فيلم «المنصة»… مسيح جديد يليق بعصر الرأسمالية
القاهرة ـ «القدس العربي»: في ظل عالم أصبح محكوماً من قِبل حفنة من أصحاب رؤوس الأموال، متمثلاً في شركات عابرة للقارات، تفوق قدرات الدول نفسها ــ انتفت فكرة سيطرة الدولة من خلال عقدها الاجتماعي المزعوم ــ تحولت فكرة القرية الصغيرة إلى السجن الكبير، وما المواطن أو المُستهلك بمعنى أدق، إلا فأر التجارب في هذا العالم، فلا أمل ولا مفر في خروجه عن النمط، إلا وفق مشيئة آلهة الأولمب الجدد. ومن يحاول أو يفكر في خلخلة هذا النظام، فمصيره معروف سلفاً. عن هذه المحاولة يدور الفيلم الإسباني «المنصة» أو «الحُفرة»، سيناريو ديفيد ديسولا وبيدرو ريفيرو، ومن إخراج جالدير جاستيلو.
الحكاية
يدور الفيلم في عالم مُرعب داخل سجن كبير، ليس كالمعتاد في السجون، ولكنه سجن يتكون من عدة طوابق ـ 333 طابقا ـ حيث يسكن كل طابق سجينان فقط، وبينهما (حُفرة) تهبط من خلالها مائدة للطعام من أعلى إلى أسفل، بحيث كل طابق في الأسفل يأكل ما تبقى من الطابق الذي يعلوه، ولنا أن نتخيل ما مصير الطبقات الدنيا، التي لا تجد ما تأكله، فيبدأ أفرادها في أكل بعضهم بعضا. فلا توجد ثقة في هذه المرحلة، فقط هي الجريمة. من بين هؤلاء يأتي شاب طوعاً إلى المكان، بهدف الحصول على إجازة علمية ـ دبلوم ـ بعد انتهاء فترة السجن، وهو بذلك يخالف البعض الذي جاء متهماً في قضايا أخرى، فزميله على سبيل المثال، رجل عجوز جاء في جريمة قتل، وبعد تخييره ما بين السجن والمصح النفسي، اختار هذا المكان، الذي ربما يخرج منه يوماً ما. من ناحية أخرى كانت الإدارة (النظام) تمارس شكلاً من أشكال الرحمة، بأن يختار كل سجين أو نزيل شيئاً واحداً فقط يُفضل أن يستبقيه معه، فاختار العجوز (سكيناً)، هذه السكين هي سبب مأساته، وقد لعبت بعقله إعلانات التلفزيون بإعلانها عن سكين حادة، فاشتراها، وبعدها بقليل تجمّع الناس أنفسهم، لشراء سكين أخرى، تعود حادة كما كانت كلما تم استخدامها، فما كان من العجوز الذي تورّط للمرّة الأولى، وأصبح كائناً شرائياً ـ كالجميع ـ تحت رحمة الميديا، إلا أن يُلقي بجهاز التلفزيون ـ المُحرّض الأول ـ من النافذة، فيسقط فوق رأس أحد المهاجرين ليرديه مكانه. ورغم المصادفة المجانية هذه، وتحوّل الرجل إلى قاتل، إلا أن القاتل هو ضحية بالأساس، وما القتيل سوى فئة أدنى، لم تؤذ الرجل في شيء، فما المخاليق في النهاية إلا ضحايا يقتات بعضهم على البعض الآخر، فكرة مجازية ستتحقق بالفعل في ما بعد في سجن الطوابق. الطبقات أو الفئات، أو ما شابه من التصنيفات الاقتصادية.
من ناحية أخرى يختار الشاب رواية «دون كيخوته». ومع بداية كل شهر تقوم الإدارة بنشر غاز يجعلهم يسقطون في غيبوبة، فيستيقظون ليجدوا أنفسهم في طابق آخر مختلف، ربما أعلى أو أدنى مما كانوا عليه، وفق تقدير وتقييم الإدارة ـ فكرة الأمل في الانتماء إلى فئة أعلى ـ وعلى ذلك تتكشف فظائع المكان.
تواتر النصوص
هذه الأجواء الكابوسية تتناص مع العديد من النصوص والأعمال التي تناولت نفسياً وسياسياً مسألة السلطة، وكيفية تعاملها مع الفرد، ولعل من أشهرها رواية «1984» لجورج أورويل، و«المحاكمة» لكافكا. كذلك استند الفيلم إلى العديد من الرموز والحكايات الأسطورية والدينية، كالمائدة التي تهبط من السماء، والمسيح المخلص، وفكرة الرسالة التي ربما تصل وتحدث تغييراً في بنية مجتمع الطبقات هذا، حتى لا يتورع العجوز بأن يصف الشاب عند محاولاته البحث عن حل عادل لتوزيع الطعام (الثروة) بأنه شيوعي. هذه الأجواء أيضاً تتماس وفيلم بازوليني الشهير «سالو»، الذي أظهر مدى قبح السلطة وأساليبها في تنميط الأفراد وإذعانهم لسياساتها.
المسيح يقرأ دون كيخوته
كان الكتاب الذي اختاره الشاب ليُشاركه رحلته داخل السجن هو رواية ثرفانتس «دون كيخوته»، هذه الدلالة الساخرة لهذا العمل الروائي، الذي يجسد بدوره رحلة رجل يحمل صفات فرسان العصور الوسطى، يحاول الدفاع عن مظاليم العالم، فلا يجد سوى السخرية. الحالة بالضبط التي يُعانيها البطل الشاب، فعن أي عدالة يتحدث! وما بين محاولات الإقناع وصولاً إلى حالة (التضامن العفوي) كما أطلقت هذا المفهوم موظفة سابقة في الإدارة وسجينة حالية، التي انتهى بها الأمر بأن تمنح جسدها للشاب يقتات عليه حتى لا يموت. من هنا يبدأ الشاب في أكل صفحات من ثرفانتس، فلا التفاوض ولا الإقناع سيجدي. من هنا لا يجد المسيح الجديد سوى تطبيق الأمر بالقوة ــ هنا يحضر نيتشه عدو المسيح ــ فلا تفاوض مع هؤلاء حتى يصوموا يوماً واحداً ليصل الطعام إلى باقي الأدوار السُفلى، فهم تعودوا ألا يأخذوا ما يحتاجون، بل ما يريدون، وهنا تكمن مأساة توزيع الثروة. وعلى غرار عبارات الإنجيل، التي يتفوّه بها المسيح الجديد ـ الفاعل لا الحالم ـ قائلاً، «مالك الثروة لن يسعد بامتلاكها بل بإنفاقها، ليس كما يشاء ولكن بالشكل الجيد».
الرسالة
يصل الشاب إلى الطابق السادس، وهو أفضل ما وصل إليه خلال رحلته هذه، يرافقه شاب أسود مفتول العضلات، ومن هنا تأتي فكرة التغيير، التي يراها لابد أن تكون من أعلى. هذا الطابق سيوفر له الهبوط ومنصة الطعام ليُقنع مسجوني باقي الأدوار بالامتناع عن الطعام لمدة يوم فقط، وبعدها يتم توزيع ما يحتاجونه بالفعل لا ما يريدون، فكانت القوة والقوة فقط. هنا يتقابل الشاب ومرافقه مع حكيم مُقعد، أشبه برجل عسكري عجوز. يتحدث عن رسالة لابد من إيصالها إلى آلهة الأولمب (أصحاب الثروة) بعد رحلة المنصة إلى العالم السُفلي ـ جحيم دانتي ـ والرسالة عبارة عن قطعة من الحلوى لم تُمس، فكرة تصدير الأمل في أن هناك في الأسفل بشرا يستحقون عالماً أفضل. ولكن.. هل ستتغيّر رؤية الإدارة أو النظام؟ هذا أمر متروك للوقت ومواصلة الرحلة بإصرار أكبر، دون الشاب الذي عليه إيصال هذه الرسالة فقط، فمن يصنع التغيير لن يحصل على النتائج، فقط الجيل الجديد ـ فكرة التضحية بالنفس، أو التكفير عن الخطايا كالقتل وما شابه مما ارتكبه أثناء رحلته ـ هذا الجيل الذي تمثل في طفلة وجدها الشاب مختبئة في الطابق الأخير، رغم التأكيد له بعدم وجود أطفال في هذا المكان. لكنه قدّم إليها الحلوى، فالرسالة هي الطفلة نفسها، التي صعدت بها المنصة سريعاً إلى الأدوار العليا، وصولاً إلى الطابق صفر، الذي تقيم فيه الآلهة.
ليست نهاية
ورغم الرؤية القاتمة التي يعالج من خلالها الفيلم فكرة الصراع مع السلطة، وإمكانية وجود حياة للأفراد العاديين، وتفتيت النظام القائم، الذي زاد العالم جوعاً وفقراً، إلا أنه من خلال هذه الرؤية وهذا الأسلوب البصري، يحاول البحث عن حل، ليــــس بطريقة مباشرة، ولكن من خلال شـــكل جمالي يحرّض على العنف، فلا حوار مع هؤلاء وقد صمّوا آذانهم، وما تحولات الشاب خلال رحلته إلا تأصيل لهذه الفكرة، فلا مكان للضعفاء، ولا مفر من الموت، فمت قوياً .. ربما.