المعسكر قبل المنظمة.. هكذا بدأت الحكاية
في سكونٍ خادعٍ من ربيع عام 1964م، تحركت الرياحُ فجأةً، وعلت أمواجُ البحرِ، وتلبدت السماءُ، كما لم يحدُث من قبل، وأومضَ الأفقُ، وتشققت صفحتهُ بذوائبِ برقٍ لاهبة، وأيقنَ الجميعُ أن ظاهرةً كونيةً آخذةٌ بالتَّشكلِ، ستُغيرُ النواميسَ وتُدحرجُ الفُصولَ، وتُسرِّع عقاربَ الساعةِ، وأن نبضاً دبَّ في الأجسادِ الهامدةِ، وحياةً دفقت في العروقِ اليابسةِ، وزمناً اخرَ بدأ يحبو، سيستقيمُ عودهُ ويشتدُ ويَقوى، ويشمخُ عالياً، ولن ينحني للطغاةِ مرةً أخرى.
كان مُعسكر النصيرات في قطاع غزة، هو عينُ العاصفة التي تدورُ حلقاتها، وتُحركُ كل شيءٍ حولها، وجموعُ الشعبِ ،خرجت عن بكرة ابيها، هديرها يَصدحُ في الأنحاء، و دبيبيها تهتز لهُ الأرجاء، وكُلها تزحفُ نحو المعسكر، فساعةُ الحشرِ هُناكَ، و مَوعِدُ القيامةِ هناكَ، و لحظةُ الانبعاثِ هناك ، وكلُ ما فاتَ من نزوحٍ ولجوءٍ و انكسارٍ واندحارٍ، سيتوقف الآن ، وستدورُ العجلةُ في الاتجاهِ الأخرَ، و كلُ ما عصرَ القلوبَ من ألمٍ وكمدٍ و شقاءٍ، سيَطيبُ، و ينجلي مع أولِ رشقةِ رصاصٍ، تُلهبُ النفوسُ و تطلقُ الأشجانَ من محابسها، نحو وطنٍ، سِرهُ ، وقَدَرُهُ ،اننا لا نَسكُنُ فيهِ، بل يَسكُنُ فينا.
كان قد مرَّ على النكبة 16 سنة، ولم تُفلح لجنةُ التوفيقِ للأمم المتحدة في إعادةِ لاجئٍ واحدٍ إلى بيتهِ، ولا في تنفيذٍ حرفٍ من القرار 194، ولم تساوي تقاريرُ الأمم المتحدة ولا قراراتها، في نظرِ اللاجئين الفلسطينيين وجموعِ الشعبِ المتدفقةِ على معسكر النصيرات، شذرةَ أملٍ، نَثرتها خرطوشة فشكٍ وامضة.
وفي اليوم السابع عشر من ابريل عام 1964 م وقبل بضعة أسابيع من انعقاد المجلس الوطني التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، بمدينة القدس في 28 مايو، وفي اوجِ العمل السري لحركة فتح تحضيراً لانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، كان المرحوم أحمد الشقيري، المكلف من جامعة الدول العربية، بإنشــــــاء الكيان الفلســـــــطيني ومنظمة التحرير الفلســـطينية، لا يزالُ يجوبُ الأقطارَ والمخيمات، ويرسمُ الخططَ ويضعُ اللبنات الأولى. لكنه في ذلك اليوم تحديداً، وأثناء زيارته لقطاع غزة، قرر، أمراً جريئا ومختلفاً:
المعسكر أولاً والمنظمة ثانياً. المعسكر أولاً والكيان الفلسطيني ثانياً.
ولم تكن قيمة القرار في جدواه المباشرة، بل في معانيه ومراميه البعيدة.
وهكذا تمَّ توقيعُ اول شيك حررتهُ منظمة التحرير الفلسطينية، قبل الإعلانِ عن بزوغها رسمياً، بمبلغ 5آلاف جنيه إسترليني، صُرِفت للحاكم الإداري المصري لقطاع غزة، الفريق يوسف العجرودي، لتمويل انشاء وافتتاح معسكر النصيرات، لتدريب الفلسطينيين على حمل السلاح، وهو ما حصلَ بالفعل بعد ثلاثة أيام فقط، عندما تحركت الجموعُ لتشهدَ ولادة المعسكر قبل ولادة المنظمة.
نستذكر تلك الواقعة وقد مرت 56 سنة على تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وطافت بنا الذكرى 53 للنكسة، ودولة الاحتلال توشكُ ان تُباشرَ ضمَّ الضفة الغربية، أو أجزاء واسعة منها، وخطة ترامب للسلام تُظللُ المنطقةَ، بسحابةٍ سوداءَ كثيفة، لنقولَ للعالم: لا يَغُرَّنكم الصمتُ و الصبرُ، ولا كظمُ الغيظِ، و لجمُ النفسِ، وامهالُ القانون الدولي والمنظمات والدول الكبرى، أن تُجرَّبَ ما جَربتهُ، وأن تَختبرَ ما اختبرتهُ، فإن هذا الشعب وهذه الفصائل وهذا الكيان الفلسطيني، إذا ما اشتدَّ الخطبُ، وفار التنُّورُ، واسقطتم، المرةَ تلو المرة ،غُصنَ الزيتونِ من يدهِ،. لقادرٌ أن يَجعلَ ربيعَ دولةِ الاحتلال جحيماً، واطمئنانَ مستوطنيها جزعاً وأنيناً، وحيفا ويافا قبل القُدس، والمعسكرُ، من جديد، قبلَ الكيان وقبل المنظمة.
هكذا بدأت الحكاية وهكذا تبدأ مرة أخرى، والتاريخ يعيد نفسه.