الغزو الإسباني للأندلس احتلال في ثوب استرداد
تطل علينا هذا العام الذكرى 529 لسقوط غرناطة ، أو الأندلس الصغرى ، كان ذلك في العام 1492 . وبهذا تنتهي دولة الاسلام الرسمي في شبه جزيرة إيبيريا ، ومعها ينتهي الوجود الاسلامي ، الذي سادها لمدة ناهزت الثمانية قرون . سياسيا وعسكريا وإن بقيت منه بقية ، على الصعيدين الثقافي والديني حتى العام 1609 م ، تاريخ الطرد النهائي لمسلمي الأندلس . وسقوط غرناطة كان ولا يزال أكبر فاجعة في التاريخ العربي والاسلامي ، صحيح أنه بعد ذلك السقوط منى الله على الإسلام والمسلمين ، بفتح واكتساب أقطار وأجزاء واسعة من قارتي إفريقيا وأسيا . ولكن لا واحدة من تلك الأقطار والأجزاء ، التي نعتز بها وتحظى بمكانة خاصة في قلوبنا . استطاعت أن تنسينا فقد الأندلس ، أو أن تجعل جرحها النازف والمفتوح يندمل . ذلك أنها مثلت النموذج الأمثل للفردوس الأرضي ، الذي لم تستطع أية أمة مسلمة أن تبلغ مصافه بعد سقوطها . إنها تمثل تجربة فريدة وصلت حد الكمال والذروة ، وكل ما جاء بعدها كان مجرد محاكاة لمَا ساد بها ، أو هو يتلمس قدر المستطاع السير على خطاها . وما قدمه الأندلسيون لهو مثال أعجز وأتعب ، من جاؤوا بعدهم سواء من الإسبان أو من العرب المسلمين .
الأندلس كلمة ذات وقع خاص ، مشحونة بالأحاسيس الجميلة . والتي توصل من يذكرها إلى حالة ، تشبه التحليق فوق السحاب . وإلى حالة من النشوة والسكر ، لا تضاهيها سوى حالة أعلى درجات الحلول عند الصوفية . الأندلس كلمة سحرية تشفى النفس من عللها ، وتفتح الباب لأحلام اليقظة حتى لمن تجاوز الخمسين عاما . ومجرد ذكرها يجعل الواحد منا ، ينفصل عن الزمان والمكان ، ويسافر إلى عالم فردوسي كل ما فيه يوشي بالكمال والجمال . إنها قطعة من الجنة ارتحلت وحطت هناك في شبه جزيرة إيبيريا ، قبل سقوط قواعدها الكبرى بيد الغزاة الصليبيين ، الذين قدموا من شمال إيبيريا أو من خارجها . نعم لقد كانت قطعة من الجنة ، حتى أن نصارى الشمال في أستورياس وليون ونفارا وقشتالة . في مراحل لاحقة للعام 711 م ، كانوا يعتقدون بأن الجنة تحت سمائها ، ثم اعتقدوا بأنها تحت سماء مملكة غرناطة . ولهذا كثر عشاقها وسعى الكل لامتلاكها ، وفي هذا العشق كان هلاكها ومقتلها .
وهنا من حقنا أن نتساءل عن تلك الحروب الوحشية ، التي شنتّها إسبانيا النصرانية على الأندلس . هل كانت حقا حروب استرداد كما يدعون ؟ ، أم مجرد عزو أجنبي همجي دمر أيقونة ، من أثمن الأيقونات التي أبدعتها يد الإنسان . ولنفهم ما حدث علينا بالأمثلة التالية ، السرديات الاستعمارية البالية . تخبرنا بأن العرب ، غزوا شمال افريقيا ( تونس الجزائر المغرب الأقصى ) . ولكن الحفريات التاريخية الجادة تخبرنا عكس هذه القصة ، فالعرب لم يأتوا إلى هذه المنطقة حاملين الاسلام . وإنما بربر لواتة المقيمين بليبيا الحالية ، هم من جلبوا الاسلام إلى إخوانهم بهذه المنطقة ، التي رحب به سكانها واحتضنوه بكل أريحية . ثم أصبحوا حملة راياته ، بعد أن تبنت مختلف قبائل البربر الدين الجديد ، وانخرطت في عملية نشره في شمال وجنوب بلادهم . وخلاصة القول إن البربر هم من ذهبوا إلى الاسلام ، وليس الاسلام هو من أتى إليهم وعزا ديارهم . بعيدا عن سردية الاستعمار التي تخبرنا ، بأن العرب غزوا شمال إفريقيا . لتجد فرنسا مبررا لغزوها للمنطقة ، فهي حسبها أرض سائبة يفتكها المتغلب اللاحق من السابق .
وهو نفس منطق الممالك الاسبانية ، وعلى رأسها قشتالة والبرتغال وأرغون . فهي الأخرى ولكي تبرر غزوها الهمجي لأراضي الأندلس ، ابتدعت سردية تقول بأن العرب غزوا واحتلوا أرضنا ، بمساعدة البربر ( جند طارق بن زياد ) . ونحن لم نقم إلا باستردادها وطرد الغزاة ، وانطلت هذه المغالطة حتى على بعض المفكرين ورجال الدين . ممن راح بعضهم يعتذر عن أسطورة الغزو العربي لإسبانيا ، بدلا من المطالبة باعتذار إسبانيا عن جرائمها ، في حق الأندلس أرضا وشعبا ، وخاصة ذلك العار الذي اقترفته أيادي محاكم التفتيش الآثمة ، وقصة الاضطهاد البشع للأندلسيين معروفة لنا جميعا .
وبالعودة إلى سردية الغزو العربي لإسبانيا ، فإننا نجد علم الآثار يحكي قصة أخرى . مفادها أن الاسلام قد دخل الأندلس قبل سرايا طارق بن زياد ، هذا إن كان هناك فتح قد تم على يده . لأن هناك من يرجع وصول المسلمين إلى الأندلس ، إلى ستين سنة قبل وصوله ووصول طريف بن مالك . وهذا بناء على شاهد القبر ، الذي وجد في مدينة شاطبة . والذي قال البعض بأنه يتوافق ، مع ما أورده ابن عذارى المراكشي ، فيما يخص وصول المسلمين إلى الأندلس . وهذا ما لا يترك مجالا للشك ، من أن الاسلام لم يذهب إلى أرض إسبانيا ، فضلا عن غزوه لها . وإنما الإسبان هم من ذهبوا إليه بكامل إرادتهم وحريتهم ، وهذا ما يرعب إسبانيا الرسمية والكنيسة الكاثوليكية الغازية ، لأرض إسبانيا والبرتغال ( شبه جزيرة إيبيريا الأريوسية ) . فكل منهما تستمد شرعيتها من سردية حروب الاسترداد ، ومتى تم كشف زيف هذا الادعاء . فإنه لن يبقى لإسبانيا وكنيستها ، أي حق على أراضي الأندلس التاريخية ، لأن هذه الرواية الجديدة تقلب الطاولة عليهم جميعا .
وبالعودة إلى شاهد قبر شاطبة ، نقول بأننا نتعامل معه بحذر شديد . فالحفريات التاريخية مفتوحة على كل الاحتمالات ، ولا يجب أن نعتبر الأمر مسلمة يقينية وحقيقة تاريخية ثابتة . ومع هذا فلئن صدق خبر هذا الشاهد ، ومعه القراءة الجديدة لفجر الإسلام في الأندلس بتعبير المؤرخ حسين مؤنس . فإن كل هذا سينسف ويدفن إلى الأبد ، الأسس التي أقامت عليها إسبانيا شرعية ، وجودها واستمرارها في الزمن . فالعرب لم يعزوا إسبانيا ، وإنما جدود سكان إسبانيا الحاليين هم الغزاة . وهم من يتوجب عليهم الرحيل ، وإرجاع البلاد إلى أهلها ، هذا ما يقوله البحث التاريخي بيومنا . ولذلك نرى بأن إسبانيا قد اعتذرت لليهود السفارديم ، على ما لحقهم من جرائم اقترفتها في حقهم محاكم التفتيش وأعطتهم جنسيتها . ولكنها تتنكر لهذا الحق المشروع إلى حد العدوانية ، إذا ما تعلق الأمر بالموريسكيين . وتتجاهل مطالب أحفادهم إلى حد التطرف ، لا لشيء إلا لعلمها بنتائج هذا المنحى إن هي أقدمت عليه . فالاعتراف هو أول خطوة لرد المظالم ، وأولها عودة كل أحفاد المطرودين والمنفيين والمبعدين ، قسرا بعد سقوط غرناطة وبعد العام 1609 ، إلى ديارهم هناك في الأندلس التاريخية .
ولماذا يعودوا يتساءل البعض ، إن كانوا مجرد غزاة تم طردهم من أرض الآباء والأجداد . كما جاء في ردّ الملك فرديناندو الكاثوليكي ، على سفارة السلطان قيتباي ، عقب سقوط غرناطة وبداية محنة الموريسكيين ، الذين استنجدوا به . وقبل الإجابة على هذا السؤال ، علينا أولا تفسير ذلك السكوت المطبق للمصادر التاريخية ، عن ذكر الإسبان والاسبانيين بعد العام 711 م . باستثناء ذكر المستعربين ممن تبنوا الثقافة القادمة من الشرق ، مع احتفاظهم بديانتهم السابقة . وتفسير ذلك حسب المؤرخين بسيط ، ذلك أنهم هم أي الإيبيريين ( إسبان وبرتغاليون ) ، من أصبح يمثل الكتلة الأندلسية . وهنا تزول حيرة البعض فيما يخص مصير الإسبانيين ، في الفترة اللاحقة لمَا يسمى الفتح العربي . وما تلاه من عصر الولاة والإمارة والخلافة القرطبية ، وطوال هذه الفترة كان هناك دوما أمر محير . ألا وهو كيف استطاعت بضعة فرق عسكرية محدودة العدد ، السيطرة على بلاد بمساحة إسبانيا والبرتغال ، وعلى شعب تعداده بالملايين ؟ . وهو تساؤل مشروع ، علما بأن المصادر التاريخية لا تذكر إرسال خلافة الأمويين بدمشق ، لجيوش بعد طارق بن زياد . فمن أين أتي عبد الرحمان الغافقي ، بذلك الجيش الجرار الذي غزا به بلاد الفرنجة ( بلاد الغال ) فرنسا الحالية ؟ إن لم يكونوا إيبيريين ؟ . وإنما ما نجده بعد طارق هو ذكر للأندلسيين ، وجيرانهم المسيحيين في ممالك الشمال .
وإن كنا لا ننكر دخول كتل بشرية عربية مهاجرة ، كطالعة موسي بن نصير وطالعة بلج بن بشر من الشاميين . ولا موجات البربر التي انتقلت إلى الأندلس ، في مناسبات مختلفة كما هو الحال في عهد الحاجب المنصور بن أبي عامر . حينما نقلهم ليضرب بهم الزعامات العربية في الأندلس ، وليكونوا عماد جيشه ، لمَا عرف عن البربر من الصلابة والشجاعة . أو لتلك التي عبرت المضيق مع المرابطين والموحدين . ولكنها كتل ومهما كانت ضخمة . وهي ليست كذلك ، فما كانت قادرة على جعل ميزان القوة الديموغرافية ، يميل لصالحها على حساب السكان الأصليين .
إذن ما الذي حدث ولماذا أصبحت الأندلس عربية مسلمة ؟ ، ربما الجواب نجده عند المؤرخ الإسباني إغناسيو أولاغوي صاحب كتاب العرب لم يغزوا إسبانيا . هذا الذي نستأنس بأفكاره في معالجة هذه المقالة ، مع إميليو غونثاليث فرين وكاتبه عندما كنا عربا . فالأول يخبرنا بأن ما حدث ما كان غزوا عسكريا بمعناه الكلاسيكي ، وإنما ثورة ثقافية سلمية هبت رياحها من الشرق . فكانت نتيجتها ميلاد الأندلس ، وهذا ما نجده في كتابه ، العرب لم يغزوا إسبانيا ثورة الاسلام في الغرب . ونتيجتها أي تلك الثورة ، كانت أسلمة وتعريب شبه جزيرة إيبيريا . وما يؤكد كلامه هو أن كتب التاريخ ، لا تذكر لنا أن هناك فروقات عرقية ، بين المجموعتين المسلمة والنصرانية في الأندلس . ذلك أنه من المحال التفريق بينهما ، على أساس الانتماء العرقي ، طوال فترة الحكم العربي للأندلس . ونفس الأمر يستمر في الزمن ، ولكن بصورة عكسية فالأندلسيون المدجنون ، ممن بقوا في بلادهم . بعد أن سيطرت عليها ممالك أرغون وقشتالة والبرتغال ، فهم والسادة الجدد ينتمون إلى جنس واحد ، ألا وهو الجنس الإيبيري وخصوصا في الجنوب ، أين يوجد مركز الثقل الأندلسي .
ولذلك لا يمكن أن يكون ما حدث في الأندلس ، حروب استرداد وطرد غزاة أجانب . هذا ما يقوله أستاذ القانون المدني ، في جامعة قرطبة أنطونيو مانويل . وحجته في هذا أنه لا يمكنك استرداد ، ما هو ليس ملكا لك . ويشاركه في هذا الطرح المؤرخ ، إميليو غونثاليث فيرين السابق الذكر . وحكم أنطونيو مانويل صائب ، ترى أية شرعية يتساءل البعض ، تستند عليها الكنيسة الكاثوليكية ، ومنحتها حق استرداد الأندلس . فإسبانيا لم تكن أبدا كاثوليكية ، قبل العام 711 م والإسبان أنفسهم قاوموا بشدة الغزو الكاثوليكي ، القادم من وراء الحدود لبلادهم ، قبل وصول طارق بن زياد . وبعد هذا الحدث قال الأندلسيون كلمتهم ، لقد أصبحوا مسلمين وعربا ، فمن أعطى للكنيسة حق تحويلهم بالقوة إلى إسبانيين ومسيحيين ؟ . ويتساءل آخرون هل إسبانيا ما بعد 1492 كانت موجودة ، وجاء غزاة من الخارج وقضوا عليها ، وعقب هذا ناضلت حتى استردت أراضيها ؟ . الجواب كلا لا اسبانيا كانت موجودة ، ولا الشعب الاسباني كان هو الآخر موجودا . ولن نسرد هنا تاريخها قبل ما يسمى الفتح العربي ، فهو موجود في بطون الكتب ، ونلتقى به على رفوف المكتبات . وهنا على المتعصبين لمقولة الاسترداد يتساءل البعض أن يجيبوننا ، كيف لإسبانيا الطارئة على التاريخ ، أن تسترد ما لم يكن ملكا لها في يوم من الأيام ؟ .
وعليه فما حدث في الأندلس هو عين ما حدث في أمريكا ، غزو أجنبي يمتلك قوة عسكرية ضاربة . مكنته من احتلال الأرض ، ثم الادعاء الزائف بأنها أرضه . وبما أن التاريخ وكما يقال يكتبه المنتصرون ، فإسبانيا محاكم التفتيش كتبت تاريخا مزيفا ، أول من هدّ أسسه هم الاسبان . من أمثال إيسيدورو مورينيو الخبير في الأنثروبولوجيا ، من جامعة إشبيلية . ومعه المستشرق الأميركي دوايت رينولد ، الذي يخبرنا بأن من طُردوا بعد 1609 ، لم يكونوا عربا أو أمازيغا بل هم إيبيريون أصليون . حتى أن البعض اعتبر ما حدث مجرد حرب أهلية ، بين طائفتين لشعب واحد . تعتنق كل منهما دين مغاير ، فطردت الأقوى الطائفة الأضعف ، وهذا طرح سليم يقبله العقل ويشهد له التاريخ .
التاريخ كما مرَّ أعلاه ويقول المشتغلون به ، يكتبه المنتصرون . وهذا لم يحدث في الأندلس وطويت الصفحة أو انتهت القصة ، بل إن الخطب أجل . وأكبر ذلك أن الأندلس قد تم اخراس تاريخها ، وهذا ما يخبرنا به إيسيدورو مورينيو المذكور أعلاه . أمّا إيميليو فرين ، فقد ذهب إلى أبعد من هذا . فهو يخبرنا بأن الأندلس قد تعرضت ، لزراعة ذاكرة جمعية جديدة مزيفة ، لا علاقة لها بذاكرتها الحقيقية ، هذه التي أسكتتْ بصورة وحشية وقمعية . والتاريخ الأندلسي والكلام دوما لفرين ، كتب وفق ما يخدم المشروع الكاثوليكي الغازي لأرض الأندلس .
وحسبه الفتح العربي لإيبيريا ما هو إلا مجرد حكاية ، صيغت لتفسير سقوط الحكم القوطي . ثم أصبحت مهمة ، لتبرير تلك الحروب التي شنتها ممالك الإسبان ، الزاحفة من الشمال باتجاه العمق الأندلسي في الجنوب . أي ما اصطلح عليها بحروب الاسترداد ، والتي من دونها تفقد إسبانيا والبرتغال شرعية التواجد ، على ساحة الخريطة الدولية . ويختم كلامه بأن خرافة الغزو العربي جاءت لتبرر ، اختلاق ما يسمى بالتاريخ القديم لإسبانيا .بهدف انكار ما هو معلوم من تاريخها ، وهذا ما يصدق على تلك التلفيقات ، التي يقوم بها اليوم الكيان الصهيوني الغاصب . فيما يخص اختلاق تاريخ مزيف لخرافة إسرائيل القديمة ، لينفي الحق العربي الإسلامي الفلسطيني الثابت وانكاره ، وتصويره بصورة الغازي والوافد . وهي نفس سردية حروب الإسترداد الإسبانية ، والتي ما هي إلا عزوا واحتلالا للأندلس التاريخية . وكلا السرديتين آن أوان تفكيكهما ، لكشف حقيقة ما حدث حتي تعود الحقوق إلى أصحابها ، ونتجنب في المستقبل حدوث مظالم ونكبات مشابهة أو مماثلة .
ولكي نفهم ما حدث في الأندلس علينا بجزيرة كوبا ، ترى أين ذهب سكانها الأصليون من الهنود الحمر . ومعها كل تلك الأراضي ، التي عزاها الإسبان والكنيسة . هل تبخروا ؟ الإجابة لا ، وإنما تمت عملية إبادتهم بعد عملية إحلال كبيرة ، من قبل غزاة جاؤوا من الخارج وأبادوا أهل البلاد . وقاموا بإحلال شعب مكان شعب ، ولغة مكان لغة وديانة مكان ديانة . وهو نفس ما حدث في الجزائر خلال حقبة الاستعمار الفرنسي ، الذي جاء بمشروع من الخارج . وعمل على غرسه في الأراضي الجزائرية بالقوة ، وأوشك على إبادة أهلها لولا مصالحه والمقاومة الجزائرية الباسلة ، التي حالت دون تجسيد مشروعه الاجرامي الرامي لإبادة الجزائريين . حتى أن الأمير عبد القادر تنبه إلى هذا الأمر ، لحظة استسلامه وقالها صراحة : لئن كانت مشيئة الله تقضي ، أن تكون هذه الأرض أندلسا ثانية فلا راد لحكم الله . ونفس الأمر تكرر في فلسطين ، ولولا لا عناية الله لما بقي فلسطيني واحد فوق أرضها . حتى أن بعض المغتصبين الصهاينة قالها صراحة للفلسطينيين ، أنتم هنا نتيجة خطأ تاريخي . ولكن هذا لم يحدث في الأندلس ، التي أباد فيها الإسبان ومحاكم التفتيش ، كل ما هو مسلم وعربي .
وهنا من حقنا أن نتساءل ، أين ذهب أهل الأندلس الحقيقيين من الإيبيريين ، الذين شكلوا الشعب الأندلسي . ومن أين جاء سكان إسبانيا الحاليين ، وما علاقتهم بأرض إسبانيا ؟ . الدراسات التاريخية بيومنا تخبرنا ، بأن لا علاقة لمن يسكن إسبانيا الحالية – وهذا الكلام ليس كلامنا – بسكان إيبيريا ، قبل انتقالها من الأريوسية الموحدة إلى الاسلام . ولا بهؤلاء الذين التقى بهم طارق بن زياد ، والذي ما هو إلا حاكم طنجة القوطي الجرماني taric ) ) . هذا الذي تحول على يد الإخباريين العرب إلى طارق ، أنظر كتاب العرب لم يعزوا إسبانيا . نعم إن سكان إسبانيا والبرتغال الحاليين ، لا علاقة لهم بهؤلاء الذين التقي بهم هذا الوالي ، لحظة نزوله العدوة الأندلسية . وإنما هم أحفاد هؤلاء الغزاة الاستعماريين الصليبيين . الذين احتلوا أرض الأندلس بالقوة وأبادوا أهلها ، فما هم إلا فرنسيين وألمان وإنجليز وإيطاليين وإيرلنديين . ممن افتكوا الأرض من أهلها الإيبيريين الحقيقيين وشردوهم ، كما حدث بالأمس القريب في فلسطين . فمن يسكن مدنها بيومنا ، هم من البوانديين والمجريين والروس والأثيوبيين ، ولا علاقة لهم بأرض فلسطين . ووجودهم فيها مجرد استعمار وحتما سيكنسه التاريخ ، كما كنس كل من سبقهم ممن جاءها غازيا .
وهو عين ما حدث في الأندلس في مدة استمرت ثمانية قرون ، تم خلالها طرد أهلها من مدنها ، كبلد الوليد وقرطبة وإشبيلية وبسطة والمرية وغرناطة ووادي آش . وسكن مكانهم غزاة قدموا من خارج الجزيرة الإيبيرية ، إمّا ممن قدموا حديثا بعد سقوط غرناطة ، أو ممن استقر جدودهم عبر مراحل مختلفة من التاريخ الاسباني . ممن جاؤوا في ركاب الحملات الصليبية ، التي دعا لها بابوات روما ، ممن يحركهم حقدهم وتعصبهم الأعمى ضد كل ما هو عربي ومسلم . علما بأن الحملات الصليبية وكما نعلم جميعا ، قد فشلت في المشرق العربي . ولو أنها نجحت لرأينا اليوم أحفاد من نزلوا ، بلاد الشام واستوطنوها يدّعون ما يدّعيه إسبان اليوم . من أن تلك الأرض أرضهم ، وهم لم يفعلوا أمرا يدينهم أو يحسب عليهم ، أو أنهم قد أتوا جريمة وجريرة . وإنما ما أقدموا عليه كان مجرد استرداد ، لمَا سلبه العرب المسلمون منهم . وهو نفس منطق الصهاينة في فلسطين المحتلة ، ومن قبلهم الغزاة الإسبان للأندلس .
نعم إن الحروب الصليبية ، قد فشلت في المشرق العربي . ولكنها نجحت في إسبانيا ، وبداية نجاحها كانت بسقوط طليطلة في العام 1085 م . وهنا يبرز دور الراهب برناردو سيديراك ، صاحب الأصول الفرنسية . والذي كان متشبعا بميراث ، البابا أوربانوس الثاني مشعل نيران الحروب الصليبية . وبرناندو هذا كان من بين من غرسوا ، العقيدة الصليبية المعادية للمسلمين في الأندلس . وخاصة بعد أن أصبح كبير أساقفة قشتالة ، ومنذ هذه اللحظة التاريخية ، ستكون الغلبة لمنظومة القيم الوافدة ، من وراء البيرنية . منظومة عنصرية فاشية وعدوانية ، دار في فلكها هو وأتباعه ، وأصبحوا أكثر وفاء لها من وفائهم للإنجيل . وهي من ستصبح سيدة المشهد ، طوال فترة ما يسمى حروب الاسترداد . علما بأن أول ما قام به هذا القادم ، من وراء جبال البيرنيه هو تحويل مسجد طليطلة بالقوة ، بعد شهرين من سقوطها بيد ألفونسو السادس إلى كنيسة . ونفس الأمر سيحدث في كل مدينة أو قرية ، يحتلها القشتاليون أو البرتغاليون . وكان آخرها غرناطة ، التي هجرّ سكانها خارج إسبانيا أو باتجاه مناطقها الوسطى والشمالية . وحل محلهم مستوطنون غرباء ، سكنوا ديارهم وامتلكوا أرضهم . وسرقوا وطنهم وجنسيتهم ، ممن أصبحوا يعرفون في عموم بلاد الأندلس المحتلة بالنصارى القدماء .
وهنا من حقنا أن نعرف المزيد ، ترى أين ذهب الأندلسيون بعد سقوط مدنهم ، أو بعد ضياع بلادهم بشكل نهائي . الجواب تحكيه المأساة التي كان ضحيتها الشعب الموريسكي ، النفي والطرد والقتل والحرق والتذويب بالقوة . في بوتقة الغازي المتغلب ، الذي أكرههم على اعتناق هوية غير هوية الآباء والأجداد بالقوة ورغما عنهم . ولكنهم لم ينسوا أبدا من هم ، ولا من يكونون . حتى أن سفير السلطان المغربي احمد بن المهدي الغزال ، في كتابه نتيجة الاجتهاد في المهادنة والجهاد .يخبرنا بأن الأندلسيين في إسبانيا يحبون الإسلام ، ولو دُعوا إليه لأجابوا . علما بأن مجموع الأندلسيين الذين تمت إبادتهم ، خلال ما يسمى حروب الاسترداد من الأندلسيين يتجاوز الثلاثين مليون نسمة .
وبعض النظر عن هؤلاء الذين استقروا في المنافي ، أو ارتحلوا بإرادتهم إلى مختلف بلدان حوض البحر المتوسط . يقول المؤرخون بأن بقيتهم وإلى اليوم ، لا تزال هناك في أرض آبائهم وأجدادهم . أرض الأندلس التاريخية التي هي لا محالة ، عائدة إلى أهلها الإيبيريين المسلمين . الذين سكنوها قبل عزوها من قبل مسيحيي الشمال ، وجيوش البابوية . ولهذا فإننا نجد بعد نهاية حكم فرانكو ، وصدور قانون الحرية الدينية في العام 1967 . الكثير من الإسبان وخصوصا أهل إقليم الأندلس ، يعودون إلى ما كان عليه أجدادهم قبل سقوط غرناطة . نعم لقد عادوا مسلمين أو قوميين أندلسيين ، وخاصة المستعربين منهم ممن اكتشفوا ، حجم التزييف والمغالطات الكبرى التي كانوا ضحايا لها . وصدق من قال لولا محاكم التفتيش ، لمَا بقي مسيحي واحد في إسبانيا . وها هو التاريخ يشهد لمقاله ، فها هو عدد مسلمي إسبانيا والبرتغال ، يناهز الثلاثة ملايين نسمة ، والعدد في كل يوم في تزايد . ولعل هذا هو الدرب الذي سيعيد الأندلس إلى أهلها ، وكذلك الأمر في فلسطين . فلئن لم يهزم الصهاينة عسكريا ، فحتما سيهزمهم ميزان القوة البشرية ، هذا الذي ومهما فعلوا لن يكون في صالحهم مستقبلا .
وإذا ما نحن توجهنا صوب شخصية طارق بن زياد ، ونحن هنا نأخذ الكلام بحذر فإننا نجدها شخصية مشكوكا في أمرها ، من قبل المشتغلين والمهتمين بالدراسات الأندلسية . فالرجل لم يكن بربريا وإنما مجرد عامل من عمال القوط الغربيين ، للملك الأريوسي غيطشة ( ويتيزا ) ثم لأبنائه بعد وفاته . على منطقة طنجة المغربية أمّا قصة عبوره بحر الزقاق ، فما كانت فتحا وإنما هذا الوالي القوطي الغربي taric ) ) ، وكما سنتطرق إليه أدناه . هو من عبر المضيق بجنوده لمآزرة الطرف ، الذي انحاز إليه في تلك الحرب الأهلية ، التي ضربت إسبانيا القوطية ، عقب اغتصاب رودريغو ( لذريق ) للحكم .علما بأن أوباس أسقف إشبيلية ، هو الآخر كانت له اليد الطولى ، في دخول جند طارق taric ) ) شبه الجزيرة الإيبيرية . وهو ما يدعم السردية القائلة ، بأن الإسبان الأريوسيون هم من ذهبوا إلى الإسلام وجلبوه إلى بلادهم ، وعملوا على مدّ جذوره عميقا في التربة الإيبيرية .
أمّا اليوم فذلك الاجماع الذي شاع عن أصله ، فقد أصبح مشكوكا فيه ، ولم يعد من المسلمات واليقينيات . ففيما سبق كان هناك من يعتبره بربريا أو عربيا أو فارسيا ، وهذا الأمر تجاوزه البحث التاريخي . فالرجل لم يكن سوى واليا قوطيا ، على شمال ( المغرب الأقصى الحالي ) . وابن عذارى نفسه يخبرنا بأنه : ” كان طويل القامة ، ضخم الهامة ، أشقر اللون ، وتنطبق هذه الصفات على عنصر البربر ” وابن عذارى في هذا الحكم كان ضحية منظومة قيم عصره ، التي لم تكن تتصوره غير عربيا أو بربريا أو فارسيا . كحال كل مسلمي عصره ممن وفدوا من الشرق ، أو اعتنقوا الاسلام بعد أن وصل بلاد المغرب والأندلس ، وتبنوا أنسابا عربية لغايات سياسية واقتصادية واجتماعية . أمّا أن يكون قوطيا فهذا الأمر لم يكن ، من جملة الفرضيات المطروحة خلال تلك العصور ، وهذا الحكم يؤخذ بحذر شديد طالما أن الأمر لم يُفصل فيه بعد ، وهذا الوالي القوطي هو من انتقل بجنده لنجدة أبناء ويتزا ( غيطشة ) وأتباعهم . وهؤلاء هم أهل إسبانيا الحقيقيين ، وهم من سوف ينزلقون إلى الاسلام . الذي لا يختلف عن الأريوسية في شيء ، بل وجدوا فيه المسيحية الحقة الخالية من كل الشوائب والأفكار الوثنية الدخيلة عليها فاعتنقوه بكل أريحية . ومنهم انحدر شعب الأندلس القادم ، هذا الذي بنى ذلك الصرح الحضاري المبهر والمعجز .
نعم لقد انتقل طارق بن زياد أو taric ) ) القوطي ، بجنده الإيبيريين لمحاربة رودريغو ( لذريق ) ، مغتصب ملك غيطشة . ولهذا فما حدث ما كان فتحا عربيا ، وإنما حرب أهلية بين الاسبان الأريوسيين ، أهل البلد وبين اتـباع الكاثوليكية البابوية الغازية لإسبانيا . بعد تحول ريكاردو القوطي ، في العام 589 م عن المذهب الأريوسي ، إلى المذهب البابوي التثليثي .
وهنا من حقنا أن نتساءل عن الغزاة الحقيقيين ، لأرض إسبانيا أهم أهلها الإيبيريين ، الذين أسلموا . من أمثال عائلة بني قسي ، والذين ما هم إلا أبناء كاسيو Conde Casio الإيبيري السرقسطي ، أو أبناء ابن مردنيش ( مارتينو ) أو أبناء البلنسي والحامي والمالقي والبسطي ، في الفترة المتأخرة من تاريخ الوجود العربي في الأندلس . علما بأن نتائج الحمض النووي ، أثبتت بأن الدم العربي ، وهذا من بعد فحص عظام مقابر الأندلسيين المكتشفة ، في مختلف أنحاء إسبانيا . أثبتت بأن لا علاقة لهم بالعرب ، وإنما هم إيبيريون وكفى . وخاصة تلك العظام المكتشفة في شمال إسبانيا ، حيث كان السكان في تلك الأنحاء كثيرا ما يتنقلون إلى المسيحية ، تحت ضغط ملوك ما يسمى حروب الاسترداد والكنيسة ومحاكم التفتيش في فترة لاحقة .
نعم إن سردية الأصل البربري لطارق بن زياد ، لم تعد من المسلمات . لأن هناك من يخبرنا بأن الرجل وكما مرّ أعلاه ، لم يكن سوى وال من قبل حكومة القوط الغربيين الأريوسيين . أمّا القول بأصله العربي أو الفارسي ، فمحض ادعاء وخرافة . بنت ظروف كانت فيها هذه السردية ضرورية ، واستدعتها لحظتها التاريخية . أمّا الاستدلال بتلك الخطبة التي نسبها إليه الرواة والاخباريين ، فهو استدلال ساقط ومرفوض . ذلك أنها مجرد خطبة قيلت على لسانه ومنحولة ، كما نُحلت تلك الكمية الهائلة من الأشعار إلى الشعراء الجاهليين . ولكن النقد الصارم أبان زيفها ، وزيف نسبة تلك الخطبة لطارق بن زياد taric ) ) القوطي . من بعد أن تم الكشف عن الظروف التي قيلت فيها ، والملابسات المحيطة بها .
وهذه السرديات والأطروحات القرووسطية ، تجاوزتها الدراسات الحديثة وهدّت أسسها . فهي لم تعد غير مقبولة وكفى ، بل إنه وعقب فضح حجم التزوير والتزييف ، الذي بنيت عليه هذه السرديات . ها هي سرديات جديدة ترفع بنيانها ، قراءات جديدة أنصفت الموريسكيين . وأظهرت مدى الظلم الذي لحق بهم ، ولمدة تزيد عن 500 عام . واليوم ها هي ساحة الدراسات الحديثة ، لم تعد تتسع كسابقاتها إلا للرواية الكنسية . رواية تمكنت وإلى وقت قريب ، عن طريق الإرهاب والتقتيل والترويع والإجرام ، وإشهار سلاح الحرمان الكنسي . من اقصاء ونفي واخراس كل من يتجرأ ، ويحاول تقديم صورة مغايرة للقصة . واليوم ها هي تلك الأصوات ، التي أجبرتها الكنيسة على السكوت ولفترة طويلة . ها هي تتحدث لتفاجئ الجميع ، بحجم الظلم الذي مورس على الموريسكيين . وكم هي قبيحة وشريرة أفعال كنيسة محاكم التفتيش ، وأفعال الملكية المتحالفة معها . أفعال كان ضحيتها طائفة من الإسبان المستضعفين ، ممن أطلق عليهم تسمية الموريسكيين . لتجريدهم من شرف أن يكونوا إسبانا ، ومن حق البقاء في أرضهم ، ولشرعنة اقتلاعهم من وطن الآباء والأجداد .
أخيرا نقول بأن ما حدث قد أصبح من التاريخ ، ولا أحد يدعو لمعادة إسبانيا والبرتغال . أو أن تكون الدراسات التاريخية رحما ، يفرخ الحقد والكراهية وثقافة الانتقام والثأر ، ويقطع جسور التواصل بين الشعوب ، ويبني بينها الأسوار والقلاع والحصون . ذلك أن التاريخ تحرك وتجاوز مسببات ما حدث ، فضلا عن التفكير في استخدام القوة لاستعادة الأندلس ، فهذا أمر غير مقبول وطرح مستبعد التفكير فيه . وهنا قد يقول قائل وماذا عن الصهاينة ، ألم يستخدموا القوة والإرهاب للسطو على فلسطين ؟ . جواب سؤاله هو أن المقارنة بين الحالتين لا تصح ، ذلك أن الكيان الصهيوني ما هو إلا مجرد جيب استعماري . ومهما طال عمره فهو لا محالة راحل ، ويوما ما سيحزم أمتعه ويعود من حيث أتي .
ومتى تبنينا هذا الطرح فإننا بذلك ندمر القاعدة الذهبية ، التي امتلكنا بها الأندلس ألا وهي قاعدة التسامح ، والثورة الثقافية التي تأسر القلوب والعقول . وليس فقط المجال الجغرافي الذي تنتقل ملكيته إلى الأقوى ، الذي هو بدوره سيفقد قوته ومعها شرعية حيازة ما بيده . فالبشر وكما نعلم يهاجرون من ضفة ثقافية إلى أخرى ، ولذا من كان يتصور أن الإسلام سيكتسب ، في يوم ما أتباعا في أمريكا اللاتينية . وبين الهنود الحمر الذين أحكمت الكنيسة ، اغلاق الأبواب عليهم لتحول بينهم وبين هذا الدين . ثم إن القوة لم تضمن بقاء إسبانيا كما أرادتها محاكم التفتيش ، وها هي تهاجر إلى ثقافات أخرى . ومن يدرى لعل عودة الأندلس تلوح في الأفق ، ثم إن استخدام القوة لهو اغتصاب ، والاغتصاب لا يعطى حقا ومهما طال أمده فهو إلى زوال