التعريف بشخصية الفاتح العظيم الأمير مَسْلَمة بن عبد المَلِك رحمه الله تعالى
أضواء على شخصية الفارس الذي طَوَاه النِّسْيان مَسْلَمة بن عبد الملك بن مَرْوان
- رحمه الله تعالى - (1)
تمهيد وتوطئة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول صل الله عليه وسلم.
وبعد؛
فما أكثر الشخصيات التي غَمَطَتْها الأجيالُ المتأخِّرة من أُمَّة الإسلام حَقَّها، ولم تَعْرِف لها فَضْلَها، ولم تَحْفَظ لها حُسْن صَنائِعها!
فمن فَتَّش في تاريخ الإسلام، وقف على نَماذج لا تُحْصَى من تلك الشخصيات، جَهِل أغلب المسلمين أسماءَهم، وغابَتْ عن كثير من الباحثين والمُثَقَّفِين سِيَرَهم، وتَمَلَّكه العَجَب من شُيُوع المَعْرفة بتراجم أُناسٍ لم يَبْلُغوا شَأْوَهم، وذُيُوع العِلْم بأخبار رجال لم يَفْرُوا فَرْيَهم[1].
ومن أولئك الرجال المَغْمُوطِين، والبُزْل[2] المَغْمُورين:
الأمير الهُمام، والفارس الضِّرْغام، مَسْلَمَة بن عبد الملك بن مَرْوان رحمه الله تعالى، وجَزاه عن المسلمين خَيْر الجَزاء؛ فقد ظَلَّ يَغْزو الرُّوم والخَزَر[3] نحو أربعة عُقود من الزَّمان، وربما خَرَج في العام الواحد لأكثر من غَزْوة، فما اسْتَراح، ولا أَراحَ أعداءَ الإسلام، ويكفينا وَصْفُ الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى له بقوله[4]: كانت لمَسْلَمَة مَواقف مَشهورة، ومَساعِي مَشْكورة، وغَزوات متتالية مَنْثُورة، وقد افتتح حُصُونًا وقِلاعًا، وأحيا بعَزْمه قُصُورًا وبِقاعًا، وكان في زمانه في الغَزَوات نَظِير خَالد بن الوليد رضي الله عنه في أيامه، في كَثْرَة مَغازِيه، وكَثْرة فُتُوحه، وقُوة عَزْمِه، وشِدَّة بَأْسِه، وجَوْدَة تَصَرُّفه في نَقْضِه وإبْرامِه، وهذا مع الكرم والفصاحة، انتهى.
ومن أَعْجَب العَجَب ألَّا ترى لمثل مَسْلَمة - ونُظَراؤه كُثُر في تاريخ أمة الإسلام - تَرْجَمة مُفْرَدة في كتاب، بل لا يُوْجَدُ مَجْموعًا في كبار الموسوعات التاريخية من تَرْجَمَته ما يزيد على الصَّفْحة الواحدة إلا يسيرًا، وإن كانت ثَناياها تَحْوِي من أخباره الكثير، وتضُمُّ من وَقائِعه العديد، كما تَناثَرَتْ حِكَمُه، وحِكاياتُه بين كُتُب النَّوادِر والمُلَح، وتَصانِيف الأدب، ومَعاجِم اللُّغة، ومؤلفات الجُغْرافيا العربية القديمة.
ولا يَخْفَى أن المُراد من تَسْلِيط الضَّوْء على شخصية من الشخصيات العظيمة في تاريخ أمة الإسلام: السَّيْر على خُطاها فيما أَحْسَنَتْ فيه، والتَّأَسِي بها فيما بَرَعت فيه من مَواهِب، لا وَضْعَها في مَوْضع الاقْتِداء المُطْلَق الذي لا يكون إلا للنبي صل الله عليه وسلم، ولا مُحاذَاتها بخَيْر القُرُون رضوان الله عليهم، الذين يَلُوْنَه صل الله عليه وسلم في مَرْتَبة الاقْتِداء، ولا تَقْدِيْمها على أئمة السَّلَف الصَّالح من العلماء العاملين رحمة الله عليهم، فلكلٍ نَصِيْبَه من الاقْتِداء، ولكل مَرْتَبَتَه في التَّأَسِّي.
اسْمُه ولَقَبُه وكُنْيته:
هو أبو سعيد - وقيل: أبو الأَصْبَغ - مَسْلَمَة بن عبد الملك بن مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاص الأموي، المُلَقَّب بالجَرادَة الصَّفْراء؛ لاصفرار جِلْده فيما قِيل[5].
قال ابن جِنِّي في المُبْهِج[6]: ومَسْلَمة: مَفْعَلة، من سَلِمت، كأنه مَصْدَر بمَنْزِلة المَشْأَمَة، والمَشْتَمَة.
إخْوَتُه:
قال الإمام أبو محمد ابن حزم في جمهرة أنساب العرب[7]: وولد عبد الملك أمير المؤمنين: الوليد، أمير المؤمنين، وسليمان، أمير المؤمنين، ويزيد، أمير المؤمنين، وهشام، أمير المؤمنين، ومَسْلَمَة، والِي العِراقَيْن، الذي حاصَر القُسْطَنْطِينيَّة، والحَجَّاج، ومَرْوان، وبَكَّار، والحَكَم، لم يُعْقِب، وعبد الله، وَلِيَ مِصْر، والمُنْذِر، لا نَعْرِف له عَقِبًا، وعَنْبَسَة، ومُحَمَّد، وسَعِيْد، كانا ناسِكَيْن، قُتلا يوم أبي فُطْرُس[8]، وبها قُتل بَكَّار أخوهما.
الذين يُعرف أَعاقِبُهم منهم أحد عشر، وهم: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، ومَرْوان، ومَسْلَمة، وعبد الله، وسعيد، والحَجَّاج، وبَكَّار، وعَنْبَسَة، انتهى[9].
ما أُسْنِد إلى مَسْلَمَة من الولايات:
وروى البَلاذُرِيُّ في أنساب الأشراف[10] عن المَدائِنِي، قال: قِيْل لمَسْلَمة بن عبد المَلِك: ما يَمْنَعُك من العَمَل، لو أَرَدْتَه، لتَوَلَّيْتَ أَجْسَمَه[11]؟ فقال: يَمْنَعُنِي ذُلُّ الطَّلَب، ومَرارة العَزْل، وهَوْل الخَطْب، وقَرْع حِلَق البَرِيْد.
والعمل هو الوِلاية، فلعل قال هذا القول - إن صَحَّ - قبل تَوَلِّيه ولاية أرمينية وأذربيجان لأخيه الوليد بن عبد الملك سنة إحدى وتسعين، ثم ولايته العراق لأخيه يزيد بن عبد المَلِك، عقب هزيمته لجَيْش يزيد بن المُهَلَّب في وَقْعَة العَقْر[12] سنة اثنتين ومائة، ثم عزله سنة ثلاث ومائة، ثم وَلَّاه أخوه هشام في خلافته على أرمينية، وأذربيجان مرتين، أولاهما سنة سبع ومائة، ثم عزله سنة إحدى عشرة ومائة، ثم وَلَّاه الولاية الثانية سنة ثلاث عشرة ومائة، ثم عزله في السنة التي تليها[13].
وِلايَة مَسْلَمَة الحَجّ:
ذكر ابن حَبِيْب في المُحَبَّر[14]، أنه حَجَّ بالناس سنة ثلاث وتسعين، وذكر خَليفة بن خَيَّاط في تاريخه[15]، أنه حَجَّ بالناس سنة أربع وتسعين، وهو ما رواه الطبري في تاريخه[16] عن أبي مَعْشَر السِّنْدِي - وهو إمام في المَغازِي والسِّيَر - ثم نَقَل الطبري عن الواقِدِيِّ أن عبد العزيز بن الوليد بن عبد المَلِك هو الذي حَجَّ بالناس في ذلك العام، ثم قال الطبري: قال - يعني الواقدي -: ويُقال: مَسْلَمَة بن عبد المَلِك.
ومن ذلك أيضًا:
ما ذَكَره المَسْعُودي في مُرُوج الذَّهَب[17] أن خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحَكَم بن أبي العاص قد حَجَّ بالناس في سنة سبع عشرة ومائة، قال: وقيل: مَسْلَمَة بن عبد المَلِك.
وذكر أيضًا في أحداث سنة تسع عشرة ومائة[18] أن مَسْلَمَة بن هشام بن عبد المَلِك قد حَجَّ بالناس، قال: وقيل: بل مَسْلَمَة بن عبد المَلِك[19].
دَار مَسْلَمَة:
ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق[20] أن دار مَسْلَمَة بدمشق كانت في محلة القباب عند باب الجامع القبلي[21].
[1] يُقال للشجاع: ما يَفْرِي فَرْيَه أَحَد، أي لا يفعل فعله أحد، وقيل: الصواب تشديد الياء (فَرْيَّه). انظر: المحكم والمحيط الأعظم لابن سيده (10/306)، وتاج العروس (39/232). [2] البُزْل: جمع بازِل، ومعناه في كلام العرب: المحكم القوة، أُخِذ من بُزول البعير، وهو أن يخرج نابُه بعد تسع سنين تأتي عليه، وهو أقوى ما يكون. انظر: الزاهر في معاني كلمات الناس لأبي بكر ابن الأنباري (1/306). [3] الخَزَر: أمة كبيرة، تجمع خليطًا من أجناس الترك، والسلاف، مَلَكت مساحات شاسعة حول بحر قزوين الذي كان يُسمى باسمها (بحر الخزر)، وامتد ملكها إلى شرق أوروبا، وانهارت تحت وطأة غزو مملكة الروس الأولى لها في القرن الرابع الهجري، ثم زالت بالكلية عقب الاكتساح المغولي لأراضيها في الربع الأول من القرن السابع الهجري. انظر: معجم البلدان (2/367- 369)، ومقدمة كتاب القبيلة الثالثة عشرة لآرثر كيستلر. [4] البداية والنهاية (9/360).
[5] قال البلاذري في أنساب الأشراف (8/359):ولقبه الجرادة؛ لصُفْرَة كانت تعلوه، وقال الجاحظ في كتابه البُرصان والعُرجان والعُميان والحُولان (ص154): قالوا: وكان مسلمة بن عبد الملك أصفر الجلد، كأنه جرادة صفراء، وكان يُلَقَّبُ، ويقال له: جرادة مروان، انتهى. ثم ذكر الجاحظ بعض صُفْر اللون، كيزيد بن أبي مسلم، والخليفة المأمون العباسي، وغيرهما. [size] [6] المبهج في تفسير أسماء شعراء الحماسة لأبي الفتح عثمان بن جني النحوي (ص147). [7] (1/89).
[/size] [8] نهر أبي فطرس: بضم الفاء، وسكون الطاء، وضم الراء، وسين مهملة، موضع قرب الرملة من أرض فلسطين، قال المهلبي: على اثني عشر ميلًا من الرملة في سمت الشمال نهر أبي فطرس، ومخرجه من أعين في الجبل المتصل بنابلس، وينصب في البحر الملح بين يدي مدينتي أرسوف ويافا، به كانت وقعة عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس مع بني أمية فقتلهم في سنة 132ه- . انظر: معجم البلدان لياقوت (5/316،315)، وتاج العروس للزبيدي (16/337،336). [9] زاد ابن عبدربه في العِقْد الفريد (5/168) أن من أولاد عبد الملك بن مروان من يُسمى معاوية، قال: درج، أي لم يخلف نسلًا، وذكر أن له ولدان كانا يُسَمَّيان بمروان، وأن الأكبر منهما لم يُعقب، أي لم يكن له عَقِب من الولد، ولم يذكر الإمام ابن حزم معاوية، ولا ذكر سوى مروان واحد، فالله أعلم. [size] [10] (8/361). [11] أَجْسَمَه: أكثره جَسَامَةً، والجسيم من الأمور هو العظيم. انظر: المعجم الوسيط (1/123،122).
[/size] [12] موضع بأرض بابل من ناحية الكوفة بالعراق بين واسط وبغداد. انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي (4/136)، والروض المعطار للحميري (ص418). [13] قال ابن الأثير في الكامل (4/346) ولما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب يزيد بن المهلب جمع له أخوه يزيد ابن عبد الملك ولاية الكوفة والبصرة وخراسان، فأقر محمد بن عمرو بن الوليد على الكوفة، وكان قد قام بأمر البصرة بعد آل المهلب شبيب بن الحارث التميمي، فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، وعلى شرطتها وأحداثها عمرو بن يزيد التميمي، فأراد عبد الرحمن أن يستعرض أهل البصرة فيقتلهم، فنهاه عمرو واستمهله عشرة أيام وكتب إلى مسلمة بالخبر، فعزله وولى البصرة بعد الملك بن بشر بن مروان، وأقر عمرو بن يزيد على الشرط والأحداث. ثم ذكر ابن الأثير أن مسلمة استعمل على خراسان زوج ابنته سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، الملقب بسعيد خذينة، وإنما لُقِّب بذلك لأنه كان رجلًا لينًا متنعمًا. وانظر عن تولي مسلمة ولاية العراق وخراسان وأرمينية وأذربيجان: تاريخ خليفة بن خياط (ص82 ،89 ،91-95)، وفتوح البلدان للبلاذري (1/243)، وتاريخ الطبري (4/150)، وتاريخ دمشق لابن عساكر (55/241،240)، (58/31،27،38،38)، وتاريخ الإسلام للذهبي (7/468)، وأعلام الزركلي (7/224). [size] [14] (ص26).
[15] (ص83)، وعنه نقل ابن عساكر في تاريخ دمشق (58/31). [16] (4/25)، قال: واختلف فيمن أقام الحج للناس في هذه السنة. [17] (4/583). [18] الموضع السابق.
[/size] [19] وقع في المطبوع من التاريخ الصغير للبخاري (1/290،289) أن سعد بن زياد قال: حج مسلمة بن عبد الملك وهو خليفة سنة ست ومائة، ثم كان في سنة سبع ومائة وهو في المحرم بالمدينة، ومعه غيلان يفتي الناس، وكان محمد بن كعب يجئ كل جمعة من قرية على ميلين من المدينة، لا يكلم أحدًا حتى يصلي العصر، فأتاه غيلان، فقال: من يضلل الله، فلا هادي له، انتهى. وهذا خطأ قطعًا، والظاهر أن ثمة سهو، أو سبق قلم، أو انتقال نظر، وقع من الناسخ، ولم ينتبه له المحقق، أو وقع من المحقق ذاته؛ فإن مسلمة لم يتول الخلافة قط، فضلًا عن كون المؤرخين لم يذكروا أنه حج في عام ست ومائة، كما أن المراد في هذا الأثر هو هشام بن عبد الملك؛ فإنه حج في العام المذكور بعد أن ولي الخلافة، وهو العام الذي توفي فيه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وصلى عليه هشام. انظر: طبقات ابن سعد (5/200)، والثقات لابن حبان (4/305)، والمحبر لابن حبيب (ص29)، وتاريخ دمشق (20/68-73). [size] [20] (58/27).
[/size] [21] وذكر ابن العديم في بغية الطلب أن مسلمة سكن بالناعورة، وابتنى بها قصرًا، وبناه بالحجر الصلد الأسود، وأنه ولده بقي به بعده إلى دولة بني العباس، وأن هارون الرشيد لما اجتاز بهم، بَرَّهم، ووَصلهم؛ مُجازاة لأبيهم، لأنه كان يحسن إلى بني هاشم في أيام ولاية أخوته، قال ابن العديم: وكان لمسلمة قرى ومزارع بأعمال حلب، اتخذها وعمرها أيام إقامته بالناحية المذكورة، منها الحانوت، وبها مات، قال: وتُسَمَّى في زمننا الحانوتة. وقد أدرك ابن العديم في القرن السابع بعض آثار قصر مسلمة المذكور، وذكر أنه أُخِذ منه حجارة كثيرة.
|