هناك رجال تلتقيهم مرة أو مرتين في مشوار الحياة، ولكنَّ ذكراهم تعيش معك أبداً ولا تغيب، فمجالسهم مدرسة تعلمك الكثير وترسم لخطاك معالم الطريق وهدي السبيل. إن واحداً ممن عرفت من بين هؤلاء الرجال كان د. خيري الأغا.
التقيت الأخ خيري الأغا (رحمه الله) أول مرة في مدينة شيكاغو في نهاية الثمانينيات، وكان وقتها يرأس "جهاز فلسطين"، الذي كان بمثابة الهيئة العليا لتنظيم الإخوان المسلمين في داخل الأرض المحتلة وخارجها، فيما كان د. موسى أبو مرزوق نائباً له.
كانت أحاديثنا معه في مواطن الغربة شيَّقة، فهو موسوعة معرفية بتاريخ الحركة الإسلامية على أرض فلسطين، كما أن علاقاته بالحركة الوطنية والرئيس ياسر عرفات (رحمه الله) كانت وطيدة، فالرجل يُحسن وصل ما انقطع ولا يترك عداوات خلفه، وكل من عرفه وتعامل معه ذكره بخير وبأياديه البيضاء، التي تركت الكثير من الأثر في قطاع غزة وفي الشتات.
عندما التقيته في ذلك الوقت من أواخر الثمانينيات كنت أشرف على تحرير مجلة (فلسطين الغد)، وقد طلبت منه - بعد أن أطلت الاستماع إليه - أن أجري حديثاً صحفياً معه، إلا أنه رفض بشدة، وقال إنه لا يُحبِّذ الظهور الإعلامي، وكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له.
ربما كان مكان عمله في المملكة العربية السعودية، وحساسية القضية الفلسطينية في السياسة الإقليمية، وانتماؤه الإسلامي الحركي، تفرضان عليه التزام السريِّة والابتعاد بالكلية عن الإعلام، للحفاظ على مكانته وحماية علاقاته مع رجالات المال والأعمال، ليبقى شريان الدعم للكثير من مشاريع العمل الإسلامي في قطاع غزة، حيث يُشهد له أنه كان وراء تأسيس الجامعة الإسلامية وتطوير منشآتها العلمية الضخمة، لتظهر بالشكل الحضاري التي هي عليه اليوم، إضافة لمشاريع أخرى كالمجمع الإسلامي وبعض المساجد والمؤسسات الدعوية والخيرية التي تدور في فلك الحركة الإسلامية.
بالتأكيد لن تبقى صفحات مسيرته الحركيِّة طي الكتمان، إذا سيتناول الكثير ممن عرفوه تسريب جوانب من شخصيته الحركية ومسيرته الحياتية. ولعليِّ هنا أعرض بعضاً مما أورده د. محسن صالح؛ المؤرخ والباحث السياسي ومدير مركز الزيتونة، في مقالٍ له بعنوان (خيري الأغا: مقاوماً وقائداً لحماس)، بتاريخ 24 مايو 2019، حيث تناول موقع د. خيري الأغا (رحمه الله) في الخريطة التنظيمية والحركيِّة للعمل الإسلامي لفلسطين، ذاكراً دوره المهم في التنظيم العسكري السري الذي أنشأه الإخوان المسلمون في قطاع غزة في النصف الأول من خمسينيات القرن العشرين، والذي كان يهدف لاستئناف العمل المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
كما أشاد بدور د. الأغا الأساس في تنظيم الإخوان المسلمين الفلسطينيين، وكذلك بإنشاء تنظيم بلاد الشام، بهدف ربط الإخوان في قطاع غزة مع إخوانهم المغتربين في الدول العربية، داخل إطار تنظيمي واحد يحمل اسم "بلاد الشام" عام 1978.
إنشاء قيادة حماس: الرجل الأساس
كان العمل الإسلامي لفلسطين تتم متابعته من خلال لجنة متخصصة في تنظيم "بلاد الشام". وفي أكتوبر1983، عقد الإخوان في عمَّان مؤتمراً داخلياً لفلسطين، كان من أبرز قراراته إنشاء جهاز خاص أو لجنة للعمل الفلسطيني الإخواني، بحيث يضع الخطط والدراسات، ويتولى تأمين متطلبات الإعداد والاستعداد للعمل المقاوم. وبعد فترة من العمل على إنضاج الفكرة وتطويرها، تمّ إنشاء "قسم فلسطين" سنة 1985، والذي عُرف لاحقاً باسم "جهاز فلسطين".
في تلك الفترة من نهاية الثمانينيات، كان خيري الأغا قد عاد للسعودية بعد أن أنهى دراسته للدكتوراه. وتحت الضغط الشديد من إخوانه، وافق على قيادة "الجهاز"؛ الذي أخذ يدير العمل الفلسطيني بصلاحيات واسعة، وتحت سقف تنظيم "بلاد الشام". وقد أسهمت المزايا الشخصية والخبرة الحركية للأخ د. خيري الأغا من تحقيق قفزة نوعية في عمل الجهاز، فقد كان يتمتع برؤية بعيدة المدى، وبدينامية عالية، وبإمكانات قيادية كبيرة، وبشبكة علاقات واسعة، وبقدرة متميزة على توظيف الطاقات واستيعابها وخصوصاً الشباب. لا شكَّ بأن هذا فتح الطريق - لاحقاً - لإطلاق حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بعدما أعطت قيادة الخارج لقيادة الداخل الضوء الأخضر في اختيار صلاحية التوقيت المناسب لإطلاق العمل المقاوم.
كان د. خيري الأغا يرعى هذا العمل لحظة بلحظة، بعيداً عن الأضواء، وبأقصى درجات السرية التي لم تؤثر على فاعلية العمل وديناميته.
ومع انطلاقة حماس في ديسمبر 1987، تابع د. الأغا قيادة العمل، وأصبح أول رئيس لحركة حماس.
اللقاء في عمَّان: النصائح والتوجيهات
في فبراير 1988، قررت العودة من أمريكا إلى قطاع غزة، وكان هناك تكليف لي بفتح قسمٍ جديد للإعلام بالجامعة الإسلامية. التقيت د. خيري الأغا في العاصمة الأردنية على غداء خاص في بيت (أبو بشير) الزميلي؛ وهو فلسطيني وأحد قيادات الإخوان المسلمين في الأردن، حيث جمعنا حديث طويل عن أوضاع العمل الإسلامي في أمريكا وفي قطاع غزة، وأخذنا النقاش باتجاه الانتفاضة الفلسطينية، ويبدو أنه كان بيت القصيد؛ لأنه تضمن رسائل خاصة طلب مني د. خيري أن أحملها للشيخ أحمد ياسين (رحمه الله).
كانت مضامين تلك الرسائل تتعلق بالمخاوف من سرعة اتساع نطاق الانتفاضة بشكل كبير، وعدم القدرة على تغطية أكلافها العالية، فالمطلوب التدرج في التصعيد لمنح الحركة في الخارج الوقت الكافي للتحرك وإعداد الرأي العام الإسلامي والعربي للتفاعل معها، وتوفير الدعم المالي والمعنوي لإسنادها والحفاظ على استمراريتها. كانت الانتفاضة في ديسمبر 1987 من حيث القوة والاتساع الشعبي مفاجئة للجميع، فيما متطلباتها الميدانية أكبر بكثير من الميزانيات المخصصة للضفة والقطاع، ففي الوقت الذي لم تكن تتجاوز ميزانية الحركة في قطاع غزة مليون دولار شهرياً، ارتفعت مع الانتفاضة إلى أضعاف هذا الرقم، والمؤشرات يصعب التحكم فيها مستقبلاً، وهذا يستدعي تحركاً كبيراً على المستوى الإسلامي وحركة الإخوان المسلمين في الوطن العربي وحول العالم للقيام بحملات دعم مالية واسعة لتغطية أسر الشهداء والجرحى والمعتقلين والأسرى، والأجهزة الأمنية والإعلامية التي تمَّ توسعة أنشطتها، لتواكب الفعاليات اليومية للانتفاضة، وتحريك مسارات القضية الفلسطينية في المحافل الأممية.
تفهم الشيخ أحمد ياسين (رحمه الله) رسالة إخوانه في قيادة الحركة، وكانت إجابته: نحن انطلقنا على بركة الله، ولم يبخل علينا إخواننا مشكورين بما كنا نتطلع إليه من جهد الاستطاعة، والانتفاضة لا يمكنها التوقف أو التراجع الآن، وسنتعهدها بكل ما نملك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
مضت الانتفاضة بحيويتها الشعبية التي أذهلت الجميع، وأذلَّت جيش الاحتلال والمستوطنين، فكان التجاوب الكبير معها عربياً وإسلامياً وعالمياً، وتوفرت لها بفضل الله وهمَّة الدعاة والخيّرين من أبناء أمتنا العربية والإسلامية، وجالياتنا الفلسطينية في الدول الأوروبية وأمريكا، كل الأموال والطاقات المطلوبة، والتي حافظت على زخمها وطهارة دماء شهدائها وجرحاها، وكانت وراء رضوخ الاحتلال وتوقيعه لاتفاقية أوسلو، وخروجه من قطاع غزة مذموماً مدحوراً.
إن كل من عرف د. خيري الأغا يتفهم لماذا كان الرجل يؤثر الابتعاد عن الأضواء، وتجنب الظهور في الأماكن التي تفصح عن شخصيته الحركية، فالرجل كان بمثابة "الصندوق الأسود" ومالك كل الأسرار"، ولهذا السبب وغيره كان يُقدِّم الشباب لأخذ المهمة بقوة وحمل الراية، ويُشجِّع الكبار على ضرورة إفساح المجال لهم. ولذلك، وكما أشار د. محسن صالح، "قام د. خيري بعد أن أعاد مجلس الشورى انتخابه 1993 رئيساً للحركة، بالاستعفاء من منصبه، وتسليم موقعه لنائبه في ذلك الوقت د. موسى أبو مرزوق. بينما ظلَّ يُقدم الدعم والنصح والمشورة لإخوانه بعيداً عن أي منصب تنفيذي".
ختاماً.. لقد قضى د. خيري الأغا عمره في الحركة الإسلامية يعمل بصمت ويجود بهدوء.. ثمانون عاماً كانت رحلة حياته، والتي كانت آخر أنفاسه فيها مع مطلع اليوم الأول من شهر يونيو 2014، وقد شهد الأخ د. خيري الأغا (أبو أسامة) بيعة الأخ هاني بسيسو عام 1963، كأول مراقب عام للإخوان المسلمين في فلسطين، وربما كان هو الرجل الأول وراء ترتيب ذلك اللقاء والإعداد له في أحد الكروم التي تعود لقريب له في منطقة المواصي بمدينة خانيونس.
رحم الله د. خيري الأغا (أبو أسامه)، وتغمده في الصالحين من عباده، يمضي الرجال ويبقى النهج والأثر.