لماذا يرفض الناس تلقي لقاحات كورونا؟
محمود هو شاب مصري في الخامسة والثلاثين من عمره، يعمل فنيا في أحد المعامل الطبية بالمملكة العربية السعودية، أعلمته إدارة المعمل قبل أيام بضرورة تلقي لقاح "كوفيد-19" لأنه، خاصة، يتعامل خلال عمله مع الفئات المُعرَّضة للخطر، لكنه خائف، يظن أن هذا اللقاح قد يكون ضارا له على المدى القصير أو الطويل، أو ما هو أسوأ من ذلك، قد يقتله. يفتح حسابه على فيسبوك ليبحث عن أي مصدر يطمئنه قليلا، لكنه للأسف لا يجد إلا مزيدا من الخوف، مع أخبار جديدة حول حالات وفاة بسبب أحد اللقاحات
قبل عدة أسابيع، نشرت معظم الصحف العربية خبرا عنوانه: "وفاة ستة أشخاص شاركوا في تجارب لقاح فايزر ضد كورونا"، وقد نُشر هذا الخبر بعد يوم واحد فقط من بدء تلقي المواطنين في بريطانيا اللقاح الجديد، وسبَّب ضجة هائلة في العالم العربي كله، لكن هناك مشكلة واحدة فقط، وهي أن الصيغة التي كُتب بها عنوان الخبر كانت مُضلِّلة.
هذا الخبر، على كل صوره، كان تعليقا على تقرير(1) أصدرته إدارة الغذاء والدواء الأميركية، في 53 صفحة من القطع الكبير مليئة بالبيانات، وجاء فيه بالفعل أن هناك 6 حالات وفاة، لكن 4 منها كانت في المجموعة التي لم تتلقَّ اللقاح من الأساس وتلقَّت علاجا وهميا، أما الحالتان الباقيتان فكانتا في المجموعة التي تلقَّت اللقاح، وأضاف التقرير أن هذه الوفيات حدثت في فئات عمرية ومرضية يُحتمل بالفعل أن تموت لسبب طبي، بالتالي فإنه ليس هناك دليل يجزم أن وفاتها كانت متعلقة باللقاح.
قد يُدرِج الخبر هذه التفاصيل بالفعل في متنه، لكنه يتجاهل -عمدا أو جهلا- الخلاصة الواردة في التقرير نفسه الخاص بإدارة الغذاء والدواء، الذي يُشير بوضوح في أولى صفحاته أن نتائج الفحص تؤكِّد أن اللقاح "فعّال وآمن وحصل بسبب ذلك على تصريح بالاستخدام"، فلِمَ قد تترك منصة ما كل ذلك وتبحث عن معلومة جاءت فقط في فقرة واحدة ضمن هذا التقرير؟ السبب المُتوقَّع هو الرغبة في إثارة انتباه الجمهور بالطبع، بغض النظر عن أية نتائج مُحتملة لعنوان كهذا، هذا النوع من تعمُّد الإثارة "sensationalism" في العنوان، يُضلِّل قطاعا واسعا من الجمهور خاصة في ظل تباري المنصات في صياغة عناوين جذابة.
لفهم خطورة الأمر دعنا نتأمل ذلك الاستفتاء الذي يقول إن 6 من كل 10 أميركيين لا يقرؤون من الخبر إلا عنوانه فقط(2)، وكذا دراسة استقصائية أخرى(3) أشارت إلى أن 60% من الناس يشاركون رابط مقال ما بناء على عنوانه فقط دون فتحه حتّى! أضف إلى ذلك أن أشهر طرق المعرفة حاليا هي الفيديوهات القصيرة جدا والتغريدات وتدوينات فيسبوك، وبذلك يميل المجتمع إلى استهلاك المعلومات السطحية عن أي موضوع. في الحالة العادية، ربما لا يحدث ضرر كبير من ذلك، لكن حينما يتعلَّق الأمر بأمور حرجة جدا مثل الصحة العامة، فإن الأثر يكون هائلا.
بالطبع لا يُعَدُّ هذا هو الخطأ الجسيم الوحيد في التغطية الإعلامية العربية لأخبار اللقاحات، بل يمكن أن تلاحظ في بعض الصحف الكبرى تركيزا دائما على خطورة اللقاحات في مقابل تركيز طفيف على فوائدها، نقطة ضعف اللقاحات هنا هي أنها جاءت بسرعة قياسية (عام واحد فقط)، ما أعطى المواطنين -في كل دول العالم- انطباعا أنه قد تم تجاوز خطوات مهمة جدا، ومؤثرة على الصحة، لأجل الوصول إلى اللقاح سريعا.
وعلى الرغم من أن هناك أسبابا موضوعية تجعل من الممكن أن يصل اللقاح بهذه السرعة، أفردنا لها من قبل تقريرا مفصلا بعنوان(4) "إبرة الخلاص.. هل يمكننا الوثوق بلقاح كورونا؟"، على رأسها أن كل اللقاحات التي حصلت على تصريحات طارئة للاستخدام جُرِّبت بالفعل على عشرات الآلاف من البشر، وسُمح للملايين باستخدامها، إلا أن ذلك لم يصل إلى الجمهور العام إلا بقدر يسير، في حين تبقى هناك دائما مخاوف من الآثار طويلة الأمد للقاح، في الوقت الذي يُهوَّن فيه من شأن المرض نفسه.
هناك سبب رئيسي آخر، ربما أكثر تأثيرا، يجعل من الصعب أن تصل الأخبار الصحيحة عن "كوفيد-19" ولقاحاته بصورة دقيقة للجمهور، وهو تسونامي الأخبار الكاذبة القادمة من كل أطياف أتباع نظرية المؤامرة، الذين تجمَّعوا من كل حدب وصوب، سواء هؤلاء الذين يؤمنون بأن السحالي تحكم العالم، أو مناهضو اللقاحات، أو أتباع لجنة الثلاثمئة وأنصار نظرية المليار الذهبي (مَن يظنون أن هناك نية لقتل البشر مع الإبقاء على 500 مليون إلى مليار شخص من المحظوظين فقط)، للهجوم على "كوفيد-19" ولقاحاته.
يوميا يمكن أن تلتقي بأطنان من المنشورات التي تُخبرك أن التجارب على اللقاحات أظهرت أعراضا جانبية شديدة الخطورة لدى نصف الخاضعين لها، وأخرى تقول إن اللقاحات تُصيب الأطفال بالتوحد، وثالثة تقول إن اللقاحات ستحتل جسمك وتضع به أجساما نانونية تتحكّم بها قوى عالمية، والمشكلة الكبرى أن المنصات الإخبارية التي كان من المفترض أن تعمل على التحقُّق من تلك الادعاءات وتفنيدها هي التي ساعدت في انتشارها وأسهمت في تخويف الناس.
في هذا السياق، هناك دراسة(5) صدرت مؤخرا من جامعة كاليفورنيا ونُشرت في دورية "بريفنتف ميدسن"، هدفت إلى فحص أثر التحقُّق من الأخبار الكاذبة على الناس، وذلك عن طريق تعريض فريقين من المشاركين إلى أخبار كاذبة عن اللقاحات، الأول تعرَّض لمنشور كاذب فقط، والثاني تعرَّض لمنشور كاذب لكن وُضع عليه علامة مميزة "TAG" للتحقُّق من إحدى الجهات الرسمية، وكانت النتيجة أن مَن تعرَّضوا للأخبار التي تم التحقُّق منها أكثر قابلية لتعلُّم المعلومات الصحيحة عن اللقاحات.
إلى الآن، هناك إجماع علمي على أن اللقاحات آمنة، وأن الأعراض الجانبية الشائعة بسيطة، والأعراض الشديدة نادرة جدا، لكن على الرغم من ذلك يميل الناس لتصديق الأخبار الكاذبة المُفزعة حولها، ما قد يؤثر بقوة على قراراتهم تجاه اللقاح. جاءت خلاصة الدراسة لتقول إن المنصات الحكومية أو التابعة للحكومات والمنصات الجامعية تكون ذات أثر أكثر فاعلية إذا شاركت في التحقُّق من المنشورات الكاذبة المتعلقة باللقاحات، لكن ذلك كما يبدو غير كافٍ إلى الآن، ليس فقط في البلاد العربية، ولكن في العالم بأسره.
يؤكِّد الباحثون في هذه النطاقات، يوما بعد يوم، أن انتشار المعلومات المُضلِّلة له أهمية إحصائية موضوعية في التنبؤ بانخفاض متوسط قبول التطعيم يوما بعد يوم، وكانت دراسة(6) من كلية لندن الملكية أُجريت على 8000 شخص في الولايات المتحدة وبريطانيا، ونُشِرت في سبتمبر/أيلول 2020، قد أشارت إلى أن نسبة الناس الذين يقبلون الحصول على التطعيمات انخفضت من 48% إلى نحو 41.5% فقط بعض تعريضهم لأخبار مُضلِّلة عن اللقاحات.
والأكثر من ذلك، وجدت دراسات(7) لاحقة أن الأمر لا يتوقف فقط على التغطيات المحلية للقاح، والأخبار الكاذبة التي تنتشر ضمن نطاق دولة بعينها، بل يمكن للأخبار الواردة عبر الحدود، في صورة منشورات على فيسبوك وتغريدات مُضلِّلة على تويتر، أن تتسبَّب في المشكلات نفسها المُتعلِّقة بقبول اللقاحات، والأمر كذلك بالنسبة للامتثال إلى الإجراءات الصحية المتّبعة للحد من تفشي "كوفيد-19" في العموم، وفي تلك النقطة يمكن أن نُشير إلى أن هناك اتهامات ضد بعض(
الدول أنها تتعمَّد نشر أخبار مُضلِّلة عن اللقاحات داخل دول أخرى، سواء لأغراض سياسية أو اقتصادية.
إلى جانب كل ما سبق، هناك نتيجة لافتة توصَّلت إليها دراسة(9) صدرت في فبراير/شباط 2021 حاولت أن تفحص التصنيفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمجموعات المترددين في تلقي اللقاح بألمانيا، وأظهرت أن جانبا كبيرا من هذه المجموعات لا تُقبل على المشاركة في النشاطات السياسية، كالتصويت في الانتخابات مثلا.
في يونيو/حزيران 2020، أجرى فريق(10) بقيادة جيفري لازاروس، الباحث من جامعة برشلونة الأميركية، مسحا على أكثر من 13 ألف شخص في 19 دولة لمعرفة ما إذا كانوا سيقبلون الحصول على لقاحات "كوفيد-19″، لكن في أثناء الفحص لاحظ الفريق اختلافات كبيرة بين مختلف الدول، حيث تراوحت معدلات القبول من 90% إلى 55%، وكانت البلدان ذات معدلات القبول المرتفعة تميل إلى أن تكون دولا آسيوية تتمتع بثقة قوية في الحكومات، بينما جاءت البلدان النامية (مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا) في مرتبة متأخرة.
استنتجت الدراسة، بحسب إفادات المشاركين في التجارب، أن وجود معدلات أعلى من الثقة في الحكومات، وبالتالي في المعلومات القادمة من مؤسساتها، كان مرتبطا بارتفاع في درجات قبول اللقاح، هذه بالطبع نتيجة مُتوقَّعة، فلو أن المواطن في دولة ما فقد الثقة في حكومته وعزف عن المشاركة السياسية، فمن المتوقع بالتبعية أن يُشكِّك في اختياراتها للقاحات، ظنًّا منه أن دولته اختارت اللقاح الصيني أو لقاح فايزر أو لقاح أسترازينكا لغرض سياسي فقط، رغم أن له آثارا جانبية ضارة.
حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، تلقَّى أكثر من 530 مليون شخص حول العالم لقاحات "كوفيد-19" المتنوعة، هذه معلومة لا يعرفها الكثيرون، وفي رقم هائل مثل هذا، من الطبيعي أن تكون هناك نِسَب يسيرة جدا ممَّن تعرَّضوا لأعراض جانبية، لكن ماذا يحدث لو أن كل ما يشغل وسائل التواصل الاجتماعي هو هذه الحالات اليسيرة؟ ماذا لو أن الاعلام أيضا، والدولة نفسها في بعض الأحيان، متورطون في ذلك؟