فيلم «نومادلاند»: الترحال مقابل الرأسمالية
من الضروري أن تكون العودة إلى صالات السينما، بعد إغلاقات طويلة، بفيلم جيد بالحد
الأدنى وبرفع المعايير قليلاً، نقول بفيلم ممتاز، يكون ذلك هذا الفيلم الأمريكي للصينية كلووي
جاو، الفيلم الذي أُشير إليه مراراً خلال الأشهر الطويلة الماضية، لما ناله من جوائز
وتقييمات. نزل أخيراً، «نومادلاند» إلى الصالات الفرنسية، ليكون، كفيلم ممتاز حان وقته،
يَفتتح أحدنا به العودة إلى الصالات، بعد مشاهدات كثيرة وطويلة في المنزل، ليكون المثالَ
الأفضل، اليوم، لتأكيد ضرورة الصالة مقابل الصالون، ضرورة السينما مقابل التلفزيون.
يخرج أحدنا من الصالة بشعور مريح، أن الحياة لم تتغير، في ما يخص السينما على الأقل،
لذلك كان لا بد أن تكون العودة بفيلم كهذا. الفيلم الذي قامت فرانسيس ماكدورماند بالدور
الأساسي فيه، بأدائها المذهل دائماً، وقد حملته على كتفَيها، فالسياق يحوم حول شخصيتها
المتنقلة في عربتها (الفان) التي تسكنها، من بقعة إلى أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية،
الفيلمُ، إذن، يصور هذه الشخصية «فيرن» الامرأة المستقلة، الوحيدة، المتجولة، القوية،
وهي في كل ذلك، المواجِهة في أسلوب حياتها هذا، فيه وفي اضطرارها إليه، المواجِهة
لمجتمع رأسمالي كان مصب النقد الأول في فيلم كهذا.
في بدايات الفيلم، وفي مرحلة متقدمة منه، وهذه مشاهد تفصيلية تمرّ سريعاً، إنما ترمز
لعموم ما ينقله الفيلم:
تعمل فيرن في متجر «أمازون» في موسم عيد الميلاد، حيث تكثر الهدايا، وتحتاج الشركة
العملاقة إلى عاملين مؤقتين لتوضيب وتغليف المشتريات المتكاثرة، دون ضمان صحي ولا
حقوق الموظف، تستقطب «أمازون» فيرن وآخرين حسب حاجتها، ينتهي الموسم وتنتهي
الحاجة، من قبل شركة رأسمالية عالمية، إلى العاملين المياومين.
فتكمل فيرن بعدها بداوَتها، تجولَها، متنقلة بين عمل يدوي يومي وآخر،
إلى أن يعود موسم الأعياد وتعود حاجة «أمازون» لها لفترة محدودة.
طاقم الفيلم في حفل توزيع جوائز الأوسكار
هذا التفصيل يقدم لنا عموم العلاقة بين المجتمع الرأسمالي (النموذجي في رأسماليته) في
الولايات المتحدة، والعمال والفقراء.
فالطرف الأول ممثلاً بشركاته، يستدعي الطرف الثاني حسب حاجته إليه، ويتخلى عنه متى
نفدت الحاجة. هذا ما يسميه الماركسيون بـ«علاقات الإنتاج» التي تتيح للرأسمالية تمكين
ذاتها بالحدود الأدنى (إن كانت هنالك حدود) من الحقوق للعمال، ويكون ذلك باستهلاك اليد
العاملة، المهمشين وغير المحميين، بالقدر الذي يخدم هذا النظام الاقتصادي (والسياسي
والاجتماعي) الرأسمالي، فتنال الشركاتُ «القيمةَ المضافة» المُحصلة من جهد العمال
المعزولة حقوقهم عنهم، فيرن هنا من بينهم، وينال هؤلاء فتات أجور بالكاد تكفيهم،
كما هو الحال مع فيرن، لتسديد دَين تصليح عربتها.
ليس الفيلم رسالة عن حقوق العمال،
أو من شردتهم طبيعة المجتمع الرأسمالي، هو في النهاية فيلم سينما، بإنتاج هوليوودي
ضخم، وهو فيلم نال من ناحيةٍ «أوسكار» أفضل فيلم، ومن ناحية ثانية «الأسد الذهبي» في
مهرجان فينيسيا السينمائي، إضافة إلى جوائز أخرى.
هو إذن منتَج صناعي من ناحية، وفني من ناحية أخرى، لكنه، وبما ذكرتُه عن موضوعه
أعلاه، نقل بفنية عالية (تصويراً وتمثيلاً) معاناةَ جزء من المجتمع الأمريكي اختير لهم (ولم
يختاروا) النبذ عن مجتمع ليسوا منتجين فيه بالقدر والشكل الذي تريده لهم «علاقات
الإنتاج».
فكما تستدعي «أمازون» وغيرها، فيرن في مواسم الأعياد، متى تحتاجها كيدٍ عاملة رخيصة،
ثم تنهي العقد قصير الأمد معها لزوال الحاجة، فتتخلى عنها، ينبذ المجتمع الرأسمالي هذا،
فئات من المجتمع، يتخلى عنهم لعدم حاجته لهم، هي فئات عديدة من بينها فيرن وباقي
المتجولين الرحل الساكنين في عرباتهم، من خسروا بيوتهم ووظائفهم وضماناتهم الصحية
وبالتالي حقوق كل منهم كإنسان وكمواطن.
أذكر هنا مشهداً من الفيلم، Nomadland، تحاول فيه فيرن التقدم لطلب وظيفة في مكتب
خدمات حكومي، تُسأل فيه عما تود عمله فتقول «أي شيء» تقول إنها «تحب العمل»
وتريد أي وظيفة.
تعيش فيرن في عربتها، هو بيتها، تعمل هنا وهناك، وذلك مصدر رزقها،
تعيش دون عنوان بريدي، دون منزل.
تعيش على هامش مجتمع نبذها لأنها ببساطة، ليست منتجة بالقدر الكافي للرأسمالية،
بأن تراكم القيمة المضافة، تلك التي تتراكم وتجعل، مثلاً، جيف بيزوس،
مؤسس «أمازون» ومديرها التنفيذي، الرجل الأكثر ثراءً في العالم،
وللسنوات الأخيرة على التوالي.
https://www.youtube.com/watch?v=0ZrQZjVlXe8