ثلاثة أبواب فتحتها واشنطن ودخل منها بوتين:
– رسخت واشنطن خلال عقود أسس ومنطلقات ومفاهيم في السياسة الدوليّة، شكلت سمات السياسة الخارجية الأميركية، وشكلت نموذجاَ يتباهى به المفكرون والسياسيون الأميركيون بصفته نموذج الدولة العظمى، معتقدين أنه لن يتجرأ أحد سواهم على اتباع هذا النموذج، وكرست واشنطن عبر هذه المفاهيم والمنطلقات حقها بالتصرف كدولة فوق القانون، ونصبت نفسها حاكماً للعالم، مسؤولاً عن رعاية الأمن والسلم وفقاً لمفاهيمها، التي تبدأ من أمن وسلم الدولة الأميركية نفسها، لذلك لم تتجرأ واشنطن على الرد على أسئلة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حول حربها على يوغوسلافيا من خارج الأمم المتحدة، وغزوها للعراق بذريعة كاذبة اعترفت هي نفسها بالكذب في تلفيقها، هي مزاعم امتلاكه أسلحة دمار شامل، واحتلالها أجزاء من سورية بذريعة محاربة داعش، ورفضها أي تنظيم ورعاية لهذه الحرب تحت علم الأمم المتحدة ولاحقاً الإعلان بلا حرج أن بقاء القوات الأميركية مرتبط بالسيطرة على ثرواتها النفطية.
– خلال عقود وضعت واشنطن عقيدة أولى لسياستها الخارجية، قوامها مشروعية تحركها لمنع أي تهديد مفترض من دول الجوار، واعتبار هذا التحرك حقاً لا يقبل النقاش، انطلاقاً من توصيف أي تهديد مفترض من دولة مجاورة محاولة لتقويض النظام العالمي واستقراره، ولم ينس العالم حتى في ظل الاعتراف الأميركيّ بثنائيّة القطبيّة للنظام العالمي في مرحلة الحضور الوازن للاتحاد السوفياتي، كيف قامت الجيوش الأميركية بالتهديد بغزو كوبا، حتى لو أدى ذلك لحرب عالمية، والعنوان واحد، أن نصب صواريخ سوفياتية في كوبا يشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، وعندما توقف التهديد بالحرب، ارتبط ذلك بالموافقة السوفياتية والكوبية على تلبية المطلب الأميركي مقابل التزام أميركي بعدم غزو الجزيرة، وتفكيك صواريخ استراتيجية أميركية موازية تهدّد الأمن السوفياتي في تركيا، ليتكرّس بذلك مبدأ مشروعية الدول العظمى بمنع التهديد المحتمل من دول الجوار. وقد ذهب المفكرون والمؤرخون الأميركيون للعودة الى التذكير بمبدأ مونرو كأساس لعقيدة السياسة الخارجية الأميركية منذ القرن التاسع عشر، لجهة منع التوسّع الأوروبي في القارة الأميركية باعتبارها مدى حيوياً للأمن والمصالح الأميركية، وعندما قررت المخابرات الأميركية اغتيال الرئيس التشيلي المنتخب سلفادور الليندي قدمت مطالعتها للحصول على موافقة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون مستندة الى مبدأ مونرو، باعتبار رئاسة الليندي تمثل تهديداً في الجوار للمصالح والأمن الأميركيين.
– خلال عقود أيضاً دأبت واشنطن على شن حروب وتنظيم انقلابات، تحفل مذكرات الرؤساء الأميركيين ورؤساء المخابرات الأميركية ومسؤولي الأمن القومي الأميركي، باستعراض نماذجها، وكلها بلا استثناء لم تعبر من بوابة الأمم المتحدة ولا حصلت على موافقتها، وليس ثمة حاجة لاستعراض تاريخ هذه الحروب، بل يكفي ما جرى منها حديثاً، من حرب يوغوسلافيا الى غزو العراق الى احتلال شمال سورية، ودائماً كانت واشنطن تكيل الإساءات والتهم للأمم المتحدة، وترهلها وعجزها وفشلها، بالرغم من أن الدولة الأعظم نفوذاً في مؤسسات الأمم المتحدة، من أمانتها العامة الى سائر مؤسساتها، هي أميركا، وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة لم تتأخر عن شرعنة لاحقة لنتائج الحروب الأميركية في كثير من الأحيان، كتعاملها مع نتائج حربي يوغوسلافيا والعراق، وسبب الإحجام الأميركي عن السعي للحصول على مظلة الأمم المتحدة قبل شن الحرب، يعود اضافة لعدم رغبتها بشراكة كل من موسكو وبكين في قراراتها، الى سعي أميركي لتكريس مبدأ الحق بالتحرّك الأحادي للدولة العظمى، واعتبار الأمم المتحدة قد وجدت للدول الصغرى، وفقاً لما تقرره الدول الكبرى، ويكفي للتحقق من صحة ذلك عودة سريعة لما قاله وكتبه المسؤولون الأميركيون في فترة بدء الغزو الأميركي للعراق، وما حفلت به من لغة استعلائية تقوم على استغراب المطالبة لواشنطن باحترام القانون الدولي والمؤسسات الدولية، لدرجة القول بوقاحة، إن أميركا هي القانون.
– خلال عقود أيضاً وأيضاً، رسمت واشنطن عقيدة سياستها الخارجية تحت عنوان الحرب الوقائية، التي كانت دائماً حاضرة في الحروب الأميركية، فباستثناء الضربة اليابانية في الحرب العالمية الثانية لبيرل هاربر، وما شكلته من مناسبة لإعلان دخول أميركا الحرب، فإن كل حروب أميركا كانت وقائية، لأنها لم تتم على دول شنت حروباً على أميركا، فكان يكفي لشن الحروب ان تجد واشنطن مصدر تهديد لأمنها ومصالحها، لتقرر أن أسباب الحرب متوافرة، ومؤخراً قام جون بولتون الذي شغل منصب سفير واشنطن لدى الأمم المتحدة ولاحقا منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس دونالد ترامب، بصياغة نظرية الحرب الوقائية، وصادقت عليه يومها كل المؤسسات الأميركية المعنية، وباتت نظرية الحرب الوقائية إحدى وثائق البنتاغون.
– بمناسبة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، يمكن طرح السؤال للذين يحتجون على الموقف الروسي، ألم يدخل بوتين من الأبواب التي فتحتها واشنطن، وهل اعترض عليها يوماً الذين يعترضون اليوم؟
– من لا ينتبه ان موازين القوى تتغيّر في العالم دائماً، وأن الأعراف التي يكرسها لن تبقى حكراً عليه، وربما يستخدمها خصومه ضده لاحقاً، سيجد من يجلس يتفرّج عليه ضاحكاً يقهقه وهو يقول أليست هذه ابتكاراتكم. وهذا ما يفعله بوتين اليوم.