نيويورك تايمز: البؤس هو قلب معاناة الفلسطينيين من الاحتلال الدائم
“الحياة في ظل الاحتلال: البؤس هو قلب النزاع”، عنوان تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” عن معاناة أهل القدس من سياسات التهجير والهدم.
وفي التقرير الذي أعده كل من ديفيد هالبفينغر وأدم راسغون، قالا إن محمد صندوقة بنى بيته قريبا من المسجد الأقصى قبل ولادة ابنه الثاني، البالغ من العمر الآن 15 عاما، ثم دمر بعدما قررت السلطات الإسرائيلية أن هدمه سيحسن رؤية المدينة للسياحة. وكان صندوقة في العمل، وهو تركيب المطابخ، عندما واجه مفتش زوجته بخيارين إما أن يقوم بهدم المنزل أو تهدمه البلدية وترسل لهم فاتورة الهدم وهي 10.000 دولار.
وتقول الصحيفة “هذه هي الحياة التي يعيشها الفلسطينيون تحت الاحتلال: يكرهون دائما الدق على باب بيتهم الخارجي”. وقالت إن طرد 6 عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية كان سببا في الحرب الأخيرة بغزة، وحظي باهتمام عالمي واسع مع أن 3 ملايين فلسطيني يعيشون في الضفة الغربية والقدس الشرقية يعانون دائما من الإهانة والخوف من الاحتلال في الخفاء.
وحتى في فترات الهدوء التي لا يهتم فيها العالم يعاني الفلسطينيون من كل الطبقات والأعمار إهانات ومطالب مستحيلة مخيفة وإجراءات بيروقراطية ويجبرون على خيارات مؤلمة. ومضى على هذا الوضع الهش والوحشي نصف قرن.
وإذا كانت عمليات الطرد في القدس قد أدت لإشعال عود الكبريت إلا أن استفزازات الاحتلال تقوم بمفاقمة النار وتسمح لحركة حماس بإطلاق الصواريخ أو شخص مظلوم بالانتقام. ورغم عدم ترحيب أحد بمنظمي البيوت من البلدية إلا أن الوضع في القدس الشرقية مختلف، حيث لا يحصل الفلسطينيون على ترخيص للبناء، وكل البيوت التي تبنى بدونها يكون مصيرها الهدم. فقد نشأ صندوقة قرب الأسواق الشرقية من البلدة القديمة وفي الوادي الذي يفصل بين جبل الزيتون والحرم القدسي. وتزوج في سن الـ19 عاما وانتقل إلى بيت والده وأخذ بتوسعته وزادت الجدران الحجرية من سعة أرضيته ووضع بلاطا جديدا وأنشأ مطبخا جديدا، وكلفه كل هذا 150.000 دولار. وأنجب 6 أطفال كانوا يلعبون في الوادي، وأعدت زوجته في رمضان المقلوبة والمنسف وأخذ أولاده إلى المسجد الأقصى. وفي عام 2016 وضع عمال المدينة علامة على بيت، وبدأت كأنها مصادقة. ولكن إسرائيل كانت تميل وبشكل متزايد نحو اليمين المتطرف، وأصبحت سلطة الحدائق العامة الإسرائيلية تحت تأثير المستوطنين الذين يحاولون السيطرة على الضفة الغربية والقدس الشرقية. وأشارت السلطات إلى خطة قديمة لإنشاء حديقة تحيط بالمدينة القديمة وبدأت بهدم كل البيوت غير المرخصة، وجاء الدور على صندوقة. وكشفت الخطة عن وجود زاوية داخلة في موقف باصات سياحية يخطط لإقامته. وقال زئيف هاكوهين، مسؤول السلطة إن هدم حي صندوقة ضروري لإعادة منظر المدينة القديمة لكي يظهر كما كان في أيام التوراة. وقال “القصص الشخصية عادة ما تكون مؤلمة” ولكن الحي الفلسطيني “يبدو مثل العالم الثالث”.
واستعان صندوقة بمحام وصلى ألا يتم هدم بيته، لكن زوجته اتصلت به وهو في العمل باكية قائلة إن ضابط شرطة حضر هذه المرة.
لكن دق الباب ليس عاديا، فقد استيقظ بدر أبو عالية، 50 عاما، في الساعة الثانية صباحا على صوت الجنود وهم يكسرون باب جاره في قرية المغير بالضفة الغربية. وبدأوا عند وصولهم إلى الباب بنفس الشعائر مثل إيقاظ الأطفال من نومهم وإخراج الجميع إلى الخارج، وأخذ الجنود الهويات بدون تفسير وعاثوا في البيت، وخرجوا بعد ساعتين وأخذوا معهم مراهقا من البيت القريب وقد عصبوا عينيه. وكان المراهق قد شارك في تظاهرة احتجاج قبل أيام حيث قام قناص إسرائيلي بالضرب عليهم وقتل شابا كان يمشي بين رماة الحجارة وعلب الغاز المسيل للدموع.
وكانت القرية واحدة من القرى التي بدأت بتنظيم تظاهرات كل جمعة بعد منع مجموعة من المستوطنين المزارعين من الوصول إلى حقولهم وتحول “استشهاد” الفتى إلى نقطة حشد. وقال الجيش إن مداهمة البيوت في الليل بسبب الأمن والعبث بمحتوياتها من أجل البحث عن أسلحة، إلا أن المداهمات تحفز التطرف. وتحدث أبو عالية بغضب وهو يصف كيف بكى ابنه في الظلام ولم يكن قادرا على مساعدته. و”تدفعك على الانتقام للدفاع عن نفسك” و”لكن ليس لدينا ما يمكننا للدفاع عن أنفسنا”. وقال إن رمي الحجارة كاف “لا نستطيع حمل أم-16 وقتل كل مستوطن، كل ما لدينا هو الحجارة، فرصاصة واحدة يمكن أن تقتلك حالا، وحجر صغير لن يفعل شيئا ولكنني أرسل على الأقل رسالة”. ويرسل المستوطنون رسائل أيضا، فقد قطعوا مئات من أشجار الزيتون في بساتين القرية والتي تعتبر المصدر الأساسي للمعيشة وتربط المواطنين بالأرض. وقاموا بحرق أحد المساجد وأطلقوا النار على أحد أبناء القرية، ولا تزال قضيته مفتوحة.
وبالنسبة لماجدة الرجبي فالآلام الاحتلال لن تذهب أبدا، لأنه فرق بين العائلة. وهي مطلقة مرتين وتم فصلها عن أولادها الـ 5 عبر طريقة معاملة الفلسطينيين التي تفرق فيها إسرائيل بين المكان الذي جاءوا منه. فقد نشأت في الخليل لكن زوجيها السابقين كانا من القدس مما سمح لهما بالتنقل في أي مكان. وسمح للأطفال بالحصول على الهوية الزرقاء أما هي فقد ظلت هويتها خضراء. وعاشا في مخيم شعفاط القريب من القدس، ولم يسمح لأهل الضفة العيش فيه مع أن القوانين لم يتم فرضها.
وبعد طلاقها الثاني تركت وحيدة لتعيل أطفالها الـ 5 من حملة الهوية الزرقاء. وعندما تنشقت ابنتها مادة غسيل كيماوية حاولت نقلها إلى أقرب مستشفى في القدس، لكن الجنود منعوها، وكمدرسة كان يسمح لها بدخول شعفاط حتى السابعة مساء، وعندما نقلتها كانت الساعة الثامنة مساء. وهي لا تستطيع مرافقة أبنائها على الجانب الأخر، ويبلغ عمر ابنتها 21 عاما ومخطوبة حيث تذهب مع خطيبها إلى الجانب الآخر بدون السماح لأمها بمرافقتها أو إخوتها. وانتقلت في الصيف الماضي خارج شعفاط في حي آمن خارج حدود القدس في الضفة الغربية، وهو ما يعني خسارة أولادها هوياتهم لو اكتشفت إسرائيل محل إقامتهم “لا يسمح لي بالعيش هنا” و”بناتي لا يسمح لهن بالعيش هناك”.
وأشارت الصحيفة لجانب آخر من المعاناة وهو العمل مع الاحتلال، فماجد عمر كان يعمل في إسرائيل لكنه خسر تصريح عمله عام 2013 عندما أطلق الجيش على شقيقه رصاصة وهو يحاول الدخول عبر فتحة في جدار الفصل وأصابه في رجله. وتم سحب التصريح خشية أن يقوم عمر بالانتقام لأخيه. وظل عاطلا عن العمل مدة 14 شهرا وعندما أعيد له التصريح لم يسمح له بالدخول إلى إسرائيل ولكن العمل داخل مستوطنات الضفة الغربية حيث يدفع للعمال فيها نصف ما يحصل عليه الآخرون داخل إسرائيل ويتم تفتيشهم في الدخول والخروج ومراقبتهم من جنود طوال اليوم. وأضافت الصحيفة “إلى البؤس هناك حواجز التفتيش، فنائل العزة، 40 عاما يخشى المرور اليوم من حاجز التفتيش بين سكنه في بيت لحم ومقر عمله في رام الله. وفي البيت يعمل بين جدرانه ويزرع الخضروات والأعشاب المفيدة ولكن لا شيء يحميه وهو مدير في الإطفائية والإسعاف. وفي مرة أوقفته مجندة عند حاجز التفتيش وطلبت منه إنزال نافذته وسألته إن كان يحمل سلاحا، وعندما أجاب بالنفي فتحت الباب وأغلقته بشدة. وكان يريد الاحتجاج ولكنه ضبط نفسه متذكرا أن كل المواجهات مع الجنود تنتهي بإطلاق النار على الفلسطينيين. و”لو أردت الدفاع عن ممتلكاتي ونفسي فهناك ثمن” ورحلته لا تستغرق سوى 14 ميلا لكن عليه السفر عبر طريق التفافي يستغرق ساعات بسبب حاجز التفتيش وضيقه ولا يهتم المجندون الشباب بوقف سيارات حتى لو كان الصف يمتد على 5.000 سيارة و”عندما يعرقلون حركتك ويتسببون بفشلك تفقد قيمتك ومعناك”.
ويضطر بسبب التأخير للنوم في العمل والحديث مع أطفاله عبر الهاتف. ويقول إنه يحاول تجنب الحديث مع أولاده عن النزاع ولكنهم يشاهدون ويجربون الأمور وليس لديه أجوبة و”عندما نكون في السيارة نشغل الموسيقى وأطفئها عند الوصول إلى الحاجز، لا أعرف لماذا، وأنظر للأطفال عبر المرآة وأرى القلق في عيونهم ويعدلون فجأة جلستهم. ولكننا عندما نقطع الحاجز أشغل الموسيقى”.
وترى الصحيفة أن أي فلسطيني ليس بعيدا عن الاحتلال حتى الموسرين ممن يعيشون في “فقاعة” رام الله التي من النادر أن يدخلها الإسرائيليون. فكل فلسطيني يحمل جراح الاحتلال من سندس مليطات التي اختبأت مع أخيها من دبابات إسرائيل التي دخلت نابلس حيث نشأت. وتدير اليوم موقعا يربط الفلسطينيين مع المحللين النفسيين. ويحاول الفلسطينيون الهرب من واقع الاحتلال عبر الالتزام الاجتماعي والديني ومنصات التواصل، مع أن كل هذا يعزز أثر الاحتلال الخانق. و”كل شيء عن التحكم” و”الناس يمرون عبر فترة تدجين ويستسلمون لها ويشعرون بعدم القدرة على تغييره”.