منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة
منتدى الشنطي
سيغلق هذا المنتدى بسبب قانون الجرائم الاردني
حيث دخل حيز التنفيذ اعتبارا من 12/9/2023
ارجو ان تكونوا قد استفدتم من بعض المعلومات المدرجة

منتدى الشنطي

ابراهيم محمد نمر يوسف يحيى الاغا الشنطي
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  الأحداثالأحداث  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70237
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية   دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Emptyالأربعاء 20 مارس 2019, 4:59 pm

دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية



العلماء كما هو معروف في الحديث النبوي هم ورثة الأنبياء، وهم من النخبة التي تصون الدين والدنيا، والمجتمع والدولة، والجماعة والأمة، فهم حراس الشريعة الساهرين على إقامة العدل والحق، كما لهم أسماء لا تحصى في تراثنا الإسلامي في شتى الحقول والميادين المعرفية، وقد حفظ لنا التاريخ الكثير من العلماء الذين ساهموا في إحداث تغيير مسار أحداثه تأسيساً وتكريساً لحضارتنا، وسنتطرق في هذا المقال إلى نماذج من بعض هؤلاء العلماء الذين انتهت سيرتهم إلى نهضة فعلية وصحوة عملية في فترات معينة من تاريخنا.

عبد الله بن ياسين وتأسيس دولة المرابطين

عن طريق رجل واحد ظهر “المرابطون” في ساحة التاريخ، وهذا الرجل هو الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين الجزولي، الذي كان من تلاميذ الشيخ وجاج بن زلو اللمطي في منطقة سوس جنوب المغرب الأقصى، فاختاره أستاذه هذا لمرافقة يحيى بن إبراهيم الجدالي الذي كان يبحث عن أحد الشيوخ الدعاة، ليعلم القبائل الصنهاجية في صحراء بلاد شنقيط الإسلام الصحيح وليعمل على نهضتهم.
وافق عبد الله بن ياسين على هذه المهمة بعد أن رفض باقي الطلاب، فرافق الزعيم الصنهاجي يحيى إلى الصحراء وبذل جهدا كبيرا في القيام بالتعليم وشحن الهمم، فلم يأبه بالعراقيل التي اعترضته في البداية، فنجح في أن يجعل من الصنهاجيين قوة عسكرية سماها؛ المرابطون وذلك في سنة 445هـ/1052م[1]، فاستطاع بذلك الزحف بهم إلى جنوب المغرب الأقصى، حيث واجهوا تسلط القبائل الزناتية وقضوا على أمرائهم، بالإضافة إلى الجهاد ضد الطوائف من الوثنيين والشيعة والخوارج، ثم الكيان البرغواطي الخارج عن الإسلام والذي استنزف قوى المرابطون، حيث سقط عبد الله بن ياسين شهيدا في قتاله معهم عام 451هـ/1059م.
وبذلك يكون الشيخ عبد الله بن ياسين قد أسس حركة المرابطين التي تبنت دعوته، واستطاعت بها قبائل صنهاجة في غرب الصحراء الكبرى كسر الحصار المضروب عليها من جهة الشمال حيث سيطرة الزناتة ثم الجنوب حيث البوابة نحو إفريقيا المدارية[2]، ليخرج من هذه الحركة رجال عظام ساروا على نهج ابن ياسين، حيث كان أبي بكر بن عمر (قائد المرابطين بعد وفاة ابن ياسين) الذي اتجه نحو الجنوب وقاد عمليات الفتح الإسلامي في غرب إفريقيا، ثم يوسف بن تاشفين في الشمال الذي قام بتحويل الحركة المرابطية إلى دولة كبرى ذات حكم إسلامي رشيد في المغرب والأندلس.

أبي الوليد الباجي وابن حزم وما كان لهما من مجابهة فتنة ملوك الطوائف

كان من أكبر مآسي الأندلس التاريخية؛ هي عهد “ملوك الطوائف” في القرن الخامس الهجري، المعروف بكثرة الانقسامات بين المسلمين ونزاعاتهم الأهلية وموالاة أمراؤهم للقوى المسيحية التي بدأت تتمدد على حساب الممتلكات الإسلامية، فكان ذلك حقبة من الضعف الشديد للأندلس الإسلامية، التي مزقتها دويلات الطوائف التي يتصارع ملوكها على مصالح عروشهم، ولو كان ذلك لصالح النصارى وعلى حساب المصلحة العامة للمسلمين، ومن جهة أخرى فقد ظهر في هذه الفترة علماء أبوا السكوت عن هذه الفتنة الكبرى التي تهدد البلاد والعباد، فكان على رأسهم الفقيه الفذ أبي الوليد الباجي والعالم الكبير ابن حزم الظاهري.
فبعد عودته من المشرق عام 440ه، قام الفقيه والعالم أبي الوليد الباجي إلى مباشرة الدعوة إلى الوحدة، بعد أن رأى تفاقم التشرذم بين المسلمين في الأندلس، فبدأ التجوال في كل أنحاء البلاد من المدن والقرى والجهات، يدعو إلى الاتحاد ونبذ النزاع ويحذر من مغبة استمرار الأوضاع وعواقبها على مصير المسلمين، فكان يتلقى الترحاب في كل منطقة من أجل هدفه النبيل لتحقيق الالتحام والوحدة الإسلامية وصد العدوان النصراني المتنامي، فكان الحكام أيضا يستقبلونه استقبالا زائفا، ويدعي كل منهم السعي لتحقيق ذلك، فكيف يمكن ذلك وهم العامل الرئيسي فيما تعانيه الأندلس في ذاك الوقت.
فكان لدعوة الباجي أثر كبير في نفوس المسلمين في الأندلس، إذ أصبح يُتداول وجوب الاتحاد والاعتصام بحبل الوحدة والابتعاد عن الصراع والخصومات، فقد استمر نداء هذا العالم الفقيه ما يقارب ثلاثون سنة حتى توفي بمدينة ألمرية عام 474هـ، وذلك في الوقت الذي كان فيه المسلمون يتخذون خطوات جادة تجاه الحالة المتردية بالبلاد، حيث التقدم الصليبي بالشمال والمزيد من النزاع بين ملوك الطوائف، فانتهى ذلك إلى الاستنجاد بالمرابطين الذين كانوا بصدد توسيع رقعة دولتهم في المغرب.
لكن على عكس الباجي الذي سلك طريق الدعوة والنصح؛ فقد ظهر عالم آخر سَلَكَ طريقًا آخر، وهو أبو علي بن حزم الأندلسي صاحب التصانيف الشهيرة في العقيدة وعلم الكلام، والذي جاهر بمعارضته للوضع الطائفي في الأندلس، وانتقد بشدة ملوكها حتى أنه لم يكن يتردد في التصريح والقدح في خيانتهم وفجورهم وموالاتهم للأعداء، وهذا ما جعله يتعرض للنفي ويُضيق عليه، وقد اشتهر بعبارته التي قال فيها:
اقتباس :
“والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً، فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه”[3].
وفي هذه العبارة يتضح لنا النظرة الثاقبة للإمام ابن حزم، حيث أنه رأى أن ملوك الطوائف قد يذهبون إلى اتخاذ عادات المسيحيين من أجل عروشهم، وهذا ما حدث بالفعل في مواضع كثيرة من تاريخ الأندلس، كما أننا نرى ابن حزم قد دعا الله تعالى إلى “تسليط أحد سيوفه” على ملوك الطوائف، وكأن يوسف بن تاشفين (الذي أنهى حكم ملوك الطوائف بعد ذلك) هو هذا “السيف” الذي ذكره ابن حزم في دعائه.
وبالتالي كان لابن حزم وأبي الوليد الباجي دور مؤثر في تهيئة الأجواء لاستقبال المرابطين في الأندلس، التي كانت مهددة بالسقوط الكلي بعد الاحتلال النصراني لطليطلة عام 478هـ، فأدى ذلك إلى دخول البلاد في حكم دولة المرابطين التي أمدَت من عمر الأندلس الإسلامية إلى ما يقارب أربعة قرون أخرى.

الهروي وابن الخشاب والدعوة إلى جهاد الغزاة الصليبيين

في أواخر القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، اصطدم العالم الإسلامي بالحملة الصليبية الأولى على المشرق، وعلى إثرها استطاع الصليبيون اختراق الأراضي الإسلامية بدءاً من الأناضول وانتهاءً بفلسطين، بعد أن وجدوا حالة من الضعف تصيب الأمة الإسلامية في ذاك الجزء، حيث بدأ الانقسام يعتري دولة السلاجقة الكبرى حاضنة الخلافة العباسية (الضعيفة أصلا)، ثم الصراع بينها وبين الفاطمية العبيديون في مصر، وهذا ما مكن الفرنجة الصليبيين من احتلال بلاد الشام وإقامة إمارات نصرانية فيه.
وقد أثار خبر المذبحة الشنيعة التي ارتكبها الصليبيون غداة احتلالهم لبيت المقدس عام 492هـ/1099م، التي قتلوا جميع من فيها من المسلمين؛ استياء علماء الشام من قنوط القيادات الإسلامية وتقاعسها عن الجهاد، وكان من أبرز هؤلاء العلماء قاضي دمشق زين الدين الهروي، الذي توجه مباشرة إلى بغداد عاصمة الخلافة بعد سماعه عن أفاعل الفرنجة، واستنكر على الناس هناك خنوعهم، وهو ما أدى به إلى مقابلة الخليفة والتصريح له بوجوب تجهيز جيش لطرد الصليبيين من القدس[4].
ولم يكن الهروي العالم الشامي الوحيد الذي تحرك؛ فقد ظهر ابن الخشاب فقيه حلب الذي أدان تعامل أمير حلب رضوان بن تتش مع الصليبيين ومهادنتهم حين حاصروا المدينة، فأثار الرأي العام حول وجوب قتال الفرنجة الغزاة، وبادر أيضا بالسفر إلى بغداد فشكل هو ومن معه ورقة ضغط على الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي، حيث “استصرخ الحلبيون العساكر الإسلامية ببغداد وكسروا المنابر”[5]، فأدى هذا بالسلطان محمد بن ملكشاه إلى إصدار أمر إلى أتابك الموصول مودود بن التونتكين، الذي سارع بتجهيز الجيش والتوجه به نحو الشام.
وهكذا كان لكل من دعوة الشيخين الهروي وابن الخشاب بعد سقوط القدس في يد الصليبيين؛ أثر كبير في شحن النفوس والاستعداد لجهاد الفرنجة المحتلين، فقد استطاعا وضع السلطان السلجوقي في موقف حرج، وهو الذي كان يعاني من اضطرابات داخلية في خراسان، لكن هذا لم يوقف عزيمة الجهاد، بدايةً بخروج جيش مودود ثم ظهور الأسرة الزنكية مععماد الدين وابنه نور الدين محمود الذي عمل على توحيد الجبهة الإسلامية لدحر الجيوش النصرانية، ليظهر بعد ذلك صلاح الدين قائد الأيوبيين ومحرر القدس، لينتهي أخيرا بالمماليك الذين استطاعوا القضاء على أفول الصليبيين بالشام في النصف الثاني من القرن السابع الهجري/الثالث عشر الميلادي.

العز بن عبد السلام وابن تيمية

اقتباس :
كلمة حق في وجه السلطان والنداء لمواجهة التتار
دخل العالم الإسلامي منتصف القرن السابع الهجري في خضم تحولات أصابته بعد الغزو المغولي القادم من جهة الشرق، والذي وصل إلى العاصمة بغداد فدمرها، وذلك تزامناً مع تواصل الحملات الصليبية على المشرق، وقد سقطت الدولة الأيوبية وقام المماليك مكانهم وتصدوا لخطر المغول. وفي غمرة هذه التغيرات؛ ظهر العز بن عبد السلام المعروف بسلطان العلماء، والذي كان له بالغ الأثر على مجريات الأحداث في تلك الفترة.
فقد انقسم الأيوبيين في أواخر عمر دولتهم إلى أمراء يحكمون بمصر والشام، وكان بينهم نزاع أدى إلى الاستعانة بالعدو الصليبي، فقد قام حاكم دمشق الصالح إسماعيل بالتحالف مع الفرنجة وبيع السلاح لهم، فصعد العز بن عبد السلام منبر الجامع الأموي وانتقد ذلك بشدة مما جعل الصالح إسماعيل يعتقله، فأفرج عنه بعد ذلك بسبب الضغط الشعبي، ليخرج العز من الشام نحو مصر، وذلك بعد رفضه التراجع عن موقفه، حتى بعد أن استرضاه حاكم دمشق الأيوبي.
فأُستقبل بحفاوة في القاهرة عام 639ه، وحظي بكرم من السلطان الأيوبي نجم الدين أيوب، لكن ذلك لم يمنعه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد توليه منصب القضاء، حيث كان يستنكر على السلطان تواجد المنكرات في بعض مناطق بلاده، إضافة إلى ما كان له من موقف صارم تجاه إمارة المماليك، حيث أفتى بوجوب بيعهم كعبيد، حتى صار يلقب ببائع الأمراء[6].
وبعد سقوط الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك في مصر، والذي تزامن مع تدمير الدولة العباسية واحراق بغداد 656ه، على يد التتار الذين وصلوا إلى الشام؛ بدأت طبول الحرب تُدق في مصر، التي قُرر فيها جمع الضرائب من الناس لإعداد العدة العسكرية، فعارض الشيخ على هذا بقوة وأصَر على أن تُدفع الضرائب من طرف الأمراء أولاً، فلقي هذا استحسانا من سيف الدين فطز قائد المماليك، هذا الأخير الذي هزم المغول في معركة عين جالوت سنة 658هـ/1260م، بدعم كامل من ابن عبد السلام، فكان انتصارا مدويا للمسلمين حطم أسطورة المغول، ليتوفى العز بن عبد السلام بعدها بعامين سنة 660هـ/1262م.
ولم يمض على هذا الكثير؛ حتى ظهر في نفس العصر عالم شامي أخر، وهو ابن تيمية الملقب بشيخ الإسلام والفقيه المجدد صاحب التصانيف الكثيرة في الرد على الباطنية والزنادقة والرافضة، وذلك في الوقت الذي عاد فيه الخطر المغولي إلى بلاد الشام في عهد المماليك أواخر القرن السابع للهجرة، فكان ابن تيمية أكبر العلماء محرضا على الجهاد ضد التتار، فقد “دخل الشيخ تقي الدين ابن تيمية البلد ومعه أصحابه، من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له، وهنئوه بما يسر الله على يديه من الخير، وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير إلى السلطان ويستحثه على السير إلى دمشق”[7]، فأُجبر هذا الأخير على تجهيز جيش لملاقاة التتار، بضغط من العلماء وعلى رأسهم ابن تيمية، الذي تصدر الصفوف الأولى في معركة شقحب الفاصلة، والتي انتهت بظفر للمسلمين على المغول عام 702هـ.
ولم يكتفِ ابن تيمية بكل هذا، بل كان له مواقف حازمة مناهضة لسياسة الدولة المملوكية آنذاك، وهذا ما أدى به إلى محنة عاشها في أخر عمره، حيث اعتقل ومات في سجنه عام 728هـ/1328م، لكنه خلف وراءه تراثا عظيماً.
كانت هذه نماذج لعلماء أجلاء –على سبيل المثال لا على سبيل الحصر-صنعوا تغييرا وخلفوا أثرا، كما أن تاريخنا مليء بأسماء أخرى لعلماء قادوا الإصلاح وخرجوا إلى تشكيل صحوة، فكافحوا بعلمهم وسلاحهم في سيبل كلمة الله والدين القيم، على عكس الكثير من العلماء في عصرنا الراهن، الذين تمادوا كثيرا في الفتاوى الجاهزة خدمة لقوى الاستبداد والاحتلال، حتى صاروا مجرد أبواق “شرعية” لحكام خونة، لم يعرف التاريخ من هم على شاكلتهم من قبل.


المصادر

1-حسين مؤنس، معالم في تاريخ المغرب والأندلس، دار الرشاد، ص 185.
2- نفس المرجع، ص 185-186.
رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس، ج3، المؤسسة العربية للدراسات، 1987م، ص 174. 3-
4-فايد عاشور، جهاد المسلمين في الحروب الصليبية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص 128.
5- ابن العديم الحلبي، زبدة الحلب من تاريخ حلب، تحقيق خليل المنصور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت،1417هـ/1996م، ص 253.
6-محمد الرخيلي، العز بن عبد السلام، ط1، دار القلم، دمشق، 1412هـ/1992م، ص 180-181.
7-ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق عبد الله التركي، ج18، ط1، دار هجر، 1419هـ/1998م، ص 27
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70237
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية   دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Emptyالجمعة 13 ديسمبر 2019, 3:55 pm

دور العلماء في حركة الفتوح في العصر الأموي (1)

وبعد:
فقد "كانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية، ليس لهم شغل إلا ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض، ومغاربها، وبرها، وبحرها، وقد أذلوا الكفر وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رُعباً"[b][1].[/b]
و"كان عَلَمُ الجهاد في أطراف البلاد منشوراً، والدين منصوراً، والدولة عظيمة، والكلمة واحدة"[b][2].[/b]
ثم لما جاءت دولة بني العباس، استمر الأمر على ما هو عليه - وإن كان حال الغزو في عصرهم دون حاله في عصر من سبقهم - إلى أن ضعفت الدولة، وتفرقت الكلمة، فكان ما كان.
قال الإمام ابن العديم في كتابه (بُغية الطلب في تاريخ حلب) في الباب الذي أسماه (باب: في ذكر نبذة من أخبار ثغور الشام، وما كانت تجري عليه أمورها في صدر الإسلام): لم يزل الخلفاء في صدر الإسلام مهتمين بأمر الجهاد، باذلين في ذلك من أنفسهم نهاية الاعتناء، وغاية الاجتهاد. وقد ذكرنا فيما سبق من أحوال البلاد التي قدمنا ذكرها، وبَيَّنَّا حالها، وشرحنا أمرها، ما فيه كفاية صالحة، ودلائل على ما قصدنا في هذا الباب واضحة[b][3]. وغيُر خافِِ ما كان في زمن عمر وعثمان رضي الله عنهما من الاهتمام بالثغور الشامية، وأن معاوية أغزى ابنه يزيد، حتى وصل إلى القسطنطينية، وأغزى عبدالملك بن مروان ابنه مسلمة الغزاة المشهورة، وهي مسطورة في التواريخ مذكورة، وأغزى الوليد ابنه العباس مراراً، وأوسع الروم بغزواته ذلة وصغاراً، ورابط سليمان بدابق سنتين، وحلف ألا يعود منها حتى يفتح الله القسطنطينية على المسلمين، وجَهَّز لفتحها أخاه مسلمة، إلى أن استدعاه عمر بن عبدالعزيز إشفاقاً على المسلمين، ومرحمة.[/b]
واهتم بعد بني أمية بأمر الثغور أمير المؤمنين، أبو جعفر المنصور، فَعمرها، وحَصَّنها، وقَوَّاها بالجند، وشَحَنها، وتَمَّ الَمْهدِيُّ ما شرع فيه أبو جعفر، وفعل مثله هارون الرشيد، وأكثر، وغزا المأمون فأدركته في غزاته الوفاة، وقد عُرِفَ فِعْلُ المعتصِم حين بلغه نداء المرأة - وقد غدر بالمسلمين طاغية الروم - وامعتصماه، واهتم المتوكل في الثغر بترتيب المراكب، وما زال مشحوناً من ملوك المسلمين بالراجل والراكب، إلى أن قَصُرت الهم، ووَلِيَ من تعَّدى وظلم، واشتغلوا باللذات، وتَعَاطَوا الأمور المنكرات، فضَعُفَ أمر الثُغُور واختَلَّ، وَوهَى عقد نظامها وانْحَلَّ، فجرى ما ذكرناه في باب طرسوس[b][4] وحَلَّ بالمسلمين من أعداء الله الشدة، والبوس، انتهى.[/b]
لكن كثيرًا من المتشدقين بالثقافة والمعرفة في عصرنا لا يعرفون عن تاريخ الدولة الأموية سوى بعض صفحات الصراع السياسي التي أحاطتها الروايات التاريخية الملُفَقَّة بكثير من المبالغات.
أما رجالات بني أمية الذين قادوا الفتوح شرقاَ وغرباً، وشمالاً وجنوباً، يفتحونها باسم الله، وينشرون فيها الإسلام، وتتوق نفوسهم إلى الشهادة في سبيل الله تعالى، ويصحبون معهم العلماء والصالحين، فلا يكاد أحد من أولئك يعرف عنهم شيئاً، ولو علموه لكتموه، ولو وجهوا به لطعنوا في صدقه، ولزعموا أن المداهنين لبني أمية وضعوه لهم، وما رأيناهم يفعلون هذا مع الأخبار التي اتكأوا عليها في النكير عليهم، ولا افترضوا أن تكون من وضع أعدائهم ومخالفيهم، ولا عزاء للموضوعية المزعومة، والحيادية المُدَّعاة.
و"وإذ أكان الرأسُ عالي الهِمَّة في الجهاد، احُتملت له هَنَات[b][5]، وحسابه على الله. أما إذا أمات الجهاد، وظلم العباد، وللخزائن أباد، فإن ربك لبالمرصاد "[6].[/b]
جبهة الشام وما يليها:
وكانت الفتوحات في جبهة الروم في عصر بني أمية قد وُضِعَت وفق منظومة عسكرية محكمة للغزو، اصْطُلِح على تسميتها بالصوائف، والصوائف: جمع صائفة، وهي الغزوة تكون في فصل الصيف، وسُمَّيت تلك الغزوات بالصوائف؛ لغلبة الغزو في ذلك الفصل؛ حرصًا على الرجوع قبل دخول الشتاء، حتى لا يهجم البرد والثلوج على جيوش المسلمين، مما يتيح بيئة مناخية يألفها جنود العدو أكثر من إلف الجيش المسلم لها، وهذا أمر في صالح العدو ولا شك.
لكن هذا القفول قبل حلول الشتاء لم يكن أمرًا مُطَّردًا في الغزو، بل كانوا يضطرون أحياناً للإقامة في تلك النواحي في فصل الشتاء، ومكابدة الثلوج، والبرد الشديد، وفقاً لما تُمليه عليهم الظروف العسكرية، مُحْتسبين أجر الرباط في ظروف لم يألفوها، وأجواء لم يعتادوها. وأحيانا يضطرون للإقامة في البلاد المَغْزوّة إذا حَلَّ الشتاء ونزلت الثلوج؛ لانسداد طرق الرجوع عليهم، وخطورة مكابدة السفر عبرها.
أما إن كان الخروج للغزو أصالةً في فصل الشتاء، فتُسَّمى تلك الغزوات بالشواتي، ومفردها شاتية، غير أن هذا الاصطلاح لم يشتهر في كتب التواريخ شهرة الأول - أي الصوائف - نظرًا لما قدمناه من غلبة الغزو في فصل الصيف على الشتاء، وقد روى ابن عساكر في تاريخ دمشق[b][7] أثرين من طريق ابن عائذ مصنف كتاب الصوائف فيهما استخدام لفظ الشاتية[8].[/b]
ومع كون جذور نظام الصوائف تعود إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في الأثر الذي رواه ابن عائذ ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق[b][9] أن حبيب بن مسلمة[10] كان على الصوائف في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.[/b]
واستمر العمل عليها في خلافة عثمان رضي الله عنه كما في الأثر الذي رواه ابن عائذ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق[b][11] عن حدير السلمي ـ وهو مختلف في صحبته ـ  في قصة خروج كعب الأحبار[12] في بَعْث[13] الصائفة، وأنه تُوفي بأرض حِمْص، ومضي البَعْث، وأن هذا البَعْث لم يعد من أرض الروم حتى قُتل عثمان رضي الله عنه.[/b]
وكما ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق[b][14]، والحافظ المِزِّي في ترجمة أبي بحرية، عبدالله بن قيس، الكندي، السكوني من تهذيب الكمال[15]، قال: حكى أبو محمد عبدالله بن سعد القُطْرُبلي، عن الواقدي[16] في كتاب الصوائف[17] أن عثمان كتب إلى معاوية: أن أَغْزِ الصائفة رجلاً مأموناً على المسلمين، رفيقاً بسياستهم، فعقد لأبي بحرية، عبدالله بن قيس، الكندي، وكان ناسكاً، فقيهاً، يُحمل عنه الحديث.[/b]
إلا أن منظومتها - أي الصوائف - قد اكتملت في العصر الأموي حين استتبت أمور الدولة عقب وقوع الصلح بين الحسن بن علي ومعاوية رضي الله عنهما، والذي كان من بركاته: حفظ ريح الأمة من الذهاب، وتوحيد سيوف المسلمين إزاء عدوهم المتربص بهم الدوائر، وتوظيف الطاقات في توسيع حركة الفتوحات، ونشر الملة الغراء.
يقول الدكتور سليمان السويكت في حاشيته على مقدمة كتاب الصوائف لابن عائذ المستخرج من تاريخ دمشق لابن عساكر: ويظهر لي من استقراء النصوص أن نظام الصوائف والشواتي بدأ يظهر منذ وقت مبكر، بعد استقرار المسلمين في بلاد الشام، وانسحاب الروم عنها في زمن الفاروق رضي الله تعالى عنه، حيث وقفت جبال طوروس حاجزاً طبيعياً  بين الطرفين، وبدأت الحرب سجالًا بينهما على المناطق الحدودية، والتخوم، فكان المسلمون كلما اجتازوا الدَّرْبَ في تلك الجبال، الذي عُرف بـ (درب الحرب) - وهو ما بين طرسوس وبلاد الروم[b][18] - أو غيره من الدروب، سُمَّيت تلك الغزوة بصائفة، أو شاتية،انتهى.[/b]
ــــــــــــــــ
[1] البداية والنهاية لابن كثير (9/104).

[2] سير أعلام النبلاء (4/501).
[3] تكلم ابن العديم في مطلع الكتاب المذكور عن فضائل حلب، وأسهب في وصف أبوابها، وميادينها، وقصورها، ثم تكلم عن المدن والقرى التابعة لها - أعمال حلب - وذكر تاريخ فتح كل منها، وجغرافيتها، ووصف بنائها، وأحوال أهلها حتى عصره رحمه الله تعالى.
[4] طرسوس: مدينة قديمة من بلاد الثغور الشامية عظيمة، وهي من أعمال حلب، وبها كان يقوم سوق الجهاد، وينزلها الصالحون والعُبَّاد، ويقصدها الُغزاة من سائر البلاد، وكانت حين كتب ابن العديم كتابه المذكور في أيدي الأرمن النصاري، وفيها قبر المأمون العباسي. وقد أفاض ابن العديم في وصفها، والتأريخ لها، ثم عقد فصلاً في كيفية النَّفِير بطرسوس، وكيف كان يجري أمره، ثم قال: هذا كان حال مدينة طرسوس، والشرائع محفوظة، وأمور الجهاد ملحوظة، وأحوال البدع مرفوضة، والجُفون عن الحرمات مغضوضة. فحين فسدت الأمور، وارْتُكب الفُجور، وقَلَّت الخيرات، واشتغل أهل الجهاد باللذات، طمع العدو، ومنعه طَلَبُ الثأر الهدو، فقصد البلاد، وأكثر الأمداد، وهجم حلب، وفتح أنطاكية، وقتل الأبطال، وسبى الذرية، ثم استولى على الديار، وقصد طرسوس، وألح عليها بالحصار، فجرى في أمرها العظيم ما ذكره عثمان بن عبد الله بن إبراهيم في مقدمة كتابه الموسوم بسير الثغور، ونقلته من خطه مع ما نقلته من حوادث الأمور.
[5] أي خصال شر وسوء.
[6] سير أعلام النبلاء للذهبي(15/ 565) .
[7] (48/ 300)، (55/ 241).
[8] انظر: لسان العرب مادة "صيف"، و "شتا"، ومقدمة كتاب الصوائف المستخرج من تاريخ دمشق للدكتور سليمان السويكت.
[9] تاريخ دمشق (12/73).
[10] هو حبيب بن مسلمة الفهري، مُخْتَلَفُُ في صَحبته، فأهل الشام يُثبتونها، وأهل المدينة ينكرونها وكان كثير الجهاد في بلاد الروم، ذا نكاية بهم، حتى كان يُلقب بحبيب الروم، لكثرة دخوله إلى بلادهم انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 188، 189)، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (2/25،24).
[11] تاريخ دمشق (12/242،241).
[12] هو كعب بن ماتع الحميري، أحد أهل الكتاب الذين أسلموا، وكان على دين اليهود باليمن، أدرك النبي صل الله عليه وسلم، وأسلم في خلافة أبي بكر الصديق، ويقال: في خلافة عمر بن الخطاب، ويقال: أدرك الجاهلية، وتوفي كما في هذا الأثر في  آخر خلافة عثمان. انظر: تهذيب الكمال (24/189ـ193)، والسير (3/489ـ494)، والإصابة (5/647ـ651).
[13] بَعَث الجند، يبعثهم بَعْثًا: وَجَّهَهُم، والبَعْث يكون للقوم يُبعثون إلى وجه من الوجوه، مثل السفر والركب، وقولهم: كنت في بَعْث فلان، أي في جيشه الذي بُعِثَ معه، والبُعُوث: الجيوش. انظر: لسان العرب، مادة [بعث].
[14] تاريخ دمشق (32/115،114).
[15] تهذيب الكمال (15/457).
[16] راجع ما كتبناه عن الواقدي في مقال (مهمات يجدر بالباحثين في التاريخ معرفتها) وهو منشور على الموقع.
[17] كتاب الصوائف للواقدي أحد موارد الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وقد نقل منه في مواضع ليست بالكثيرة.
[18] قال ياقوت في معجم البلدان: وإذا أطلقت لفظ الدرب أردت به ما بين طرسوس وبلاد الروم؛ لأنه مضيق كالدرب، وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:



بكى صاحبي لما رأى الدرب دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Space
دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Space
فقلت له لا تبك عينك إنما دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Space
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70237
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية   دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Emptyالجمعة 13 ديسمبر 2019, 3:57 pm

النشاط الكبير لنظام الصوائف في عصر معاوية رضي الله عنه:
أكثر معاوية رضي الله عنه من إرسال بُعوث الصوائف إلى أرض الروم حتى أرهقهم؛ بُغية التمهيد لفتح القسطنطينية.
 
فقد روى أبو زرعة الدمشقي في تاريخه[1]، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق[2] عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما قُتل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية ولا صائفة، حتى اجتمعت الأمة على معاوية سنة أربعين، وسَمَّوها سنة الجماعة، قال سعيد: فأغزا معاوية الصوائف، وشتاهم بأرض الروم ست عشرة صائفة، تُصَيِّف بها، وتشتوا، ثم تقفل[3]، وتدخل مُعَقِّبتُها[4]، ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد[5] في سنة خمس وخمسين في جماعة من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم في البر والبحر، حتى أجاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل.
 
وروى ابن عائذ، ومن طريقه خليفة بن خياط في تاريخه[6]، وابن عساكر في تاريخ دمشق[7] الأثر السابق عن سعيد بن عبد العزيز بدءًا من قوله: فأغزا معاوية...ولم يذكر ما قبلها، وزاد في آخره أنه قال: قالوا: فلم يزل معاوية على ذلك، حتى مضي لسبيله، قال[8]: وكان آخر ما وصاهم به: أن شُدُّوا خناق الروم؛ فإنكم تضبطون بذلك غيرهم من الأمم.
 
ويُستفاد من هذا أن معاوية رضي الله عنه كان يرى في كثرة غزو الروم فوائد أخرى إلى جانب الفتح والغنائم وكَسْر الشَّوكة، وقد عُرف عنه بُعد نظرته السياسية وعمقها رضي الله عنه.
 
فتور بين نشاطين:
وأما بعد وفاة معاوية رضي الله عنه، فقد ذكرت بعض المصادر القديمة والحديثة أن الصوائف قد تعطلت من الشام منذ وفاة معاوية[9]. لكن ثمة أخبار وردت في تاريخ خليفة بن خياط، وتاريخ دمشق من طريق ابن عائذ تفيد خلاف ذلك.
 
فقد روي ابن عائذ في الصوائف، ومن طريقه خليفة بن خياط في تاريخه[10] عن الوليد بن مسلم[11] أنه قال: ولي يزيد ابن معاوية، فغزا في ذلك العام - أي سنة ستين - مالكٌ  سورية[12].
 
وروي ابن عائذ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق[13] عن الوليد بن مسلم، عن يحيى بن حمزة[14] أن يزيد بن معاوية أغزى يزيد بن أسد - وله صحبة[15] - أرض الروم، ففتح قيسارية[16] من أرض الروم وسبى منها خمسة وأربعين ألفًا.
 
وروي ابن عائذ في الصوائف، ومن طريقه خليفة بن خياط في تاريخه[17] عن الوليد بن مسلم قال: وفي سنة إحدى وستين كانت غزوة مالك بن عبد الله الصائفة، غزوة قونية[18].
 
وقال خليفة بن خياط في أحداث سنة اثنتين وستين[19]: وفيها غزا عبد الله بن أسد بن كرز القسري[20] قيسارية مما يلي الحدث، وفيها كانت صائفة عليها حصين بن نمير السكوني[21] فغزا سورية.
 
وذكر ابن عائذ، ومن طريقه خليفة بن خياط[22] أن أهل الشام تركوا الغزو سنة ثمان وستين نظرًا للجوع[23].
 
وذكر أيضًا أن أهل الشام تَخَلَّفوا عن الغزو عام تسع وستين المسمى بعام الرَّدغة[24]، فأُخذ خمس أموالهم من العطاء سنة سبعين[25].
 
فقوله في الخبرين الأخيرين بترك أهل الشام الغزو سنة كذا، وتخلفهم عنه سنة كذا قد يُفهم منه عدم تركهم له أو تخلفهم عنه في غير هاتين السنتين، والله أعلم.
 
ولا شك أن نظام الصوائف قد تأثر كثيرًا بالاختلافات والفتن الداخلية التي وقعت بعد وفاة معاوية رضي الله عنه، وأن هذا النظام لم يعد إلى ما كان عليه من استقرار، وقوة، ونكاية في العدو، كما كان زمن معاوية رضي الله عنه، إلا بعد انتهاء النزاع بين عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه، واستتباب الأمور لعبد الملك، فأعاد الجهاد إلى ما كان عليه زمن معاوية، ثم أكمل المسيرة من بعده أبناؤه: الوليد، وسليمان، ويزيد، وهشام، وتخلل ذلك حُكم عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى بين فترتي حكم سليمان ويزيد.
 
وإن كان الجهاد في عصر الوليد بن عبد الملك لا يكاد يُشَبَّه بالجهاد في عصر غيره ممن جاء بعده، من حيث كثرة الفتوح شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، حتى شَبَّه العلماء الفُتوح العظيمة التي فتحها الله تعالى على الإسلام في دولة الوليد بالفتوح التي فتحها الله تعالى في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه[26]، وذلك نظرًا لكثرة الفتوح في بلاد الروم، والترك، وأطراف الصين، والهند، والمغرب، والأندلس.
 
لكن فتح قلوب الأمم التي انضوت تحت مظلة المسلمين للإسلام كان في أَوَجَّه زمن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى؛ لما عُرف عنه من اقتفاء سيرة الراشدين، فدخلت أمم لا تُحصى في دين الله أفواجًا، ولله الحمد والمنة[27].


ــــــــــــــــ
[1] تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص42،41.

[2] تاريخ دمشق (59/159).
[3] القُفُول: رجوع الجند بعد الغزو، والقُفُول: الرجوع من السفر. انظر: لسان العرب، مادة [قفل].

[4] المعقب: الذي يغزو غزوة بعد غزوة، ويسير سيراً بعد سير، ولا يقيم في أهله بعد القُفُول، وعَقَّب بصلاة بعد صلاة، وغزاة بعد غزاة: أي وَالَي. ومنه حديث عمر: أنه كان يُعَقَّبُ الجيوش في كل عام، أي يرد قومًا، ويبعث آخرين في عقبهم، وعَقَّب الغازية بمثلها، إذا وَجَّه مكانها غيرها. ويُقال للذي يغزو غزوًا بعد غزو، وللذي يتقاضى الدَّيْن، فيعود إلى غريمه في تقاضيه: مُعَقَّب. انظر اللسان، مادة [عقب].
[5] يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، مَقته الناس وأبغضوه، نظرًا لما وقع في عصره من قتل الحسين، ومن حدوث موقعة الحَرَّة. وقد غلا كثير من الناس في موقفهم العدائي منه، وتقربوا إلى الله بلعنه، وبالغ الروافض في وضع الروايات المكذوبة التي تَسِمه بالكفر والوثنية، ونشأت على الضد من ذلك طائفة تمجده، وتواليه. ونحن نبرأ إلى الله عز وجل مما وقع في عصره، ولا نَسُبُّه، ولا نُحِبُّه، ولكن نرجو له، لما ثبت في صحيح البخاري من حديث أم حرام بنت ملحان أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم". أخرجه في كتاب: الجهاد، باب: ما قيل في قتال الروم (2924).
وكثير من الروايات التاريخية قد أظهرت عدم رضاه بقتل الحسين، وغضبه على قتلته، وأن إثم مقتله على عبيد الله بن زياد والي الكوفة، وأن يزيدًا لم يأمره بذلك، وأنه واسى نساء أهل البيت، وأكرمهم، فلماذا يعتمد أولئك المغالون في موقفهم العدائي منه على بعض الروايات دون ترجيح علمي إسنادي؟!
وقد صنف ابن طولون الصالحي المتوفى سنة 953ه- كتابًا بعنوان (قيد الشريد من أخبار يزيد) أورد فيه كثيرًا من أقوال أهل العلم في الموقف الشرعي منه، ومما وقع في عصره، وهو مطبوع.
[6] تاريخ خليفة ص57.
[7] تاريخ دمشق (59/159،158).
[8] في تاريخ خليفة بن خياط ص57 من طريق ابن عائذ أن قائل ذلك هو الوليد بن مسلم الراوي عن سعيد ابن عبد العزيز.
[9] انظر مثلاً: تاريخ ابن خلدون (3/70)، ودراسات في تاريخ الخلافة الأموية للدكتور طه عبد المقصود ص278،279.
[10] تاريخ خليفة ص57.
[11] يظهر من خلال النصوص التي أوردها ابن عائذ في كتابه الصوائف أن جُلَّها مأخوذ عن شيخه الوليد بن مسلم، وقد كان الوليد شاهد عيان في بعضها، وفي بعضها يروي عن شيوخه شهود العيان، وكان الوليد قد فاق معاصريه في المعرفة بأمر المغازي، وغزوات الصوائف والشواتي، لقرب عهده بها، واختلاطه بالشيوخ المشاركين فيها، أو المطلعين عن كثب على أحداثها، وسؤالهم عما خفى عليه من شأنها، وتسجيله لتلك الأحداث أو روايتها، فضلًا عن كونه من موالي بني أمية، مما يَسَّر عليه معرفة الكثير من أخبارهم. وانظر: مقدمة الصوائف المستخرج من تاريخ ابن عساكر للدكتور السويكت ص7.
[12] هو مالك بن عبد الله الخثعمي، المعروف بمالك السرايا، لكثرة غزوه، قيل: إن له صحبة، قاد الصوائف أربعين سنة في إمارة معاوية، ثم في خلافته، ثم في خلافة يزيد، ثم في خلافة عبدالملك، وكان صالحًا، كثير الصلاة بالليل، كثير الفضائل والمناقب. انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (56/ 466-477)، والإصابة لابن حجر(5/731).
[13] تاريخ دمشق (65/106).
[14] ثقة، تولى القضاء للمنصور، وبقي قاضيًا ثلاثين عامًا حتى توفي رحمه الله تعالى، ولد سنة ثلاث ومائة، وتوفي سنة ثلاث وثمانين ومائة. انظر: تهذيب التهذيب (11/177،176).
[15] هو جَدُّ الأمير خالد بن عبد الله بن يزيد القسري، كان أهله ينكرون أن يكون له صحبة، فرجح ابن معين رحمه الله تعالى عدم ثبوت صحبته، وعَدَّه أكثر العلماء في الصحابة. وتاريخ دمشق (65/100-107)، والإصابة (6/647،646).
[16] مدينة كبيرة عظيمة كانت في بلاد الروم، ويقال لها أيضًا: قيصرية، فتحها معاوية رضي الله عنه عنوة بعد حصار دام سبعة أشهر وكانت مقر حكم السلاجقة في مطلع القرن السابع حين كتب ياقوت معجمه،  وفيها جامع أبي محمد البطال رحمه الله تعالى الذي أوطأ الروم خوفًا وذلًا، وهناك مدينة أخرى تحمل نفس الاسم، تقع على ساحل بحر الشام، تُعد من أعمال فلسطين، ولكن المقصود هنا المدينة الأولى التي كانت في أرض الروم إذ ذاك. وانظر: معجم البلدان (4/422،421).
[17] تاريخ خليفة بن خياط ص59.
[18] قُونية: مدينة عظيمة من مدن الروم، تملكها السلاجقة، وكانت من كبريات مدنهم، وفيها قبر جلال الدين الرومي الصوفي، وهي من مدن تركيا الآن. انظر: معجم البلدان (4/415)، والروض المعطار ص484.
[19] تاريخ خليفة بن خياط ص59.
[20] هو والد خالد القسري الأمير، ترجمته في تاريخ دمشق (33/372-375).
[21] ترجمته في تاريخ دمشق (14/382-389)، وتهذيب التهذيب (2/338).
[22] تاريخ خليفة ص 69.
[23] المقصود بالجوع هنا وقوع القحط الشديد؛ فإن أهل الشام لم يقدروا على الغزو لشدة القحط الذي أصابهم كما ذكر غير واحد من المؤرخين في أخبار هذه السنة.
[24] بحثت في المصادر كثيرًا عن معلومات تتعلق بعام الردغة هذا، فلم أعثر على شيء، والرَّدغَةُ: الطين والوحل، فالظاهر انه سُمَّي بذلك؛ لنزول أمطار شديدة فيه، وكانت إحدى الغزوات الأولى في فتوح الصحابة رضي الله عنهم للشام تسمى بذات الردغة؛ لما كان يحول بين المسلمين والروم فيها من الأوحال، وكانت بموضع يسمى بيسان، وقد لقي المسلمون عنتًا شديدًا من الأوحال المذكورة، ولكن الله تعالى أنزل عليهم نصره، فلله الحمد والمنة، والله أعلم.
[25] تاريخ خليفة ص69.
[26] قال الذهبي في تاريخ الإسلام (6/261): وفتح الله على الإسلام فتوحًا عظيمة في دولة الوليد، وعاد الجهاد شبيهًا بأيام عمر رضي الله عنه،انتهى.
[27] انظر على سبيل المثال ما ذكره خليفة بن خياط في تسمية عمال عمر بن عبد العزيز على إفريقية، حيث قال: ثم وَلي إسماعيل بن عبيد الله، مولى بني مخزوم، فقدمها - أي إفريقية - سنة مائة، فأسلم عامة البربر في ولايته، وكان حسن السيرة. انظر تاريخ خليفة ص88.




كان للعلماء والصالحين دور كبير في الجهاد في العصر الأموي شأنهم في ذلك شأن أمثالهم من العلماء العاملين في كل العصور، وكانوا يباشرون بأنفسهم تقديم النفوس والرؤوس، كما يباشرون في مواطن أخرى تقديم العلوم والدروس.

 

ولو ذهبنا نعدد بركات مشاركتهم في الغزو، والآثار المترتبة على مزاحمتهم للغزاة الفاتحين، لطال بنا المقام، ولكَلَّت أذهاننا عن التعبير عما ينقدح في خواطرنا من الفوائد التربوية، وحسبك منها على سبيل التَّبَلُّغ: رفع الهمم وشحذها، وتقويم الخلل والعوج، وتفعيل المعاني الإيمانية، والدروس العلمية الخبرية.

 

وسوف أذكر في هذه السلسلة بإذن الله تعالى بعض أولئك الأخيار، حثًا على الاقتداء بأحوالهم، والتأسي بسيَرهم، والنَّسْج على منوالهم. وحيث أننا قد بدأنا بذكر مجمل سير حركة الفتوح والغزو في جبهة الشام في العصر الأموي، فسوف نلحق بذلك ذكر المُبَرَّزين من العلماء المشاركين في تلك الجبهة.

 

وفي مقدمة العلماء المنبعثين للغزو في جبهة الشام في عصر بني أمية: المُعَمِّرون من أصحاب النبي صل الله عليه وسلم، والمعدودون في صغارهم.

 

فمن علماء الصحابة رضي الله عنهم:

1- أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه مُضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شهد العقبة والمشاهد كلها مع رسول الله صل الله عليه وسلم:

روى الترمذي في "جامعه" (2972) - واللفظ له - وأبو داود في سننه (2514)، والنسائي في الكبرى (6/299)، وابن حبان في صحيحه (11/9)، والحاكم في مستدركه (2/94) من حديث أسلم أبي عمران التجيبي، قال: كنا بمدينة الروم[1] فأخرجوا إلينا صفًا عظيمًا من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد[2] فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري، فقال: "يا أيها الناس إنكم لتؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صل الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: ﴿ وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]،  فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو".

 

قال أبو عمران: فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دُفن بأرض الروم.

 

قال الترمذي رحمه الله تعالى: هذا حديث حسن صحيح غريب، وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافق الذهبي الحاكم في تلخيص المستدرك، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2151).

 

وروى البيهقي في "السنن الكبرى" (9/71)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (34/331) عن عبيد بن يعلى، قال: أدربنا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وهو أمير الناس يومئذ على الدروب - قال: فنزلنا منزلًا من أرض الروم، فأقمنا به، قال: وكان أبو أيوب قد اتخذ مسجدًا، فكنا نروح ونجلس إليه، ويصلي لنا، ونستمتع من حديثه، قال: فوالله إنا لعشية معه، إذ جاء رجل فقال: أُتى الآن الأمير بأربعة أعلاج من الروم، فأمر بهم أن يُصْبَروا، فرُموا بالنَّبْل حتى قُتلوا، فقام أبو أيوب فزعًا حتى جاء عبد الرحمن بن خالد، فقال: أَصَبَرْتَهم؟ لقد سمعت رسول لله صل الله عليه وسلم ينهى عن صَبْر الدابة، وما أحب أن لي كذا وكذا وأني صَبَرْت دجاجة، قال: فدعا عبد الرحمن بن خالد بغلمان له أربعة، فأعتقهم مكانهم.

 

وقوله: فأمر بهم أن يُصبروا: أي قتلهم صبرًا، وقتل الصبر: هو أن يُمسَك شيءٌ من ذوات الرُّوح حيًّا، ثم يُرْمى بشيء حتى يموت كما في مادة (صبر) من النهاية لابن الأثير.

 

والقصة في "المسند" (38/560)، وسنن أبي داود (2689)، وصحيح ابن حبان (12/424)، والعديد من كتب السنة مع بعض الاختصار.

 

فانظر إلى ما في القصة من تعليم أبي أيوب رضي الله عنه للجيش، وتوجيهه للقائد، واستجابة القائد وتفاعله.

 

وروى الإمام أحمد في "مسنده" (38/486،485) عن أبي عبد الرحمن الحبلى[3]، قال: كنا في البحر، وعلينا عبد الله بن قيس الفزاري[4]، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فمر بصاحب المقاسم وقد أقام السبي، فإذا امرأة تبكي، فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: فرقوا بينها وبين ولدها، قال: فأخذ بيد ولدها حتى وضعه في يدها، فانطلق صاحب المقاسم إلى عبد الله بن قيس، فأخبره، فأرسل إلى أبي أيوب، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: "من فَرَّق بين والدة وولدها فَرَّق الله بينه وبين الأحبة يوم القيامة".

 

وأخرجه الترمذي في "جامعه" (4/134) من غير القصة، وقال: وفي الباب عن علي، وهذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صل الله عليه وسلم وغيرهم، كرهوا التفريق بين السبي، بين الوالدة وولدها، وبين الولد والوالد، وبين الأخوة،انتهى.[5]

 

وقد كانت وفاة أبي أيوب رضي الله عنه في غزوة القسطنطينية التي غزاها مع يزيد بن معاوية.

 

فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (38/539) عن أبي ظبيان، قال: غزا أبو أيوب الروم، فمرض، فلما حضر قال: أنا إذا مت فاحملوني، فإذا صاففتم العدو فادفنونى تحت أقدامكم، وسأحدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لولا حالى هذا ما حدثتكموه، سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: "من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة".

 

ورواه عن أبي ظبيان أيضًا (38/565) من طريق آخر بلفظ "غزا أبو أيوب مع يزيد بن معاوية، قال: فقال: إذا أنا مت، فأدخلونى أرض العدو، فادفنونى تحت أقدامكم حيث تلقون العدو، ثم ذكر الحديث.

 

وروى ابن سعد في "الطبقات" (3/485) عن محمد بن سيرين قال: شهد أبو أيوب بدرًا، ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا هو في أخرى، إلا عامًا واحدًا؛ فإنه اسْتُعْمل على الجيش رجل شاب، فقعد ذلك العام، فجعل بعد ذلك العام يتلهف، ويقول: ما عليَّ من استعمل علي، وما علي من استعمل علي، وما علي من استعمل علي، قال: فمرض وعلى الجيش يزيد بن معاوية، فأتاه يعوده، فقال: حاجتك، قال: نعم، حاجتي إذا أنا مت، فاركب بي، ثم سُغ بي في أرض العدو ما وجدت مَساغًا، فإذا لم تجد مساغًا فادفني، ثم ارجع، فلما مات ركب به، ثم سار به في أرض العدو وما وجد مساغًا، ثم دفنه، ثم رجع.

 

قال: وكان أبو أيوب رحمة الله عليه يقول: قال الله تعالى: ﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ [التوبة: 41] لا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلًا.

 

وروى أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/189،188) عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما قتل عثمان، واختلف الناس، لم تكن للناس غازية، ولا صائفة، حتى اجتمعت الأمة على معاوية سنة أربعين، وسموها سنة الجماعة.

 

قال سعيد بن عبد العزيز: فأغزا معاوية الصوائف، وشتاهم بأرض الروم ست عشرة صائفةً، تصيف بها وتشتو، ثم تقفل وتدخل معقبتها، ثم أغزاهم معاوية ابنه يزيد في سنة خمس وخمسين في جماعة من أصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم في البر والبحر حتى جاز بهم الخليج، وقاتلوا أهل القسطنطينية على بابها، ثم قفل.

 

قال أبو زرعة: فدلنا خبر سعيد بن عبد العزيز هذا: أن أبا أيوب الأنصاري مات سنة خمس وخمسين بالقسطنطينية.

 

ثم روى عن أبي ظبيان، قال: أوصى أبو أيوب الأنصاري وهو على حصار القسطنطينية أن يدفن إلى جانب حائطها، قال: فقربناه منها، ثم دفناه تحت أقدامنا.

 

وروى ابن عائذ، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (16/62) عن أبي سعيد المعيطي وغيره أن أهل القسطنطينية قالوا ليزيد ومن معه: ما هذا؟ ننبشه غدًا، قال يزيد: ذا صاحب نبينا صل الله عليه وسلم، أوصى بهذا لئلا يكون أحد من المجاهدين ومن مات في سبيل الله أقرب إليكم منه، لئن فعلتم لأُنزلن كل جيش بأرض العرب، ولأهدمن كل كنيسة، قالوا: إنما أردنا أن نعرف مكانه منكم، لنُكرمَنَّه لصحبته ومكانه.

 

ولم يختلف العلماء والمؤرخون في وفاته في الغزو في أرض الروم، ودفنه عند سور القسطنطينية رضي الله عنه، وإنما اختلفوا في سنة الوفاة، وأكثرهم على أنه توفي سنة اثنتين وخمسين.

 

2- ومنهم: فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه صاحب رسول الله صل الله عليه وسلم، شهد أحدًا وما بعدها من المشاهد، وهو من أهل بيعة الرضوان، ولي قضاء دمشق بوصية من أبي الدرداء رضي الله عنه، وولي الغزو  لمعاوية رضي الله عنهما، وكان ينوب عن معاوية في الإمرة إذا غاب عن دمشق.

 

وقد مر معنا عند الحديث عن أبي أيوب رضي الله عنه أنه كان أميرًا على أهل الشام - وفي رواية على الجماعة كلها - في إحدى غزوات القسطنطينية.

 

وقيل: إن فضالة رضي الله عنه قد شتا بأرض الروم سنة تسع وأربعين. كذا ذكره خليفة في تاريخه (ص49).

وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق (48/300،299) عن الليث أن فضالة رضي الله عنه قد غزا في سنة خمسين بصحبة يزيد بن شجرة، وابن قحذم، والحصين بن نمير.

 

وروى ابن عائذ في الصوائف، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/300) عن الوليد بن مسلم، عن شيخ له اسمه زيد قال: وفي سنة إحدى وخمسين غزا فضالة بن عبيد الأنصاري الشاتية.

 

وروى البيهقي في "شعب الإيمان" (4/51) عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني القاسم أبو عبد الرحمن، قال: غزونا مع فضالة بن عبيد - و لم يَغْزُ فضالة بن عبيد في البر غيرها - فبينا نحن نسير - أو نسرع في السير - و هو أمير الجيش، وكانت الولاة إذ ذاك يستمعون ممن استرعاهم الله عليه، فقال له قائل: يا أيها الأمير، إن الناس قد تقطعوا، قف حتى يلحقوك، فوقف في مَرْج عليه قلعة فيها حصن، فمنا الواقف، و منا النازل، إذا نحن برجل ذي شوارب حُمر بين أظهرنا، فأتينا به فضالة، فقلنا: إن هذا هبط من الحصن بلا عهد و لا عقد، فسأله فضالة ما شأنه؟ فقال: إني البارحة أكلت الخنزير، و شربت الخمر، فبينا أنا نائم أتاني رجلان غسلا بطني، و جاءتني امرأتان لا تفضل أحداهما على الأخرى، فقالتا: أسلم، فأنا مسلم، فما كانت كلمة أسرع من أن رمينا، فأقبل يهوي حتى أصابه، فدق عنقه، فقال فضالة: الله أكبر، عمل قليلًا، و أُجر كثيرًا، صلوا على صاحبكم، فصلينا ثم دفناه، قال القاسم: هذا شيء أنا رأيته.

 

قال البيهقي رحمه الله تعالى: و قد وقع من أمثال هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، و قال في ذلك ما قال فضالة بن عبيد رضي الله عنه، وكأنه أخذه عن النبي صل الله عليه وسلم،انتهى.

 

ثم روى ما أخرجاه في الصحيحين من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صل الله عليه وسلم رجل متقنع في الحديد، فقال: يا رسول الله، أقاتل أو أسلم، فقال: "لا، بل أسلم، ثم قاتل" فأسلم، فقاتل، ثم قُتل، فقال: "هذا عمل قليلًا، وأُجِر كثيرًا". وهذا لفظ البيهقي، وهو مطابق للفظ البخاري عدا حروف يسيرة.

 

وقد كان لفضالة رضي الله عنه مشاركة في جبهات أخرى؛ فقد روى ابن عساكر (48/296) عن الحافظ ابن يونس صاحب تاريخ مصر أن فضالة رضي الله عنه شهد فتح مصر، وولي بها القضاء والبحر لمعاوية بن أبي سفيان.

 

قال ابن يونس: وقد كان غزا المغرب مع رويفع بن ثابت.

 

وقد مر في حديث أبي أيوب رضي الله عنه إمرة عقبة بن عامر على أهل مصر في غزوة القسطنطينية، وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في البداية والنهاية (8/36) أن يزيد بن معاوية حين غزا القسطنطينية كان معه ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، ولم أقف على روايات مسندة تبين مشاركة العبادلة الثلاثة المذكورين في تلك الغزوة رغم شيوع ذلك، وإنما ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق في صدر ترجمة عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أنه قدم دمشق لغزو القسطنطينية أيام معاوية، ولم يُسنده في الترجمة، والله أعلم.

 

ــــــــــــــــــ

[1] وفي رواية أبي داود غزونا من المدينة نريد القسطنطينية والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة، وفي رواية النسائي: كنا بالقسطنطينية.

[2] وفي رواية أبي داود: وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وليس فيها ذكر لعقبة بن عامر رضي الله عنه، وفي رواية النسائي: وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد، في حين اقتصرت رواية ابن حبان على ذكر إمارته على أهل مصر في تلك الغزوة دون التعرض لذكر الأمير العام للجيش. وقد روى ابن عائذ في الصوائف، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (34/329) عن أبي عمران التجيبي، قال: غزونا القسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فجمع بينهما.
وروى ابن عساكر (34/329،328) عن الليث بن سعد رحمه الله أن عقبة بن عامر وعبد الرحمن بن خالد غزيا معًا رودس سنة سبع وأربعين، ولا يبعد أن يكون غزو رودس ضمن حملة لغزو القسطنطينية، فقد كانت جزر البحر المتوسط الشرقية نقاط إنطلاق لغزو القسطنطينية.
وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد هو ابن سيف الله المسلول، وكان عظيم القدر في أهل الشام، وكان معاوية رضي الله عنه يستعمله على غزو الروم، وله معهم وقائع، وكان شريفًا ممدحًا، قال ابن مندة: له رؤية، ولأبيه صحبة، وقال أبو نعيم: أدرك النبي صل الله عليه وسلم ورآه، ولأبيه صحبة. انظر: تاريخ دمشق (34/328،325).
وقد تكون الغزوة المذكورة إحدى الغزوات التي غزاها عبد الرحمن بن خالد بن الوليد إبان إقامته بأرض الروم غازيا؛ فقد روى ابن عائذ، ومن طريقه ابن عساكر (34/330،329) عن الوليد بن مسلم، قال: سمعت سعيد بن عبد العزيز ـ أو غيره ـ يخبر أن معاوية شتى عبد الرحمن بن خالد سنتين في جيش مقيم بأرض الروم، يدخل عليه القواد سنة سنة، يصيف ويشتو عنده، لم يغفل عنه حتى مات عبد الرحمن بأرض الروم.
وقوله: حتى مات عبد الرحمن بأرض الروم فيه نظر؛ لأن المشهور أن عبد الرحمن بن خالد عاد إلى حمص، وقتله رجل نصراني يدعى ابن أثال، دس له مملوكًا سقاه شربة مسمومة، فقتله خالد بن عبد الرحمن.
وقد ذكر خليفة بن خياط في تاريخه (ص49) أن عبد الرحمن شتا بأرض الروم سنة أربع وأربعين وخمس وأربعين.
[3] هو عبدالله بن يزيد المعافري المصري، تابعي ثقة. انظر: تهذيب التهذيب (6/74).
[4] عبد الله بن قيس الفزاري: ولاه معاوية رضي الله عنه غزو البحر. انظر: تاريخ دمشق (32/118ـ121).  وستأتي ترجمته في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
[5] ضَعَّف الحديث غير واحد من أهل العلم. انظر: بيان الوهم والإيهام لابن القطان (3/521)، والمحرر في الحديث لابن عبد الهادي (1/478)، وتنقيح التحقيق له أيضًا (2/585-587)، والبدر المنير لابن الملقن (6/520،519)، والتلخيص الحبير لابن حجر (3/43،42)، والدراية في تخريج أحاديث الهداية له أيضًا (2/153،152)، والمقاصد الحسنة للسخاوي (ص661،660).

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70237
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية   دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Emptyالجمعة 13 ديسمبر 2019, 4:14 pm

عد أن ذكرنا في الحلقة السابقة نماذج من مشاركة كبار الصحابة رضي الله عنهم في حركة الفتوح في جبهة الشام في العصر الأموي، نعرض في هذه الحلقة بإذن الله تعالى لنماذج من مشاركة بعض صغار الصحابة رضي الله عنهم في فتوح تلك الجبهة.
 
ومن صغار الصحابة الذين كان لهم دور كبير في ذلك:
1- مالك بن عبد الله الخثعمي، أبو حكيم الفلسطيني رضي الله عنه، المعروف بمالك السرايا؛ لكثرة غزوه. ذكره خليفة بن خياط[1]، والبخاري[2]، والطبراني[3]، وابن قانع[4]، وابن منده[5]، وأبو نعيم[6]، وابن عبد البر[7]، وابن الأثير في الصحابة[8]، وأخرج أحمد حديثه في المسند[9].[10]
 
قاد الصوائف أربعين سنة أيام معاوية رضي الله عنه، وقبلها، وأيام يزيد، وأيام عبد الملك بن مروان، ولما مات كُسِر على قبره أربعون لواء، لكل سنة غزاها لواء[11]، وكان صالحاً كثير الصلاة بالليل.
 
روى ابن عائذ في "الصوائف"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/473) عن الوليد بن مسلم، عن بعض أشياخه، أن مالكًا ولي الصوائف، حتى سماه المسلمون مالك الصوائف.
 
قال الوليد: حدثني ابن جابر، أن مالك بن عبد الله كان يلي الصوائف حتى عرفته الروم بذلك.
 
روى ابن المبارك في كتاب "الجهاد" (ص44) - ومن طريقه الطيالسي (ص243) في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه" (10/463) - وأحمد في "مسنده" (36/294) عن أبي المُصْبِح، قال: بينما نحن نسير بأرض الروم[12] في طائفة عليها مالك بن عبد الله الخثعمي، إذ مر مالك بجابر بن عبد الله رضي الله عنه[13] وهو يمشي يقود بغلًا له، فقال له مالك: أي أبا عبد الله! اركب، فقد حملك الله، فقال جابر: أُصلح دابتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله[14] حَرَّمه الله على النار[15]"[16] فأعجب مالكًا قوله، فسار، حتى إذا كان حيث يسمعه الصوت، ناداه بأعلى صوته: يا أبا عبد الله! اركب، فقد حملك الله، فعرف جابر الذي أراد برفع صوته، وقال: أُصلح دابتي، وأستغني عن قومي، وسمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حَرَّمه الله على النار" فوثب الناس عن دوابهم، فما رأينا يوما أكثر ماشيًا منه.
 
فانظر إلى اهتمامه رضي الله عنه بتعليم الجند، وتذكيرهم بتصفية النوايا.
 
وقد روى ابن أبي شيبة هذا الحديث في "المصنف" (5/310)، وأحمد في "مسنده" (36/295)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/2463) من طريق وكيع، عن محمد بن عبد الله الشعيثي، عن ليث بن المتوكل عن مالك، فذكره مرفوعًا، فجعله من مسند مالك بن عبد الله رضي الله عنه.
 
قال أبو نعيم: كذا قال وكيع. وقال صدقة بن خالد، والوليد بن مسلم: عن الشعيثي، عن المتوكل بن الليث.
 
ورواه الطبراني في "مسند الشاميين" (1/443) - وعن الطبراني رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/2463) - من طريق آخر عن أبي المصبح، عن مالك بن عبد الله الخثعمي، عن النبي صل الله عليه وسلم.
 
ورواه الدارمي في "مسنده" (2/266)، والطبراني في "الكبير" (19/297)، وأبو الفرج ابن المقرئ في "الأربعين في الجهاد" (ص81) من طريق عبد الرحمن بن شريح، قال: حدثني عبد الله بن سليمان ابن أبي زينب، أن مالك بن عبد الله الجهني مر على حبيب بن مسلمة - أو حبيب بن مسلمة مر على مالك - وهو يقود فرسه ويمشي، فقال له: ألا تركب إذ حملك الله؟ فقال: إن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار".
 
فالحديث على الشك من الراوي يحتمل أن يكون من مسند مالك بن عبد الله، أو حبيب بن مسلمة رضي الله عنهما.
 
قال الهيثمي في "المجمع" (5/521): عبد الله بن سليمان لم أعرفه، وبقية رجاله وُثِّقوا، انتهى.
 
والصحيح: أن الحديث من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو ما ذكرناه أولًا.
 
وقد جاءت روايات كثيرة تبين تورعه عن أموال المسلمين، وحفظه لحقوقهم، فمنها:
ما رواه ابن زنجويه في "الأموال" (2/723) عن عطية بن قيس، أن رجلًا نفقت دابته، فأتى مالك بن عبد الله الخثعمي وبين يديه بِرْذَون من المغنم، فقال: احملني أيها الأمير على هذا البِرْذَون، فقال: ما أستطيع حمله، فقال الرجل: إني لم أسألك حمله، وإنما سألتك أنا تحملني عليه، قال مالك: إنه من المغنم، والله يقول: ﴿ ومَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ ﴾ [آل عمران:161] فما أطيق حمله، ولكن سل جميع الجيش حظوظهم، فإن أعطوكها، فحظي لك معها[17].
 
ومنها ما رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/473) عن عياش بن عباس، عن رجل حدثهم، أنهم كانوا مع مالك بن عبد الله الخثعمي، فأصابوا قِدْر حديد عظيمة، فقيل له: لو جعلت هذه - أصلحك الله - للصناعة؟ قال: لا أجعلها للصناعة وفيها حظ اليتيم والأرملة والأعرابي، فأحلَّها الناس له، فقال: كيف بمن قد مات؟
 
ومنها ما رواه ابن عائذ في "الصوائف"، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/474، 473) عن نصر بن حبيب السلامي[18]، قال: كتب معاوية إلى مالك بن عبد الله الخثعمي، وعبد الله بن قيس الفزاري[19] يصطفيان له من الخُمُس، فأما عبد الله، فأنفذ كتابه، وأما مالك، فلم يُنْفِذه، فلما قدما على معاوية بدأه في الإذن، وفَضَّله في الجائزة - أي مالك - وقال له عبد الله: أنفذتُ كتابك، ولم يُنْفِذه، وبدأته في الإذن، وفَضَّلته في الجائزة، فقال: إن مالكًا عصاني، وأطاع الله، وإنك عصيت الله، وأطعتني.
 
فلما دخل عليه مالك، قال: ما منعك أن تُنْفِذ كتابي؟ قال: ما كان أقبح بك وبي أن نكون في زاوية من زوايا جهنم، تلعنني وألعنك، وتلومني وألومك، وتقول لي: هذا عملك، وأقول: هذا عملك.
 
ومن أمثلة حرصه على الجنود الذين استرعاه الله تعالى عليهم:
ما رواه ابن عائذ، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (56/474) عن عطية بن قيس، عن بعض من كان يلزم مالك بن عبد الله الخثعمي بأرض الروم، قال: أيقنته، فما وجدت منه ريحَ طِيب في شيء من أرض الروم، حتى أجاز الدَّرْب[20] قافلًا، فذكرت ذلك له، قال مالك: وحفظت مني؟ قال: نعم، قال: ما كان يسوغ لي أن أتطيب لما يهمني من أمر رعيتي، حتى سَلَّمهم الله، فلما سلمهم الله، وأَمِنْتُ تًطَيَّبْتُ.
 
وقد كان رضي الله عنه شديد البأس على الكفار في الغزو، عظيم النكاية والإثخان فيهم، حتى امتئلت قلوبهم رعبًا منه؛ فقد روى ابن عساكر (56/475) عن الأوزاعي، أن وفدًا للروم قدموا على معاوية، فأمر بهم أن يدخلوا على مالك بن عبد الله، فدخلوا عليه، فتناول صاحبهم ساعد مالك، كأنه يريد أن ينظر إلى ما بقي من قوته، فاجتذب مالك ساعده بقوته، قال: كيف تصنع إذا دخلت بلاد الروم؟ قال: أكون بمنزلة التاجر الذي يخرج فيلتمس، وليس له هم إلا رأس ماله، فإذا أحرزه، فما أصاب من شيء بعد فهو فضل. قال: فقال الرومي لأصحابه بالرومية: ويل للروم من هذا وأصحابه، ما كان فيهم من يرى هذا الرأي.
 
قال: وكان مالك يركب بغلًا بإكاف[21] وهو أمير الجيش، ويعتم على قَلَنْسُوة[22].
 
وليس من العجب أن نرى المواقف الكريمة، والأخلاق السامية التي قَدَّمنا ذكر بعضها ممن شَمَّر ساعده في عبادة الله تعالى، فأظمأ نهاره، ومنعه خوف الآخرة لذيذ الرقاد.
 
فقد روى يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/221)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (6/92) عن علي بن أبي حَمَلة[23]، قال: ما ضرب الناقوس قط ببلد - قال: وكانوا يضربون بنصف الليل - إلا وقد جمع مالك - يعني ابن عبد الله الخثعمي - ثيابه عليه، ودخل مسجد بيته يصلي.
 
وروى ابن عساكر في (56/476) عن رجاء بن أبي سلمة، قال: أُحْصِي صيام مالك بن عبد الله الخثعمي، فوجدوه ستين سنة.
 
هذه صور من سيرة رجل جعل حياته وقفًا لله تعالى، ونحسب أن الله تعالى قد جعله من عباده المخلصين؛ فقد روى الدينوري في "المجالسة" (ص497) عن رجاء بن أبي سلمة، عن حسان مولى بني مالك، قال: رأيت مالك بن عبد الله الخثعمي يتوضأ، وكان في ساقه مكتوب: (لله) فجعلت أنظر إليه، فقال لي: إيش تنظر، أما إنه لم يكتبه كاتب.
 
وروى ابن عائذ في "الصوائف"، ومن طريقه ابن عساكر (56/477) عن محمد بن شعيب أن مولى لمالك بن عبد الله دخل الحمام معه، وأنه نظر إلى كتاب في فخذ مالك (مالك عدة لله) قال: فلما رآني أجمح نحوه، قال: ما تنظره، والله ما كتبه بشر.[24]
 
قال الحافظ ابن عبد البر في "الاستيعاب": ولمالك بن عبد الله الخثعمي فضائل جَمَّة عند أهل الشام يروونها، يطول ذكرها.
 
2- ومنهم: معاذ بن أنس الجُهَني[25] الأنصاري رضي الله عنه، نزل مصر والشام، قاله ابن يونس[26].
 
أخرج الإمام أحمد في "مسنده" (24/405)، والبغوي في "معجم الصحابة" (5/282)، وأبو يعلى في "المفاريد" (ص23) من طريق فروة بن مجاهد اللخمي، عن سهل بن معاذ الجهني[27]، عن أبيه، قال: نزلنا على حصن سنان بأرض الروم مع عبد الله بن عبد الملك[28]، فضَيَّق الناس المنازل، وقطعوا الطريق، فقال معاذ: أيها الناس! إنا غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة كذا وكذا، فضَيَّق الناس الطريق، فبعث النبي صل الله عليه وسلم مناديًا، فنادى: "من ضَيَّق منزلًا أو قطع طريقًا، فلا جهاد له".
 
وطَرَفه عند البغوي وأبي يعلى: غزوت مع أبي الصائفة في زمن عبد الملك بن مروان، وعليها عبد الله بن عبد الملك، ثم ذكره.
 
وقد أخرج الحديث أبو داود في "سننه" (2/345) مقتصرًا على رواية الحديث دون ذكر سبب روايته.
 
قال الألباني في "صحيح أبي داود" (7/398، 397): حسن صحيح.
 
وقد روى البلاذري في "فتوح البلدان" (1/195) عن الواقدي أن غزو عبد الله بن عبد الملك لحصن سنان، وفتحه إياه كان في سنة أربع وثمانين، بينما ذكر خليفة بن خياط في "تاريخه" (ص77) في أحداث سنة اثنتين وثمانين أن عبد الملك بن مروان قد فتح حصن سنان من أرض الروم من ناحية المصيصة، ولم يذكر أمير الغزوة الذي كان الفتح على يديه، وتبعه الذهبي في "تاريخ الإسلام" (6/17).
 
أما ابن عائذ، فقد روى ابن عساكر عنه في "تاريخ دمشق" (38/117) في ترجمة عبيد الله بن مروان بن الحكم، أخي عبد الملك بن مروان أن فتح حصن سنان كان سنة إحدى وثمانين، وأن إمرة الغزوة كانت لعبيد الله المذكور، والله أعلم.


ـــــــــــــــــــــــــ
[1] طبقات خليفة (ص196).
[2] التاريخ الكبير (7/303).
[3] المعجم الكبير (19/297، 296).
[4] معجم الصحابة لابن قانع (3/55).
[5] نقله الحافظ في الإصابة (5/731).
[6] معرفة الصحابة (5/2463).
[7] الاستيعاب (3/1354، 1353).
[8] أسد الغابة (4/256، 255).
[9] مسند الإمام أحمد (36/293-296) غير أن الإمام أحمد قد أخرج حديث مالك بن عبد الله الخزاعي الذي يروي عنه ابن أخته سليمان بن بشر الخزاعي في تخفيف الصلاة عقب حديث الخثعمي في فضل تغبير القدم في سبيل الله، دون إفراده عن حديث الخثعمي، وهذا - إن صح - يفيد كونهما واحدًا عند الإمام أحمد، ولكن مسند مالك الخثعمي في إطراف المسند المعتلي بأطراف المسند الحنبلي لابن حجر (5/249، 248) مستقل عن مسند مالك الخزاعي، وكذا فرق بينهما الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة (2/227 - 229)، (2/232، 231) فالظاهر أن عدم إفراد مسند للخزاعي خطأ من النسخ المعتمد عليها في الطباعة.
ولم يفرق ابن منده بين الخثعمي والخزاعي، فقال عند الحديث عن الخثعمي: فرق البخاري بينه وبين الذي قبله ـ يعني مالك بن عبد الله الخزاعي - وتعقبه ابن الأثير، فقال: قول ابن منده: فرق البخاري بينه وبين مالك بن عبد الله الخزاعي يدل على أنه ظن أنهما واحد، ونقل التفرقة عن البخاري ليبرأ من عهدته، فإن ظنهما واحدًا فهو وهم، وهما اثنان، لا شبهة فيه، وأين خثعم من خزاعة؟ والخثعمي أشهر من أن يشتبه بغيره، وإنما اختلفوا في صحبته، لا غير،انتهى.
قلت: لقد نسب البخاري مالك بن عبد الله الذي يروي عنه سليمان بن بشر خثعميًا في موضعين من تاريخه (4/5) في ترجمة سليمان، (7/303) في ترجمة مالك، ثم أعاد الترجمة لمالك بن عبد الله الخثعمي (7/312) الذي يروي عنه أبو روح الحمصي، ولا يلزم من صنيع البخاري التفريق، بل العكس أقرب؛ لأن مالكًا خال سليمان ليس خثعميًا، وإنما هو خزاعي، ونحوه صنيع ابن حبان في موضع من الثقات حيث قال (4/313): سليمان بن بشر الخزاعي، يروى عن خاله مالك بن عبد الله الخثعمي، وله صحبة، غير أنه كان قد ترجم للخزاعي (3/377) وذكر أن له صحبة، وأن حديثه عند أهل الكوفة، وترجم للخثعمي (3/379) وذكر أن له صحبة،وأنه سكن الشام، وحديثه عند أهلها، ثم ذكر الخثعمي (5/385) في ثقات التابعين، وذكر أنه سكن فلسطين، وروى عنه أهلها، وأنه يروي عن جماعة من الصحابة. فالظاهر أنه لم يستقر على شيء في شأنه، فكرره في غير موضع، ولهذا نظائر في ثقات ابن حبان.
وقد ترجم الحافظ في الإصابة (5/730) لمالك بن عبد الله الخزاعي خال سليمان بن بشر الذي روى حديث التخفيف في الصلاة، وقال: ويقال: الخثعمي، ثم ترجم في الصفحة التي تليها لصاحب الصوائف رضي الله عنهما.
[10] وذكر البغوي في معجم الصحابة (5/226)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (56/466) صحبته بصيغة التمريض.وقال العجلي (2/261): شامي تابعي ثقة، ورجح الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/109) كونه من التابعين، واضطرب فيه قول ابن حبان فذكره في الصحابة، ثم أعاد ذكره في ثقات التابعين كما مر معنا، وكذا اختلف قول الحافظ ابن حجر فيه، فرجح صحبته في الإصابة (5/731)، ورجح عدم الصحبة في تعجيل المنفعة (2/227)، ولا شك أن تحريره للصحبة في الإصابة آكد.
[11] انظر: التاريخ الصغير (1/221)، وتاريخ دمشق (56/476،466)، وأسد الغابة (4/255)، وتاريخ الإسلام للذهبي (4/298)، وسير أعلام النبلاء (4/110،109)، ونقل الحافظ في تعجيل المنفعة (2/228) عن الأحوص بن المفضل الغلابي، قال: ولي الصائفة في زمن معاوية إلى زمن عبد الملك بن مروان، ولما مات كسروا على قبره أربعين لواء، وعزى الحافظ هذا القول في الإصابة (5/731) إلى عطية بن قيس.
[12] في رواية أحمد "بينا نسير في درب قَلَمية". وقَلَمية قال عنها ياقوت في معجم البلدان (4/392): بفتح أوله وثانيه، وسكون الميم، والياء خفيفة، كورة واسعة برأسها من بلاد الروم، قرب طرسوس.
[13] من الوجاهة بمكان أن يُستدل بهذه القصة على مشاركة جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه في الجهاد في عصر بني أمية، لا سيما وهو قد تأخرت وفاته رضي الله عنه إلى خلافة عبد الملك بن مروان، وهو آخر من مات من الصحابة بالمدينة، غير أن القصة تخلو من قرائن تفيد في معرفة زمان حدوثها، وقد علمنا أن مالكًا رضي الله عنه قد تولى قيادة الصوائف أربعين عامًا، وبعضها كانت قبل خلافة معاوية رضي الله عنه.
[size]
[14] وزاد في رواية أحمد "ساعة من نهار".
[15] عند أحمد "فهما حرام على النار".
[/size]
[16] روى البخاري في صحيحه من حديث عباية بن رفاعة، قال: أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة، فقال: سمعت النبي صل الله عليه وسلم يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار".
قال الحافظ ابن رجب الحنبلي في فتح الباري (5/437): وليس عن النبي في هذا الحديث ذكر المشي إلى الجمعة، إنما فيه فضل المشي في سبيل الله، فأدخل الراوي المشي إلى الجمعة في عموم السبيل، وجعله شاملًا له،
وللجهاد، والأظهر في إطلاق سبيل الله: الجهاد، وقد يؤخذ بعموم اللفظ، كما أذن النبي صل الله عليه وسلم لمن جعل بعيره في سبيل الله أن يحج عليه، وقال: "الحج من سبيل الله". وانظر: فتح الباري لابن حجر (6/29)، وفيض القدير للمناوي (6/99).
[17] قال ابن زنجويه: قال أبو عبيد: فهذا ليس له وجه عندي إذ جاءت هذه الكراهة، إلا أن يكون الأصناف الذين هم أهل الخُمُس كانوا يومئذ أحوج إليه من المقاتلة، فهذا حكم الخُمُس، أن النظر فيه إلى الإمام، وهو مفوض إليه على قدر ما يرى.
[18] الظاهر أن راوي القصة مجهول، فلم أقف على ترجمته، وقد قال ابن عساكر ـ وحسبك به في سعة الاطلاع ـ في ترجمته من تاريخ دمشق (62/18): نصر بن حبيب السلامي، أظنه بيروتيًا، حكى عنه محمد بن شعيب بن شابور حكاية تقدمت في ترجمة مالك بن عبد الله الخثعمي،انتهى. ولم يزد على ذلك. وليس في القصة ـ إن صحت ـ مستند لغمز معاوية رضي الله عنه، بل فيها منقبة له، تظهر بأدنى تأمل.
[19] عبد الله بن قيس الفزاري: ولاه معاوية رضي الله عنه غزو البحر، وافتتح جزيرة صقلية، وروى ابن عساكر من طريق يعقوب بن سفيان ـ ولم أجده في المطبوع ـ عن الليث بن سعد، قال: في سنة ست وخمسين غزوة عابس بن سعيد، ومالك بن عبد الله الخثعمي، وذلك بعد قتل عبد الله بن قيس،انتهى. وقيل: إنه شتا الروم في سنة سبع وخمسين، والله أعلم. انظر: تاريخ دمشق (32/118-121).
[20] إذا أُطلق لفظ الدرب في غزو الروم، فإنما يراد به ما بين طرسوس وبلاد الروم؛ لأنه مضيق كالدرب، وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Space

وأيقن أنا لاحقان بقيصرا دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Space

فقلت له لا تبك عينك إنما دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Space

نحاول ملكا أو نموت فنعذرا دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Space
وانظر: معجم البلدان (2/447).
[21] الإكاف: هو البرذعة التي تُشَدُّ على الحمار والبغل. انظر: المعجم الوسيط (1/22).
[22] القلنسوة: لباس للرأس مختلف الأنواع والأشكال. انظر: المعجم الوسيط (2/475).
[23] شامي تابعي ثقة، ولي دار الضرب بدمشق لعمر بن عبد العزيز. انظر:تهذيب التهذيب (7/277،276).
[24] قال ابن حبان في الثقات (5/385) عن مالك الخثعمي: مات، فوجد على ساقه مكتوب: (لله) بخط بين الجلد واللحم.
[25] من جهينة الأنصار وهم حلفاء وأصلهم من جهينة بن زيد.
[26] الإصابة لابن حجر (6/136).
[27] سهل بن معاذ مختلف فيه، فمن الأئمة من يُضَعِّفه، ومنهم من يُقَوِّي شأنه، أو يُمَشِّي حاله، ومن العلماء من يرى أن الضعف في مروياته من قبل زبان بن فائد، وجُلُّ مروياته من طريقه، وزبان منكر الحديث مع صلاحه وزهده وورعه، ولكن الحديث المذكور أعلاه كما ترى من رواية فروة بن مجاهد اللخمي عنه، وقد وثقه ابن حبان، ونقل البخاري ثناء الأئمة عليه من جهة العدالة، ولم يضعفه أحد، وستأتي بعض أخباره قريبًا إن شاء الله؛ لكونه ممن شارك في الجهاد في جبهة الشام، وأسره الروم. انظر تراجم الثلاثة المذكورين في: تهذيب التهذيب (3/265)، (4/227)، (8/238).
[28] هو عبد الله بن عبد الملك بن مروان، غزا الروم مرات، وولاه أبوه على مصر بعد وفاة عبد العزيز بن مروان، وتوفي سنة مائة رحمه الله تعالى. انظر تاريخ دمشق (29/343 - 353).



الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70237
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية   دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Emptyالجمعة 13 ديسمبر 2019, 4:16 pm

أبو مسلم الخولاني رحمه الله تعالى:
هو التابعي الكبير، والمُخَضْرَم[b][1] الجليل، الزاهد العابد، عبد الله بن ثُوَب على الأصح والأشهر[2]، أبو مسلم[3]، الخَوْلانِي، الدَّاراني، قارئ أهل الشام، أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يَرَه[4]، حيث أتى المدينة وقد قُبِض النبي صل الله عليه وسلم، واسْتُخْلِف أبو بكر رضي الله عنه، وأصل أبي مسلم رحمه الله تعالى من اليمن، ونزل داريا[5] من أرض الشام.[/b]

وكان رحمه الله تعالى مُجاب الدعوة، كثير الفضائل، وروى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" من طرق عدة قصته مع الأسود العنسي؛ فقد ألقاه عدو الله في نار عظيمة، فأنجاه الله تعالى كما أنجى الخليل عليه السلام من النار التي ألقاه النمروذ فيها، وأخباره في هذا الباب كثيرة مشهورة في كتب التراجم، ومصنفات الزُّهد، وتآليف الاعتقاد.

قال النووي رحمه الله تعالى في "شرح مسلم" (7/132): وهو مشهور بالزهد، والكرامات الظاهرة، والمحاسن الباهرة، أسلم في زمن النبي صل الله عليه وسلم، وألقاه الأسود العنسى في النار، فلم يحترق، فتركه.[b][6][/b]

وقد روى عن جماعة من الصحابة، منهم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، رضي الله عنهم، وروى عنه جماعة من أئمة التابعين، منهم: أبو إدريس الخولاني، ومكحول، وعطاء الخراساني، وعطاء بن أبي رباح المكي، وضمرة بن حبيب، وأبو قلابة الجرمي، وأبو العالية الرياحي، رحمهم الله تعالى.

حِرْصُه على المُسارعة للغَزْو وتَقَدُّم الصفوف وتَيَمُّن الوُلاة به:
وروى ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/230،229): عن شرحبيل بن مسلم، أن أبا مسلم الخولاني أقبل من جنازة، فلَقِيَ رُفْقَته يريدون الصَّائفة، فقال لبعض من معه: اذهب، فمُر الغلام أن يَلْحَقني بفرسي، وبَغْلي؛ فإن هذا وجهًا إن شاء الله، قيل له: لو أتيت أهلك، ثم خرجت؟ قال: ما أنا بفاعل، كراهية أن يسبقه أحد بالخروج، وكان أبو مسلم إذا دخل أرض الروم لا يزال في المُقَدِّمة حتى يؤذن للناس، فإذا أُذِن لهم كان في السَّاقة[b][7]، وكانت الولاة يَتَيَمَّنون بأبي مسلم، فيؤمِّرونه على المقدمات.[/b]

من مواعظه للغزاة:
روى القاضي عبد الوهاب الخَوْلاني في "تاريخ داريا" (ص61،60) عن ضُمرة بن حبيب، قال: خرج أبو مسلم الخولاني يومًا في أرض الروم، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، ذهب العبيد والأُجَراء بالأجر، يستقون الماء، ويعجنون، ويخبزون، ويحشون، ويحتطبون.

اجتهاده في العبادة حال الغزو:
روى القاضي عبد الجبار الخولاني في "تاريخ داريا" (ص61)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (27/207) عن عطية بن قيس، قال: دخل أُناسٌ من أهل دمشق على أبي مسلم وهو غازٍ في أرض الروم، وقد احتفر جورة[b][8] في فسطاطه، وجعل فيها نَطْعًا[9] وأفرغ فيها الماء، وهو يَتَصَلَّق[10] فيه، فقالوا: ما حملك على الصيام وأنت مسافر، وقد أُرْخِص لك في الفِطْر في الغَزْو والسَّفَر؟ فقال: لو حَضَر قتالٌ لأفطرت، ولتَهَيَّأت له وتَقَوَّيْت، إن الخَيْل لا تجري إلى الغايات وهي بُدُن[11]، إنها تجرى وهي ضُمُر[12]، ألا وإن أمامنا باقية كائنة[13] لها نعمل.[/b]

وقد أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/127) من طريق عبد الله بن أحمد، عن أبيه، والظاهر أنه في الزهد، لكن لم أجده في المطبوع منه، والله أعلم.

وسأذكر تتمة أخبار أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى في الغزو في الحلقة السادسة بإذن الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المُخَضْرَمون من التابعين: هم الذين أدركوا الجاهلية، وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلموا، ولم يروا النبي صل الله عليه وسلم، فلم يحشرهم العلماء لذلك في زمرة الصحابة الكرام على القول الصحيح. انظر: التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح للحافظ العراقي (ص322-324)،والشذا الفَيَّاح من علوم ابن الصلاح للأبناسي (2/525-530)، والغاية في شرح الهداية للسخاوي (ص239-241) .

[2] اخْتُلِف في اسمه على عدة أقوال، انظرها في: تاريخ دمشق (27/190)، وشرح النووي على مسلم (7/132). وقد ذكر القاضي عبد الجبار الخولاني في تاريخ داريا (ص59) اسمه كاملًا، فقال: أبو مسلم الخولاني: اسمه عبد الله بن ثوب - وقد قيل: عبد الله بن ثواب - ابن عبد الله بن رُحب بن عمرو بن خولان.
[3] وقد غَلَبَت عليه كُنْيَتُه ونِسْبَتُه.
[4] وقيل: كان مولده يوم حُنَيْن، وصححه أبو نعيم في معرفة الصحابة (3/1604). قال الحافظ ابن عساكر (27/197): هذا وهم؛ فإن الذي مولده يوم حنين أبو إدريس،انتهى. وأبو إدريس الخولاني من تلاميذ أبي مسلم، والرواة عنه. وقد روى البخاري في تاريخه الصغير (1/157)، والكبير (5/59) عن أبي قلابة الجرمي، وأبو نعيم في حلية الأولياء (2/125) عن القاسم، أن أبا مسلم تأخر إسلامه إلى عهد معاوية رضي الله عنه، واعتمد بعض العلماء ذلك القول، منهم ابن حبان في الثقات (5/18)، والسمعاني في الأنساب (2/419) والظاهر أن عبارته فيه مأخوذة من كلام ابن حبان رحمهما الله تعالى.
وقد عَقَّب أبو نعيم على تلك الرواية بقوله: كذا رواه "أسلم على عهد معاوية" ولكن هاجر إلى الأرض المقدسة في أيام معاوية، وسكنها. قال الحافظ ابن عساكر عقيب روايته الرواية المذكورة من طريق أبي نعيم، ونقله لقوله: والحديث وهم، والمحفوظ أن أبا مسلم الخولاني تَقَدَّم إسلامه، والذي أَخَّر إسلامه أبو مسلم الجليلي، فسأله أبو مسلم الخولاني عن سبب تأخر إسلامه، فذكر معنى ما في هذا الحديث، وكان إسلام أبي مسلم الجليلي في خلافة عمر، وسيأتي الرواية بذلك في ترجمته في باب الكنى،انتهى.
وقال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم (7/132): جاء مهاجرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتُوفى النبي صل الله عليه وسلم وهو في الطريق، فجاء إلى المدينة، فلقي أبا بكر الصديق، وعمر، وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم. هذا هو الصواب المعروف، ولا خلاف فيه بين العلماء. وأما قول السمعانى في الأنساب: إنه أسلم في زمن معاوية، فغَلَط باتفاق أهل العلم من المحدثين، وأصحاب التواريخ، والمغازي والسير، وغيرهم، والله أعلم،انتهى. وقوله: (هذا هو الصواب المعروف) صحيح، وأما حكايته اتفاق المحدثين والمؤرخين وأصحاب المغازي والسير عليه، فلا تستقيم مع ما قَدَّمْنا ذكره من الروايات والأقوال المخالفة، وأضرابها، والله أعلم.
[5] قرية كبيرة مشهورة من قرى دمشق كما في معجم البلدان (2/432،431)، وصَنَّف القاضي عبد الجبار الخولاني كتابًا في تاريخها على طريقة المحدثين، وكذا صَنَّف مُفْتي دمشق، عبد الرحمن العمادي، الحنفي، الدمشقي كتابًا فيمن دُفن بها، وكلاهما مطبوع. وقد ذكر السمعاني في الأنساب (2/419) أن أكثر قبيلة خَوْلان قد نزل الشام.
[6] قال الذهبي في العِبَر (1/49): وله مَناقب غزيرة، وكرامات، ويُقال: إن الأسود العنسي أمر بنار عظيمة، وألقى أبا مسلم فيها، فلم تَضُرُّه، فنفاه؛ لئلا يضطرب عليه أتباعه، وهذا ما رواه أحدٌ إلا شرحبيل بن مسلم، ولا رواه عنه إلا إسماعيل بن عياش، وهو خَبَر مُرْسَل،انتهى.
وقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: ما رواه أحد إلا شُرحبيل بن مُسلم، ولا رواه عنه إلا إسماعيل بن عياش ليس بصحيح، فقد رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي مسلم من تاريخ دمشق (27/199) من طريق هشام ابن عمار، نا الوليد - وهو ابن مسلم - أخبرني سعيد بن بشير، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، أن رجلًا من خَوْلان أسلم، فأراده قومه على الكفر، فألقوه في نار، فلم تحرق منه إلا أمكنة لم تكن فيما مضى يُصيبها الوضوء، فقدم على أبي بكر، فقال له: استغفر لي، قال: أنت أحق، قال أبو بكر: إنك أُلْقِيت في النار، فلم تحترق، فاستغفر له، ثم خرج إلى الشام، فكانوا يُشبهونه بإبراهيم،انتهى. وقد بدأ الحافظ ابن عساكر بهذا الإسناد والسياق قبل سرد الأسانيد إلى إسماعيل بن عياش، عن شرحبيل بن مسلم.
ولكن سعيد بن بشير قد تكلم فيه الحُفَّاظ كثيرًا من جهة ضَبْطه، وجعفر بن أبي وحشية لم يُدْرك القصة، ولا هو مذكور في الرواة عن أبي مسلم الخولاني في تاريخ دمشق، ولا تهذيب الكمال، فالإسناد لا يصلح لتعضيد الآخر، والله أعلم.
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (6/299): وهذه الرواية بهذه الزيادة تُحَقِّق أنه إنما نال ذلك ببركة متابعته الشريعة المحمدية المطهرة المقدسة، كما جاء في حديث الشفاعة: "وحرم الله على النار أن تأكل مواضع السجود"انتهى.
[7] هذا من مآثره العظيمة رحمه الله تعالى؛ فمن المعلوم أن أخطر المواضع في حال الغزو مقدمة الجيش، وفي حال الإياب مؤخرته، فقد كان حريصًا على التَّعَرُّض للشهادة، وتحصيل الأجر في حال الذهاب والإياب، ورضي لنفسه أن يكون دِرْعًا لمن خلفه من المسلمين في حال الإيغال، وغطاء لهم في حال القُفُول.
[8] كذا بالأصل، وابن عساكر، ولعلها مُصَحَّفَة عن حُفْرة، وهذا الأخير هو المثبت في حلية الأولياء، فإن كانت غير مُصَحَّفة، فالظاهر أن المراد بها حُفرة بها ماء عميق كثير؛ فإني بحثت كثيرًا في معاجم اللغة عن معنى يوافق سياق الكلام، فلم أجد أقرب من قولهم: الجَوار: الماء الكثير القَعير، أي بعيد القَعْر، ولكن هذا في الجَوار، لا الجورة، فالله أعلم.
[9] هو بساط من الجلد، وفيه أربع لغات: نَطْعٌ، ونَطَعٌ، ونِطْعٌ، ونِطَعٌ. انظر: تاج العروس للزبيدي (22/262،261).
[10] تَقَلَّب، وتَلَوَّى على جَنْبيه، وكذلك كل مُتَألِّم إذا تَلَوَّى على جَنْبَيْه، وتَمَرَّغ. انظر: المعجم الوسيط (1/521)، وتاج العروس (26/38-40).
[11] أي بَدينة ممتلئة الجسم. انظر: المعجم الوسيط (1/44)، وتاج العروس (34/237).
[12] أي قليلة اللحم، والمقصود أنها تكون رشيقة، خفيفة الحركة. انظر: المعجم الوسيط (1/543)، وتاج العروس (12/401).
[13] وقع في المطبوع من ابن عساكر (جائية)، والمقصود على كلا الوجهين الإشارة إلى الآخرة.






تتمة أخبار أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى في الغزو

[size]
حِرْصُه على سلامة المسلمين:
روى القاضي عبدالوهاب الخولاني في (تاريخ داريا ص60) عن عطية بن قيس، أن أبا مسلم كان ينادي عند لقاء العدو: اللهم احْقِنْ عَلَيَّ دماء الأُجَراء.


وثمة أخبار أخرى تُبَيِّن حِرْصَه على سلامة أصحابه الغُزاة، وتُظْهِر ما صاحب ذلك من خوارق العادات التي أكرمه الله تعالى بها.


ذكر شيء مما وقع له من الكرامات أثناء الغزو:
أأخرج أبو داود في (الزهد: ص387،386)، وأبو نعيم في (معرفة الصحابة: 3/1604)، و(حلية الأولياء: 5/121)، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 5/212،211) عن محمد ابن زياد الألهاني، عن أبي مسلم الخولاني: أنه كان إذا غزا أرض الروم، فمَرُّوا بنَهْر، قال: أجيزوا بسم الله، قال: ويمر بين أيديهم، قال: فيمُرُّون بالنهر الغَمْر[b][1]، فربما لم تبلغ من الدَّواب إلا إلى الرُّكَب، أو بعض ذلك، أو قريب من ذلك، قال: فإذا جازوا، قال للناس: هل ذهب لكم شيء؟ فمَنْ ذهب له شيء، فأنا له ضامِن، قال: فألقى أحدهم مِخْلاته عَمْدًا، فلما جازوا، قال الرجل: مِخْلاتي وقعت في النهر، قال: اتبعني، فاتبعته، فإذا المِخْلاة قد تَعَلَّقت ببعض أعواد النهر، فقال له: خذها.[2]



وروى ابن أبي الدنيا في (مجابي الدعوة: ص113)، والبيهقي في (دلائل النبوة: 6/54)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/209،208) عن سليمان بن المغيرة، قال: انتهى أبو مسلم الخولاني إلى دجلة وهي ترمي بالخشب من مَدِّها[3]، فمشى على الماء، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: هل تفقدون شيئًا، فندعو الله تعالى؟
قال البيهقي: هذا إسناد صحيح.


ورواه أحمد في (الزهد: ص458)، ومن طريقه أبو نعيم في (حلية الأولياء: 5/120) عن سليمان ابن المغيرة، عن حُميد بن هلال، أو غيره، فذكره، هكذا على الشك في راوي القصة.


ورواه أبو داود في (الزهد: ص388،387) عن حُميد ـ بدون شك ـ أن أبا مسلم الخولاني أتى على دجلة وهي ترمى بالخشب من مَدِّها، فوقف عليها، ثم حمد الله، وأثنى عليه، وذكر مَسير بني إسرائيل في البحر، ثم نهز[4] دابته، فخاضت الماء، وتَبِعَه الناس حتى قطعوا، ثم قال: هل فقدتم من متاعكم شيئًا، فأدعو الله أن يرده عَلَيّ؟[5]


وما جاء في هذه الرواية من كون النهر المَعْبور هو دِجلة لا ينافي كون ذلك في الغزو؛ لأن دِجلة ينبع من مرتفعات جنوب شرق هضبة الأناضول، الواقعة في تركيا الآن، فبعض الأجزاء التي يمر بها كانت تقع في زمن بني أُمَيَّة داخل الأراضي الرُّومية، ولم يكن واقعًا بأكمله آنذاك في الأراضي الإسلامية، من مَنْبَعه إلى مَصَبِّه، والرواية التالية تشهد للرواية الأولى، وتُعَضِّد ما ذكرناه.


فقد روى اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 5/213،212) عن أشعث بن شعبة، قال: ثنا أبو عمر ـ أخو أبي ـ قال: كنا في جيش، وفيهم أبو مسلم الخولاني، فانتهيت إلى نهر عَجَّاج[6]، فسألنا أهل القرية: أين المَخَاضَة[7]؟ فقالوا: والله ما كان هاهنا مَخَاضَة قَطّ، وإن المَخَاضَة أسفل منكم بمِيلَيْن، فقال أبو مسلم: اللهم إنك أنت الذي أَجَزْتَ بني إسرائيل في البحر، وإنا عبيدك، وفي سبيلك، فأَجِزْنا اليوم في هذا النهر، ثم قال: اعبروا بسم الله، قال: فقال أبو عمر: وأنا على فرس فاره[8] قال: فقلت: لأكونن أول من يُقْحِم فَرَسَه على أَثَر أبي مسلم، قال: فخُضْتُ خلفه، فلم يبلغ الماءُ بطونَ الخَيْل حتى عبرنا، ثم وقف، فقال: أيها الناس! هل سقط من أحد منكم شيء؛ كيما أدعو الله أن يَرُدَّه؟ فلم يفقدوا شيئًا.


ورواه ابن عساكر في (تاريخ دمشق: 27/211) عن حميد بن هلال العدوي، قال: حدثني ابن عيسى - أخي أبي - قال: خرجت مع أبي مسلم في جيش، فذكره، وفيه أنه كان أول الناس خَوْضًا بعد أبي مسلم، فالله أعلم بالصواب


حَمْلُه لهموم المسلمين وتَشَوُّفه لأخبارهم واستبشاره بسلامتهم:
روى القاضي عبد الجبار الخولاني في (تاريخ داريا: ص62،61)، ومن طريقه ابن عساكر في (تاريخ دمشق: 27/218) عن سعيد بن عبد العزيز، أن أبا مسلم استبطأ خبر جيش كان بأرض الروم، فبينا هو على ذلك الحال، إذ دخل طائر، فوقع، فقال: أنا أرزبابيل[9] المَلَك، مُسَلِّي الحُزْن عن قلوب بني آدم، وأخبره خبر ذلك الجيش، فقال له أبو مسلم: ما جئت حتى استبطأتك.


ورواه عبد الله بن أحمد في (زوائد الزهد: ص468) وِجادة عن أبيه، بإسناد فيه انقطاع وجهالة، عن بعض مشيخة أهل دمشق، أن أبا مسلم الخولاني كان بأرض الروم، فبعث الوالي سَرِيَّة، ووَقَّت لهم وقتًا، قال: فابطأوا عن الوقت، فأَهَمَّ أبو مسلم إبطاؤهم، فبينا هو يتوضأ على شاطىء نهر، وهو يُحَدِّث نفسه بأمرهم، إذ وقع غُراب على شجرة، فقال: يا أبا مسلم! أهمت بأمر السَّرِيَّة، فقال: أجل، فقال: لا تهتم؛ فإنهم قد غَنِموا، وسَلِموا، وهم عندك في وقت كذا وكذا، فقال له أبو مسلم: مَنْ أنت يرحمك الله؟ فقال: أنا أرتائيل ـ كذا ـ مُفْرِح قلوب المؤمنين، قال: فجاء القوم في الوقت الذي ذكره، على ما ذكره.


ورواه ابن عساكر في (تاريخ دمشق: 27/218،217) من طرق، عن سعيد بن عبد العزيز بنحو رواية عبد الله بن أحمد.


ذكر وفاته في الغزو وبيان وصيته الدَّالَّة على عِظَم مكانة الجهاد من الأعمال عنده:
روى يعقوب بن سفيان في (المعرفة والتاريخ: 2 / 478)، ومن طريقه ابن عساكر (27/230) عن سعيد بن عبد العزيز، قال: تُوفي أبو مسلم الخولاني بأرض الروم بحَمَّة بُسر في خلافة معاوية، وقال لبُسْر بن أرطاة: أَمّرْني على من مات معك من المسلمين، واعْقِد لي لواء عليهم، واجعل قبري أقصى القبور إلى العدو؛ فإني أرجو أن آتي يوم القيامة بلوائهم.[11]


فانظر لشدة رغبة هذا العابد القانت في أن يُبْعَث على هذه الحال.


وروى أبو زُرعة الدمشقي في (تاريخه: ص64) الفقرة الأولى منه، دون وصية أبي مسلم لبُسْر.


ورواه ابن عساكر أيضًا (27/231،230) من طريق ابن عائذ صاحب الصوائف، وغيره، وعند ابن عائذ أن تلك الغزوة كانت في الشتاء.


وقيل: إنها كانت سنة أربع وأربعين، وقيل: إحدى وخمسين.


عِظَم المصيبة بوفاة أبي مسلم رحمه الله تعالى:
روى أبو زرعة الدمشقي في (تاريخه: ص65)، ومن طريقه ابن عساكر (27/232) عن سعيد ابن هانىء، قال: قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: إنما المصيبة، كل المصيبة لموت أبي مسلم الخولاني، وكريب بن سيف الأنصاري.[12]


ثم رواه ابن عساكر (27/233،232) من طريق آخر عن سعيد بن هانئ، وفيه قصة تُبَيِّن سبب قول معاوية لما تقدم ذكره.


قال سعيد: تُوفي ابن لعُتْبة بن أبي سفيان، فقام ناسٌ إلى معاوية، فقالوا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته، أَعْظَم الله أَجْرَك في ابن أخيك، وجعل ثوابك من مُصيبتك به الجنة، فأسكت عنهم، فردوا عليه الكلام، فقال: إن موت غلام من آل أبي سفيان، قبضه الله إلى جنته وكرامته ليس بمصيبة، إن المصيبة كل المصيبة على مثل أبي مسلم الخولاني، وكريب بن سيف الأزدي.


تحرير ما وقع من اختلاف حول وفاته رحمه الله تعالى:
روى البخاري في (التاريخ الصغير: 1/156)، و(الكبير: 5/59) عن أبي مُسْهِر - وهو شيخ الشام وحافظها ومن أعلم الناس بالشاميين - قال: توفى عبد الله بن ثُوَب، أبو مسلم الخَوْلاني زَمَن معاوية قبل بُسْر بن أرطاة.


وروى في (الصغير: 1/164) عن أبي حفص الفَلَّاس أنه توفي في زمن يزيد، وبه قال ابن سعد في (الطبقات: 7/448).
وأبو حفص، وابن سعد بَصْريان، وأبو مُسْهر أعلم منهما بأمر الشاميين.


وبنحو قول الفَلَّاس وابن سعد قال المُفَضَّل بن غَسَّان الغَلابي البصري - وهو حافظ مؤرخ - فقد روى ابن عساكر عنه (27/233) أنه قال: وفي سنة اثنتين وستين - وهي واقعة في زمن يزيد - مات علقمة - أي ابن قيس - وأبو مسلم الخولاني[13].


قال ابن عساكر: هذا وهم، بل مات قبل ذلك.


ـــــ
[1] الغَمْر من الماء: هو الكثير، الذي يعلو من يَدْخله، ويُغَطِّيه، خلاف الضَّحْل. انظر: المعجم الوسيط (2/661).


[2] قال مُحَقِّق الزهد لأبي داود: رواته ثقات، غير أن محمد بن زياد روايته عن أبي مسلم مُرْسَلَة، وله مُتابِع من رواية حميد بن هلال، عن أبي مسلم الخولاني بمعناه، كما سيأتي في الأثر التالي،انتهى بتصرف. والأثر التالي هناك هو التالي هنا أيضًا، وسيأتي شاهد له كذلك.
[3] أي من كثرة مائها، وارتفاعه على شاطئ النهر. انظر: المعجم الوسيط (2/858)، وتاج العروس (9/155).
[4] وقع في العديد من المصادر، كتاريخ دمشق (27/210)، وسير أعلام النبلاء (4/11)، والبداية والنهاية (6/293) (لَهَز) واللَّهْز: هو الضَّرْب بجَمْع الكَفِّ في اللِّهْزِمَتَيْن ـ وهما تحت الحَنَك ـ والرقبة، أو في الصدر والحَنَك، ولَهَز البعير: وَسَمَه في لِهْزِمَته، لكن النَّهْز هو الأصوب؛ لأن النَّهْز: هو الدَّفْع، ويقال: نَهَز راحلته، أي حَفزها، ودفعها في المسير، ويقال: نَهَزَت الدَّابَّة، إذا نهضت بصَدْرها للسير. انظر المعجم الوسيط (2/842،841)، (2/958)، وتاج العروس(15/325)، (15/363) فالنَّهْز أقرب من اللَّهْز هنا كما ترى.
[5] قال مُحَقِّق الزهد: رواته ثقات.
[6] عَجَّ الماء يَعُجُّ عَجيجًا: صَوَّت، والعَجَّاجُ: الصَّيّاحُ من كل ذي صَوْت، ونهر عَجّاج: كثيرُ الماء، كأَنه يَعِجّ من كثرته، وصوت تَدَفُّقه. انظر: المُحْكَم لابن سيده (1/61)، والمُخَصَّص له (2/459)، وتاج العروس (6/92،91).
[7] المَخَاض، والمَخَاضَة من النهر الكبير: الموضع القليل الماء، الذي يعبر فيه الناسُ النهرَ مُشاة ورُكبانًا. انظر: المعجم الوسيط (1/262)، وتاج العروس (18/323،322).
[8] الفارِه: يُطلق على الحاذِق، وعلى النشيط، وعلى الذين يفرح أشَرًا وبَطَرًا، وعلى الحسن الجميل، وعلى الخفيف، ولا يُقال للفَرَس فاره، وإنما يُقال ذلك للبَغْل، والبِرْذَون، والحِمار، والكلب، ويقال للفرس: عتيق، وجواد، وكريم. انظر: المعجم الوسيط (2/686)، وتاج العروس (36/452ـ455).
[9] وقع في تاريخ دمشق (أرديائيل).
[10] كذا وقع في تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص64)، وتاريخ دمشق (27/230)، والعديد من المصادر الأخرى (بحَمَّة بُسْر)، ووقع في المعرفة والتاريخ (في حملة بُسْر)، وثمة معان عدة ذكرها اللغويون في مادة الحاء والميم لم أستطع التوفيق بينها وبين إضافة الحَمَّة إلى بُسْر. فإن كان المراد ببُسر هنا ـ وهو الظاهر ـ بُسْر بن أرطاة أمير الغزوة، فلعل المراد من هذا التعبير أن وفاة أبي مسلم كانت بحضور بُسْر؛ فإن العرب تقول: أَحَمَّتْ الحاجة: أي حَضَرَت، وأَحَمَّ الأمر: أي دنا، واحْتَمَّ: اهْتَمَّ.
وإن كان المراد به موضع من الأرض؛ فإن الحَمَّة: كل عَيْن ماء حارَّة، تنبع من الأرض، يُسْتَشْفَى بالاغتسال من مائها، كما في المعجم الوسيط (1/200) ، ومعجم البلدان (2/306)، وتاج العروس (32/5ـCool، وهناك قرية من أعمال حوران من أراضي دمشق تُسَمَّى (بُسْر) ولم أجد بعد البحث في المعاجم الجغرافية حَمَّة ـ عينًا للاستشفاء ـ فيها، مع ذكر الجغرافيين لكثير من هذه العيون، فضلًا عن كون وفاة أبي مسلم قد وقعت بأرض الروم كما في الأثر نفسه، وقرية بُسْر ليست من أرض الروم، فالله أعلم.
[11] قال الحافظ ابن عساكر (27/232،231) عقب روايته للآثار التي ذكرت وفاة أبي مسلم بأرض الروم: وقد وردت حكاية توهم أن موته كان بدمشق، ثم أسند الحكاية من طريق عبد الله بن أحمد في الزهد، عن أبيه وجادة، ثم قال: وكانت وفاته بأرض الروم كما حكينا،انتهى. وقد زعم العمادي في كتابه [الروضة الريا فيمن دفن بداريا] (ص66) أن قبر أبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى مشهور بداريا، فالله أعلم.
[12] من تأمَّل مَواعظ أبي مسلم رحمه الله تعالى لمعاوية رضي الله عنه، وتأمَّل معها شدة حُزْن معاوية رضي الله عنه بوفاته، عَلِم إنصاف هذا الصحابي الجليل، وحِرْصَه على مصالح المسلمين، وحِلْمَه على الناصحين له، وحُسن تقييمه للرجال.
[13] ذكرالذهبي وفاة أبي مسلم وعلقمة بن قيس في وفيات عام اثنتين وستين من العبر (1/49)، وتاريخ الإسلام (5/22)، فكأنه أخذ ذلك من قول المفضل الغلابي، واختار ابن قُنْفِذ في وفياته (ص97) أنه توفي بعد سنة ستين في أيام يزيد بن معاوية.
[/b][/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
ابراهيم الشنطي
Admin
ابراهيم الشنطي


عدد المساهمات : 70237
تاريخ التسجيل : 28/01/2013
العمر : 77
الموقع : الاردن

دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Empty
مُساهمةموضوع: رد: دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية   دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية Emptyالجمعة 13 ديسمبر 2019, 4:17 pm

التابعي الجليل ابن مُحَيْرِيز:
هو عبد الله بن مُحَيْرِيز، أبو مُحَيْرِيز، الجُمَحَي، المكي، ثم المقدسي، العابد الزاهد، كان يتيمًا فى حجر أبي محذورة الجمحي رضي الله عنه، نزل الشام، وسكن بيت المقدس.
 
مَنْزِلَتُه عند السَّلَف الصَّالح:
روى يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/192)، وأبو زُرعة الدمشقي في تاريخه (ص142) عن رَجاء بن حَيْوَة رحمه الله تعالى أنه قال: إن يفخر علينا أهل المدينة بعابدهم: عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فإنا نفخر عليهم بعابدنا: عبد الله بن مُحَيْريز.
 
وروى يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (2/213)، وأبو زُرعة الدمشقي في تاريخه (ص142) عن رجاء أيضًا أنه قال: أتانا نَعْي ابن عمر ونحن في مجلس ابن مُحَيْرِيز، فقال ابن مُحَيْرِيز: والله، إن كنت لأَعُدُّ بقاء ابن عمر أمانًا لأهل الأرض، فقال رجاء بن حيوة بعد نَعْي ابن مُحَيْرِيز: وأنا والله، لقد كنت أَعُدُّ بقاء ابن مُحَيْرِيز أمانًا لأهل الأرض.
 
وقال حافظ دمشق في زمانه، عبد الرحمن بن إبراهيم، المُلَقَّب بدُحَيْم: كان الأوزاعي لا يذكر خمسة من السلف إلا ذكر فيهم ابن مُحَيْريز.[1]
 
وكان دُحَيْم رحمه الله تعالى يُقَدِّم ابن مُحَيْرِيز على خالد بن مَعْدان، وغيره، وكان أجَلَّ أهل الشام عنده بعد أبي إدريس الخولاني وطبقته.[2]
 
وأقوال الأئمة في الثناء عليه، وبيان إمامته كثيرة جدًا، رحمه الله تعالى.
 
حِرْصُه على الحِراسة في سبيل الله تعالى والحَثِّ عليها:
روى ابن المبارك في الجهاد (ص148)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص465)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (5/144) عن الأوزاعي، قال: حدثني من سمع ابن مُحَيْرِيز، قال: من حَرَس ليلة في سبيل الله عَزَّ وجَلَّ، كان له من كل إنسان ودابَّة، قيراط قيراط.[3]
 
اجتهاده في العبادة حال الغزو[4]:
روى الفَسَوي في المعرفة والتاريخ (2/214،213)، وأبو نعيم[5] في حلية الأولياء (5/141) عن عبد الله بن عوف القارئ[6]، قال: لقد رأيتنا برُودِس[7]، ما في الجيش أحدٌ أكثر صلاة من ابن مُحَيْرِيز ـ يعني في العلانية ـ ورجل مقطوع من أهل مكة، قال: ثم رأيت ابن مُحَيْرِيز قد قَصر عن ذلك حين شُهِر وعُرِف.
 
قَبَسٌ من فِقْهه ودِقَّة نَظَره رحمه الله تعالى:
روى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص466)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (5/144) عن رجاء بن أبي سَلَمَة، قال: كان ابن مُحَيْرِيز إذا غزا، كان أَعْجَب النفقة إليه في عَلَف الدَّواب.[8]
 
اسْتِنْصاح الصالحين في حال الغَزْو:
روى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص464، 465) عن عمر بن عبد الملك، قال: صَحِب ابنَ مُحَيْرِيز رجلٌ بالسَّاقة بأرض الروم، فلما أراد أن يُفارقه، قال له ابن مُحَيْرِيز: أَوْصِني، قال: إن استطعت أن تَعْرِف، ولا تُعْرَف، فافعل، وإن استطعت أن تَسْأَل، ولا تُسْأَل، فافعل، وإن استطعت أن تَمْشِي، ولا يُمْشَى إليك، فافعل.
 
فمن حَرص على طلب الوصية من ذوي الصلاح في الغزو والغُرْبة، يحرص عليها فيما دون ذلك من أوقات الرَّخاء من باب أولى.
 
مُشاركته في غَزْو القسطنطينية:
روى الطبري في تفسيره (7/24) عن يحيى بن أبي عمرو السَّيْباني[9]، قال: كنا بالقسطنطينية أيام مَسْلَمة بن عبد الملك[10]، وفينا ابن مُحَيْرِيز وابن الدَّيْلَمي، وهانئ بن كُلْثوم، قال: فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان، ثم ذكر بقية الأثر.[11]
 
جهاده باللسان[12]:
كان رحمه الله تعالى صادعًا بالحق، معتزلًا مجالس الأمراء إلا من النصيحة، مجافيًا لهداياهم وصِلاتهم.
 
روى عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص466،465)، ومن طريقه أبو نُعَيْم في حِلْية الأولياء (5/140) عن أيوب بن سُوَيْد الرَّمْلِي، قال: حدثنا أبو زُرْعة[13] أن عبد الملك بن مروان بعث إلى ابن مُحَيْرِيز بجارية، فترك ابن مُحَيْرِيز منزله، فلم يكن يدخله، فقيل له: يا أمير المؤمنين، تَغَيَّب ابن مُحَيْرِيز عن منزله، قال: ولِمَ؟ قالوا: من أجل الجارية التي بعثت بها إليه، قال: فبعث عبد الملك، فأخذها.
 
روى أبو زُرْعة الدمشقي في تاريخه (ص142،141)، ومن طريقه أبو نعيم في حلية الأولياء (5/145،144) عن خالد بن دُرَيْك قال: كانت في ابن مُحَيْرِيز خَصْلَتان، ما كانتا في أحد ممن أدركت من هذه الأمة: كان أبعد الناس أن يسكت عن حق بعد أن يتبين له حتى يتكلم فيه، غضب فيه من غضب، ورضي من رضي، وكان من أحرص الناس أن يكتم من نفسه أحسن ما عنده.[14]
 
روى البيهقي في شُعب الإيمان (9/503،502)، ومن طريقه ـ وطريق آخر ـ ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/21) عن ابن مُحَيْرِيز، قال: من جلس على الوسائد، وجب عليه النصيحة.[15]
 
روى الفَسَوي في المعرفة والتاريخ (2/213)، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد (ص465)، وابن عساكر(33/21) عن رَجاء بن أبي سَلَمَة، قال: كان ابن مُحَيْرِيز يجيء بالكتاب[16] إلى عبد الملك ـ أي ابن مروان ـ فيه النصيحة، فيُقْرِئه إياه، ثم لا يُقِرِّه في يده[17].
 
روى ابن سَعْد في الطبقات الكبرى (7/447) عن عبد الله بن جعفر، قال: لَقِيَ ابن مُحَيْرِيز قَبِيصة بن ذُؤَيْب، فقال: يا أبا إسحاق، عَطَّلْتُم الثُّغُور، وأَغْزَيْتُم الجيوش إلى الحَرَم، وإلى مُصْعَب ابن الزُّبَيْر، فقال له قَبِيصة: احذر من لسانك، فوالله ما فعل، فأرسل إليه عبد الملك، فأتي به مُتَقَنِّعًا، فأُوقِف بين يديه، فقال: ما كلمةٌ قُلْتَها يَغِصُّ لها ما بين الفُرات إلى العَريش ـ يعني عريش مصر ـ ثم ألان له، فقال: الْزَم الصَّمْت؛ فإن من رَأْيِي: البَقِيَّةُ في قُريش، والحِلْمُ عنها، قال: فرأى ابن مُحَيْرِيز أنه قد غَنِم نَفْسَه يومئذ.
 
روى الفَسَوي في المعرفة والتاريخ (2/213)،ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/22) عن رجاء بن أبي سَلَمَة، قال: قال عبد الملك بن مروان لابن مُحَيْرِيز: ما بالُ الحَجَّاج ـ أي ابن يوسف الثَّقَفِي ـ كتب يشكوك؟ قال: لقد ذكرت فيه قولًا، ما أحب أني لم أَقُلْه.
 
قال رجاء: وقال عبد الملك يومًا وابن مُحَيْرِيز جالس يسأله[18] أهل العراق عَزْل الحَجَّاج، فقال ابن مُحَيْرِيز: ما سألوه إلا يسيرًا.
 
روى الفَسَوي في المعرفة والتاريخ (2/214) عن علي بن أبي حَمَلَة، قال: لم يكن أحدٌ بالشام يستطيع أن يَعيب الحَجَّاج عَلانية[19]، إلا ابن مُحَيْرِيز، وأبو الأبيض العَنْسي، فقال الوليد بن عبد الملك لأبي الأبيض: ما للحجاج كتب يشكوك؟ لتنتهين، أو لأبعثنك إليه.
 
وفاته في طريق الغَزْو وحِرْصُه على أجر الغُدُو والرَّواح في سبيل الله تعالى:
روى ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/23) عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مُحَيْرِيز، قال: لما ثَقُلَ[20] أبي وهو سائرٌ يريد الصَّائفة، قال: قلت له: يا أَبَتِ! لو أَقَمْتَ، قال: أي بُنَيِّ! لا تَدَعْ أن تغدو بي، وتروح في سبيل الله، قال: فما زِلْتُ أغدو به، وأروح، حتى مات.[21]
 
وروى عنه (33/24،23) قال: مات أبي وهو غازٍ، قال: فهَمَّنِي مَنْ يَحْضُرُه، قال: فغَشِيَتْنِي جماعة من الناس كثيرة، فصلَّى معي عليه صُفوف، قال: جماعة كثيرة.
 
وروى (33/24) عن السَّيْباني، قال: كُنَّا نَمُرُّ بقَبْر ابن مُحَيْرِيز ونحن نريد الصَّائفة، وهو على الطريق.





[1] تاريخ أبي زرعة الدمشقي (ص305).
[2] المرجع السابق (ص306،305).
[3] لو صَحَّ الأثر؛ فإن مثله لا يُقال بالرأي، ولكن الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى لم يُسَمِّ شيخه الراوي عن ابن مُحَيْريز.
[4] لا يخفي مَسيس حاجة المجاهدين لقيام الليل، وذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، وعظيم أثر ذلك على إقبالهم على الشهادة، وثباتهم في أوقات الشدة، واحتدام القتال.
[5] أخرجه من طريق عبد الله بن أحمد، ولعله في زوائد الزهد، ولم أَرَه في المطبوع منه.
[6] تابعي شامي، رأى عثمان بن عفان، ومعاوية رضي الله عنهما، وكان عاملًا لعمر بن عبد العزيز على ديوان فلسطين. انظر: تاريخ دمشق (31/322ـ326).
[7] غزا عُقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد جزيرة رُودِس من جُزر البحر المتوسط سنة سبع وأربعين، ثم فتحها جُنادة بن أبي أمية على عهد معاوية رضي الله عنه سنة اثنتين وخمسين، وأنزلها معاوية قومًا من المسلمين، وأقام المسلمون برودس سبع سنين في حصن اتخذ لهم، فلما مات معاوية كتب يزيد بن معاوية إلى جنادة، يأمره بهدم الحصن والرجوع، وكان معاوية يرسل طائفة عقب أخرى إليها، فكان الجند يتعاقبون إليها، وقد كانت جزر البحر المتوسط الشرقية نقاط إنطلاق لغزو القسطنطينية من جهة خليجها ،وكان مجاهد بن جبر مقيمًا برودس يُقْرِئ الناس القرآن. انظر: فتوح البلدان (1/279،278)، ومعجم البلدان (3/78)،والروض المعطار (ص278).
[8] يدل هذا الأثر على اعتنائه رحمه الله تعالى بواجب الوقت، وإدراكه للمعايير الشرعية للتقديم والتأخير، فقوة المراكب العسكرية وسلامتها حال الغَزْو من أولى مَصارِف النَّفَقات.
[9] هو ابن عم الإمام الأوزاعي، وكان ثقة. انظر ترجمته في: تهذيب التهذيب (11/229،228).
[10] غزا مسلمة بن عبد الملك القسطنطينية مرتين، إحداهما في خلافة أبيه، والأخرى في خلافة أخيه سليمان، وهي الغزوة الكبرى في تاريخ حملات المسلمين على هذه المدينة قبل فَتْحها؛ فقد غزاها جماعة أهل الشام والجزيرة في البَرِّ في نحو عشرين ومائة ألف، وغزا أهل مصر وإفريقية في البحر في ألف مركب، وأقسم سليمان بن عبد الملك أن يفتح القسطنطينية، أو تُؤَدَّي إليه الجِزْية، أو يموت دون ذلك، وظل مرابطًا بمَرْج دابِق ردءًا للجيش، حتى تُوفي بها، وحاصر المسلمون القسطنطينية ثلاثين شهرًا، ولم يعودوا إلا بعد أن تُوفي سليمان، واسْتُخْلِف عمر بن عبد العزيز، فأمر بعودة الجيش شَفَقَة عليهم، وألزم مَسْلَمَة طاغية الروم ببناء مسجد في قلب المدينة، ظل قائمًا بعدها لقرون عديدة، وتحدث عنه كثير من المؤرخين.
[11] ذكرالشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى في تعليقه على تفسير الطبري أنه لم يجد ترجمة لاثنين من رجال السند.
[12] تُظْهِر الآثار المذكورة هنا بجلاء: ما كان عليه السلف الصالح من صَدْع بالحق، ونصح للأمراء، في الوقت الذي كانوا يأمرون الناس بلُزوم طاعتهم، ويجاهدون تحت رايتهم، ما لم يروا كفرًا بواحًا عندهم من الله تعالى فيه بُرْهان.
[13] في هذه الطبقة غير واحد يحمل هذه الكُنْيَة، ومنهم غير واحد من الشام، ولكن أبا زرعة الذي يروي عن ابن مُحَيْرِيز، ويروي عنه أيوب بن سُويد هو يحيى بن أبي عمرو السيباني.
[14] وأخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (33/15) من طريق أبي زُرْعَة، وطريق آخر. وأخبار ابن مُحَيْرِيز رحمه الله تعالى الدَّالَّة على الخصلة الثانية كثيرة، لا يَسَع المقام لذكرها، وفيما مر من خبر غزوة رودس مثال على ذلك، وقد اقتصرت من أخبار المُتَرْجَمِين على ما يتعلق بموضوع السلسلة، ويخدم الغرض المراد منها، وربما ذكرت بعض الأخبار الدائرة في فلك الموضوع؛ لوثيق صلتها به.
[15] في لفظ الطريق الآخر: فقد وجبت عليه النصيحة لله عز وجل، ولرسوله صل الله عليه وسلم. والمقصود بالجلوس على الوسائد: الجلوس في مجالس الأمراء والسلاطين.
[16] في رواية ابن عساكر [بالصحيفة].
[17] في رواية ابن عساكر [فإذا فرغ منها أخذ الصحيفة].
[18] في ابن عساكر [سأله] على الماضي، ويبدو أن العبارة غير مستقيمة في المعرفة وتاريخ دمشق.
[19] كذا في ترجمة أبي الأبيض العنسي من تاريخ دمشق (66/Cool [علانية]، بينما كانت في الزهد [بمَلامَة] والمَلامَة واللَّائمة من اللَّوم، والمُثْبَت أقرب للمعنى المراد،والله أعلم.
وقد وقع الأثر في المطبوع من تاريخ دمشق مُعَلَّقًا بدون إسناد، فلعل ثمة سقط في أصله المخطوط. ويشهد لصحة ما وقع في تاريخ دمشق أن الحافظ المزي قد ذكر هذا الأثر في ترجمة أبي الأبيض من تهذيب الكمال (33/10) بلفظ: لم يكن بالشام أحدٌ يُظْهِر عَيْب الحجاج بن يوسف...إلخ، لكنه جعله من قول يحيى السيباني، لا علي بن أبي حملة.
[20] ثَقُلَ: اشْتَدَّ مَرَضُهُ. انظر: المعجم الوسيط (1/98)، وتاج العروس (28/158)، وفتح الباري (1/303).
[21] روى ابن عساكر هذا الأثر، والأثرين التاليين له من طريق ابن أبي خَيْثَمَة، ولم أجد أيًا من الآثار الثلاثة في المطبوع من تاريخ ابن أبي خيثمة، والمطبوع من الكتاب به نقص كما هو معلوم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shanti.jordanforum.net
 
دور العلماء في تشكيل الصحوة الإسلامية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» البروتستانتية الإسلامية و الجذور الماسونية للإحيائية الإسلامية
»  الآثار الإسلامية تاج محل: من عجائب العمارة الإسلامية
» تشكيل سرية الدبابات
» قصة تشكيل الجيش العربي عام 1927
» تشكيل حكومة جديدة في لبنان..

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى الشنطي :: موسوعة البحوث والدراسات :: بحوث دينيه-
انتقل الى: