بين روتشيلد وبيل غيتس.. إلى أين يتجه العالم
زهير داودي
الكل يتساءل: ماذا يجري في العالم؟
السؤال لم يعد عن فيروس (كورونا)، ولكن عما تلاه من أخبار وخرجات إعلامية أو ما يُنْسَبُ لشخصيات كان يُعْتَقَدُ أن مَجَالَ تَخَصُّصِهَا غير ما تم إِقْحَامُهَا فيه، وكأن العالم شُرِّعَت أمامه بَابٌ يَعْجزُ أعتى المحللين والخبراء زَعْمَ مَا سَيَقَعُ غداً ولو رَجْماً بالغيب.
مناسبة هذا التساؤل العريض هو ما يُتَدَاوَلُ من قصاصات إخبارية وفيديوهات يَدَّعِي أصحابها دخول البشرية إلى نَفَقٍ مُظْلِمٍ قد يَعُودُ بنا إلى فترة العيش البدائي مع التهديدات بالحرب النووية والكيميائية والفيروسية… فتارةً نسمع إشاعةً مفادها أن جائحة (كوفيد – 19) لن تنتهي قبل متم 2021 على أقل تقدير، وتارةً أخرى نسمع ونقرأ أن هذا الفيروس القاتل مُصَمَّمٌ في المختبرات وأنه، وكما ادعى الطبيب الفرنسي لوك مونتانيه (حاصل على جائزة نوبل للطب عام 2008)، مزيج من فيروس “كورونا” وفيروس “الإيدز”…
يبدو أننا، فعلاً، في عصر المعلومات المتضاربة أو ما يُسَمَّى بحقلِ (الأخبار الزائفة/Fake News) الذي أصبح إقتصاداً شبه قائم الذات، إذ أن المستفيدين من هذه الأخبار الزائفة والمفبركة يَجْنُونَ أرباحاً طائلةً من ورائها إلى أن يتم تكذيبهم، هذا إن تم التكذيب.
والواقع أن هذه “الحيلة” ليست وليدة اليوم، فأنا أذكر في نهاية التسعينيات من القرن الماضي أن عارضة الأزياء البريطانية نَعُومِي كَامْبَل، وبعد أن بدأ نَجْمُهَا في الأفول، تَصَدَّرَت صُوَرُهَا الصفحات الأولى للصحافة العالمية عقب تسريب خبر مفاده أنها كانت ضحية جرعة زائدة من مخدر (الكوكايين)، لتعود للأضواء من جديد حتى بعدما تَبَيَّنَ أنها هي من كان وراء ذلك الخبر غير الصحيح الذي سارعت إلى تكذيبه شخصياً باعتلائها منصة عرض الأزياء.
حَدِيثُنَا في هذا المقال الذي سَيُقَسَّمُ إلى جزئين، لن يكون عن هذه “الفوضى غير الخلاقة” المسيطرة على وسائل التواصل الإجتماعي، لكنه سَيُكَرَّسُ لمحاولة المساهمة في طرح إشكالية أين يتجه العالم؟ ومحاولة إبداء بعض الآراء التي من شأنها أن تكون أرضيةً للنقاش.
سَنُحَاوِلُ في الجزء الأول أن نَعْرِضَ لِأَهَمِّ ما يتم تَدَاوُلُهُ من ادعاءاتٍ وَتَدَاعِيَاتِهَا، وَرَبْطِ ذلك بحربٍ خفيةٍ تَجْرِي وراء الكواليس أبطالها يُطلق عليهم “سَادَةُ العالم”. أما في الجزء الثاني، فسنتطرق لوجهةِ نَظَرِنَا في ما يتعلق بالقوى التي سَتَحْكُمُ العالم، على أن التأريخ الحديث في نَظَرِنَا لن يتم على أساس مَا قَبْلَ وَمَا بَعْدَ وباء (كوفيد – 19)، فما وَصَلْنَا إليه الآن ليس إلا نِتَاجاً لحركياتٍ قديمة وتراكماتٍ لِتَجَاذُبَاتٍ إقتصادية وتكنولوجية وإستراتيجية.
– ما هو الوضع حالياً؟
سنبدأ بالخاتمة، ثم نُعَرِّج على إيضاح التفسيرات. هناك حربٌ كانت خفية، لكنها أصبحت الآن شبه معلنة، وهدفها ليس السيطرة على العالم كما هو حلم الإنسان مع آدم الذي لَمَسَ فيه الشيطان هذا الطموح وقال له: “… يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ”، (سورة طه، الآية 120)، بل تحول الهدف إلى السيطرة على الإنسان نَفْسِهِ من طَرَفِ أَخِيهِ الإنسان. فكيف ذلك؟
من خلال الحملات المتقنة من مُعَسْكَرَيْنِ أولهما تَقُودُهُ عائلة روتشيلد والثاني بقيادة بيل غيتس مؤسس شركة (مايكروسوفت)، يَتَبَيَّنُ أن كل طرفٍ يُهَاجِمُ السلاح الذي يتخذه الآخر، محذراً من مخاطره على البشرية بطريقة تُوحِي إلى ما يَقُولُهُ رَبُّنَا عن إبليس في محاولة غِوَايَتِهِ لآدم وحواء: “وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ”، (سورة الأعراف، الآية21).
فمن جهة معسكر بيل غيتس (الذي يُرَوِّجُ لضرورة اللقاح ضد “كورونا”، والذي يحظى على ما يبدو بدعم عدد من الحكومات حيث يَرُوجُ أنه للحصول على تأشيرات ولوج فضاء “شنغن” الأوروبي أو الإنخراط في التعاضديات الصحية، سيكون من اللازم تقديم ما يُثْبِتُ تلقي اللقاح)، فإن ما يمكن وَصفُهُ ب”التهويل الكارثي” لهذه الجائحة يَتَنَاقَضُ وعدد الوفيات المسجلة أو تلك المرشحة لمغادرة الحياة الدنيا. فإذا أخذنا في الإعتبار، مثلاً، معدل الوفيات بحوادث السير أو بالنوبات القلبية أو بغيرها من الأمراض الأخرى، فإننا سنخلص إلى نتيجة: “عَدَمُ مُقَارَنَةِ مَا لاَ يُقَارَنُ” كما يقول الفرنسيون.
– إذن، لماذا هذا التهويل؟ وما علاقة عَالِم مَعْلُومِياتٍ بفيروس (كورونا)؟
سؤال يبدو مشروعاً إلى أبعد الحدود خاصة إذا سَلَّمْنَا أن بيل غيتس رجل أعمال من الطراز الإستثنائي وَأَمْثَالُهُ لا يفكرون إلا في الربح حتى ولو ادعوا تأسيس جمعياتٍ خيرية.
الذين يَطْعَنُونَ في ضرورة اللقاح يُبَرِّرُونَ ذلك بتعافي آلاف المصابين بوباء (كوفيد – 19) دون تناول عقاقير أو أدوية، فلماذا هذا الضغط من أجل تعميم لقاحٍ تُجْهَلُ مُكَوِّنَاتُهُ أو على الأقل بَعْضٌ منها كما يدعي البروفيسور جون برنار فورتيون، الخبير الفرنسي في مجال الصيدلة، والذي يؤكد أن مُكَوِّنَيْنِ من هذا اللقاح يدخلان في خانة “أسرار عسكرية”.
الجواب بَدِيهِيٌّ على ما يبدو: هناك محاولةٌ للتحكم في البشر من خلال تعميم هذا اللقاح بعد حملة التخويف والهلع التي شَنَّهَا هذا المعسكر لإقناع الناس بضرورة التطعيم ضد مرضٍ لا يعدو أن يكون مجرد “إنفلونزا” في صيغته العادية، اللهم إلا إذا تم مَزْجُهُ أو إِدْمَاجُهُ مع فيروس “الإيدز” كما صرح بذلك الحاصل على جائزة نوبل للطب عام 2008.
الآلة البنكية، التي تتزعم مُعَسْكَرَهَا عائلة روتشيلد، ترى أن تطور نمط الحياة سَيَجْعَلُ من غير المناسب الإستمرار في التعامل بالنقد الورقي لما يُشكله ذلك من أخطارٍ على الصحة وعلى السلامة الجسدية، وأن البديل “كَبْسُولَةٌ” تُزْرَعُ تحت الجلد في يد إنسان تَمْنَعُ عن حَامِلِهَا مشقة البنوك أو الشبابيك الأوتوماتيكية، وتَحْبِسُ عنه النشل أو السرقة التي تهدد حياته.
البداية كانت تجربة لملهى ليلي في مدينة برشلونة، عاصمة إقليم كتالونيا الإسباني، الذي عَرَضَ على مرتاديه زرع “كَبْسُولَةٍ” للولوج وأداء مصاريف الشرب والأكل من خلال إِعْتِمَادٍ تُنْقَصُ منه قيمة فواتير الإستهلاك. ثم، وبفضل الدعاية المحترفة خاصة في صفوف الشباب التواقين إلى كل ما هو جديد وأحياناً جد غريب، فقد بدأت عدة شركات كبيرة ودول مثل السويد بزرع هذه “الكَبْسُولاَت” في أيدي مستعملي وسائل النقل (المترو، الحافلات، القطار، الترامواي)، ومرتادي المطاعم والمقاهي…
لا شك أن الإقبال في تزايد… ولا يُسْتَبْعَدُ أن يكون، في غضون عامين أو ثلاثة أعوام، تحت جلد أكثر من نصف البشر “كَبْسُولَةٌ” تضم كل المعطيات الشخصية الخاصة بهم (المالية، النفسية، الإجتماعية، الصحية، المهنية… إلخ)، لِيَتَحَوَّلَ العالم، وبعد البيت الذكي والهاتف الذكي وكل ما هو ذكي، إلى “عالم ذكي” سَيَتَحَكَّمُ فيه “مبدعو” هذه “الكَبْسُولَة”.
هذه “الكَبْسُولَة” وإن كانت في المرحلة الراهنة لا تَبُثُ المعلومات، إلا أنها سَتُطَوَّرُ قريباً لتكون مركزاً للإستقبال والبث مما يجعل حَامِلَهَا عُرْضَةً لكشف خصوصيته (موقعه بالضبط، حالته الزوجية، حالته المادية والإجتماعية… إلخ)، ومسلوب الإرادة أيضاً، إذ سيتم اقتطاعُ دُيُونِهِ وما عليه من ضرائب ورسومات دون اسْتِشَارَتِهِ. وإذا اعْتَرَضَ، سيتم تعطيل “الكَبْسُولَة”، وبالتالي تعطيل حياته.
المناوئون لهذه “الكَبْسُولَة” يرون أن الأمور أسوأ مما قلنا، حيث سَيَتَحَوَّلُ الإنسان إلى عَبْدٍ لمالك “الكَبْسُولَة”: يأتمر بأمره؛ فقد يَسْرِقُ، وقد يَقْتُلُ، وقد يَقْتُلُ حتى نفسه، وقد يتحول إلى إرهابي بدون إرادته. فحسب هؤلاء المناوئين، فالسيطرة على المخ البشري هي الوسيلة من أجل التحكم في الإنسان، وبالتالي في العالم.
سواء تعلق الأمر بمعسكر عائلة روتشيلد أو بمعسكر بيل غيتس أو ب”معسكر ثالث يرتكز على ثورة الإتصالات من خلال تقنيات (5G أو 6G)، والتي ستجعل الإنسان حبيس لاَقِطَاتِ البث والإستقبال”، فإن هذه الحرب القذرة من أجل التحكم والسيطرة على الإنسان قد أظهرت أن العلاقات الدولية اتخذت منحى آخر يجعلنا نَقْتَرِحُ تسميةً جديدةً لها وهي “العلاقات الكَيَانِيَة” في إشارة إلى أن الدول “التي يأتي منها نَعْتُ العلاقات الدولية” لم يَعُد لها أو لِأَغْلَبِهَا دور في العالم الذي نعيشه، بل تَرَاجَعَ لصالح مؤسسات وكَيَانَاتٍ يصعب أحياناً تَحْدِيدُ هويتها ومكوناتها، وأن هذه الأخيرة هي من سيتولى زِمَامَ استغلال الإنسان والطبيعة بما يخدم مَصَالِحَهَا دون مراعاة للطبيعة البشرية.
فهل من يسعى إلى التحكم في الإنسان هو أَخُوهُ الإنسان فعلاً؟ أم أن هناك عوامل جديدة دخلت على الخط كالذكاء الإصطناعي مثلاً، ونكون قد دخلنا في مَا رَوَّجَت له أفلام “هوليود” من سيطرة الآلة على البشر؟
تَطَرُّقُنَا لموضوعٍ حَسَّاسٍ مثل هذا لم يَأْتِ من فراغٍ، ولم يكن من بين مُسَوِّغَاتِهِ أن “نَتَطَاوَلَ” على المستقبل، لكننا اعتمدنا على نتائج تَتَبُّعِنَا لتلك الحرب الخفية بين كيايينِ يبدو أنهما لم يَعُودَا يُخْفِيَانِ صِرَاعَهُمَا.
نُؤمن أن الصدفة تكاد تكون غير واردة في العلاقات الدولية، فكل فِعْلٍ تُقَابِلُهُ رُدُودُ فِعْلٍ، والحرب كما قيل كَرٌّ وَفَرٌّ. لقد سبق وَتَنَاوَلْنَا ضرورة تَعْوِيضِ منظمة الأمم المتحدة بمؤسسة جديدة بأهداف جديدة حقيقية (انظر مقالنا المنشور في موقع “الجزيرة نت” يوم 13 مايو/آيار 2020 بعنوان: “من أجل منظمة دولية جديدة بدل الأمم المتحدة!”)، ما يعني أن العالم بصدد طريقة إدارةٍ جديدةٍ تَذُوبُ فيها بعض الدول لصالح الكيانات، والكيانُ قد يكون تَكَتُّلَ دولٍ أو مؤسساتٍ ذات تأثير حيث سيكون هناك صُعُودُ نَجْمِ دولٍ وأُفُولُ نَجْمِ دولٍ أخرى، أَفَلَمْ يقل الشاعر والفقيه الأندلسي أبو البقاء الرندي:
هِيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ .. مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أزْمَانُ
وسَنُحَاوِلُ في هذا الجزء الثاني من هذا المقال أن نَسْتَشْرِفَ ما قد سيكون عليه العالم غداً. لا شك أن المفاهيمَ القديمة في كل شيءٍ تَغَيَّرَت، ومنها ما هو بصدد التغييرِ كتلك اليَرَقَةِ المعلقة في شَرْنَقَتِهَا والتي سَتَتَحَوَّلُ إلى فَرَاشَةٍ تَطِيرُ بِجَنَاحَيْهَا. وكما قُلْنَا في الجزء الأول، فليس التغييرُ هو المهم، ولكن الأهم منه هي سُرْعَتُهُ، فقد شُلَّت الكرة الأرضية لأشهر بسبب فَيْرُوسٍ لا يرقى حتى إلى مرتبة كَائِنٍ حَيٍّ.
أجل، ففيروس “كورونا” ليس بَكْتِيرْيَا حَيَّة بل هو شَرِيطٌ جِينِيٌّ مُبَرْمَجٌ للتَّكَاثُرِ في بيئة معينة، ونَتْرُكُ لأهل الإختصاص شرح ذلك باستفاضة.
• التَّحَكُّمِ في البشر من خلال الذكاء الإصطناعي
هذه السرعة في التغييرات جعلت الإنسان يَشْعُرُ، أو ربما لا يَشْعُرُ، أن التكنولوجيا أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته اليومية، وأن أُمُورَهُ كي تُيَسَّرَ عليه وَجَبَ أن يَسْتَسْلِمَ للآلة والذكاء الإصطناعي كي يُنَظِّمَا لَهُ حَيَاتَهُ ويُتَابِعَا تَحَرُّكَاتِهِ…إلخ. ولمن يَجْهَلُ، فالنسبة الكبيرة من الهواتف المحمولة تُسَجِّلُ على مَالِكِيهَا كل خُطْوَةٍ وتَقِيسُ نَبَضَاتِ القلب والضغط، وتَرْسُمُ المسار نحو مقر العمل وتُحْصِي الإهتمامات حتى لَيُخَيَّلُ للبعض أن مُحَرِّكَ بَحْثٍ مثل (Google) يَقْرَأُ الأفكار حيث يُكَمِّلُ فكرة البحث قبل أن يُتِمَّهَا البَاحِثُ، ناهيك عن استعمال بَصْمَتَيْ الوجه واليد بما يسمح لهذه المنصات والتطبيقات بِقِرَاءَةِ الحالة النفسية والمزاجية والصحية للمستعمل، وتَحْيِّينِ صُورَتِهِ في كل وَقْتٍ يَلِجُ فيه إلى هاتفه الذكي.
تقنية مثل هذه يُمْكِنُ أن تُسْتَغَلَّ من طرف أصحاب شركات الهواتف وتطبيقات المحادثة لتوريط من شَاؤُوا في جرائم مادية كالقتل أو السرقة… وحتى الجرائم الإلكترونية.
لقد أصبحت هذه التطبيقات تَعْرِفُ عَنَّا وعن أَبْنَائِنَا وعن المُقَرَّبِينَ إلينا أكثر مما نَعْرِفُ نحن، هذا دون الحديث عن التسجيلاتِ التي يُرَخِّصُ بها المُسْتَعْمِلُ بمحض إرادته صوتاً وصورةً، وَإِلاَّ فَإِنَّهُ لن يَسْتَفِيدَ من خدمة ذلك التطبيق أو يُسْمَحُ له باستعماله جزئيا فقط، وهذا منتهى وسائل الضغط والمساومة من أجل التَّحَكُّمِ في البشر من خلال استعمال الذكاء الإصطناعي.
وبالرجوع إلى مِحْوَرِ موضوعنا ألا وهي الحرب شبه المعلنة بين من يُرِيدُ أن يُسيطر على الإنسان بالتلقيح أو ب”الكَبْسُولَة”، فإننا نَوَدُّ أن نُشِيرَ إلى أن هناك إمكانية للإعتراف بِكياناتٍ لها تَوَاجُدٌ مثل الدول ولها شعب كوني ك(Facebook) مثلاً الذي يُسيطر أيضاً على تطبيقات أخرى لا تقل أهمية مثل (WhatsApp) و(Instagram)… والبقية تأتي. ولن نَتَفَاجَئَ إذا وَجَدْنَا مارك زوكربيرغ (Mark Zuckerberg) يُبشر مُوَاطِنِيه “الذين تَعَدَّى عددهم في العام 2018 رقم 2,2 مليار من المُسْتَخْدِمِينَ شهرياً، وأزيد من 1,4 مليار من المُسْتَخْدِمِينَ النشطاء يومياً مع تسارع في وتيرة فتح الحسابات بمعدل خمسة حسابات في كل ثانية”، (يُبشرهم) بِمَنْحِهِم الجِنْسِيَّةَ مع ما يَتَرَتَّبُ على ذلك من أوراق ثبوتية كجواز السفر وغيره… لِيُصْبِحَ للدول الإفتراضية تَوَاجُدٌ بجانب الدول المُتعارف عليها، ونجد (Facebook) مُمَثَّلاً في “المجلس الدولي” الذي اقترحناه في موضوعٍ نَشَرْنَاهُ في موقع (الجزيرة نت) بتاريخ 13 مايو/آيار 2020، وله حق النقض (الفيتو) وامتيازات أخرى، وتكون “الجِنْسِيَّةُ الفيسبوكية” وسيلة لبعض المواطنين للهروب من سَطْوَةِ حُكَّامٍ في بلدان لم يعد أَحَدٌ يَتَشَرَّفُ بالإنتماء إليها، فلا حدود جغرافية ولا إكراهات عرقية ولا دينية ولا ثقافية… تقف أمامهم.
قد تبدو هذه “النُّبُوءَةُ” ضرباً من ضُرُوبِ الخيال، لكن تَسَارُعَ الأحداث وتَطَوُّرَهَا يُؤَشِّرَانِ على أن أهداف (Facebook) وغيره قد تجاوزت الربح المادي المُتَحَصَّلِ من الإعلانات وغيرها، بل أصبحت تَصُبُّ في اتجاهات أخرى من خلال المؤشرات على تدخل هذه المنصة في خصوصيات المشتركين حسب ما يَرُوجِ من فضائح تُوَرِّطُ (Facebook) في بيع أسرار المشتركين لمن يَدْفَع. والأكيد أن ارتفاع وتيرة الإشتراك فيه، سيجعل القائمين عليه يفكرون في ما هو أبعد من مجرد ربح مئات المليارات من الدولارات.
الفِكْرَةُ نَفْسُهَا تنطبق على مؤسسات أخرى عملاقة مثل (Amazon) التي يُعتبر مالكها، جيف بيزوس، أغنى رجل في العالم بثروة تُقَدَّرُ بحوالي 147 مليار دولار. فمنذ حوالي شهر، كشفت مواطنة بريطانية كَيْفَ أن موقع (Alexa) المملوك ل(Amazon) والمختص في المساعدة الشخصية على إيجاد المعلومات في الإنترنت وتحديد المواعيد… إلخ، نَصَحَهَا بالإنتحار من أجل مصلحة البشرية؟! نعم، هكذا نَصَحَهَا مع أن سؤالها لم تكن له علاقة بحالتها النفسية، فالسيدة كانت تَسْأَلُ عن دَوْرَةِ عَمَلِ قَلْبِ الإنسان كجزء من بَحْثٍ لها يتعلق بطبيعة عملها، ففاجأها “الرُوبُوت” بهذا الأمر الفظيع…؟!
• هل نحن فعلاً بصدد “إدارة جديدة للعالم”؟
الدول كما هو متعارف عليها لن تَنْدَثِرَ على الأقل في المستقبل القريب، لكن موازين القوى سَتَتَغَيَّرُ بالتأكيد، وَسَتَظْهَرُ تكتلاتٌ جديدةٌ ليس على أساس الجغرافية والتاريخ واللغة… بل على أساس المصالح. كما أن دولاً مثل الولايات المتحدة الأمريكية سَتَنْدَثِرُ، وَسَيَتَفَكَّكُ هذا الإتحاد الفيدرالي إلى دُوَيْلاَتٍ، وقد تَنْدَلِعُ حرب ليس بين الشمال والجنوب هذه المرة، بل بين الولايات التي تُحاول السيطرة على الأخرى بعدما ظهرت هشاشتها إثر أزمة (كوفيد 19)، إذ صرح أندرو كومو حاكم ولاية نيويورك، مثلاً، بعجزه عن التعامل مع تبعات هذا الفيروس الفتاك مع أن نيويورك عاصمة العالم السياسية (مقر منظمة الأمم المتحدة) والمالية (بورصة وول ستريت).
الشيء نَفْسُهُ ينطبق على الإتحاد الأوروبي الذي نَعْتَقِدُ أنه لن يَضُمَّ مستقبلاً في تشكيلته بعض الدول الأعضاء التي ربما سَتَخْتَارُ أن تَتَشَارَكَ مَصِيرَهَا كإيطاليا وإسبانيا والبرتغال ومالطا واليونان، وذلك عقب خيبة الأمل والإحباط اللذين أَصَابَهَا بعد أن غابت مؤسسات الإتحاد عن دعمها وحتى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، حيث بادرت دول أخرى تنتمي لقارات أخرى مثل كوبا والصين وكوريا الجنوبية إلى مساعدتها. وحتى لا ننسى، فإن الإتحاد الأوروبي لم يكن في الأساس إلا حلماً ألمانياً – فرنسياً هَدَفُهُ تحقيق الريادة الإقتصادية لهاتين الدولتين.
في الجانب الآخر، سَيَسْطَعُ نَجْمُ كل من الهند والصين وروسيا كروادٍ جدد للعالم، وسَيَخْتَفِي الدولار كعملة دولية وكذلك اليورو لتحل محلهما عملة دولية جديدة. كما أن تركيا، على مستوى الشرق الأوسط، سيكون لها دور ريادي بجانب ما تبقى من مجلس التعاون الخليجي الذي عَطَّلَتْهُ “سعودية” محمد بن سلمان و”إمارات” محمد بن زايد بشكل كامل بعد حصارهما لدولة قطر وشنهما الحرب على اليمن وتقربهما العلني من إسرائيل.
أما على مستوى الفضاء الإفريقي، فإن السياسة البراغماتية ذات البعد الإنساني التي نَهَجَهَا ملك المغرب محمد السادس منذ حوالي عقدين وبقناعة راسخة، سَتُمَكِّنُ المملكة المغربية من مواصلة تكريس أداء دورها المحوري والوازن على مستوى القارة السمراء على حساب دول كجنوب إفريقيا ونيجيريا.
دولة كالهند، مثلاً، استغلت تَوَاجُدَ مُوَاطِنِيهَا في مهد الإختراعات الجديدة في مجال التكنولوجيا المتقدمة “السيليكون فالي”، وَرَكَّزَت على التجارة والخدمات الإلكترونية (Electronic commerce and services) والتطبيقات الذكية (Smart Applications)، وأصبحت في صمت رائدة في مجال السجلات والوثائق الإلكترونية وبطاقات الهُوِيَّةِ الوطنية والدولية. هذا زيادة على أنها سياسياً من أهم الديمقراطيات، والمواطن الهندي ورغم فقره المدقع لا يبيع صوته في الإنتخابات. كما استغلت هذه الدولة، التي كانت تعتبر متخلفة إلى وقت قريب، تعدادها السكاني الهائل (حوالي 1.39 مليار نسمة حالياً) لتحقيق القيمة المضافة وذلك من خلال تشجيع الإستهلاك الداخلي، هذا دون إغفال تَفَوُّقِهَا العسكري والإستخباراتي بسبب عَدَائِهَا التاريخي لجارتها باكستان.
أما روسيا، فقد استغلت تَرَاجُعَ الولايات المتحدة الأمريكية، وتَغَذَّت بما تبقى من مخلفات الحرب الباردة، وأكدت تَفَوُّقَهَا العسكري من خلال أسلحة جديدة لا يتوفر عليها أحد تقريباً وهي الأسلحة الصوتية (Sonic Weapons)، وتطويرها لتطبيقات وبرامج خطيرة هي في الظاهر مضادات فيروسات (Antivirus)، لكنها في الباطن لها استعمالات أخرى مَكَّنَتْهَا من الحصول على معلومات حساسة جداً عرفت كيف تستغلها من أجل تحقيق مصالحها، فأصبح وضعها في العالم أكثر حضوراً من الإتحاد السوفياتي في عِزِّ سيطرته على المعسكر الشرقي.
والصين، في نَظَرِنَا، ستعرف حضوراً أقوى من خلال التكنولوجيا وسياسة التصدير والإستثمارات المباشرة في دول أخرى، وسيكون للتنسيق بين هذه الدول الثلاث (الصين، روسيا والهند)، بالإضافة إلى الكياناتِ التي سبق الحديث عنها، القَوْلُ الفَصْلُ في الإدارة الجديدة للعالم التي نُؤَكِّدُ على أنها لن تكون قائمةً على “نظام” بمعنى النِّظَام، لكنها ستكون أشبه ب”البورصة” حيث كل يوم على حال معينة، فمصطلح “النِّظَامُ العَالَمِيُّ” – في نَظَرِنَا – يَجِبُ أن يُمْحَى ويتم استبداله ب”إدارة جديدة للعالم” سيكون من مُمَيِّزَاتِهَا الفوضى بمعنيين: الفوضى الخلاقة، والفوضى غير الخلاقة.
يجب على البَشَرِيَّةِ أن تَسْتَعِدَّ للدخول في مرحلة جديدة لا نَظُنُ أن (كوفيد 19) هو المرجع، ذلك أن ما نعيشه وسنعيشه هو نِتَاجُ تَطَوُّرِ وَصَيْرُورَةِ أَحْدَاثٍ عاشها الإنسان والطبيعة صَارَ لزاماً معها التكيف مع التغيرات التي تصل سرعتها “سرعة الضوء”.
* إعلامي مغربي وباحث في العلاقات الدولية