رشيد رضا في دمشق 1920: دولة علمانية أم إسلامية؟
هذا العام 2020 يكون قد مرّ مئة عام بالتمام والكمال على إعلان المؤتمر السوري استقلال سوريا الكبرى، التي تضم، لبنان وفلسطين، ملكية دستورية وتتويج فيصل ملكاً عليها. يومها كان رشيد رضا في رحلة طويلة لبلاد الشام. وسجّل تفاصيل دقيقة عن تلك المرحلة.
بعد هجرة رشيد رضا من طرابلس الشام إلى مصر هرباً من الاستبداد الحميدي عام 1898، وإصداره مجلة «المنار» من القاهرة قام برحلتين إلى سوريا، الأولى بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908، والثانية كانت في مرحلة تاريخية صاخبة في سبتمبر/أيلول 1919، حيث كانت دمشق قد غيرت وجهها فنشأت الحكومة العربية، وحكم فيصل دمشق. وبحكم انغماسه بالشأن العام وجد رشيد رضا نفسه عضواً في المؤتمر السوري، الذي تأسس بعد رحيل العثمانيين، ثم رئيساً لهذا المؤتمر في 5 مايو/أيار 1920 بعد تشكيل وزارة هاشم بيك الأتاسي. سجل رشيد رضا تفاصيل رحلتيه في جريدة «المنار» على عدة حلقات بتاريخ لاحق. وقامت دار السويدي مشكورة بجمعها وإصدارها في كتاب مع بعض الملاحق.
توثق الرحلة الثانية بأحداثها ونقاشاتها والتطورات السياسية التي جرت خلالها، مرحلة فائقة الأهمية من تاريخ بلاد الشام. وأعتقد أن أغلب ما جرى لاحقاً في هذه البلاد، وعلى مدار قرن كامل قد خرج من معطف تلك اللحظة. كما أن النقاط الخلافية التي برزت في تلك الفترة الزمنية استمرت حتى اليوم. و كأن ازمات وانقسامات ونقاشات تلك الفترة ما زالت تعيش بيننا.
إزالة التعادي بين المذاهب الإسلامية
يكتب رشيد رضا في يومياته «ثم شرعنا في الحوار وكان الأمير زيد حاضراً فسألني عن رأيي في المذاهب الإسلامية، فبينت له معنى كلمة المذهب.. سألني هل يمكن إزالة الخلاف الديني وتوحيد المذاهب؟ قلت إن الخلاف طبيعي لا يمكن إزالته، وإنما الواجب إزالة ضرره، ولاسيما التعادي والتفرق الذي ذمه القرآن ونهى عنه وتوعد عليه.
صراع القديم والجديد
يصنف رشيد رضا أعضاء المؤتمر بأنهم ينتمون إلى ثلاث طوائف «كان فيه طائفة من المحافظين على القديم من أمور الأمة وتقاليدها، وطائفة من المولعين بالجديد الأوروبي، وطائفة من المعتدلين بين جمود أولئك وخفة هؤلاء».
التلازم بين العروبة والإسلام
يكتب رشيد رضا في يومياته مع فيصل، أنه زاره في 9 فبراير/شباط «زرته ضحوة هذا اليوم وتكلمنا خلوة في المسائل الثلاث: السورية والعربية والإسلامية كلاماً إجمالياً وهو مرتاح لذلك، وقال: إن الأخيرة (أي الإسلامية) لم يسبق له تفكير فيها. أما الثانية فكان يريد أن يسعى لجمع كلمة زعماء العرب واتفاقهم.
وفي لقاء آخر بتاريخ 10 فبراير، يحاول فيصل أن يقنعه بالبقاء في الشام ليكون حجر الزاوية في المسألتين «الإسلامية والعربية لا العربية فحسب، وذلك أنني أقنعته بأن هاتين المسألتين متلازمتان، فلا يمكن تأسيس الوحدة العربية، وإعادة مجد العرب وحضارتهم إلا بالإسلام، ولا يمكن إعادة هداية الإسلام وإصلاحه للبشر إلا باللغة العربية والأمة العربية».
دولة دينية أم علمانية
في جلسة المؤتمر التاريخية التي انعقدت بتاريخ 7 مارس/ آذار 1920 التي أعلنت استقلال المملكة السورية، وأعلنت فيصل ملكاً عليها دار نقاش حول علمانية الدولة أم إسلاميتها. يسجل رشيد رضا «وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر في هذه الجلسة أن ينص في قرار المؤتمر على أن حكومة سوريا المتحدة لا دينية (لاييك). انقسم أعضاء المؤتمر حول هذا وافق بعضهم وعارضه آخرون مقترحين أن ينص فيه على أنها حكومة عربية إسلامية ودينها الرسمي الإسلام».
يناقش الشيخ الأمر بطريقة هادئة براغماتية الطابع، أولا أدرك الشيخ أن هذه فتنة كبيرة، ولا مخرج منها إلا بتجاوزها فاقترح السكوت عنها. «ومما قلته إن إعلان كونها لا دينية يفهم منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل لا تتقيد بحلال أو حرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية فيجب عدم طاعتها وعدم إقرارها، بل يجب إسقاطها عند الإمكان، فالأولى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك».
وكان النقاش حول هذه النقطة بالذات سابقاً لجلسة المؤتمر التاريخية. يسجل رشيد رضا أنه في 1 مارس/آذار 1920 قبل سفره إلى بيروت «اجتمعنا ليلة الاثنين البارحة بدار الركابي (باشا) للمذاكرة في المسائل التي تتعلق بالاستقلال أيضاً. كان أهم ما ألقي فيها من البحث: هل يكون للحكومة (شيخ إسلام) أم وزيراً للأمور الشرعية أم لا؟ قال بعضهم بالسلب (أي لا حاجة إلى وزير ديني أو إسلامي) وبعضهم بالحاجة إلى رئيس ترجع إليه أمور المحاكم الشرعية والأوقاف، ثم طلبوا مني أن أبين رأيي في الموضوع، فتكلمت من وجوه:
مكان العرب في الإسلام وإمامة المسلمين الذين يقتبسون دينهم ويعبدون ربهم بلغتنا، ويحجون إلى بلادنا ناسكين وزائرين.
كون هذا الأمر قوة أدبية وسياسية واقتصادية لنا، لا يمكننا الاستفادة منه إلا إذا كانت لحكومتنا صفة إسلامية.
استفادة الترك من انتحالهم لمنصب الخلافة، وجعل دين حكومتهم الإسلام، من عطف مئات الملايين من مسلمي الأقطار وانتصارهم لهم إلى الآن.
كون العرب في جزيرة العرب وغيرها، لا يمكن جمع كلمتهم وتكوين وحدتهم إلا بدعوة دينية (كما حققه ابن خلدون من قبل) ولا يمكن لسوريا ان تبقى مملكة مستقلة الا باتحادها مع غيرها من البلاد العربية المتصلة بها
كون السواد الأعظم من العرب مسلمين يغارون على الإسلام…
ما تقرر من علم أصول القوانين من كون القانون لا يكون صالحاً للأمة إلا اذا كان مراعيا فيه عقائدها وعاداتها وتاريخها. وعلى هذا يجب أن تكون الشريعة هي المستمد لأعظم القوانين التي تحتاج إليها على فرض عدم تدين حكومتنا بالإسلام».
كل النقاط لتي تحدث عنها الشيخ، ما زالت راهنة خاصة النقطة الأخيرة حول علمانية الدولة أو إسلاميتها. تمتلك دمشق مكانة معنوية كبيرة في العالم الإسلامي، تدرجها الدول اليوم تحت بند القوة الناعمة. فنراها تدفع المليارات وتقيم مؤسسات وتستقبل طلاباً، وترسل مبشرين وعلماء وأساتذة جامعات، كي تؤسس نفوذاً ثقافياً ودينياً لها في البلدان الأخرى، ومهما علت قيمة هذا النفوذ فإن لا يبلغ عشر معشار النفوذ المعنوي، الذي تمتلكه دمشق «شام شريف» من المحيط الأطلسي إلى آسيا الوسطى. فهل هناك عاقل تهمه مصلحة أهل بلده، يفرط بهذه المكانة التي يمكن ببساطة حين امتلاك القرار السياسي المستقل ترجمتها إلى نفوذ سياسي واقتصادي.
من المعلوم أن الفكر نتاج الواقع. والإنسان المفكر يبني الخطط التي تجعله يراعي خصائص بيئته الجغرافية والمناخية والحضارية والثقافية واللغوية ويستثمر بهذه الخصائص من أجل بناء حياة أفضل.
بلاد الشام، التي أطلق عليها المسلمون من الشرق والغرب اسم «شام شريف»، وهي في الوقت نفسه قلب العروبة. فعليها أن لا تتنكر لا لعروبتها ولا لإسلامها ولا لمسيحيتها، فالمسيحيون يعتبرونها مكاناً مقدساً أيضاً. وإن تنكرها لخصائصها هذه يحذف من رصيدها. ومن يفعل يكون أشبه بمن ورث سبائك ذهب مطمورة في التراب وبدل أن يزيل التراب عنها ويلمعها يرميها خارج البيت لأنها متسخة.