كيف تم تصنيع لحظة «وعد بلفور» سياسيا
إبراهيم نوار
حصل اليهود على وعد بإقامة «وطن قومي في فلسطين» منذ أكثر من 100عام، وبدأ تنفيذ «الوعد» مع تفويض بريطانيا من عصبة الأمم، بفرض الانتداب على فلسطين عام 1920. ذكرى وعد بلفور مرّت علينا أمس، لكن قرنا من الزمان ما يزال يصيح فينا بأن نعيد قراء التاريخ لمحاولة استخلاص العبر. خلال قرن من الزمان أصبح الفلسطينيون غرباء في فلسطين، بل إن اسم فلسطين نفسه تجري المحاولة تلو المحاولة لاغتياله.
ثقافة معادية لليهود في أوروبا
كانت الثقافة السائدة لدى الأرستقراطية الحاكمة في أوروبا عشية الحرب العالمية الأولى، تنظر إلى اليهود بشكل عام نظرة سلبية، وتراهم مجتمعا مغلقا شديد السرية، وأنهم على الرغم من تناثرهم في بقاع العالم من روسيا إلى الولايات المتحدة، يقيمون في ما بينهم صلات قوية، ويتآمرون على البلدان التي يعيشون فيها من أجل السيطرة عليها لمصلحتهم. لكن الجاليات اليهودية لم تكن تستنزف قوتها في عداءات مقابل تلك النظرة السلبية، وإنما في بناء جسور للتعاون مع أفراد من النخبة الأرستقراطية في مواقع الحكم والسيطرة. ولعبت مجموعة من اليهود المقيمين في بريطانيا دورا حاسما في تأمين مصالح اليهود، ليس في بريطانيا فقط ولكن في العالم أجمع. هذه المجموعة ضمت اللورد روتشيلد سليل أغنى أسرة في العالم، وهربرت صامويل سليل عائلة من أكبر تجار الذهب والمال في بريطانيا، وحاييم وايزمان عالم الكيمياء المهاجر من روسيا، والمفكر والصحافي ناحوم سوكولوف المهاجر من بولندا، إلى جانب الحاخام (الحكيم) موسى جاستر الروماني الأصل، حاخام طائفة اليهود الشرقيين. وكانت نظرية صامويل التي لخصها في مذكرة بعنوان «مستقبل فلسطين» قدمها للحكومة عام 1915، تقول إن هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، ستجعل أملاكها في آسيا عرضة للتقسيم، وسط تنافس شرس بين القوى الأوروبية المنتصرة، بعد أن تم فعلا اقتطاع أملاكها الأوروبية في حرب البلقان 1913، وفي شمال افريقيا من قبل. وحذر من أن كل واحدة من القوى الأوروبية ستريد الحصول لنفسها على فلسطين، نظرا لمكانتها الدينية والتاريخية والسياسية، وأن هذا التنافس الشرس قد يفضي إلى حروب لا نهاية لها. ولتجنب هذا المصير، اقترح أن يتم حجز فلسطين لإقامة دولة لليهود، فلا تكون لأحد من القوى الأوروبية المتنافسة، على أن تخضع مؤقتا للحماية البريطانية، حتى تعديل ميزان القوى الداخلي، لأن ما يقرب من نصف مليون من السكان العرب لن يقبلوا بحكم 100 ألف من اليهود. وقد تحدث صامويل باستفاضة عن مشروعه لمستقبل فلسطين مع السير إدوارد غراي وزير الخارجية، ووجد المشروع تأييدا من رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج، الذي كان يضع تفكيك الدولة العثمانية على رأس أولوياته السياسية، كما كان لا يقبل على الإطلاق فكرة اقتسام فلسطين مع فرنسا.
خلال قرن من الزمان أصبح الفلسطينيون غرباء في فلسطين، بل إن اسم فلسطين نفسه تجري المحاولة تلو المحاولة لاغتياله
اتصالات روتشيلد – بلفور
بعد احتلال القوات البريطانية بقيادة الجنرال اللنبي لفلسطين، واطمئنان الحكومة للوضع هناك، طلب رئيس الوزراء من آرثر بلفور وزير الخارجية، أن يدرس كيفية تنفيذ فكرة توطين اليهود في فلسطين، التي كان قد طرحها أيضا اللورد روتشيلد انطلاقا من أفكار ثيودور هرتزل. وفي عام 1917 طلب بلفور من روتشيلد إعداد الصيغة التي يمكن أن ترضي المنظمة الصهيونية العالمية. وعلى الفور تم تكليف فرع الفيدرالية الصهيونية في بريطانيا برئاسة حاييم وايزمان بإعداد صيغة البيان، كما طلب روتشيلد من وايزمان ضرورة التعاون مع هربرت صامويل، الذي أصبح وزيرا للداخلية، فكان أول وزير يهودي في حكومة بريطانية. ودارت العجلة بسرعة خلال الأسابيع الأولى من عام 1917 لصياغة ما عرف بعد ذلك بـ»وعد بلفور». وعُقد الاجتماع التأسيسي لخلية العمل في 7 فبراير في منزل حاخام (حكيم) طائفة اليهود الشرقيين موسى جاستر، وضم كلا من مارك سايكس (شريك اتفاقية سايكس- بيكو) الذي كان قد تم تعيينه سكرتيرا سياسيا لرئيس الوزراء وحاييم وايزمان وناحوم سوكولوف. وعرض وايزمان صيغة وصفها مارك سايكس بأنها مترهلة وغير صالحة؛ فتم الاتفاق على أن يتولى هو إعادة صياغتها. وانتهى مارك سايكس إلى صياغة الإعلان في فقرة واحدة فقط، تم إرسالها إلى مكتب رئيس الوزراء وإلى روتشيلد، الذي اعتقد وقتها أن الإعلان سيصدر خلال أيام قليلة، لكن ذلك لم يحدث، لأن المشروع بأكمله وجد معارضة شديدة من جانب اثنين من قيادات «رابطة اليهود البريطانيين» المعادية للصهيونية. هما الصحافي لوسين وولف والسياسي أدوين مونتاغو وزير شؤون الهند. وقد عرض مونتاغو مذكرة تستحق أن توصف بأنها «وثيقة تاريخية» تدفع بأن الصهيونية هي أساس لإشعال العداء للسامية، وأن اليهود لا حق لهم في استيطان فلسطين وإقامة دولة لهم هناك. وعارض بشدة مشروع إعلان بلفور. وتسببت معارضته في تأخير موافقة الحكومة على البيان، وسط جدل حاد، قال مارك سايكس أنه كاد يؤدي إلى دفن المشروع بأكمله في أرشيف التاريخ.
تهديد لندن بباريس
ومع تأخر إصدار إعلان بلفور، زاد قلق اللورد روتشيلد، وراح قادة الحركة الصهيونية العالمية يبحثون عن سبيل للضغط على بريطانيا؛ فتوجهوا إلى باريس لطلب تعهد بتأييد توطينهم في فلسطين. وساعدهم على ذلك أن مارك سايكس كان قد أقام علاقة بين ناحوم سوكولوف وفرانسوا بيكو، استثمرها الأول بسرعة لإقامة علاقة مع وزارة الخارجية الفرنسية. واستطاع في 4 يونيو من العام نفسه أن يحصل على خطاب مكتوب من جول كامبون السكرتير العام لوزارة الخارجية، بتأييد فرنسا توطين اليهود في فلسطين. وعندما علم سايكس بذلك أبلغ رئيس الوزراء أن حصول الفيدرالية الصهيونية على وعد من فرنسا بتأييد الاستيطان اليهودي في فلسطين ليس في مصلحة بريطانيا، وطالب بإصدار إعلان بلفور على وجه السرعة. ومع ذلك فقد استمر الجدل خلال صيف عام 1917 واستمر حتى أكتوبر؛ فقرر رئيس الوزراء إجراء مناقشة أخيرة لمشروع البيان في مجلس حكومة الحرب، وتمت الموافقة فعلا عليه في اجتماع عاصف يوم 2 نوفمبر. وقال مارك سايكس أنه فور موافقة الحكومة، خرج ليلتقي حاييم وايزمان، الذي كان ينتظر خارج مقر الاجتماع وهتف: «مبروك.. مولود ذكر». لكن وايزمان لم يبتهج كثيرا بالإعلان لأنه من وجهة نظره لم يتضمن أي صيغة تنفيذية، وأسرع إلى روتشيلد لإبلاغه.
الدور التنفيذي لهربرت صامويل
انطلاقا من مذكرته بشأن «مستقبل فلسطين» التي كان قد أعدها منذ سنوات بدأ هربرت صامويل، يتهيأ لممارسة دور كبير لتحويل ما جاء في المذكرة إلى حقائق، وذلك بوضع خطط تفصيلية لإقامة سلطة يهودية مستقلة في فلسطين، وفتح باب الهجرة لليهود على مصراعيه، وإصدار قانون للجنسية يمنح اليهود المهاجرين حقوق المواطنة الكاملة بالمساواة مع الفلسطينيين (المسلمين والمسيحيين واليهود) من حيث التملك والعمل، ومقومات الأهلية المدنية كافة، وجعل (العبرية) لغة رسمية إلى جانب العربية والإنكليزية، وفك ارتباط فلسطين بالجنيه المصري، وإنشاء سلطة نقد فلسطينية مستقلة، وإنشاء شركة عقارية لشراء أملاك وأراضي العرب وبيعها للمهاجرين اليهود، وإنشاء الوكالة اليهودية العالمية، والجامعة العبرية. وتسلم صامويل منصبه كأول مندوب سامي لبريطانيا في فلسطين، اعتبارا من أول يوليو 1920 حنى نهاية يونيو 1925.
لقاء حاييم وايزمان بالأمير فيصل
بمجرد إقرار إعلان بلفور، بدأ مارك سايكس في إعداد خطة لتشكيل «مفوضية صهيونية» تتألف من قيادات الفيدراليات الصهيونية الأوروبية، على أن تقوم هذه المفوضية بالسفر إلى مصر وفلسطين للقاء الزعامات العربية، والإسهام في خلق مناخ ودي بين اليهود والعرب، خصوصا الشريف حسين وأبناءه ومشايخ القبائل. وتم اختيار حاييم وايزمان لرئاسة هذه المفوضية. ومن أجل منحها مكانة سياسية رفيعة رتبت الحكومة مع القصر لقاء للمفوضية مع الملك جورج الخامس، قبل سفر الوفد إلى القاهرة. وفي الاسبوع التالي سافر وايزمان إلى الإسكندرية في مارس 1918، ثم توجه بعد ذلك إلى القاهرة وأمضى هناك عدة أسابيع التقى فيها قيادات اليهود والجنرال اللنبي والمندوب السامي البريطاني، ثم سافر إلى فلسطين، وهناك رتب له أحد مساعدي الجنرال اللنبي لقاء مع الأمير فيصل بن الشريف حسين. وقد أبدى وايزمان إعجابا شديدا بفيصل، وقال إن تلك كانت المرة الأولى التي يلتقي فيها «شخصية عربية قومية» ومع ذلك فقد لاحظ أنه ليس معنيا كثيرا بمستقبل فلسطين، ولكنه كان شديد الحرص على معرفة مستقبل دمشق، وأعرب عن أمله في أن يحصل على سوريا بأكملها. ونظرا لأن لورانس كان صديقا للشريف حسين وأبنائه، فإن الانكليز لم يكونوا قلقين كثيرا من ردود فعل العرب تجاه إعلان بلفور، لثقتهم بقدرته على احتوائها تماما، كما حدث عندما أبلغهم جمال باشا بتفاصيل اتفاقية سايكس- بيكو بعدما نشرها البلاشفة.
كاتب مصري