قناة إسطنبول… أردوغان وزخم “المشروع المجنون” ـ
منذ 2011 يعمل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على حفر قناة بين البحر الأسود وبحر مرمرة كمسار عبور مواز لمضيق البوسفور. وفي السنة الأخيرة اشتد تصميمه على تنفيذ المشروع رغم الانتقاد المتعاظم ضده. ففكرة حفر مثل هذه القناة ليست جديدة، إنما هي فكرة قديمة عملياً، تخرج بين الحين والآخر منذ القرن السادس عشر، وذكرت في المرة الأخيرة في بداية التسعينيات من القرن الماضي. القناة الجديدة، التي يبلغ طولها المخطط له في روايتها الأخيرة نحو 40 كيلومتراً وعرضها نحو 150 متراً، يفترض بها أن تحل مشاكل تتعلق بعبور السفن عبر مضيق البوسفور.
يفترض بالمسار المستقيم نسبياً للقناة الاصطناعية، مقابل التعرجات الحادة في مضيق البوسفور، أن يمنع الحوادث والأضرار للمدينة والمحيط. فبناء مسار آخر للعبور بين البحرين يستهدف أيضاً التخفيف من العبء في البوسفور، الذي تمر فيه أكثر من 40 ألف سفينة في السنة (أكثر من عبور السفن في قناة السويس وقناة بنما معاً)، بينما تتوقع حكومة تركيا الارتفاع في هذا العدد في العقود القادمة، وذلك رغم أن بدء انخفاض النقليات بالمضيق في السنوات الأخيرة بسبب بناء أنابيب نفط وغاز جديدة. إضافة إلى ذلك، وحسب ادعاء الحكومة التركية، سيكون من حقها جباية بدل عبور عالية من السفن التي تمر في القناة –جباية لا تتاح في البوسفور بسبب ميثاق مونترو (1936). وقدر وزير المواصلات التركي بأن المداخيل بدل العبور في المرحلة الأولى ستبلغ نحو مليار دولار في السنة. وحسب زعمه، يمكن حتى أن تصل إلى خمسة مليارات دولار. وفي النهاية، فإن مشروع قناة إسطنبول لا تتضمن فقط حفر القناة نفسها، بل أيضاً إقامة مدينة جديدة على شاطئ القناة، قد يسكنها نحو مليون نسمة، وتطوير بنى تحتية مختلفة، بما فيها مطار إسطنبول الجديد.
إن نية تنفيذ فكرة قناة إسطنبول هي التعبير الأخير عن مسيرة التنمية المتسارعة الجارية في تركيا. منذ 2003، فترة ولاية أردوغان الأولى كرئيس للوزراء، نمت بنى تحتية جديدة في كل تركيا، ولا سيما في إسطنبول، حيث بُني في السنوات الأخيرة، ضمن أمور أخرى، جسر جديد فوق البوسفور، وخط قطار سفلي بين آسيا وأوروبا، والمطار الذي خطط لأن يكون من أكبر المطارات في العالم، وانتهى بناؤه في 2019. يتباهى أردوغان بما يصفه بـ “المشاريع المجنونة” ولا سيما قبيل احتفالات مئة عام على تأسيس الجمهورية التركية في 2023.
بفضل مشروع قناة إسطنبول، يشدد الرئيس التركي على مكانه بين عظماء الأمة. إذا ما انطلقت القناة على الدرب، فيمكنه أن يدعي بأنه نجح في عمل ما حلم به السلاطين ورؤساء الوزراء المختلفون في الماضي. وسيستخدم موضوع بدل العبور وسيلة كي يظهر للأمة بأن أردوغان نجح حتى أكثر من مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، الذي أعاد على أساس اتفاقات مونترو البوسفور إلى السيادة التركية، ولكن بشرط أن تمر السفن عبره دون بدل عبور. وبالمقابل، إذا بنيت قناة إسطنبول فستكون تحت سيادة تركية وفي الوقت نفسه ستكسب تركيا الفوائد.
بالمقابل، ينتقد معارضو هذا المشروع الخطة التي تبدو لهم مثالاً آخر على زخم بناء متسارع أكثر مما ينبغي، يتم دون تفكير كاف. كما أن الكلفة المقدرة لأعمال الحفر (نحو 13 مليار دولار حسب تقديرات الحكومة ونحو 20 مليار دولار حسب تقديرات غير رسمية) يعتبرها كثيرون عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد التركي، الذي لم يعد ينمو بذات الوتيرة التي ميزت العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية. انتقادات أخرى تتركز على تأثير القناة على البيئة، سواء من ناحية الطبيعة أم من ناحية المدينة وسكانها. وتشير البحوث إلى مخاطر مختلفة كنتيجة للربط بين البحر الأسود وبحر مرمرة، ولا سيما على الأخير. فضلاً عن ذلك، فإن أعمال حفر القناة ستتضمن قطع مئات آلاف الأشجار، ما يصعد مشكلة تلوث الهواء في إسطنبول. كما توجد مخاوف حول توريد مياه الشرب للمدينة. نحو 40 في المئة من مياه الشرب في إسطنبول تأتي من تراقيا (القسم الأوروبي من تركيا) وسيتشوش التوريد كنتيجة للمشروع وآثاره. قد يتضرر أهالي تراقيا من القناة المخطط لها، التي ستضر بقدر واضح بالزراعة وصيد الأسماك. فضلاً عن ذلك، فإن خلق حاجز بحري جديد بين إسطنبول وتراقيا سيجعل حركة قوات الأمن صعبة في حالة اضطرارها الدفاع عن الحدود الأوروبية لتركيا، وكذا على نجاعة أعمال الإنقاذ في حالة معقولة أكثر من كارثة طبيعية في إسطنبول، حيث سيصبح الجانب الغربي جزيرة أو أن تكون تراقيا منقطعة عن باقي تركيا.
وأخيراً، هناك تخوف عميق من الفساد حول المشروع. فالمعارضة ترى في مخططات البناء لدى الحكومة وسيلة لنقل الأموال من ميزانية الدولة إلى مؤيدي أردوغان من خلال الشركات الخاصة التي ستكون مشاركة في المشروع وقربها من الحكم معروف. إضافة إلى ذلك، تبين أن قسماً من الأراضي في المسار المخطط للقناة اشترتها محافل مقربة من أردوغان وحزب العدالة والتنمية. هذه الحقيقة تعظم الاستياء الجماهيري كون هؤلاء الأشخاص سيكسبون غير قليل من المال حين تشتري الدولة الأراضي اللازمة لحفر القناة.
إن معارضة عامة من هذا النوع ليست جديدة على أردوغان، الذي تصدى لانتقاد مشابه كلما أطلق مشروعاً كبيراً ونفذه رغم ذلك. ولكن قناة إسطنبول أصبحت نقطة الاحتكاك المركزية بينه وبين أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول الجديد. منذ انتخب للمنصب، ورغم مساعي الرئيس الكثيرة لانتخاب مرشح آخر، خلق إمام أوغلو زخماً حوله، وأصبح نجماً صاعداً ويعتبر خصماً محتملاً لأردوغان. يقف إمام أوغلو على رأس معارضين مشروع القناة، الذي يسميه “مصيبة”. وقد قرر إخراج بلدية إسطنبول من المشروع واستأنف إلى المحكمة لما في المشروع من أثر على البيئة. وبالمقابل، تجند مقدرات البلدية في صالح حملة ضد القرار. على الرغم من ذلك، فإن موجة المعارضة المتصاعدة في المجتمع التركي وصفوف المعارضة لم توقف أردوغان حتى الآن، بل يواصل التصميم على متابعة المشروع ويهاجم المشككين بضرورة أو نجاعة القناة بشدة.
من ناحية دولية، فإن ميثاق مونترو الذي ينظم العبور في المضائق في زمن السلم والحرب يعدّ حرجاً للدول التي تقع على شاطئ البحر الأسود، وعلى رأسها روسيا، التي من أجلها يعد البوسفور بوابة الدخول إلى البحر المتوسط. طالما حرصت تركيا على روح الميثاق بشأن قناة إسطنبول أيضاً ولا سيما بالنسبة لتقييد عبور السفن الحربية للدول التي ليس لها شاطئ على البحر الأسود.. فلا ينبغي ظاهراً أن تنشأ مشكلة من ناحية روسيا. ومع ذلك، فإن بدل العبور في القناة الجديدة ستجعل عبور البضائع فيها أقل جدوى وذات آثار سلبية على الاقتصاد الروسي. إذن، فإن “تشجيع” السفن على العبور في القناة من أجل جباية بدل عبور سيجعل الموضوع مسألة موضع خلاف بين تركيا وروسيا.
للمشروع الذي ستكون له آثار بيئية على بحر مرمرة وبحر إيجا ثمة آثار تصل إلى إسرائيل. وضمن أمور أخرى، هناك تخوف بأن تلوث من البحر الأسود سيضر جداً ببحر مرمرة، ما سيؤثر على البحر المتوسط كله. فضلاً عن ذلك، فإن جزءاً من توريد النفط لإسرائيل يأتي عبر مضيق البوسفور، بحيث أنه مطلوب يقظة تجاه التغييرات في المنطقة، ولو فقط لسعر العبور الأعلى عقب بدل العبور في القناة الجديدة. إذا كان للقناة -كما يتوقع المعارضون- آثار سلبية واضحة على البيئة، فقد ينشأ مصدر توتر آخر في علاقات تركيا مع جيراننا، ولا سيما في مجال العلاقات مع اليونان. فبعد التقارب بين إسرائيل واليونان وقبرص في العقد الأخير، فلا يمكنها أن تفلت من الآثار عليها عقب مستوى التوتر بينهما وبين تركيا، مثلما حدث في كانون الأول الماضي عندما طردت سفينة بحث إسرائيلية من المياه الإقليمية لقبرص من قبل سفن الأسطول التركية، وذلك رغم أن عملها هناك كان بإذن من السلطات القبرصية.
في سياق أوسع، فإن لطبيعة العلاقات التركية – الروسية أثراً مباشراً على العلاقات بين تركيا والدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة. صحيح أن تركيا وروسيا تنسجمان في مواضيع معينة، ولكن زيادة عدد المواضيع المختلف عليها، بما فيها تعاظم القتال في محافظة إدلب بسوريا والتدخل التركي فيه، وكذا تأييد الأطراف المعارضة في الحرب الأهلية في ليبيا، وقد تضاف إلى بؤر التوتر هذه إلى أيضاً قناة إسطنبول في المستقبل القريب… كل ذلك من شأنه أن يسبب خلافاً ما بين الدولتين. إن منظومة العلاقات بين تركيا وروسيا تحظى منذ الآن، ويجب أن تبقى تحظى، باهتمام تل أبيب. قناة إسطنبول قد تكون مدماكاً آخر في منظومة العلاقات المركبة هذه.