عن المفاوضات النووية ومستقبل المنطقة
د. سنية الحسيني
بعد خمسة أشهر من تجميدها، جاء الإعلان عن موعد التئام الجولة السابعة من المفاوضات النووية مع إيران، في التاسع والعشرين من الشهر الجاري، بعد أن توقفت في حزيران الماضي، خلال فترة الانتخابات الرئاسية الإيرانية وما أعقبها. جاء ذلك الإعلان في ظل تصاعد لمواقف وتصريحات ذات مغزى، سبقت الإعلان عن موعدها أو لحقت به. وجاءت تلك التصريحات، من قبل طرفيها المعلنين الرئيسيين إيران والولايات المتحدة، وإسرائيل، الطرف الثالث عن بعد، والتي تحمل العديد من الاعتبارات الضمنية لتطور واقع الصراع في المنطقة، الأمر الذي يجعل هذه الجولة من المفاوضات تحمل أهمية خاصة، وقد تكون نتائجها مؤشراً لتطورات مهمة قادمة في المنطقة.
لعل أهم تلك المواقف ذات المغزى، تلك المحادثات التي تركزت خلال الأسابيع الأخيرة، بين الولايات المتحدة وإسرائيل، حول الخطة البديلة للتعامل مع إيران في حال فشل النهج الدبلوماسي التفاوضي، بالتزامن مع تحرك نشط لدوريات عسكرية أميركية في أنحاء مختلفة من المنطقة. تأتي تلك المحادثات والتحركات في ظل فرض مزيد من العقوبات على إيران، تتعلق ببرنامج الطائرات المسيرة العسكرية التابع للحرس الثوري الإيراني، حيث لم ترفع إدارة الرئيس بايدن من قبل أية عقوبات فرضتها إدارة ترامب السابقة، رغم كل الانتقادات التي وجهتها لها. وفي بيان صدر يوم الأربعاء من الأسبوع الماضي، وفي أعقاب اجتماع أميركي-خليجي، وجّهت الولايات المتحدة وحلفاؤها الخليجيون تحذيرا مشتركاً إلى إيران، متّهمين إيّاها بـ”التسبّب بأزمة نووية” وبزعزعة استقرار الشرق الأوسط بصواريخها البالستية وطائراتها المسيّرة. واستمراراً لنسق المواقف السابقة، لم تخرج تحذيرات روبرت مالي، المبعوث الأميركي إلى إيران، يوم الجمعة الماضي من اقتراب طهران لنقطة اللاعودة لإحياء الاتفاق النووي، بعد أعلان إيران عن تعزيز مخزونها من اليورانيوم المخصب. وكانت إيران كشفت، مطلع الشهر الجاري، عبر وكالة الطاقة الذرية الإيرانية، النقاب عن مضاعفة مخزونها من اليورانيوم العالي التخصيب إلى ذلك المستوى الذي لا تقتنيه الا الدول التي تمتلك أسلحة نووية.
تأتي الجولة التالية للمفاوضات النووية في ظل عدد من الاعتبارات، التي قد تساعد على فهم البيئة السياسية المصاحبة، والتي قد تؤثر على نتائجها. فيما يتعلق بالولايات المتحدة، أكد لويد أوستن وزير الدفاع الأميركي في خطابه في مؤتمر المنامة الأمني قبل أيام التزام بلاده بأمن حلفائها في الشرق الأوسط. ويذكر خطاب أوستين بخطاب مشابه لوزير الدفاع الأميركي السابق تشاك هاجل قبل ثماني سنوات، في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، حيث توجه الخطابان لدول الخليج، الحلفاء الأساسيين للولايات المتحدة في المنطقة. كما تشابه توقيت الخطابين، فجاء الخطاب الحالي قبيل استئناف المحادثات مع إيران، بينما كان الثاني بعد إعلان إدارة الرئيس أوباما عن توقيعها الاتفاق النووي مع إيران عام ٢٠١٥. ويحمل الخطابان نفس الهدف الذي جاء في الحالتين لطمئنة الحلفاء، والتأكيد على أن الاتفاق السابق أو اللاحق لن يغير من معادلات القوة والشركات الأمنية في المنطقة. الا أن المعطيات المصاحبة لكلا الخطابين على الأرض هو ما اختلف اليوم. فقد جاء خطاب هاجل في عهد أوباما، في ظل سيطرة أميركية أمنية وعسكرية وسياسية متحكمة في منطقة الخليج، رغم أنه جاء في إطار الاستراتيجة الأميركية الهادفة نحو الانسحاب من الشرق الأوسط. الا أن خطاب أوستين يأتي الآن في ظل ظروف مختلفة، بعد أن واصلت المنطقة الانزلاق نحو مزيد من العنف خصوصاً في سوريا واليمن وليبيا، وبعد أن باتت توجهات استراتيجة إدارة أوباما بالانسحاب من المنطقة، هي التوجه السائد والمعتمد، وبعد أن باتت نتائج سياسات الولايات المتحدة بعد ثماني سنوات واضحة للعيان، ولم تعد خاضعة للتنبؤات كالماضي.
فيما يتعلق بإسرائيل، التي لا تخفي موقفها العلني من الاتفاق النووي وموقفها من إيران، رفض مسؤولون رسميون إسرائيليون قبل أيام، في المؤتمر المشترك لصحيفة هآرتس وجامعة كاليفورنيا، توصية نظرائهم الأميركيين بالتراجع عن مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. واعتبر يوسي كوهين، رئيس جهاز المخابرات السابق، “أن إسرائيل يجب أن تكون قادرة على التعامل بمفردها ضد البرنامج النووي، كما فعلنا في السابق مع البرنامج النووي السوري والعراقي”. في حين دعم بيني غانتس، وزير الحرب الإسرائيلي، اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران في حالة واحدة يكون فيها ذلك الاتفاق أقوى وأطول وأوسع من ذلك الذي تم التوصل اليه عام ٢٠١٥، بما يضمن عمليات تفكيك لقدرات طهران النووية، وتواصل عمليات تفتيش فعالة على المواقع النووية. ورفضت إسرائيل الطرح الذي قدمه جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي حول فكرة الوصول لاتفاق مؤقت مرحلي مع إيران، لكسب الوقت من خلال المفاوضات، بهدف وقف تقدم إيران السريع في تخصيب اليورانيوم، مقابل حصول إيران على جزء من أموالها المجمدة في الخارج ورفع بعض العقوبات التي تستهدف سلعا إغاثية.
أما فيما يتعلق بايران، فقد نجحت بكسر الحصار عبر الاستراتيجية التي أطلقت عليها “مقاومة الحصار”، خصوصاً بمساعدة دول عظمى كالصين وروسيا. وحسب تقارير البنك الدولي، فقد خرج الاقتصاد الإيراني في السنة المالية ٢٠٢٠-٢٠٢١ من حالة الركود التي دامت عامين، بعد الانتعاش التدريجي في إنتاج النفط في النصف الثاني من عام ٢٠٢٠. كما أن إيران لم تعد تثق بالولايات المتحدة وشركائها الغربيين ووعودهم بكسر الحصار، وهو ما واجهته بالفعل في أعقاب اتفاقها عام ٢٠١٥، حيث لم تلتزم إدارة أوباما برفع جميع العقوبات التي تم التفاهم حولها في الاتفاق، وأفرجت فقط عن أقل من عشر الأموال التي طالبت إيران بتحريرها، كما أظهرت الولايات المتحدة حزماً مع الدول التي تجاوزت عن العقوبات الأميركية، كما حدث مع كوريا الجنوبية، هذا بالإضافة إلى اخلال الدول الغربية بتنفيذ تعهداتها كاملة في ذات الاطار. وأظهرت إيران خلال العام الحالي تمركز وجرأة أكبر في تواجدها العسكري البحري والجوي في محيط الخليج العربي، منطقة النفوذ الأميركي، كشفت عنها عدد من الحوادث التي اقتربت فيها زوارقها المسلحة من السفن الحربية الأميركية وحاصرتها، ناهيك عن مهاجمتها لسفن إسرائيلية، هذا بالإضافة إلى حوادث التفجيرات المتكررة الناتجة عن الطائرات المسيرة عن بعد، والتي تستهدف أهداف أميركية وحلفاء للولايات المتحدة في المنطقة. يأتي ذلك على الرغم من التحالفات البحرية الموجودة بقيادة أميركية في المنطقة، الأمر الذي يطرح سؤالاً حول مدى قدرة الولايات المتحدة على ضبط أمن المنطقة، في ظل توجهها المعلن للانسحاب منها؟
وتعد مطالب إيران مشروعة تماما، اذ أنها تطالب برفع العقوبات الأميركية والغربية عنها وعن مسؤوليها ومؤسساتها، واخراجها من العزلة التي فرضت عليها، وهناك صيغة متوازنة ومقبولة من جميع الأطراف المعنية، وصادق عليها مجلس الأمن، تسهل الوصول للاتفاق. كما تطالب إيران بضمانات تضمن عدم تراجع الولايات المتحدة عن تعهداتها معها، عند وصول رئيس جمهوري إلى سدة الحكم. ويقف الجمهوريون اليوم ضد مساعي إدارة بايدن لاحياء المفاوضات النووية مع إيران، وفي محاولة صريحة لاحباطها أكدوا على نيتهم إعادة فرض العقوبات على إيران، عن تمكنهم من القرار. وفي حال الوصول إلى إتفاق، يفترض بالولايات المتحدة إقناع حلفائها على رأسهم إسرائيل، وهي العقبة الحقيقة أمام الوصول لاتفاق، بعدم معارضته والوقوف في وجه تنفيذه، فهل تستطيع الولايات المتحدة أن تحقق ذلك؟
إن إصرار الولايات المتحدة على اخضاع إيران والتعامل معها كطرف مهزوم في الحرب، بمطالبتها بتفكيك سلاحها النووي ونزع سلاحها البالستي والتراجع عن سياستها الخارجية، مقابل انفتاح اقتصادي، لن يجدي نفعاً، فايران لن تتخلى عن أمنها في المنطقة مقابل ضمان اقتصادها، لأن الأمن والاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط، جامعة الأنداد، عنصرين مترابطين، لا ينفصل أحدهما عن الاخر. وترى إيران أن القبول بعدم تطوير الصواريخ البالستية والتخلي عن وكلائها في المنطقة “إستسلام”، حسب وصف قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، قبل إغتاله. وقد اعتبر على خامئني، المرشد الأعلى في إيران، أن الغرب يشن حرباً واسعة على بلاده، والعقوبات أحد مظاهرها، كما أكد جواد ظريف وزير الخارجية الإيراني، أن الحصار والعقوبات الاقتصادية على إيران حرب تشن ضد بلاده.
أمام دول الخليج خيارين، إما دعم الولايات المتحدة بتوقيع اتفاق مع إيران حول ملفها النووي لاحتوائه والمحافظة على سلميته، حسب الادعاء الإيراني، واستكمال المحادثات الودية بين السعودية وإيران، بوساطة عراقية، لوضع تفاهمات سياسية وأمنية حول مستقبل المنطقة، في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، والمحافظة على أمن المنطقة عموماً، وإما الاصطفاف إلى جانب إسرائيل، التي تسعى لفتح مواجهة مفتوحة في المنطقة هدفها المعلن إيران وهدفها الضمني إغراق منطقة الخليج العربي بالاضطرابات والفلتان الأمني والعسكري. أن استمرار الصراع المفتوح في المنطقة قد يؤدي لنتيجتين، إما أن تنفذ إسرائيل تهديدها وتشن حرب على إيران، ستحمل نتائج مدمرة لا تطال فقط إيران وإسرائيل، وإنما ستصل إلى دول الخليج أيضاً، أي ستفتتح جبهة قتال مفتوحة، سيكون الجميع خاسراً فيها، وإما الإبقاء على حالة من الصراع دون الوصول إلى حالة الحرب المعلنة، الأمر الذي سيفتح جبهة من التنافس بين دول المنطقة لاقتناء سلاح نووي، في ظل وجود إسرائيل كقوة الاحتلال النووية مسكوت عنها في المنطقة، واقتراب الإعلان عن إيران كدولة نووية، والتي لن تستطيع إسرائيل تدمير ترسانتها النووية، بعد أن باتت تشكل جزء أصيل من استراتيجيتها.