(موقف تربوي)
(قصة جمعت بين أدب الستر وجبر الخواطر والتربية والحكمة، نقلها لكم وأعاد صياغتها: هشام محمد سعيد قربان)
قبل زمن طويل حضر جمع من الناس حفل زفاف كبير، وجلس أحد المدعوين بجوار شيخ وقور بعد أن عرف أنه كان أحد معلميه في المراحل الابتدائية.
بادر الطالب أستاذه بالسلام والتحية بكل تقدير وإجلال، وقال: هل تذكرني يا معلمي؟ قال المعلم: اعذرني؛ فطلابي كثر؛ والذاكرة ليست كما كانت، ولقد كبرت كما ترى.
قال الطالب: كيف لا تذكرني ولي حالة خاصة كما تعرف؟ فأنا ذاك الطالب الذي سرق ساعة أحد الطلاب في الفصل الذي كنت تعلمه قبل أكثر من عشرين سنة، لقد كانت قصة لا تُنسى، ما أظنك نسيتها، وسأذكرك بها:
بعد أن اضطرب الطلاب كلهم لما حدث، وأخذ الطالب المسروقة ساعته يبحث عنها ويبكي بحرقة، فاجأتنا يا معلم جميعًا، وطلبت منا بحزم أن نقف؛ لأنك ستفتش جيوبنا لتعرف السارق، أدركتُ حينها أن أمري سيُفضح أمام كل الطلاب والمعلمين والإدارة، ووالدي والناس كلهم، كما أيقنت عندها أنني سأظل محل سخرية واحتقار وتندر من كل المدرسة طوال سنين الدراسة، وأنهم سينعتونني للأبد بالسارق واللص، ولن يثقوا فيَّ أبدًا، وسيحذروا مني ويحذروا الناس مني، ستشوِّه فعلتي سمعتي للأبد.
كنت عندها في كرب عظيم، خائفًا مصدومًا ومنتظرًا الفضيحة العلنية القادمة، التي لا مهرب منها.
وعندها يا معلمي، طلبتَ من الطلاب جميعًا أن يقفوا مواجهين ملاصقين للحائط الطويل ومغمضي الأعين تمامًا، وهددت من يجرؤ على فتح عينيه بعقوبة مضاعفة مثل السارق، بعدها بدأت تفتش جيوبنا واحدًا تلو الآخر، كنت واقفًا في منتصف الطلاب، وكان قبلي عشرة طلاب أو أكثر وبعدي مثلهم تقريبًا، نسيت عندها الحساب والأعداد، وتصاعدت نبضات قلبي بشدة وعرقت وعرقت واصفرَّ وجهي، وحمدت الله أنني مواجه الحائط، ولكنني جمدت في مكاني وأنا انتظر الفضيحة والعار.
وعندما اقتربت مني لتفتشني، كدت أهرب، ولكنني جمدت، وعندها وجدت الساعة في جيبي، وسحبتها بهدوء، وكررت عندها تهديدك بصوت جَهْوَرِيٍّ كالرعد لكل من يجرؤ على فتح عينيه قبل نهاية التفتيش.
توقعت عندها أن تدق جرس الفضيحة، وأن توقف التفتيش لكي تعلن هُوِيَّةَ السارق اللئيم: أنا، لكنك لم تفعل واستمر عذابي، ولم أفهم السبب لذلك، وتوقعت أنك تبحث عن أشياء أخرى من الممنوعات التي كثيرًا ما كان يحضرها الطلاب معهم ويخفونها، وواصلت بعدها التفتيش حتى آخر طالب.
وبعد أن أنهيت تفتيش جميع الطلاب، أمرتنا بفتح أعيننا، والرجوع لمقاعدنا بهدوء، وتصاعدت عندها دقات قلبي، وأوشكت أن أبادر بالاعتراف للجميع قبل أن تعلن أنت هوية السارق، لكنني جمدت وجمدت وصمتت، ورجعت لمكاني بخطًى ثقيلة كئيبة، وعينين تخفيان فزعًا وحزنًا وخجلًا مما هو آتٍ لا محالة، انتظرت أن تفضح فعلتي الشائنة أمام الطلاب، لكنك لم تتكلم وصمتت لدقائق، ورتبت بعض أوراقك، دقائق مرت عليَّ كأنها عقارب وحيات تلدغني وتلسعني بسُمِّها الحار مرات ومرات، ظننت أنك كنت تفكر وتختار الكلمات والشتائم التي تناسب جريمتي،
لكنك وفجأة وبلا مقدمات أو كلام، أظهرت الساعة من جيبك، وقمت ومشيت متجهًا لصاحب الساعة - وكان جالسًا خلفي - وأعطيته إياها، لكنك لم تَذْكر من الذي سرقها، بل واصلت بعدها شرح الدرس المقرر.
واصل الطالب حديثه لمعلمه:
لكنك يا معلمي لم تحدثني أبدًا، ولم تحدث أحدًا من المدرسين، أو والدي عني وعن سرقة الساعة طوال سنين الدراسة.
هنا كما لا يخفى على القارئ الحصيف يتضح مقام (الستر) وما أجمله!
قال الطالب: هل تذكرتني الآن؟
لا بد أنك تعرفني وتذكرني يا أستاذ؛ فقصتي مخجلة ومؤلمة، ولا يمكن أن تنساها أو تنساني يا معلمي، لكنني أبشرك أنني منذ ذلك الوقت تعلمت الدرس، وتبت توبة نصوحًا وصلح حالي، أنا متأكد أنك قد عرفتني الآن.
أجاب المعلم بهدوء وثقة عجيبة: صدقني يا بني أنني لا أعرفك، ولا أتذكرك أبدًا، ولا بد أنك تمازحني، صدقني أنا لا أذكرك؛ لأنني كنت حين فتشت الطلاب جميعًا مغمض العينين من البداية إلى النهاية، نعم مغمض العينين، صدقني.
هنا يتضح (جبر الخواطر والتربية بالموقف الحسن).
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت.
اللهم اهدنا ووفِّقنا وعلمنا سبل رضاك، وكل خلق حسن جميل.