آثار هذه المملكة بعض المعابد والأهرام، فهناك — عدا المعابد — ثلاثة عشر هرمًا في جبل البرقل، وخمسة وعشرون تجاهه في نوري عند الشلال الرابع، وهي مبنية من الحجر الرملي على هيئة أهرام مصر إلا أنها أصغر منها حجمًا، وفي واجهة كل هرم إيوان كأواوين المعابد المصرية.
وقد استولى النوبيون على الصعيد، وانقسم الوجه البحري إلى عشرين ولاية بعضها مستقل عن بعض، وكان على ولاية سايس أمير قوي «تفنخت»، طمع في ضم الولايات الأخرى إليه، فاستعان على ذلك بجنود نوبية حارب بها الأمراء حتى تغلب عليهم، وتم استيلاؤه على مصر السفلى، فعُدَّ مؤسِّسًا للأسرة الرابعة والعشرين.
ولم تقف مطامع «تفنخت» عند هذا الحد، بل جرَّد جيشًا يحاول به استرجاع الصعيد من النوبيين، وكان على «نبته» في ذلك العهد ملك عظيم يدعى بيعنخي Piankhi، هاله أن ينتقص «تفنخت» من أطراف ملكه، فعبَّأ الجيوش لقتاله، وردَّه على أعقابه، واستولى على بلاده، ومن ثمَّ صارت مصر إيالة نوبية.
وقد أبقى «بيعنخي» لأمراء مصر امتيازاتهم، وأقام عليهم «تفنخت» ملكًا من قِبَله بعد أن أُخضع وتاب، ثم عاد إلى عاصمة ملكه ظافرًا منصورًا.
ولما توفي الملك «بيعنخي» خلفه الملك «كاتشا»، ولم يكن من أسرة ملكية، وإنما كان متزوجًا من ابنة كاهن مصري؛ ولذلك انقض عليه «تفنخت» وأجلى جنوده عن مصر، ثم توفي «تفنخت» وخلفه ابنه باكوريس، وكان قوي الإرادة، فاتخذ خطة أبيه، وجرَّد الأمراء من سلطانهم، وصار ملكًا مستقلًّا على مصر، وفي أثناء ذلك مات «كاتشا» ملك النوبة، وخلفه ابنه «شبكا»، فتوجه إلى مصر لقتال «باكوريس»، واستعان عليه بأمرائها الذين يبغضونه، وشاء القدر أن يقع «باكوريس» في قبضته بمدينة تانيس، فألقاه حيًّا في النار! وعادت مصر تابعة لملك النوبة.
ويعد الملك «شبكا» مؤسِّسًا للأسرة الخامسة والعشرين، وكان ملكًا عادلًا محِبًّا للإصلاح، فشاد الجسور، وحفر الترع، وأصلح بعض المدن والمعابد المصرية، وجعل الأشغال الشاقة بدلًا من عقوبة الإعدام، ونظَّم الإدارة المصرية، فجعل على كل إقليم رئيسًا تحت إشراف أمراء من النوبة، وأقام أخته الأميرة «أمنرتيس» حاكمًا على طيبة.
وحدثت بين شبكا وملك آشور معارك كثيرة في الشام، انتهت بهزيمته وهزيمة حلفائه، فعاد إلى مصر بعد ضياع ملكه، ومات تاركًا حكم الصعيد والنوبة لابنه «سبيخون»، وكان الوجه البحري تتنازعه فئتان من المصريين، وفاز «سبيخون»، وقام ضده أمير من النوبيين يدعى طهارقة Taharqa، فأغار عليه وقتله وتولى مكانه، ثم طهَّر مصر من العصاة، واستقر فيها أمره إلى أن غزا مصر آشور أخي الدين، وعاد طهارقة إلى غزو مصر، فاسترجع مدينة طيبة، وأبطل منها عبادة العجل أبيس.
(٣) مملكة مروى في عهد الرومان
تاريخ المملكة
ظهرت بعد دولة «نبته» أو «نباطا» مملكة «مروى» في الجنوب، و«مروى» هذه غير البلدة المعروفة الآن بهذا الاسم، فإن الأولى كانت تقوم قرب شندى، ولم يبقَ منها اليوم إلا أطلال دارسة، أما الأخرى، فتقع قرب آثار مدينة نباطا القديمة، وبين هذه وتلك طريق في الصحراء يبلغ طوله ١٨٠ ميلًا، وفي بداية الأسرة السادسة والعشرين في مصر، أنشأ الملك «إبسمتيك» حاميات قوية لحدود الدولة في جزيرة إلفنتين عند أسوان، وكان لهذا الملك جيش قوي من الإغريق، واغتاظ الجند المصريون وفرُّوا إلى النوبة، وانضموا إلى ملك «مروى»، فضم بعض القبائل النوبية إليه.
وكانت «مروى» معاصرة للفرس والبطالسة والرومان، ولها وقائع مع هؤلاء جميعًا، وكان سلطانها يمتد من الشلال الأول إلى الحبشة، وآثارها تلي آثار نباطا في القدم وتفوقها في الأهمية، من بينها هيكل للإله أمون، ومجموعة من الأهرام يبلغ عددها ثمانين هرمًا، وفي جزيرة مروى بركة يملؤها ماء الأمطار، وحولها آثار هياكل فخمة، وبين هذه البركة ومدينة شندى آثار هيكل يبلغ محيطه ألف ياردة، ولملوك مروى آثار في نباطا نفسها، وهيكل قائم في بلدة عمارة جنوبي الشلال الثاني بنحو مائة ميل، في دكة ودبود من النوبة السفلى.
وقد نهضت مملكة مروى حتى قيل إنها كانت تجهز للحرب جيشًا مؤلَّفًا من مائتين وخمسين ألف مقاتل، وكان فيها أربعمائة صانع، وأن للمرأة في عهدها رقيًّا وسيادة، فكان أكثر ملوكها نساء، ولقد عجز قمبيز عن غزو المملكة.
وفي عهد البطالسة، استولوا على جزء من النوبة السفلى حتى بلدة المحرقة، وكان الملك أرجيمنس ملك مروى معاصرًا لبطليموس الثاني «٢٨٥–٢٤٧ق.ب»، وقد حوَّر هذا الملك في الديانة النوبية، وأدخل في مملكته كثيرًا من النظم والقوانين الإغريقية، ومن آثاره: هيكل في دكة، أقامه على أطلال من عهد الأسرة الثانية عشرة، وأتمَّه البطالسة من بعده.
واشتهر في مروى بعده الملك «أذخر أمون»، وله في دبود هيكل صغير لا يزال قائمًا إلى اليوم.
وقد أرسل الإمبراطور الروماني أغسطوس قيصر، حوالي عام ٢٣ قبل الميلاد، حملة من مصر لغزو بلاد العرب، وكان على مروى في ذلك العهد ملكة تلقب بكنداكة — وهو لقب الملكات اللواتي تولين الحكم في مروى، وفتحت الصعيد، وقد هزمها النائب الروماني بترنيوس بجيش مؤلَّف من عشرة آلاف وثمانمائة فارس، فتقهقرت أمامه حتى أدركها قرب دكة، وطلب منها رد الأسرى والغنائم، فلم تجبه إلى ذلك، فحمل عليها حملة قاسية شتَّت جيشها، ففرَّت منهزمة أمامه شرَّ هزيمة، وامتنعت في قلعة قرب الشلال الرابع حتى استولى على حامية أبريم، ودمر نباطا، وقد قبلت كنداكة الصلح.
وظلت المحرقة حدًّا فاصلًا بين مصر والنوبة إلى عهد الإمبراطور الروماني ديوقليشيان «٢٨٤–٣٢٣ب.م»، حيث رأى أن خراج هذه المنطقة، فيما بين المحرقة وأسوان، لا يفي بنفقات الجنود اللازمة لجمعه، فنزل عنها للنوبيين، وأعاد الحدود المصرية إلى أسوان، ثم قوَّى حامية إلفنتين، وعقد مع النوبة والبجة معاهدة على حفظ الحدود، ظلت قائمة إلى عهد الإمبراطور مارشيان، حيث نقضها النوبيون وغزوا مصر العليا، وجلبوا منها كثيرًا من الأسرى والغنائم، فغزاهم القائد مكسيمينوس محافظ طيبة عام ٤٥١ للميلاد، وتغلب على النوبة والبجة معًا.
وكان لها معابد بيلاق «الفيلة» ودبود وكلابشة ودكة والسبوع وعمدة والدر وأبو سنبل الصغير وأبو سنبل الكبير وفريق.معبد أبي سمبل في حدود مديرية أسوان ويرى لفيف أعضاء البعثة المصرية بالسودان أمامه سنة ١٩٣٥. وما زال الرومان يعاملونهم بالحسنى حتى قام الإمبراطور جستنيان «٥١٧–٥٦٦ب.م» فأغلظ معاملتهم، وأمر نرفس قائد حامية بيلاق فعطَّل الهياكل، وسجن الكهنة، وأرسل تماثيل الآلهة إلى القسطنطينية، ولما زار المؤرخ إسترابون هذه الجزيرة، وجد أهلها من مصريين ونوبيين يعبدون صقرًا كبيرًا يؤتى به من النوبة، ولعل القبلة القائمة في الخلوة المقدسة كانت محلًّا لهذا المعبود.
وفي الجزيرة من آثار العهد المسيحي أطلال كنيسة لمارية العذراء، وأخرى للبطريق ماري أناطس، وكان فيها جامع ذو منارة لم يبقَ من آثاره الآن شيء، وقد كانت هذه الجزيرة أولى ضحايا خزان أسوان، يطغى عليها ماؤه أشهر الشتاء من كل عام، فتبدو في ذلك المنظر الرائع، وهي تصارع الفناء وتصمد له، حتى ينحسر عنها الماء أشهر الصيف، وقد ترك على معابدها أثر هذا الصراع الطويل.
وقد أنشأ رمسيس الأكبر معبد أبي سنبل الكبير، تذكارًا لانتصاره على الحيثيين، وهو منحوت في الجبل إلى عمق ١٨٥ قدمًا، ويزين صدره أربعة تماثيل عظيمة، تَهشَّم وجه أحدها، ويبلغ ارتفاع كل منهما ٦٥ قدمًا، وعرضه ٢٥ قدمًا، وهي تمثل رمسيس الأكبر جالسًا على عرشه، ينظر إلى النيل بتلك العظمة الخالدة منذ نيف وثلاثة آلاف سنة.
ويشتمل المعبد على ردهة واسعة، فيها ثمانية أعمدة على شكل تماثيل للإله أوزيريس، ارتفاع كل منها ١٧ قدمًا، وقد زُينت جدران الردهة بكثير من الصور الحربية، وحولها غرف مشحونة بالنقوش البديعة، وفي داخل المعبد ردهة أخرى تؤدي إلى مذبح فيه أربعة تماثيل ملونة، أحدها للإله هرماخيس، وآخر لرمسيس، وثالث للإله أمون رع، ورابع للإله بتاح، ويكاد يكون هذا المعبد سجلًّا شاملًا لفتوحات رمسيس ومواقفه المشهورة، فهو يشمل على نحو ألف ومائتي صورة تنطق بمجده وعظمته؛ منها صورتان كبيرتان على جانبي الباب من الداخل، تمثله في موقف رمزي وهو قابض بيده على شعور فوج من الأسرى الجاثين أمامه من مختلف الشعوب، وبيده مقمعة وهو متحفز لسحقهم بضربة واحدة، وأمامه الإله هرماخيس يقدِّم له حسام النصر، ويتلو عليه آيات المجد والفخار، وهناك لوحة أخرى تمثل وقائعه المشهورة مع الحيثيين، وقد جاء في وصف إحداها القصة الآتية:
«في العام الخامس من حكم رمسيس الثاني، كان جلالته في أرض الشاة على مقربة من قادش، وكانت الطليعة تراقب بانتباه شديد، ولما وصل الجيش إلى شمال مدينة شبتون، جاء إلى معسكر المصريين اثنان من عيون شاسو، وادَّعيا أنهما رسولان من قبل رؤساء القبائل لإخبار الملك رمسيس بأنهم غادروا ملك الحيثيين وهجروه، رغبة في عقد محالفة مع جلالته، وأنهم أصبحوا من ذلك الحين خاضعين لحكمه، ثم استطردا في الحديث مع جلالته وأخبراه أن زعيم الحيثيين في أرض حلب، وأنه يخشى الاقتراب من ملك مصر.
والواقع أن هذين الرجلين كانا جاسوسين أرسلا لكشف موضع رمسيس واستعداده الحربي، بينما كان زعيمهم على أهبة الهجوم.
وبعد ذلك بقليل جاء كشَّاف مصري إلى حضرة الملك وأخبره أن الجيش الحيثي قد ضرب معسكره خلف قادش، وأنه أفلح في ضم وحدات ومعدات كثيرة من الأقاليم المجاورة إلى جيشه.
عند ذلك جمع رمسيس رؤساء جيشه وأطلعهم على الأمر، وأنَّب فرقة الاستطلاع على تقصيرها في كشف مواطن العدو، ثم صدرت الأوامر للجيش بالزحف على قادش، وبينما هم يعبرون في النهر إذا بالجيش الحيثي وقد أطبق عليهم، فزأر رمسيس في جنوده زأرة أبيه مانتو ملك طيبة، وأسرع فسلَّح نفسه بالسلاح الكامل، وركب عجلته وانتقل بها في صفوف الأعداء، ولم يلبث أن وجد نفسه محصورًا بين الحيثيين، ومنفصلًا عن جيشه، فدعا أباه أمون أن يعينه على أمره، واستمات في الدفاع، فتكدَّست في طريقه جثث القتلى، ثم اتخذ لنفسه نفقًا بين صفوف العدو، وهو يصليهم بسهامه القاتلة، حتى نجا من الهلاك الذي كان محدقًا به من كل جانب.
وقد كانت مقدمة هذا المعبد مطمورة بالرمال المنهالة عليه من الجبال، فأزالت الحكومة هذه الرمال، وأقامت على سطح الجبل سورًا كبيرًا لمنع انهيالها عليه مرة أخرى، وقد عُثر هناك على آثار كثيرة نقلت إلى المتحف المصري منها مجموعة من الحجر الرملي تتألَّف من مسلَّتين صغيرتين، ومذبح كانت توضع عليه القرابين، وأربعة قردة تتعبد إلى الشمس وقت الشروق ووقت الغروب، وهيكل بداخله تماثيل بعض الحيوانات المقدسة.
.... يتبع