إسرائيل هي القضية!
سامح المحاريق
شاع مؤخراً استخدام وسم فلسطين ليست قضيتي، أو ليست قضيتنا. والأمر اللافت أن الوسم لم يعد يستخدم من أفراد عاديين تنحصر همومهم ومعارفهم فيما يعيشون فيه اليوم، ولا يبتعد تخطيطهم للمستقبل عن بضع سنوات في الحد الأقصى. فمؤخراً تنضم شخصيات ذات مكانة ثقافية وفكرية لتروج للتنصل من القضية الفلسطينية، وتتجاهل كل المعارف التي يفترض أنها تعلمتها من التاريخ، وكل الرؤى التي يحتم عليها المستقبل أن تضعها في اعتبارها، بل وتتجاهل أيضاً التجارب التي تمثل أمامها وهي تتخلى عن مسؤوليتها تجاه فلسطين، لتعود بنتائج مخيبة على مستوى السلام المتخيل، ولتبقى في دائرة المخاطر المحدقة نفسها، بحيث تشبه صاحب الحقل الذي يرمي كرة النار على الحقل المجاور.
هل علينا أن نعود إلى الأولويات كل مرة؟ وأن نعيد رواية القصة ذاتها من جديد؟ ولماذا؟ لنفسر عمومية القضية الفلسطينية! ألا يشبه الأمر محاولة عبثية لإثبات البديهيات؟
ضجت أوروبا من اليهود كجماعة وظيفية تتناقض قيمها وممارساتها مع محيطها الاجتماعي، وظهرت العديد من المشاريع لنقلهم إلى خارج القارة، سيبيريا ومدغشقر كانتا من بين العديد من الخيارات المطروحة في وقت كانت فيه الحركة الصهيونية تعمل في مقاولة لتنفيذ عملية الإخلاء من أوروبا، كانت فلسطين بين الخيارات الجدية كحل للمسألة اليهودية، ولكنه حل باهظ التكلفة ومعقد نوعاً ما.
بجانب القيمة الدينية التي تشجع اليهود على الهجرة وترك البلدان التي كانت تعتبر أوطانهم، كانت ثمة قيمة استراتيجية تتمثل في دق إسفين ينهي احتمالية إقامة دولة عربية بديلة للعثمانيين، ويطل على أهم شريان تجاري عالمي في السويس، ولذلك أتى مشروع وعد بلفور بوصفه نقطة الالتقاء بين الاستعمار والصهيونية، فالصهيونية هي أداة استعمارية في الأساس، ولم تكن لتستمر بدون وجود ما تمنحه للقوى الاستعمارية التقليدية.
القضية الحقيقية التي يجب أن تبقى في حضورها الدائم هي مقاومة إسرائيل بوصفها كيانا غير طبيعي يهدد المنطقة ومستقبلها
في ضوء مجريات الأحداث التي ترافقت مع مرحلة التحرر العربي، وابتداء من مشاركة إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر بدون وجود مبرر حقيقي لذلك سوى الالتزام الصهيوني بولائه للاستعمار، يتبين مدى ارتباط القضية الفلسطينية بالفضاء العربي بشكل وثيق، وبصورة لا تكاد تستثني أي دولة عربية.
عندما تراجعت بريطانيا عن مكانتها الاستعمارية وتقلصت قدرتها على الهيمنة كان الأمريكيون يتحضرون لتعبئة الفراغ البريطاني، وجزء من ميراثه كان يتمثل في إسرائيل، ولكن المكانة التي أولتها الولايات المتحدة لإسرائيل كانت ترتبط أيضاً بالمستجدات في منطقة الخليج العربي، وظهور ثروات نفطية هائلة لم يكن للأمريكيين الإبقاء عليها في حظيرتهم الاستراتيجية من غير وجود إسرائيل، وخاصة بعد تأميم النفط في إيران مع محمد مصدق واستشعار الأمريكيين مبكراً بأن إيران ليست الحليف الأبدي الذي يمكن الارتكان على وجوده في سعيهم للهيمنة على العالم، ومواجهة المشروع السوفييتي، وأي مشاريع أخرى تمثلها حركات النهضة الوطنية في الصين والهند وغيرها من التكتلات البشرية الكبيرة في شرق العالم.
لذلك تبقى إسرائيل المنصة المتقدمة للأمريكيين في المنطقة، والخليج العربي المكشوف على مطامع إيران وغيرها لا يمكن لإسرائيل أن تمنحه سلاماً مجانياً، فهي ستبقى عائقاً أمام تكامله الاستراتيجي مع العمق العربي في الهلال الخصيب، وبذلك يبقى الخليج محتفظاً بعلاقة زبائنية على مستوى علاقاته الدولية؛ فدول الخليج الثرية في حاجة دائمة لإمداد من الأسلحة والطاقات البشرية التي ستأتي بدون أي التزام أيديولوجي أو عقائدي وبتكلفة باهظة، بينما يحقق التكامل مع الهلال الخصيب وضعاً معاكساً لوجود الأرضية العقائدية التي تجعله التزاماً بتكلفة أقل كثيراً من الناحية المادية، وتحت طائلة استثمار مجموعة من المفاهيم القومية العامة التي تبقى شبه مجانياً، باستثناء ما يمثله غزو الكويت من شبح على العقل الخليجي، وهو الغزو الذي لم يكن ليتم لولا تصور العراقيين لوجود غض طرف أمريكي نتيجة توثق علاقات العراق بالولايات المتحدة في الحرب على إيران، فالأمريكيون وراء لعبة التهديد الذي يطارد الخليج ويجعله يعيش في دوامة وجودية، وإسرائيل جزء من هذه المنظومة.
الهلال الخصيب باستمرار وجود إسرائيل يبقى مجرد ساحة تتقاطع عليها الدول المتنافسة إقليمياً، فإسرائيل تهديد مستدام يحول دون بناء المنطقة لكتلة صلبة تستطيع من خلالها أن تنافح وتنافس المطامع الايرانية والتركية، وبذلك تبقى إسرائيل هي العائق الأساسي أمام أي مشروع نهضوي في المنطقة.
أما مصر فهي الخاسر الأكبر وبعد بلفور لم يكن بعيداً عن مشروع دولة محمد علي التي امتد تأثيرها على مناطق واسعة في الشام والأناضول والجزيرة العربية والسودان والحبشة، وإسرائيل عامل أساسي في إبقاء مصر تحت الضغط المستمر في الحرب والسلام معاً، ولا توجد قوة استعمارية كلاسيكية أو حداثية يمكن أن تسمح بوجود دولة قوية تسيطر على وسط العالم التقليدي.
ومصر الضعيفة تؤثر سلباً على محيطها بشكل أكثر خطورة مما تمثله مصر القوية، لأنه تشجع الدول الأقل وزناً في المحيط على التمدد بأطماعها بحيث تتعقد ساحة الصراع فتنضم دول مثل ايطاليا واليونان إلى التنافس على المنطقة.
أما المغرب العربي فإسرائيل تمثل عائقاً أساسياً أمام حصوله على امتداد طبيعي يعتقه من السيطرة الأوروبية ويخلصه من الحسابات المرتبطة بشمال المتوسط وكأنه عائق طبيعي آخر مثل الصحراء الكبرى يحول دون امتداد قومي وإنساني أوسع على أسس التلاقي العرقي والديني مع المشرق العربي.
ربما يكون صحيحاً أن دعم فلسطين والشعب الفلسطيني هو أمر يدخل في الذائقة الشخصية لأي فرد يتابع الواقع القائم، فهذه مسألة أخلاقية في الأساس، أما القضية الحقيقية التي يجب أن تبقى في حضورها الدائم فهي في مقاومة إسرائيل، ذلك أن الكيان غير الطبيعي يهدد حيوية المنطقة ومستقبلها بأكثر من أي خطر آخر، لأنه داخل المنطقة يتسلق على مناعتها وقدرتها على التقدم من الداخل.