بطريرك القسطنطينية يسلّم المرسوم الرسمي إلى المتروبوليت إبيفاني الزعيم الجديد للكنيسة الأرثوذكسية
المستقلة في أوكرانيا مطلع 2019 (غيتي)
الصراع على التاريخ والكنيسة.. رؤيتان أرثوذكسيتان متنافستان على إرث المسيحية في روسيا وأوكرانيا
بينما تحشد روسيا قواتها على الحدود الأوكرانية استعدادا لغزو محتمل، فإن التوترات بين البلدين تتصاعد أيضا
من خلال صراع آخر تدور فصوله في أروقة الكنائس الأرثوذكسية المتنافسة.
وفي مقاله بموقع "ذا كونفيرزيشن" (the conversation)، يقول يوجين كلاي الأستاذ بكلية الدراسات
التاريخية والفلسفية والدينية بجامعة ولاية أريزونا إن كنيستان أرثوذكسيتان مختلفتان تدّعيان أنهما الكنيسة
الأرثوذكسية الأوكرانية الحقيقية للشعب الأوكراني، وتقدم الكنيستان رؤيتين مختلفتين بشكل لافت للنظر إلى
العلاقة بين الشعبين الأوكراني والروسي.
كنيستان أرثوذكسيتان
ويقول الكاتب إنه شعر بالذهول من التاريخ الديني لروسيا وأوكرانيا منذ زار العاصمة الأوكرانية كييف أول مرة
في إطار تبادل علمي في عام 1984، وقرر مواصلة بحثه الأكاديمي لاستكشاف تاريخ المسيحية والدور الخاص
للدين في المجتمعات والسياسة في أوراسيا.
فمنذ أن غزت روسيا أوكرانيا وضمت شبه جزيرة القرم في عام 2014 توترت العلاقات بين البلدين بوجه
خاص، وتنعكس هذه التوترات في المقاربات المختلفة جدا للكنيستين تجاه روسيا.
الكنيسة الأقدم والأكبر هي الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية-بطريركية موسكو. ووفقا لإحصاءات الحكومة
الأوكرانية، كان يتبع لهذه الكنيسة أكثر من 12 ألف أبرشية (وحدة في النظام الكنسي يرأسها الأسقف أو
المطران) في عام 2018، وهي فرع من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتخضع للسلطة الروحية للبطريرك
كيريل بموسكو، وكثيرا ما أكد البطريرك كيريل وسلفه البطريرك ألكسي الثاني مرارا وتكرارا حرصهما على
الروابط القوية التي تربط شعبي أوكرانيا وروسيا.
على النقيض من ذلك، تحتفل الكنيسة الثانية الأحدث، الكنيسة الأرثوذكسية لأوكرانيا، باستقلالها عن موسكو،
بمباركة البطريرك المسكوني ورئيس أساقفة القسطنطينية وروما الجديدة برثلماوس (مقره في إسطنبول)، إذ
اجتمع مجلس رسمي في كييف في ديسمبر/كانون الأول 2018، وأنشأ الكنيسة الجديدة، وانتخب قائدها،
المتروبوليت إبيفاني. وفي يناير/كانون الثاني 2019 اعترف البطريرك برثلماوس رسميا بالكنيسة الأرثوذكسية
لأوكرانيا كعضو منفصل ومستقل ومتساو في شركة الكنائس الأرثوذكسية العالمية.
كانت الكنيسة الأرثوذكسية لأوكرانيا، المتمتعة بالاستقلال والحكم الذاتي بالكامل، تتويجا لعقود من الجهود التي
بذلها رعايا الكنائس الأوكرانيون الذين أرادوا كنيستهم الوطنية الخاصة خالية من أي سلطة دينية أجنبية،
وكتعبير عن الاستقلال الروحي لأوكرانيا، شكلت هذه الكنيسة الأرثوذكسية الجديدة المتمتعة بالحكم الذاتي في
أوكرانيا تحديا لموسكو. وفي المصطلحات الأرثوذكسية، تدّعي الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا أنها
(autocephalous) "ذاتية الرأس" وهو مصطلح ينتمي للقانون البيزنطي القديم ويقصد به الكنائس التي
تتمتع باستقلال قانوني وإداري كامل وتنتخب رؤساءها وأساقفتها.
وعلى عكس الكنيسة الكاثوليكية التي لديها زعيم روحي أعلى واحد هو البابا، تنقسم الكنيسة الأرثوذكسية في
جميع أنحاء العالم إلى 14 كنيسة معترفا بها عالميا ومستقلة أو ذاتية، ولكل كنيسة مستقلة رأسها، أو "كيبال"
(kephale) باليونانية، وتتمسك كل كنيسة مستقلة بإيمان الكنائس الشقيقة نفسه، ومعظم الكنائس المستقلة
كنائس وطنية، مثل الكنائس الروسية والرومانية والروم الأرثوذكسية. والآن، تطالب الكنيسة الأرثوذكسية
الأوكرانية بمكانتها بين الكنائس المستقلة الأخرى.
تضم الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا أكثر من 7 آلاف أبرشية في 44 أسقفية، وتنظر إلى الروس
والأوكرانيين على أنهم شعبان مختلفان، يستحق كل منهما أن تكون له كنيسته المنفصلة.
كاهن أرثوذكسي يشارك بمسيرة احتجاجية على الزيارة الرسمية لبطريرك القسطنطينية برثلماوس إلى كييف في
2021
كنيسة أوكرانيا المستقلة
القضية الرئيسة التي تفصل الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا عن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية-بطريركية
موسكو هي علاقة كل منهما بالكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
تتمتع الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية-بطريركية موسكو باستقلالية كبيرة في شؤونها الداخلية. ومع ذلك، فهي
في النهاية تابعة للبطريرك كيريل (أسقف الكنيسة الروسية الأرثوذكسية وبطريرك موسكو وعموم روسيا منذ
2009) الذي يجب أن يؤكد رسميا تزعمه لها وقيادتها، وتؤكد الكنيسة الوحدة التي تتمتع بها مع المؤمنين
الأرثوذكس الروس.
على النقيض من ذلك، فإن الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا مستقلة عن أي هيئة دينية أخرى. أما لدى أنصار
الكنيسة، فإن هذا الاستقلال يسمح لها بتطوير تعبير أوكراني فريد عن المسيحية.
تقليد مسيحي أرثوذكسي مشترك
في كل من روسيا وأوكرانيا، المسيحية الأرثوذكسية هي التقليد الديني السائد. ووفقا لمسح أجرته مؤسسة "
بيو" الأميركية عام 2015، فإن 71% من الروس و78% من الأوكرانيين عرفوا أنفسهم بأنهم أرثوذكس،
وتظل الهوية الدينية عاملا ثقافيا مهما في كلا البلدين.
ويرجع المسيحيين الأرثوذكس في كل من روسيا وأوكرانيا تحولهم الديني إلى أمير كييف الأكبر عام 988 بعد
الميلاد؛ الأمير الوثني المعروف باسم فلاديمير الأول عند الروس وفولوديمير عند الأوكرانيين، الذي جعل إمارته
(كييف روس أو روس الكييفية) أمة مسيحية أرثوذكسية، ومنها انتقلت إلى سكان "خقانات روس" (الأراضي
السلافية الشرقية) بعد تعميده من قبل المبشرين المسيحيين من القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية
آنذاك، لتصبح كييف بعد ذلك أهم مركز ديني للسلاف الشرقيين.
وبعد أن دمرها المغول عام 1240، سقطت كييف في حالة تدهور حتى مع ازدياد قوة جارتها الشمالية،
موسكو. وبحلول عام 1686، احتلت روسيا شرق أوكرانيا وكييف، وفي ذلك العام نقل بطريرك القسطنطينية
رسميا سلطته الروحية على أوكرانيا إلى بطريرك موسكو.
في القرن الـ20، طالبت حركة قومية متنامية باستقلال أوكرانيا ويشمل ذلك الكنيسة والدولة. وعلى الرغم من
أن أوكرانيا أصبحت دولة مستقلة في عام 1991، فإن الكنيسة الأرثوذكسية الوطنية الوحيدة المعترف بها
عالميا ظلت خاضعة لموسكو.
حاول بعض المسيحيين الأرثوذكس الأوكرانيين إنشاء كنيسة مستقلة في أعوام 1921 و1942 و1992،
وفشلت هذه الجهود إلى حد كبير، ولم تحظ الكنائس التي شكلوها باعتراف المجتمع الأرثوذكسي العالمي، حسب
الكاتب.
الكنيسة الأوكرانية المستقلة
في أبريل/نيسان 2018، حاول بيترو بوروشينكو، رئيس أوكرانيا آنذاك، مرة أخرى تشكيل كنيسة أرثوذكسية
أوكرانية مستقلة.
ادّعت ما لا يقل عن 3 كنائس مختلفة أنها الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية الحقيقية، وكان بوروشينكو يأمل
توحيد هذه الهيئات المتنافسة.
أولها الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية-بطريركية موسكو التي كانت أكبر كنيسة، وحظيت باعتراف المجتمع
الأرثوذكسي في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، فقد كانت ولا تزال خاضعة لبطريرك موسكو، وهو وضع غير
مقبول لدى العديد من الأوكرانيين.
فشلت كنيستان أخريان، الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية-بطريركية
كييف، في الحصول على اعتراف من الكنائس الأرثوذكسية الأخرى.
صلاة برعاية الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية أقيمت في وسط كييف في يوليو/تموز 2019 (غيتي)
دعم القسطنطينية
لكن البطريرك المسكوني للقسطنطينية برثلماوس الأول دعم كنيسة أوكرانيا المستقلة، وبصفته الأسقف البارز
للعاصمة القديمة للإمبراطورية البيزنطية، يتمتع برثلماوس بالمركز الأول في مرتبة الشرف بين جميع رؤساء
الكنائس الأرثوذكسية.
وعلى الرغم من أن المسيحية الأرثوذكسية الشرقية ليست لديها طريقة واضحة لإنشاء كنيسة مستقلة جديدة،
جادل برثلماوس بأن لديه السلطة لمنح هذا الوضع، لأن أوكرانيا قد تلقت المسيحية في الأصل من البيزنطيين،
وكانت القسطنطينية هي الكنيسة الأم في كييف.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2018، حلّ مجلس كنسي رسميا الفروع الأخرى للأرثوذكسية في أوكرانيا، وأنشأ
الكنيسة الأرثوذكسية لأوكرانيا، وفي يناير/كانون الثاني 2019 وقع برثلماوس مرسوما رسميا، يعلن فيه أن
الكنيسة الجديدة مستقلة.
ردود فعل متباينة
حتى الآن، تلقت الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا اعترافا من 4 كنائس أرثوذكسية مستقلة أخرى، إذ رحبت
كنائس القسطنطينية والإسكندرية واليونان وقبرص بالكنيسة الجديدة.
لكن 3 كنائس أخرى مستقلة رفضت صراحة الكنيسة الجديدة، حتى إن بطريركية موسكو قطعت شراكتها مع
القسطنطينية بسبب دور القسطنطينية في إنشاء الكنيسة الجديدة.
وقال ناديزدا كيزينكو، وهو مؤرخ بارز في الأرثوذكسية، إن برثلماوس حطم الوحدة الأرثوذكسية لإنشاء
كنيسة ذات شرعية مشكوك فيها.
وفي تعليق سابق على القرار، قال الناطق الرسمي للكنيسة الأرثوذكسية الروسية ألكسندر فولكوف، للجزيرة
نت، إن "الكنيسة الأوكرانية لم تسع في يوم من الأيام إلى الاستقلال على يد المؤمنين الأرثوذكس في أوكرانيا،
وإنما نبع هذا من مبادرات حصرية للقوى السياسية الأوكرانية".
وذكر أن من الضروري تأكيد أن كنيسة أوكرانيا مستقلة منذ عام 1990 "عندما منح البطريرك ألكسي الثاني
بطريرك الكنيسة الروسية السابق لكنيسته الأوكرانية بقيادة توموس الحكم الذاتي والاستقلال التام في إدارته".
ويتابع الناطق الرسمي للكنيسة الأرثوذكسية الروسية "لهذا نحن نفهم أن قرار بطريركية القسطنطينية لا يعني
الاعتراف باستقلال الكنيسة الأوكرانية القائمة، بل محاولة لإضفاء الشرعية على منظمات كنسية منشقة،
وربطها مع الكنيسة بالقوة، ومن ثم كسر الوحدة الروحية التاريخية والكنسية للكنيسة الروسية".
على النقيض من ذلك، رحب اللاهوتي الشهير سيريل هوفورون بفكرة الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة في
أوكرانيا باعتبارها "دليلا إيجابيا على التضامن مع الشعب الأوكراني الذي عانى من العدوان الروسي".
رؤيتان للتاريخ
اليوم، يعكس التعبيران المتنافسان الرئيسيان للأرثوذكسية في أوكرانيا رؤيتين تاريخيتين مختلفتين للعلاقة بين
الروس والأوكرانيين.
في نظر بطريركية موسكو، فإن الروس والأوكرانيين شعب واحد؛ لذلك يجب أن توحدهم كنيسة واحدة.
والكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا لها وجهة نظر مختلفة تماما. ففي مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية، رفض
مطران كييف وعموم أوكرانيا المتروبوليتان إبيفاني بشدة "التقاليد الإمبراطورية الروسية"، وقال إن
الأوكرانيين شعب منفصل بثقافة فريدة، لذا يحتاجون إلى كنيسة مستقلة.
ويختم الكاتب بالقول إن مستقبل الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا غير واضح، وتتمتع بدعم العديد من الكنائس
الشقيقة، لكنها في الوقت نفسه تواجه معارضة شرسة من موسكو. وفي الوقت الحالي، لا يزال هذا مصدرا
للجدل الديني والثقافي بين روسيا وأوكرانيا.