أزمات فرنسا من المغرب إلى تركيا
حطمت فرنسا رقما قياسيا في الأزمات مع شركائها في جنوب البحر الأبيض المتوسط، ومن ضمنهم شركاء رئيسيين مثل الجزائر والمغرب، علاوة على دول افريقية مثل مالي، بل تمتد الأزمة الى المجتمع المدني من خلال قضية التأشيرات والعجرفة الاستعمارية المستمرة، كل هذا يؤكد فقدان هذا البلد الأوروبي للبوصلة سواء السياسية أو الأخلاقية.
كانت العلاقات بين فرنسا وتركيا متفجرة منذ سنوات بسبب ملفات كثيرة منها، حرص فرنسا العلمانية على الحفاظ على الاتحاد الأوروبي ناديا للدول المسيحية من دون الإعلان عن ذلك علانية، ثم توظيف المجازر التركية ضد الأرمن. وتفاقمت الأزمة منذ 2019 بسبب التنافس حول ليبيا، وأصبحت باريس تصنف أنقرة بالعدو الحقيقي الذي يهدد نفوذها في البحر المتوسط. وعمليا، أصبحت تركيا الدولة التي وضعت حدا للنفوذ الفرنسي في المتوسط، وهو نفوذ تمتعت به منذ أكثر من قرنين باستثناء لحظات تاريخية معينة مثل، الحرب العالمية الثانية عندما سقطت في يد الاستعمار النازي. يستخلص من هذه المواجهة كيف أصبحت فرنسا عاجزة عن صنع القرار أو الخريطة السياسية في المتوسط، فقد كان هدفها في ليبيا رفقة شركاء لها هو تقسيم هذا البلد المغاربي، لكن هذه المحاولة فشلت لتكون آخر محاولات التحكم في الضفة الجنوبية.
وانفجرت الأزمات مع دول ثالثة غير تركيا، وأبرزها مع المغرب على خلفية تلميح باريس بتجسس الرباط على الرئيس إيمانويل ماكرون، ووزراء آخرين ببرنامج بيغاسوس، الذي تنتجه شركة إسرائيلية. ومنذ ثلاثة أشهر، تمر العلاقات ببرودة كبيرة، ولم يعد الوزراء الفرنسيون يزورون الرباط، ولا المغاربة يحلون في باريس. وانفجرت العلاقات بقوة أكبر مع الجزائر على خلفية الذاكرة الاستعمارية المشتركة، عندما تحدث الرئيس ماكرون منذ أسبوع عن غياب أمة جزائرية، في تلميح الى دور ما يعتبره الاستعمار التركي، ثم الفرنسي في صنع الجزائر الحالية.. وكتبت جريدة «لوموند» تعمد ماكرون استفزاز الجزائر حول ملف الذاكرة لأسباب غامضة حتى الآن، وقد تكون لدواع انتخابية. ولا تمر العلاقات بين تونس وفرنسا بفترة استقرار، فقد أحجمت فرنسا عن توجيه انتقادات الى الرئيس التونسي قيس سعيد، بسبب حالة الاستثناء وضرب الديمقراطية، عكس الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا، ولكن كان لقرار باريس تقليل التأشيرات للدول المغاربية الثلاث تونس والجزائر والمغرب، تأثير سلبي على العلاقات حتى مع تونس. ودائما في إطار الأزمات، تستمر الحكومة الليبية الشرعية في اعتبار فرنسا عائقا نحو الوحدة الليبية، بسبب دعمها للجنرال حفتر والتنسيق مع مصر والإمارات العربية في الملف الليبي، كرد على المنافسة مع تركيا، وترغب ليبيا في جعل ألمانيا مخاطبا دوليا لها وبالخصوص في الاتحاد الأوروبي بدل فرنسا المنحازة.
لا توجد دولة في التاريخ أنتجت فكرا لصالح التحرر والمساواة والعدل وسقطت في الوقت ذاته في ممارسات مضادة مثل حالة فرنسا
وغير بعيد عن المنطقة، وجهت سلطات مالي انتقادات قوية إلى باريس واستدعت سفيرها إلى باماكو للتشاور بسبب اعتراض فرنسا على سياسة مالي الأمنية التي ستعتمد على ميليشيات شركة فاغنر الروسية، لمواجهة الإرهابيين في شمال البلاد، وكأن توفير أمن هذا البلد الافريقي مقتصر فقط على فرنسا.. ووجهت مالي انتقادات لفرنسا من منبر الأمم المتحدة خلال أشغال الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وذلك في خطاب واضح يدعو قادة باريس إلى التوقف عن معاملة هذا البلد الافريقي ودول أخرى وكأنها مقاطعات فرنسية. وتلقت فرنسا ضربة جيوسياسية، عندما قامت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا باستبعادها من حلف «أوكوس» البحري ضد الصين، فهذه الدول تشك في ولائها، وتعتقد في أنها تحابي روسيا والصين أحيانا على حساب الغرب، وعليه، لا تستحق الوجود في حلف استراتيجي مثل «أوكوس». والتهميش الأنكلوسكسوني لفرنسا يترجم عمليا بإنزالها إلى القسم الثاني لتصبح دولة غربية مثل رومانيا أو بلغاريا. وإذا كانت فرنسا قد بدأت تفقد علاقاتها المتميزة مع دول جنوب البحر الأبيض المتوسط بسبب عجرفتها السياسية، فهي لا تجد الترحيب من جزء مهم من الرأي العام والمجتمع المدني في هذه المنطقة. فهذا البلد الذي أنتج مفكرين مثل فولتير ومونتسكيو والثورة الفرنسية، يعد من أكبر داعمي الديكتاتوريات العربية والافريقية منذ عقود، والدولة التي قامت بتصدير برامج التجسس على المعارضين والصحافيين، علاوة على استقبال بنوكها للأموال المهربة من طرف الحاكمين في عدد من الدول العربية والافريقية، والمفارقة، أنه لا توجد دولة في التاريخ أنتجت فكرا لصالح التحرر والمساواة والعدل وسقطت في الوقت ذاته في ممارسات مضادة مثل حالة فرنسا، سواء بقسوة استعمارها الوحشي الذي خلف ملايين القتلى في المستعمرات، ونهبها لخيرات هذه المستعمرات، أو تحالفها لاحقا مع أنظمة ديكتاتورية والتورط في انقلابات تحت ذريعة «مصالح الوطن».
لقد بدأت فرنسا تفقد بوصلتها، يساروها شك بأنها لم تعد من ضمن الدول الكبرى الصفوة، وتعاني من تهميش، وتدرك أن استيقاظ مستعمراتها السابقة واستقلالها المالي والسياسي عنها، بمعنى تقليل هذه الروابط، يحمل معه تراجع نفوذها في الخريطة الدولية. إن ملف الحلف البحري الأنكلوسكسوني «أوكوس» والأزمة مع تركيا وشمال افريقيا مؤشر حقيقي على الأزمة التي تتخبط فيها الدبلوماسية الفرنسية بشكل جلي منذ أكثر من عقد من الزمان. نعم، فرنسا في أزمة، ومن عناوين هذه الأزمة أن يصبح مفكر شعبوي بأطروحاته العنصرية مثل إريك زمور، علامة فرنسية معروفة في الخارج أكثر من أي فرنسي آخر.