من لبنان إلى أفغانستان.. ومن اليمن إلى أذربيجان.. مناطق مشتعلة.. فمَن المُحرِّك ومن المستفيد؟
1 ــ
هل التاريخ يعيد نفسهُ في لبنان ولكن بطريقةٍ أخرى؟.
ما حصلَ في لبنان ليلة الخميس 14 تشرين أول 2021 في منطقة الطيُّونة وعين الرمانة، وسقوط سبعة ضحايا وعشرات الجرحى، يشيرُ إلى حالة الاحتقان الكبيرة التي يعيشها، ليس فقط الشعب اللبناني، بل والزعامات السياسية اللبنانية، التي انطبق عليها المثل الشعبي: ” المسألة ليست مسألة رمَّانهْ وإنما قلوب مليانه” ..
كثيرون استحضروا بأفكارهم تاريخ الماضي، وبدايات الحرب الأهلية، حينما أُطلِق النار نحو زعيم حزب الكتائب الشيخ “بيير الجميِّل” في نيسان 1975 وهو يخرجُ من إحدى الكنائس في حي “عين الرمّانه” ببيروت الشرقية، ثم جاء إطلاق النار من طرف حزب الكتائب على حافلةٍ (بُوسطة) تقلُّ فلسطينيين عائدين من احتفالٍ وبطريقهم إلى مخيم تل الزعتر.. فكانت الشرارة التي أشعلت حريق لبنان الكبير لمدة أكثر من خمسة عشر عاما أرّخها التاريخ بـ ( الحرب الأهلية اللبنانية)، ولم تكُن مسألة إطلاق النار باتجاه زعيم حزب الكتائب سوى القشّة التي كسرت ظهر البعير، إذ كانت النفوس محتقِنة حتى الجمام وتنتظر لحظة الانفجار..
2ــ
اندلعت الحرب وتشكلت لاحقا جبهتان بمواجهة بعضهما: “الجبهة اللبنانية” التي ضمّت الزعامات المارونية برئاسة كميل شمعون، وأطلقَ خصومها عليها مُصطَلَح “القِوى الانعزالية”، وتطالبُ بالفيدرالية، ولكنها انقسمت عام 1978 بعد انفصال سليمان فرنجية عنها إثرَ اغتيال نجلهِ “طوني” على يد ” القوات اللبنانية” (الجناح العسكري حينها لحزب الكتائب).. وكانت هذه الجبهة ضد التواجُد الفلسطيني في لبنان الذي جاء بموجب ” اتفاق القاهرة” في 3/ 11/ 1969 بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية..
والجبهة الأخرى وأُطلِق عليها ” الحركة الوطنية اللبنانية” بزعامة كمال جنبلاط، وكانت مُسانِدة لِمنظمة التحرير الفلسطينية وللعمل الفدائي..
ضاق الأمرُ كثيرا بالجبهة اللبنانية بعد أن خسرت الكثير من سيطرتها، ووصلت السكِّين إلى الرقبة بحسبِ وصفِ ” بيير الجميِّل” مما دفعهم للطلب من القيادة السورية التدخُّل.. فكان ذلك، ولكن بعد موافقة الدول العربية في مؤتمر القمة المُصغّرة في الرياض في 16 / 10 /1976 ، ثم موافقة مؤتمر القمة العربية الثامن في القاهرة في 25/ 10/ 1976.. وطبعا عدم ممانعة الولايات المتحدة..
3ــ
دخلتْ سورية عسكريا لوقف الحرب وللحيلولة دون تقسيم لبنان، وخلقِ دولة “مقهورين” مسيحية، ورجّحت الكفّة حينها لصالح “الجبهة اللبنانية” بعد أن كانت لصالح ” الحركة الوطنية اللبنانية” ..
وأذكرُ كيفَ سِرتُ ذات مرّة داخل سيارة عسكرية مع الدبابات السورية وهي تتقدمُ في منطقة قرية “ضهور الوحش” ما بين بلدَتي “عاليه” و “الكحّاله”، حيثُ كنتُ أخدمُ الخدمة العسكرية الإلزامية في قسم الإعلام بالإدارة السياسية التابعة لوزارة الدفاع السورية، وكنتُ مُرافقا بشكلٍ رسميٍ لوفد صحفي أجنبي يُعِدُّ ريبورتاجا عن ذلك.. وكنتُ أرى النساء والرجال والصبايا والشباب يرشُّون الأرز فوق الدبابات السورية وعلى الجنود السوريين.. وأنزلني بعض صبايا وشباب الكتائب المُسلحين وهم ببذلاتهم العسكرية المُرقّطهْ، كي يتصوروا معي..
4 ــ
اليوم تغيّرت كافة تلك المعادلات، ولكن صورة الحرب وأسباب اندلاعها ما زالت في ذاكرة الجميع.. فما أشبهَ اليوم بالأمس..
حزب الله وحلفائهِ اتهموا حزب القوات اللبنانية بإطلاق النار على المتظاهرين ليلة الخميس 14 /10 /2021 ، بينما خرج رئيس الحزب سمير جعجع في الليلة التالية لينفي ذلك في مقابلة تلفزيونية رسمية، ويُحمِّل المسؤولية لأمين عام حزب الله، ولِيُهاجِم رئيس الجمهورية ” ميشيل عون” وبشكل استهزائي ..
بدا سمير جعجع مُتحدِّيا ويتحدثُ بلهجةٍ قويةٍ وأنهُ مُستعدا لكل الاحتمالات.. ومتحدثا باللهجة العامية
أُوعَى حتى يفكِّر بدنا نموت وعيونا مفتوحة، أُوعَى.. ما حدا يفكِّر راح نستقيل أو راح نهرب أو راح نطلع من بين الناس.. لاء.. وإذا صار شي شبابنا راح يكونوا.. ) ..
فمِن أين استمدّ سمير جعجع هذه المعنويات؟. ومن دفعوهُ من الخلف للاستعداد لفتحِ مواجهةٍ مع حزب الله؟. علاقاته جيدة مع السعودية ومع الولايات المتحدة، وأعتقدُ من خلف الطاولة، مع إسرائيل.. فالسعودية من غير المرجّح أنها دفعتهُ لذلك لا سميا أنها تُجري محادثات لتحسين العلاقات مع إيران، وقد وصفها وزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان، بأنها محادثات ودية..
فهل أمريكا وإسرائيل هما خلف ذلك؟.
مع أنني لستُ من أنصار ” نظرية المؤامرة” ولكن هناك تحالُف تاريخي بين أمريكا وإسرائيل، وحزب القوات اللبنانية هو الأقرب لهما على الساحة اللبنانية.. ومعروفٌ أنّ أمريكا وإسرائيل يتربصان بإيران على الدوام، وبحليف إيران في لبنان، حزب الله..
ويجب أن نعترف أن كافة الأحزاب اللبنانية المُمَثِّلة لطوائفٍ، مرتبطة بالخارج وتتلقى المساندة والدعم والتمويل من الخارج.. ومن يأكل من خبز السُلطان فيجب أن يضرب بسيفهِ، أي لا يمكنها سوى أن تنفِّذ توجيهات وتعليمات وأوامر مموليها..
5 ــ
فانفجار المرفأ جريمة كبرى ويجب الكشف عن كافة المسؤولين بهذا الموضوع، إذ هناك دماء هائلة، ودمار وخراب واسعين، وضحايا كثُر أبرياء، لا ذنبا لهم سوى استهتار مسؤولي دولتهم بحياتهم.. العدالة يجب أن تطال المسؤولين عن ذلك.. كافة الأطراف اللبنانية مُتّفقة على هذا الأمر والخلاف هو بكيفية المُقاربات.. هذه يجب الاتفاق عليها والقضاء يجب أن يأخذ مجراه.. وأمام العدالة والقانون لا يوجدُ كبيرا وصغيرا، ولبنان أكبر من الجميع، وأرواح الناس أهمُّ من الجميع..
وتجدرُ الإشارة هنا أنَّ ابنتي أنقذها الله حينئذٍ، إذ كانت تدرس الماجستير في الجامعة اليسوعية وتسكنُ في الأشرفية، منطقة الصيفي، بالقرب من الجامعة وقريبا من مكان الانفجار، وتأثرت البناية بشكلٍ كبيرٍ ولحقَ بها أضرارا بالغة، واللهُ حماها..
6 ــ
إذا يمكن القول أن قرار المواجهَة مع حزب الله اتُّخِذ، كما عبّرت لهجة رئيس حزب القوات سمير جعجع، وينتظر اللحظة المناسبة والذريعة المناسبة.. ومن هنا ضرورة سدِّ كافة الذرائع..
ليس لأمريكا وإسرائيل مصلحة أن ترتاح إيران أو حزب الله، لاسيما بعد حربٍ طويلةٍ وشاقّةٍ في سورية، فالاستنزاف يجب أن يستمر، ويجب إشغالهِ، ومِن خلفهِ إيران، بِحربٍ، أو توتراتٍ داخليةٍ دائمةٍ، كي يستمر الاستنزاف والعناء ..
هذا هو الموديل الحديث من الحروب، أو الجيل الرابع منها، حسب الاستراتيجيات الأمريكية والإسرائيلية: حروبٌ مُعقّدةٌ وطويلة الأمد، ومتعددة الجنسيات، استخدام كافة الضغوط المُتاحة، السياسية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية، واستعمال الحروب النفسية أو البروباغاندات..
وهذا ما يُفسِّرُ أيضا التوتير الأذربيجاني على الحدود مع إيران.. إذ أن هذا سوف يُوسِّعُ من جبهات المواجهَة أمام إيران، وكذلك تفجير المساجد الشيعية في أفغانستان وهي ممتلئة بالمُصلِّين، حيثُ أن إيران هي زعيمة الشيعة بالعالم وستجدُ نفسها معنيةٌ بمواجهة هذه التفجيرات ومن يقفون خلفها..
وهكذا تتّسعُ جبهة الحروب والانشغالات والتوترات والمواجهات أمام إيران، من اليمن إلى أذربيجان، ومن لبنان إلى أفغانستان.. حقولُ ألغامٍ خطيرةٍ يجب السير من بينها بكل دِقّةٍ وعناية وانتباه واهتمام، وتفكيكُ ما أمكن منها، وهذا يبدأ بتخفيفِ أو وقفِ إيران لِتشجيع الآيديولوجيات الدينية السياسية، وإعادة النظر بسياساتها في محيطها العربي وكسب الثقة من عموم أهل السُنّة (مع التأسُّف عن استخدام هذا التعبير ولكن لا بُدّ من الوضوح).. وخاصّة أن لدى إيران حكومة جديدة محسوبة على التيار المتشدد، ووزير خارجية معروفٌ بتصريحاته الحماسية منذُ كان نائبا لوزير الخارجية.. هذا لا يخدمُ إيران، وخاصة في هذه الظروف.. الأمر يحتاج لكثيرٍ من الدبلوماسية.. والقليل من لغة التحدي والهجوم والاتهامات والعنتريات.. فالأفخاخ والألغام تحتاج إلى الكثير من الهدوء لتفكيكها والنفاذ من بينها..
كاتب سوري ووزير مفوض دبلوماسي سابق