تاريخ شعب وقضية في وثائقي
بيسان خلف
كثيراً ما استوقفني مشهد بلادي التي لم أرها او اسمع عنها سوى في حكايات جدتي، قبل دخول الاحتلال والنكبة وكافة المحطات التاريخية التي دونها كتابي المدرسي، وكتب المؤرخين الذين ربما تجاهلوا ذلك المشهد، ولطالما تساءلت ما الذي يميز بلادي عن جاراتها ليتم عقد صفقات ومخططات من أجل بناء كيان آخر بداخلها؟
إلى أن وصلني رابط من أحد الأصدقاء بعنوان “فلسطين ما قبل عام ١٩٢٠”، الفيلم الذي يستعرض التاريخ الفلسطيني قبل 100 عام، للمخرج “اشرف المشهرواي”.
الفيلم مبني على دحض ادعاء استغربته لعقدين من عمري، كباقي المزاعم التي كرسها الصهاينة لتبرير بناء وطن قومي لليهود في فلسطين ومع مرور الزمن أصبحت بعض الدول العربية تنادي بهذا الإدعاء، إذ تزعم بعدم وجود شعب في تلك المنطقة الجغرافية قادر على بناء دولة مستقلة أسوة بدول الجوار التي استقلت، وأن سكان فلسطين ليسوا إلا بدو وفلاحين وشراذم متخلفين، ما يضعني أمام سؤال: كيف لدولة شراذم أن تنجب قامات ثقافية وسياسيين وحركات مقاومة؟ يبدأ الفيلم بعرض لقطات توثق عودة الصادرات والواردات سريعا بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في ميناء حيفا، الذي كان يربط فلسطين بثلاث قارات، ويحاكي تطور حركة الملاحة البحرية في موانئها، إذ كانت تصدر منتجاتها إلى معظم دول أوروبا، كفرنسا وهولندا وايطاليا، تلك الدول التي بتنا نستجدي منها المساعدات في الوقت الحالي، ونطالب باللجوء إليها بعد هجرة غير مشروعة من دول عربية منها التي طبعت او تلك التي مازلت تعتبرنا شراذم.
ويسلط الفيلم الضوء على حجم الصناعات الفلسطينية وتطورها الذي واكب التوسع الصناعي في اوروبا، إذ بات لكل محافظة هويتها الصناعية الخاصة بها، بدءاً من صناعة الصابون في نابلس وانتهاءً بتكرير النفط في عكا، كما أن تلك المصانع كانت بحاجة لإيدي عاملة، حيث باتت فلسطين محط جذب للعمالة العربية من كافة الجنسيات، فبعد أن كنا نستقبل العمال العرب، أصبحنا اليوم نستجدي العمل واللجوء في كافة أنحاء العالم، لكن فلسطين لم تكن كباقي الدول التي اصبحنا عمالاً فيها اليوم، فمن أجل تسهيل تنقل العمال العرب عملت على تطوير شبكة مواصلاتها، ليتم ربط فلسطين بباقي الدول العربية، كما كانت تملك أكبر منظومة مواصلات على مستوى الوطن العربي، لدرجة أن تأخر القطار لدقائق كان يصبح خبراً عاجلاً في الصحف الفلسطينية، ولكن المشهد الذي أثار انتباهي بشكل صارخ هو عرض الفيلم وثيقة بعنوان “أول خدمة للمواصلات في تاريخ العروبة”، وإعلان آخر حول مدارس لتعليم القيادة، ما يثبت أن فلسطين كانت من اوائل مستوردي السيارات عربياً.
لم يكتفِ الفيلم بتطور فلسطين الصناعي، بل تطرق أيضاً إلى التعليم، فالبلاد التي يدرس مواطنوها في الداخل والشتات بمدراس “الاونروا” حالياً، كانت في مقدمة الوطن العربي من حيث التعليم، إذ كانت تحتوي على مدارس عثمانية ومدراس أجنبية ووطنية، وفي عام ١٩٤٨، حسب الفيلم كان عدد مجيدي الكتابة والقراءة حوالي ٥٠٪، وهو رقم كبير جداً في ذلك الوقت، وإلى الآن مازال الفلسطيني في الطليعة من حيث التعليم، حيث بلغ معدل الأمية في فلسطين بإحصائية عام ٢٠٢٠، ٢،٨٪، وبعد النكبة أنجبت فلسطين قامات ثقافية وأدبية في الداخل والشتات، ساهمت بإنشاء نوع أدبي جديد عرف بأدب المقاومة، الذي أثر في أجيال فلسطينية متفاوتة لم ترى فلسطين سوى بين سطور هؤلاء الأدباء.
لربما أكثر إدعاء صهيوني يبرر احتلال بلادي، والذي يزعجني جداً هو خيانة الإنسان الفلسطيني لأرضه ، ويزعمون أنه ترك بلاده وسلمها للصهاينة، وهذا بالضبط ما ناقشه الفيلم، حيث وثق الزحف اليهودي الصهيوني المشرعن، فقبل تعيين “هربرت صاموئيل” كمندوب سامي عن الانتداب البريطاني في فلسطين، اجتمع مع القيادات الفلسطينية لمحاولة اقتسام الاراضي الزراعية بين اليهود المهاجرين والفلسطينيين، حيث استخدم المخرج “اشرف المشهرواي” لقطات تمثيلة توثق ذلك الاجتماع، وتبين رفض القيادات التام لتلك الفكرة، وبعد إعلان وعد بلفور عام ١٩١٧ وتعيين “هربرت صاموئيل” كمندوب سامٍ زاد معدل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، كما منح الانتداب البريطاني اراضي كانت املاك دولة
وهويات فلسطينية لليهود المهاجرين، وأشاع أن الفلسطينيين باعوا أرضهم ، دون إذن القيادات الفلسطينية، حيث بات الشعب الفلسطيني، يقارع الانتداب والمشروع الصهيوني، ما أدى إلى تعثر الاقتصاد، وبدأ صراع البقاء للانسان الفلسطيني على أرضه.
ومع بدء اليهود بالتطهير العرقي في فلسطين، أضاء الفيلم على سرقة اليهود المشرعنة للإنسان الفلسطيني، حيث كان الفلسطيني كأي إنسان آخر من حقه النجاة بروحه وأطفاله أثناء الحرب، فيأتي اليهودي يستغل ترك الفلسطيني لبيته ويرث منزله وأثاثه وبياراته، وحتى المعامل والبنوك، ومع كل تطهير عرقي لقرية كانت تصل قوافل يهودية مهاجرة لتستولي على المساكن، تخيل أن تذهب وتعود لمنزلك لتجد شخصاً آخر ينام في سريرك ويرفض إدخالك للمنزل، لكن هذا ما حدث في فلسطين.
لخص المخرج “اشرف المشهرواي” قضية فلسطين بشاهد عيان يدعى “اسماعيل ابو شحادة”، الذي بدت على تفاصيل وجهه كل ملامح تاريخ النضال الفلسطيني، وكأن مائة عام وأكثر من مليون لاجئ فلسطيني رسموا خطوط جبهته، يروي “ابو شحادة” بحسرة قصة والده الذي توفي متأثراً بمشهد قطع اليهود لأشجار البرتقال والزيتون في بياراته، ويرفض الاستمرار بالحديث عن حقبة دخول الاحتلال، وكأن “المشهرواي” تعمد إنهاء الفيلم “بأبو شحادة” ليقول لنا أن فلسطين قضية حق في مواجهة باطل، وهي أكبر من مجرد وطن وحدود وجغرافية لكن الصراع سيبقى مستمراً.
الرئيسية 
البوابة 
