الخلفاء الراشدون ودروسهم المستفادة
الدكتور محمد بن يعيش
أولا: شرط تلازم الاعتبار النفسي مع مقومات العتاد الحربي
قد تكون الخطط الحربية كافية لضمان النصر وحماية الثغور إلى حد ما، ولكنها ليست بالحاسم الرياضي والحساب العددي وربط الهندسة العسكرية بالمقومات اللوجستيكية كما يصطلح عليها .كما أن المواقع الإستراتيجية والتغطية الجوية الكافية والدفاعات البحرية والبرية ليست قمينة بأن تحدد مسار الحرب أو المعركة ومناولتها صفة الحتمية.وذلك لأن الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان قد يختلف كثيرا عن الذي يدور في عالم الحيوان،إذ أن هذا الأخير يحدد مسار المعركة بما لديه من قوة وما يتمتع به من وزن ثقيل مع توفر أدوات الفتك والتمزيق والدهس والتهشيم.وناذرا ما يكون الحيوان الضعيف بنية هو المنتصر ! اللهم إلا ما كان من مكر لسلب الفريسة من بين أنياب الضواري الكبار بالحيلة والمراوغة، وفرض حالة التشنج والاضطراب، لغاية الغفلة عما هو في المتناول وطرحه بغير شعور من أجل الانتقام ،فيضيع حينذاك منه ويخسر الرهان ،فلا هو احتفظ بفريسته ولا هو انتقم من عدوه .
يحدث هذا المشهد كثيرا بين الثعالب والذئاب في مواجهة الدببة وغيرها من الحيوانات المفترسة والشرسة.ولهذا فقد يعتبر الثعلب من بين أذكى الحيوانات الحربية وأسرعها وأضمنها لصيدها بمجرد المكر والخديعة ؛حتى قد يضرب به المثل في هذا المجال.وفي هذا يقول العرب:”رب حيلة أنفع من قبيلة”.
فمن بين أهم الممهدات لفرضية الانتصار ،كما سبق وذكرنا في مقال سابق ،قد يكون هو الاعتماد على الاستراتيجيات المتكافئة مع الاحتفاظ بالاحتياطي حينما يقع الخلل في الصفوف ويتعثر الزحف أمام عدو شرس ومتراص .ومن هنا فيكون على قواد الحروب أن يطوروا خططهم بحسب الظرف والمقتضى وما تفرزه الاستخبارات العسكرية من معطيات تضع القائد أمام الصورة الحقيقية لنمط المعركة واحتمالات سيرها.
وكنموذج عملي لهذا الإجراء نجد ما ورد حول “غزوة بدر الكبرى” حيث التفاوت في العدد والعدة والاختلاف الجوهري في المناورة والخطة.يقول الله تعالى” إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ،إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ،وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ”.
ومن هنا كان مخطط النبي سيدنا محمد صل الله عليه وسلم في الاستخبار عن عدد المحاربين في الطرف الآخر وتخمينه بحسب استهلاك الجزور فكان التقدير بين تسعمائة وألف كما ورد في السيرة.فلزم حينذاك اتخاذ أهبة الحرب بحسب المعطيات ومواقع النزال وما إلى ذلك.
فالعامل النفسي إذن قد كان حاسما وأساسيا في تحقيق هذا الانتصار بالرغم من عدم تكافؤ القوى والعدد والعدة.ويزيد القرآن تأكيدا لهذا العامل بقوله تعالى:” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ،وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ، وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ”.
فبقدر ما كان العزم من جهة كان الخذلان من الجهة الأخرى ،وبقدر ما كان الغرور من هذا الطرف كان المرور من الطرف الآخر ،وذلك لأن الغرور قد يؤدي إلى عدم الاكتراث ببعض الفجوات ونقاط الضعف في الصف أو المواقع فتكون تلك هي الفرصة لتسرب الآخر والعبور من جهتها وطعن القوة الكبرى من الخلف أو في العمق.
وفي هذا المضمار يقول ابن خلدون عن إستراتيجية الحرب وضرورة المواكبة لخطط الآخر :”وكان الحرب أول الإسلام كله زحفا .وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر .لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران :أحدهما أن عدوهم كانوا يقاتلون زحفا فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم ،الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر ،ولما رسخ فيهم من الإيمان ،والزحف إلى الاستماتة أقرب.”.
ثانيا:الرمز الوطني وسياسة التمهل في القرار الحربي
فيبقى أن عنصر العقيدة والهدف والغاية النبيلة هو المحرك الرئيسي للمحارب نحو تحقيق النصر والتضحية بنفسه ولا يبالي .وحينما تترسخ هذه العقيدة الحربية في نفس المحارب فقد يكون غير قابل للتراجع أو النكوص وإسقاط الراية ،المحفز الوطني والأممي بامتياز، كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه:”وأقيموا راياتكم ،فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم،واستعينوا بالصدق والصبر،فإنه بقدر الصبر ينزل النصر”.
نعم !بقدر الصبر ينزل النصر ،كما أن موضوع الراية هاته مهم جدا لترسيخه في نفس المواطن محاربا أم غيره ،إذ بقدر ما عظم الشخص راية بلده وأمته بقدر ما أدخل الرعب في عدوه المتربص به وبوطنه وجعله ييأس من التغرير به واستغلاله ضد مصلحته !لأنها رمز الوفاء والوحدة والتضحية والعزة ،وأكثر ما يظهر هذا الخلق في ساحة المعركة والاستماتة على رفع الراية عالية من غير إمالة كما قال علي بن أبي طالب وكما جسده الصحابة :مصعب بن عمير يوم أحد وزيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب في غزوة مؤتة حيث انتهى اللواء إلى خالد بن الوليد ولم يسقط أبدا.
وبالتوازي مع هذه الروح الوطنية العالية والشعور القوي بالانتماء ستكون العصبية والأواصر حاضرة في ترصيص الصفوف وتقوية العزائم التي قد تكون أقوى من الجيوش النظامية وخططها الحربية وزحفها الشامل ،كما يرى ابن خلدون.
ومع هذا فليست الحرب والنصر فيها هو الغاية ،وليس الإسراع في الهجوم والإصرار على المواجهة هو المطلب عند العقلاء وإنما قد تكون هي آخر الدواء شأنها شأن الكي بالنار !.
وهنا قد تختبر حكمة القائد وحنكته ووعيه السياسي والحربي بامتياز ،لأنه يكون أدرى بويلات الحروب ومآسيها ومضارها فلا يقدم عليها إلا مكرها وبجرعات،كما قد يتفادى بقدر الإمكان ما يعرف بالحرب الشاملة التي يهلك فيها البشر والمدر، وهذا ما نجد له سندا في هذه الوصية الغالية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي عبيد بن مسعود الثقفي:”اسمع وأطع من أصحاب النبي صل الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ،ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين،فإنها الحرب !!! ولا يصلح لها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف”.وقال له في أخرى كما يذكر ابن خلدون:”إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلا سرعته في الحرب.وفي التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع.والله لولا ذلك لأمرته.لكن الحرب لا يصلح لها إلا الرجل المكيث”.
فالأولوية والأفضلية للحمائم وليست للصقور في تقرير الضغط على زناد الحروب وإلا هلك الوطن والمواطن ومعه العدو أيضا، وترتبت عن هذا العداوات والأوبئة الفتاكة بفعل تكاثر الجياف والعفونات ومخلفات الحروب المدمرة التي يعاني من ويلاتها سكان البسيطة على شتى الأوجه والصور.
ثالثا:المؤثرات الغيبية و الإعلامية في النتائج الحربية
ومع كل المعطيات والاستعدادات فإن النصر في الحروب ليس ملكا للمحارب بكل ما يتوهمه من بسطة وسطوة وقوة وتخطيط ،وإنما هو يدخل في نظرية الاحتمالات وأن العدد الأصغر ربما يكون هو الفاعل في المعادلة أكثر من العدد الأكبر ،والزاوية الحادة قد تكون الأقوى من الزاوية المنفرجة أو القائمة في تحديد متانة البنيان !.
وعن هذا يقول ابن خلدون في عبقرية فكرية سياسية :”ولا وثوق في الحرب بالظفر وإن حصلت أسبابه من العدة والعديد ،وإنما الظفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق”.
وهذا ليس معناه العبثية أو المصادفة ولكنه يقصد بأن الحسابات قد تكون خاطئة حينما يستهان بقوة الآخر الذي يبدو ضعيفا ،لكنه مع وجود الحيل أو حدوث طوارئ مستجدة عند المعركة لا دخل للمخططين في تكريسها أو امتلاكها قد تكون الهزيمة من حيث لا يدرى.
وفي هذه النقطة يدرج التدخل الغيبي اللطيف المعنى ،وهذا من الأمر الإلهي الذي فيه من الحكمة ما لا يعلمه كثير من البشر كما يقول الله تعالى عن قوم يهود:” كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ”.
فليست الحروب جزافية وإبادية أو ملكية حتمية لمن يعلنها وإنما لها حدودها وقواعدها، ومن يتعداها تنقلب عليه رحاها كما يسجل التاريخ وتتكرر صوره.وهذا من أجل الحفاظ على التوازن واستمرار الشعوب التي هي من صنع إلهي وليست من فعل البشر ،كما يقول الله تعالى :” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”.و” غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ،بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ”.
كما أن من أـسباب الهزيمة هو اغترار بعض الدول بوسائل الإعلام المضخمة لمستوى قواتها وشدة قادتها فيكون هذا سببا لشراكها ومصيدتها.كما يقول ابن خلدون أيضا:”ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأن أسبابه خفية وغير طبيعية حال الشهرة والصيت…والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار ،والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل ،ويدخلها التعصب والتشيع،ويدخلها الأوهام ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال ،لخفائها بالتلبيس والتصنع أو لجهل الناقل…وكل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر…”.
فما أكثر هذه الأبواق التي كرست الهزائم في أمتنا ودفعت بالجيوش نحو الهاوية والخسارة النكراء بمجرد التشهير والتحفيز بغير ضوابط وتوقعات احتمال النصر والهزيمة !وما أغبى هذه الشعوب التي دمرت نفسها بنفسها وخرجت إلى غير رجعة نحو الضياع والنكوص بمجرد كذبة إعلامية ووهم مباع !وما أهون صبرنا عند الشدائد لضعف العصبية الموحدة وتخلخل مفهوم المواطنة الحقيقي في نفوسنا حتى صارت مؤسساتنا أهون من بيت العنكبوت ! فهل من واع غير كاع يعيد عقارب الساعة إلى وضعها الصحيح لتجديد الانطلاقة بثبات وهمة نحو النصر الصحيح؟:” وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ”.