التيارات الإسلامية في مصر خلال السبعينيات
[size=30]مصر في السبعينات.[/size]
كانت هزيمة العرب في حرب يونيو (حزيران) عام 1967 نُقطة تحول جوهرية في تاريخ التيار الإسلامي في مصر، فمن ناحية أصيبت المطامح البعيدة التي أثارتها السنوات الأولى من حُكم عبد الناصر لدى الشباب المصري بضربة ساحقة كان لا بُد معها من إعادة تقييم الأوضاع بأسرها، ومن ناحية أخرى فقد انطوت تلك الحرب على كافة العناصر الباعثة على الثورة، ألا وهي: الهزيمة العسكرية، وانهيار الجبهة الداخلية، وسخط المُثقفين، واتساع الفجوة الفكرية التي تفصل بين الأجيال، وقد شاع عندئذ الاعتقاد بأن الوطنية وحدها لا تكفي، وهو ما عناه عبد الناصر نفسُه؛ إذ أشار في أول خطاب عام لهُ بعد الهزيمة إلى أنه لا بُد من التمكين للدين من أن يلعب دورًا في المُجتمع أهم من دوره في الماضي، كما شاع بين الناس تفسير ديني للهزيمة، وهو أن اليهود إنما انتصروا بفضل إخلاصهم لدينهم، ولأن دولتهم قائمة على مبدأ ديني لا علماني، ولأن الدين أصلح من فكرة القومية في إثارة حماسة المُقاتلين.
وقد اتجه البعض بعد الهزيمة إلى الدين يلتمس فيه السلوى، وانتعشت الاتجاهات الصوفية شأنها دائمًا عقب الكوارث الحربية، غير أن هذه التوجهات الفردية السلبية بدت هزيلة بالمُقارنة بما ساد لدى غالبية الشباب عن اتجاه يربط بين الدين والثورة، فقد رأى هؤلاء إن ما يُسمى في العالم العربي بالثورات، هي في حقيقة أمرها مُجرد انقلابات لا تمُس لُب الأنظمة، وأن الحُكام حين يُشيدون بالإسلام لا يُشيدون به عن تقوى مُخلصة، ولكن عن رغبة في استغلال تقوى الجماهير، وأن المؤسسات الدينية كالأزهر لا تعدو أن تكون خادمة للنظام، ولا يتعدى دورها مُباركة خطوات الحكومة ولو تناقضت، وإصدار الفتاوى وإرسال برقيات التهنئة للرؤساء سواء بمُناسبة الدخول في حرب، أو إبرام إتفاقية سلم، أو إعلان نية انتهاج الطريق الاشتراكي، أو التحول عن طريق الاشتراكي إلى سياسة الانفتاح.
وعندما تولى السادات الحُكم في أواخر 1970، كانت صورة التيار الإسلامي في مصر قد تغيرت، وإن ظلت الحكومة لعدة سنوات بعدها على اعتقادهم أن قوام هذا التيار إما الفلول الباقية من جماعة الإخوان المُسلمين، وإما أفراد من الأتقياء لا يجمعهم تنظيم، وأن السبيل إلى التعامل مع هؤلاء وأولئك عن طريق المؤسسات الدينية – الحكومية- أو شراء الذمم، أو التأثير بمُختلف الوسائل في الشخصيات الدينية المرموقة المؤثرة بدورها في الأفراد والجماعات، غير أن واقع الحال هو أن قوة جماعة الإخوان (بمفاهيمها العتيقة عن التغيير) كانت قد بدأت تنحسر أمام مد جماعات جديدة عديدة أكثر ثورية وغلوًّا، وأقل تبحرًا في علوم الدين، (وإن كان البعض لا يزال إلى الآن يعتقد أن هذه الجماعات إن هي إلا صورة جديدة لجماعة الإخوان، اضطرت في حربها ضد السُلطات إلى اللجوء إلى التمويه والتظاهر بتعدد الاتجاهات، ستارًا لنشاطها).
وكان للسادات مُنذ البداية هدفان رئيسيان: تدشين انفتاح اقتصادي يخدم مصالح الغرب، وإحراز قدر من النصر في حرب مع إسرائيل يرد للعرب كرامتهم الضائعة، ويُبرر إقدامه فيما بعد على إبرام اتفاقية السلام، وقد اصطدم بالضرورة مع الناصريين واليساريين الذين باتوا الآن يُحاربونه تحت لواء واحد، خاصةً مُنذ تحوله الصريح عن اشتراكية عبد الناصر وعن صداقته مع الاتحاد السوفيتي، وكان لا بُد للسادات من الاعتماد على أعداء هؤلاء، غير أن اليمين السياسي كان وقتها من التعفن والافتقار إلى الشعبية بحيثُ لم ير السادات مناصًا من الاعتماد في المقام الأول على التيار الإسلامي ريثما تتهيأ لشخصه شعبية تغنيه عن كُل هؤلاء، وكان أن توصل إلى مصالحة مع جماعات إسلامية (ساهم الملك فيصل في تدبيرها صيف عام 1971)، بعد إقناعها باتفاق أهدافه وأهدافها (مُقاومة الشيوعية والإلحاد)، ووعدها بالسماح لها بمُمارسة نشاط علني، وقد كان السادات أكثر من سخي في وفائه بوعده، فهو لم يكتف بالسماح لصُحف الجماعات الإسلامية بالظهور، وبمد هذه الجماعات بالأموال، وإنما تعدى ذلك إلى مدها بالأسلحة لاستخدامها عند الضرورة ضد اليساريين، وبعد أن كان لهؤلاء الأخيرين الهيمنة على اتحادات الطُلاب في الجامعات، مكن للجماعات الإسلامية من سلب هذه الهيمنة، وتغاضى عن جو الإرهاب الذي أفلح التيار الإسلامي في فرضه على سائر الطلبة، بل على الأساتذة أنفسهم، كُل هذا في سبيل دعم قوة تخدم أغراض السُلطة، وتضرب مُناهضيها.
وإلى جانب هذه المُساعدات من جانب الحكومة، تدفقت الأموال على هذه الجماعات من أنظمة دول إسلامية مُعينة تستهدف أمرين: ضرب الفكر اليساري في المنطقة، والتحكم في قوة مؤثرة في سياسة أقوى دولة عربية، وقد كان لهذا التدليل وهذه المُساندة اللذين تلقتهما الجماعات الإسلامية من النظام في الداخل وأنظمة غنية في الخارج، أثرهما في زيادة إحساس أفرادها بقوتهم، وبقُدرتهم على التعامل مع السُلطات المصرية مُعاملة الند للند.
وزاد هذا الإحساس قوة تهافت الآلاف المؤلفة من الشباب المصري وأفراد الطبقة البورجوازية الصغيرة على الانضمام إلى هذه الجماعات، حين بدأت تظهر للأعين الآثار الوخيمة لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي أنتجها السادات، لم ينخدع هؤلاء بفُقهاء السُلطان ينصحون بالاعتدال، وبإجراءات حكومية مثل دعم برامج إذاعة القُرآن الكريم، وبالأذان يقطع برامج التليفزيون، أو بالصور العديدة للرئيس المؤمن يؤدي صلاة الجُمعة أو العيد، وإنما رأوا في الانفتاح الداعر على الغرب تهديدًا للقيم الإسلامية كُلها، والتقاليد المصرية، ولكُل خيط ولو رفيع في نسيج الأمة، كان مُعظم من أفاد من الانفتاح ممن لا أخلاق لهم ولا مبدأ، وضاع مع التضخم طبقة الموظفين والبورجوازية الصغيرة، وأضحت السلع في متناول القلة وحدها، وهان على النساء بيع الأغراض في سبيل تملك هذه السلع، وصار من المألوف أن يعير الأبناء آبائهم بالتمسك بالمبادئ والشرف، وقد باتت هذه المبادئ وهذا الشرف عقبة كأداة في سبيل تملك الثروات، وأضحى لتُجار المُخدرات الهيمنة والنفوذ، وداخل أصحاب العلم والثقافة الرفيعة الشك في قيمة ما حصلوه وهم يرون الحرفيين البُسطاء يكسبون أضعاف أضعاف ما يأتيهم من دخل.
أضحت من أهم ظواهر المُجتمع المصري في عصر السادات ظاهرة الرعب لدى البورحوازية من أن تتحول إلى بروليتاريا، وإدراكها عجزها عن ضد التيار الذي يجرفها تجاه هذا المصير ألا يتقبلها فكرة الانحراف، وقد انحرف الكثيرون بالفعل، غير أن أولئك الذين لم تسمح لهم ضمائرهم بالانحراف، أو كانوا أعجز من أن يزاحموا الغير على أطياب العيش، رأوا أنه لا بديل أمامهم من أجل الحيلولة دون انهيار كيانهم غير الانضمام إلى جماعات تُشعرهم عضويتهم فيها بأنهم ليسوا وحدهم في خضم الصراع، بعضهم يشد من أزر بعض، ويسعون جميعًا إلى إسقاط نظام لا يُفيد منه غير القوادين والأفاقين، وبامتلاء صفوف الجماعات الإسلامية بهؤلاء الساخطين الذين باتوا يكونون الأغلبية فيها، كان لا بُد أن يُفرض سخطهم نفسُه على القيادات المتعاونة مع السادات، وأن تُغير من اتجاهات هذه القيادات، وأن تزيد من شعورها بالاستقلال عن السُلطة، وقد لمست الحكومات الإسلامية التي تمُد هذه الجماعات بالعون مدى جاذبية الإسلام لهؤلاء الذين يُعانون أشد مُعاناة من جراء الفوضى الاجتماعية والاقتصادية في مصر، وترددت فترة ما لين مؤازرة اتجاه الساخطين وتعضيد اتجاه السادات المُناهض للاشتراكية والاتحاد السوفيتي، غير أن هذا التردد سُرعان ما حسمه إبرام السادات لصلحه مع إسرائيل، فتحولت تلك الحكومات إلى التأييد المُطلق للجماعات الإسلامية في سعيها للقضاء على حُكم السادات.
وقد تسبب إبرام اتفاقية السلام في زيادة تدفق الشباب للانضمام إلى هذه الجماعات، سخط البعض على هذا الصُلح المنفرد لما ينطوي عليه من خيانة للقضية الفلسطينية وإضعاف لشوكة العرب، غير أن الدافع لدى الغالبية كان الشعور بالإحباط؛ إذ لم ينجم عن إبرام الصُلح ذلك الرخاء السريع الذي وعدهم السادات به، مع استمرار المُشكلات المصرية على حالها مع التفاقم، وقد غذى هذا السخط عندهم لجوء السادات إلى سياسة القمع (بعدة فترة من الديمقراطية النسبية)، خاصةً عقب حوادث يناير 1977 التي أسماها السادات بانتفاضة الحرامية، في الوقت الذي كان يسمح فيه للصوص الحقيقيين من أفراد الطبقة الطفيلية المُستفيدة من الانفتاح، بأن يعيثوا في الأرض فسادًا كما يحلو لهم.
الغريب في الأمر أن السادات لم يُدرك إلا مُتأخرًا جدًّا حقيقة أنه بمؤازرته للحركات الإسلامية، قد أطلق من القمقم عملاقًا رهيبًا لا قبل لهُ به، حتى حركة صالح سرية الذي قاد عام 1974 هجومًا على الكُلية الفنية العسكرية كخطوة أولى للاستيلاء على السُلطة، وحتى مقتل الشيخ محمد الذهبي، وكشف النقاب عن جماعة التكفير والهجرة، لم يكُن كافيًا لاقتناعه بالتحول عن هذه السياسة، ولم يُدرك السادات حقيقة الوضع إلا في بداية 1981 حين قرر الضرب على أيدي هذه الجماعات قبل أن يُفلت منه الزمام، غير أن الزمام كان قد أفلت بالفعل، وكان اغتيال السادات في 6 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه، ضمن خطة من وضع إحدى هذه الجماعات التي طالما آزرها من أجل ضرب جماعة لا حول لها ولا قوة من الناصريين والاشتراكيين.